تحية لها

إلهام فريحة: تأخذ الصحافة العمر، لا نصفه ولا ثلاثة أرباعه

انطلاقة الحرب في العام 1975، بويلاتها وآثارها، كانت مجال تحدٍّ لها. ففي العام التالي، تسلّمت إدارة «دار الصياد» وسط ظروف صعبة اضطرت شقيقَها عصام وبسام إلى البقاء في الخارج لتأمين الدعم الضروري للعمل. خاضت إلهام فريحة مغامرة البقاء في لبنان الدامي وإدارة الدار بتصميم على النجاح. حرصت على أن تكون للجميع حولها أختًا وصديقة وفيّة، في علاقة عمل هي أبرز مواجهات تحدّي الحرب ومتطلبات السلم. تجربة إلهام فريحة سفر من أسفار نضالات نساء ورجال آمنوا بلبنان، وجزء من تاريخنا المعاصر. فلنقرأ معها في محطات هذه التجربة.


«تتالت السنوات بجميع أنواع الحروب وأهوالها، من قنص إلى قصف وتهجير وحريق وتدمير. لم تسلم طبقة في «دار الصياد» من دمار أو حريق. في العام 1984 بدأنا إنشاء مبنى العصامية، وسرعان ما انتقلنا إليه وسط لهيب المعارك، مع أنّه لم يسلم من الويلات أيضًا. وحين لم يكتفِ الدمار بقصف الدار، كان يتحول إلى منزلي ليكمل التدمير.
توالت عهود الرؤساء على لبنان، وأنا أتنقل بين الملجأ والمكتب للقيام بمسؤوليتي. ولم تعرقل مهمتي عقباتٌ ليس أقلها تناوب الجيوش على مبنى الدار القديم. كان الورق يصل رغم إقفال المنافذ البحرية، وظلت الصحف تشحن إلى الخارج رغم إقفال المطار، وكان مبنى الدار يرمم من القصف قبل صدور «الأنوار» كل صباح.
أمرٌ أساسي وحيد كنتُ استلهمه في تلك المرحلة الصعبة: روح والدي الإنسانية وعلاقته بمعاونيه، ما جمع حولي رفاقًا وزملاء أحبوني وأحببتهم، واتّخذنا معًا من «دار الصياد» بيتًا وعائلة، تُحفّزنا جميعًا روح المغامرة والتحدي والصمود. كنت متشبثة بفكرة واحدة: ليس لأحد حقّ تدمير تراث سعيد فريحة وعصاميته. لا دولة، ولا فئة، ولا حزب، ولا شخص. وكنت على استعداد لمواجهة أي كان للحفاظ على هذا الإرث الغالي».

 

العذاب والقهر والانتصار
تتابع قائلة: «طوال سنوات التحدي تلك، ذقت العذاب والقهر، وحلاوة الفرح بالانتصار وبقاء لبنان. وكان بعض ذاك العذاب تأمين متطلبات العمل والحياة (بينها الخبز والحليب والطعام لأولاد الرفاق والزملاء وأبناء منطقتي الحازمية)، ما ضاعف عزيمتي على الصمود وأدخل إلى قلبي الفرح، ومدّني بالصبر والقوة على تسيير عمل المؤسسة.
وهكذا عشت ثلاثًا وثلاثين سنة وسط التحدي والمسؤولية. واليوم، بعد تلك السنين من معايشتي الحرب والسلم، أراني أعطيت مظهرًا يغاير طبعي وطبيعتي: صُبِغتُ بألوان القسوة والحدّة نتيجة ظروف العمل وعنف التحديات، مع أنني عكس ذلك تمامًا. لكن لكل ظرف أحكامه.
وبعدما توقفت منشورات «دار الصياد» عن الصدور، أفكّر في مجمل تجربة العمل الصحافي التي تمر بها كل الصحف والمجلات والمؤسسات الإعلامية في لبنان، إذ لنا في المهنة زملاء يعانون ويعاندون ليستمروا ومعهم تستمرّ معيشة مئات العاملين في هذا القطاع، من صحافيين وتقنيين، وتستمرّ أمانة الشعلة التي أضاءها المؤسس، المرحوم سعيد فريحة، وكبار ذلك الجيل».
في زمن التحوّلات الكبرى التي يمرّ بها لبنان الوطن، ومجمل الشرق الأوسط، تراهن إلهام فريحة على أنّ الجيل الجديد، الواعي المثقف والحالم بوطن جديد، والمنتفض من أجل القيَم والمبادئ ودولة الحقّ والعدالة والمؤسسات، سيتمكن من تحقيق أحلامه، وبفضل إرادته سيتجاوز المحنة القاسية التي نمرّ بها.  
    
