ثقافة وفنون

إقتران العلم بالأخلاق
إعداد: وفيق عزيز

الدكتور فؤاد صرّوف

 

فؤاد صروف إسم آخر من الأسماء اللبنانية الخالدة، التي أدت دوراً بارزاً في نهضة الصحافة في مصر، حين تولى رئاسة تحرير مجلة "المقتطف" في القاهرة بعد وفاة عمّه يعقوب صرّوف، الى جانب تأليف وترجمة الكتب العلمية والأدبية الرائدة، التي عرّفت قراء العربية بالمعارف والعلوم الحديثة، بصورة أعمق من كل من سبقه.

 

آراء مكتوبة

من كتبه الهامة "فتوحات العلم الحديث" وفيه يتحدث صروف بتوسع عن مطالعاته المتبحرة في الكون والفلك والذرة والنظام الشمسي وغيره. كما كتب تراجم وافية لعدد من المؤلفات في العلوم الطبيعية والرياضية والطبية متناولاً سيرة واضعيها العلماء. وقد ناقش في هذه التراجم أثر العلم وتقدمه على الأخلاق، أخلاق الفرد والمجتمع، وذلك لإيمانه بأن العلم لا يتقدم ويتطوّر إلا بالأخلاق، فهي التي تحكم العلم، وتحدد مساراته. وكان صرّوف يؤكد إتساع أفق المعارف، ونشوء عالم جديد تتلاشى فيه الحواجز التي تفصل بين العلوم التطبيقية والنظرية، ولا غنى فيها للعالم عن جهود زملائه في الفروع الأخرى المختلفة. العلم عند فؤاد صرّوف فتوحات جديدة أو مغامرات يقتحم فيها العقل البشري كل المغلقات، وربّ "اكتشاف لا تظهر له فائدة عملية على الفور، ثم يقدّر له أن يصبح أساساً ضرورياً من أسس المدنية والعمران، تفوق فائدته كل تصوّر. ولكن الواجب إزاء هذه الكشوف، بسطها ونشرها، وليس فقط تحقيقها. وفي المقدمة التي وضعها فؤاد صرّوف "جمهورية أفلاطون" التي ترجمها حنا خبّاز، نجده يربط بين أقدم المسائل الفلسفية التي أثارها أفلاطون في الجمهورية، مثل الحرية، والعدالة والمساواة، والثروة، والسياسة والديموقراطية، والحكمة والحكم والثقافة والدولة والنظام، وتنشئة الأجيال والأحوال الإجتماعية، وبيّن الآراء المماثلة في هذه المسائل وغيرها، التي يراها أبناء العصور الحديثة من المفكرين والفلاسفة، ومن أجل إقامة الفردوس الأرضي في وضح النهار.

ليس من السهل حصر المفردات والتعابير العلمية التي أدخلها فؤاد صرّوف الى اللغة العربية، مراعياً فيها طبيعة اللغة القومية وأوزانها، في أبحاثه العلمية التي تنمي الفكر وتوسع المعرفة، وتعمق الفهم. كما اهتم فؤاد صروف من بين إهتماماته الكثيرة، بالوسائل التي تشغل بال الطليعة المثقفة في كل بلد، وخاصة في بلدنا، الى كتاباته عن بعض رجال الطليعة الذين يعتز بمعرفتهم.

وقد أثار صروف مسألة العالِم الذي لا يتحلى بالأخلاق والقيم الإنسانية، ويكتشف قوّة هدّامة، وتساءل: "أيستطيع هذا العالم أن ينصرف عن الإكتشاف لإمكانية استعماله للشر؟".