الرحيل ورحلة التحدي
ليس من السهل أن يحمل الإنسان إرثًا بحجم إرث سعيد فريحه الذي من جعبته وُلدت للبنان صحافة. كيف حملت إلهام فريحة مع شقيقَيها هذا الإرث؟
لقد بدأت رحلتها إلى قمة التحدي يوم رحيل الوالد في 11 آذار 1978. كان في دمشق لإجراء اتصالات يحاول بها تطويق مضاعفات حادث الفيّاضية بين عناصر من الجيشَين اللبناني والسوري. يومها جاء من يُبلغها بأنّ والدها في مستشفى «المؤاساة» على أثر أزمة قلبية، وهو قبل دخوله الغيبوبة ألحّ بأن يرسلوا في طلبها. كان يومًا مفصليًا في حياتها وفي مسيرة العائلة والدار.
تتذكر تلك الرحلة: «بقيتُ أبكي ستة أشهر، إلى يوم قرّرت ألّا يموت والدي مرتين، وأن يبقى اسمه وأدبه وتراثه وإنسانيته وكرمه وشهامته رأس عنايتي واهتمامي الشخصي. وهكذا، طوال 32 سنة مضت على رحيله، كنت أعيش على أساس أنّه لم يمت. وكنتُ أُضفي، على كل من هو حولي في المنزل أو في العمل أو في مجتمعي، روحه وإنسانيته وكرمه وشهامته وحبه العمل والناس والرفاق وخاصة الجمال. ويوم أغمضت أمي عينَيها للمرة الأخيرة، لمع وميض فضلها أمامي وتذكرت والدي يوم كتب لها وعنها: «لولاكِ لكنت كل شيء إلا صاحب الجعبة».
بعد غيابه، شعرت بضرورة البقاء معه – كما كنت في حياته – على تواصل عبر الكلمة والحرف وحب الظرف والجمال. ما كتبه سعيد فريحه في «الجعبة» كان تسجيلًا أسبوعيًا لكل ما مرّ به وعاشه وفكّر فيه. فقد ذهب سعيد فريحه وبقيت «الجعبة» وبقي ينبض بالحياة من خلال كتاباته، بقلبه وعقله وفكره وحبه الجمال. ومع اعترافي بأنّني بعيدة من التشبّه به، أو من أن أكون على قدر ضئيل من عظمته وخبرته وموهبته وطاقته وأسلوبه الذي يجرح ولا يُدمي، شعرت بأن عليّ إكمال مسيرته، ولو بالمحاولة، ولمرة واحدة.
لذا لم أتردد في قرع باب الأدب، وهو القريب وتوأم باب الصحافة التي أعشقها وأغوص في بحرها. فأنا منذ صغري أحببت «مهنة البحث عن المتاعب»، وعايشت متاعب الصحافة ووهجها. ومع أنّ مسؤوليتي في «دار الصياد» إدارية أساسًا، لم أكن يومًا بعيدة من حقل التنقيب عن الأخبار، والركض وراء الكبيرة من قضايا وخفايا تُحدث هزة ودويًّا في أجواء السياسة والرأي العام. ولا أنكر أنّني كنت أهوى تلك الملاحقات وأمضي أيامًا في متابعتها، مع اهتمام خاص بالمدوّي منها، وبالمستتر من الصفقات، وبالمخفي من الأسرار.
صحيحٌ أنّ هذا الهوى الصحافي جلب لي ارتياحًا ورضى شخصيًا، لكن الصحيح أيضًا أنّه خلق لي خصومًا وأثار لي مشاكل وحرّك مؤيدين وحشد صداقات. كان «العدو» يظهر حين أكشف قضية أو فضيحة، وكان «الصديق» الحر يظهر حينًا، وحينًا لا يظهر لكن صداقته تبقى في سياق التجانس والتلاقي الروحي.
المهم أنّني حاولت أن أكون وفيّة لمفهوم والدي في الصحافة، والذي عبَّر سعيد فريحة عنه في محاضرة ألقاها يوم ١٩ كانون الثاني ١٩٧٣ في قاعة الاجتماعات الكبرى في الجامعة الأميركية، بعنوان «الصحافة بين الصناعة والالتزام»، وقال فيها: لا أشك لحظة في أنّ أولادي وإخواني وأبنائي بالروح في «دار الصيّاد» سالكون الطريق نفسه الذي أرسيته، مطمئنون إلى أنّه طريقهم الأمثل إلى خدمة الصحافة ومن خلالها لبنان والعروبة».