فؤاد صروف رأى إزاء هذه المسألة أن العالِم لا يفكر في خير وشر، وهو يستجيب لغريزته وطبيعته في السؤال عن الألغاز التي تحيّر، والخفايا التي يود العقل أن ينطلق الى اكتشافها، ويقول: "فالعالم يحاول أن يكتشف حقيقة خافية، أو أن يربط بصلات المنطق، والفهم والتدقيق، بين حقائق متباينة، غير مترابطة، كما يسعى الى اكتشاف حقيقة جديدة، أو صورة جديدة للحقيقة". وبعد أن تنكشف لهذا العالم هذه الحقيقة حسب نظرية صرّوف، يأتي الدور الثاني الذي يمكن أن تستعمل فيه هذه الحقيقة استعمالاً كاملاً، قد يفيد، وقد يضرّ. فالعالِم إذاً، وهو يبحث، يُعتبر رجلاً يسعى الى الحقيقة، ولكن العالِم المطبق، التقني، يشير صروف، هو الرجل الذي ينبغي أن يهذب تهذيباً إجتماعياً إنسانياً، كي لا يستعمل الحقيقة العلمية التي لا صفة لها من شر أو خير في ما هو شر، وإنما يستعملها في ما هو خير. ومن هذا المنطلق رأى صروف أن هناك ضرورة في المجتمع الحديث، لتثقيف العلماء بالقيم الإنسانية والإجتماعية والخلقية، المتحدرة إلينا من عصور التاريخ السابقة؟ وقد جاءت على ألسنة الرسل والأنبياء والشعراء والمحدثين الكبار.

 

التوازن بين العلم والأدب

ثمة مقدار أساسي من حقائق العلوم، ينبغي لكل إنسان مثقّف يعيش في هذا العصر ألا يجهلها. ولكن، الأهم جداً من الحقائق، أن يكون الإنسان قد تمرّس بفضائل الأسلوب العلمي. وحسب تعبير فؤاد صروف فإن هذه الفضائل ضرورية للعلم في البحث، كما هي ضرورية للمجتمع الخلوق والإنسان الخيّر. ومنها فضائل التمرّس بحرية السؤال عن الخفي. فالحرية في السؤال عن الخفي ضرورية جداً كما هي ضرورية في المجتمع الإنساني. ويقول صرّوف: "الشوق الى استكشاف المجهول، الصبر على صعاب البحث، إعطاء كل ذي حق حقه، محاسبة النفس في وضع التقارير عن التجارب والأبحاث التي يقوم بها العالم، الإنصراف عن الهوى، جميع الفضائل أو الأخلاق هي ضرورية للعالِم، كما هي ضرورية للإنسان الإجتماعي الطيّب، والمواطن الشريف".

وليس هناك شك في أن الحضارة التقنية الحديثة المبنية على الكشوفات العلمية المتزايدة، والمطبقة في الزراعة، والصناعة، والمواصلات، والمخاطبات، والصحة، وفي وسائل الحرب هي بحد ذاتها تكاد تكون كالغول يخشى شره. ولكن، طالما أن الإنسان يبحث ويستكشف، وطالما هناك من يحاول أن يطبق، فإن الحقائق التي تستكشف وتطبق في الإستعمال، ينبغي أن تبحث عن عاصم للخلق الإنساني يقيناً شر هذه الخشية. ومن هنا، رأى صرّوف أن الجامعات في أي بلد ينبغي أن توفق بين العلوم الحديثة، وتطورها ومبادئها، وبين الدراسات الإنسانية، والقيم الخلقية، التي تحدرت إلينا. فالطالب الذي يتخصص في دراسات الأدب، والدراسات الإنسانية، مدعو الى المشاركة في فهم طبيعة هذا العالم المتفجر القائم على العلم والتقنية، كما أن على طالب العلم والتقنية أن ينصرف الى حد ما الى الدراسات الإنسانية، لكي يستوعب في نفسه هذه القيم الخلقية. وعندئذ وفق اعتقاد صرّوف، نكون في سبيل إنشاء إنسان جديد... ولقد شدّد صروف على أن هناك أصولاً للخير والحق والعدل، لا تتغير في طبيعة المجتمع، وإنما تفرغ في قوالب إجتماعية مختلفة بحسب رتبة المجتمع في تطوره العمراني.