 

من غرفة إلى دارَين
وتتابع: «أثبتت التجربة أنّ النجاح متوافر على الطريق الذي سارت عليه الصيّاد، متنقلة في سيرها من غرفة واحدة إلى غرفتَين ومن دار شامخة إلى دارَين. وكانت «الصيّاد» واحدة وحيدة، فصار لها شقيقات، يقوم على خدمتها جميعًا أربعمئة وخمسون عاملًا ومحررًا وموظفًا، كلهم شباب. هذه هي الصحافة، تعطي الكثير وتأخذ الكثير، وهي في عطائها وأخذها لا تحسد أحدًا على مجد، ولكنّها قد تحسد بائع فلافل على النعمتَين: ثمرة الجهد وراحة البال.
أكثر ما تأخذه الصحافة من جهودها هو العمر، لا نصفه، ولا ثلاثة أرباعه، بل كله من غير هدنة ولا تقاعد. وتهون الأعمار ومعها الجهد والعرق في سبيل صنع صحافة جيدة متطورة لا تتهاون مع الظلم والفساد! فكما يُطلب من الصحافة أن تكون حربًا على الطغاة والأشرار وحيتان المال والاحتكار، كذلك يُطلب منها أن تكون عونًا للطبقات المظلومة، ومصدرًا للتوعية ومنبرًا للحق والحرية والنضال الوطني، وأحيانًا وسيلة للترفيه وإشاعة الابتسام، أي أنّ رسالتها متعددة الجوانب والمسؤوليات، لا يستطيع أن يقوم بها على الوجه الأكمل، إلا الملائكة وأنصاف القديسين.
ومعنى هذا أننّا لا ندّعي العصمة، ولكنّنا نستطيع، نحن القيّمون على الصحافة اللبنانية أن نؤكد حقيقة متواضعة، وهي أننّا شققنا الطريق لصحافتنا إلى الأحسن والأفضل. ويرجع الفضل إلى مناخ الحرية عندنا. وأجمل العطاء في الصحافة وبخاصة في مجال النقد وتصحيح الأخطاء، هو الأسلوب الذي يزدان بالكلمة التي توجع ولا تُسيل الدماء».

 

ما الذي يميّز قلم المرأة عن قلم الرجل؟
تُقرّ فريحة بأنّ الصحافة جعلتها، وهي المرأة ذات الطباع الرقيقة في الأساس، مضطرةً إلى مواجهة القسوة والتحديات بمثلها. وترى أنّ الصحافة تبدِّل من الخصائص الأساسية للمرأة التي يُجمِع الناس على أنّها طباعٌ وخصائص أنثوية حصرًا، كالرقّة والليونة والديبلوماسية. وهذا الأمر تعيشه المرأة في الصحافة في عصرنا هذا، كما في العديد من المهن والقطاعات. فسمة العصر هي التحدّي والكفاح لإثبات الحضور، والحياة للأقوى.
وتضيف: «لا يمكنني إلا أن أُثني على الزميلات، الكاتبات والمراسلات والمحررات، اللواتي رافقن مسيرة «دار الصياد» على مدى عقود، وظهرت بينهنّ الشاعرات والروائيات وكاتبات المقال السياسي أو الوجداني ومقالات الرأي التي غيَّرت في مجتمعنا وأسهمت في زرع أفكار الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة.
فالكاتبة في الدار كانت «أخت الرجال» بكل ما في الكلمة من معنى. أي بمعنى أنّها «قوية» وبمعنى أنّها شقيقة ومناضلة حقيقية، وبمعنى أنّها مساوية للرجل في الحقوق والواجبات وفرص التقدُّم والتطوُّر. وفي ظلّ إدارتي للدار، أنا المرأة، جهدتُ لأتفهَّم كل الزميلات وأن يكون التعاطي معهنّ من منطلق الزمالة في المهنة والمشاركة في المشاعر والهواجس والتطلعات».    
 
الصحافة وخدمة قضايا المرأة
عندما أصدرت «دار الصياد» مجلة «فيروز»، كانت هي المجلة النسائية الثانية في العالم العربي. وكانت تكريمًا لسعيد فريحة في الذكرى السنوية الأولى لغيابه. وتوضح إلهام فريحة: «أَحبَّ شقيقي بسّام أن تبقى مسيرة سعيد فريحة متوثّبة أكثر فأكثر، ووجدتُ نفسي الأَوْلى بإدارة «فيروز» لكوني امرأة وأمينة على الرسالة مع شقيقيّ. أطلقنا العدد الأول لمناسبة عيد مولدي في العام ١٩٨١. وقد تولّيتُ تبويبها وتجهيز أفكارها لتكون مجلة مميزة. وكانت لبسّام مساهمة حيوية من خارج لبنان بتوفيره مساحات هائلة من الإعلانات، ما يؤمّن لنا الانطلاق بقوة. فالعدد الأول، المصقول بأفخر أنواع الورق والألوان والإخراج المميّز، تضمّن خمسين صفحة إعلان. وبقيت المجلة ركيزة أساسية للدار وتولّت ابنتي منى إدارتها لسنوات.
ولكن، أشير إلى أنّنا، من منطلق نظرتنا إلى أنّ المرأة والرجل شريكان متساويان في المجتمع، أصدرنا أيضًا مجلة «الفارس» التي كانت صنو «فيروز» لعالم الرجال. وقد صدرت في البداية اعتبارًا من آب ١٩٨٥ مرة كل شهرين باسم «فارس فيروز»، لتتحول إلى مجلة شهرية مستقلة باسم «الفارس» اعتبارًا من أيار ١٩٩١.
كان لنا الشرف، من خلال مجلة «فيروز»، في تقديم نموذج مضيء إلى المرأة العربية. فقد كنتُ حريصة على أن أستقي كل ما يهمّ المرأة في العالم، وما يتعلق بطموحاتها وأحلامها وحقوقها وهواجسها، بما في ذلك الأبحاث والمقالات الصادرة عن أرقى المراجع. وكنت أعمل على تقديم ما يناسب منها إلى المرأة العربية، بعد التشاور مع مفكرين وباحثين متخصصين في مجتمعاتنا العربية. وأعتقد أنّنا استطعنا أن نخدم هذا المجتمع بإعطاء صورة واقعية وطموحة في الوقت نفسه عن حريّة المرأة وتطلعاتها الفكرية وعلاقتها بالرجل، الأب والأخ والإبن والزوج والصديق والزميل في العمل والرفيق على مقاعد الدراسة وسوى ذلك. وهذا هو الدور الذي كان مُلقى على عاتقنا، والذي به عملنا لنرضي ضميرنا ونحفظ المبادئ التي أرساها الوالد المؤسس سعيد فريحة».