بلى فلسفة

إلى زميل متقاعد
إعداد: العميد أسعد مخول

سلام. عندي إليك كلام لا ينتهي، وهو لكثرته ووفرته لا يمكن اختصاره في التساؤل والاستفسار، ومن هنائي أن تفيض ايضاحاته في جوابك، وأن تظهر تفاصيله في ردّك. أليس من أدب الحوار أن يكون المرء مقلاًّ في السؤال، بحيث لا يجيب نفسه بنفسه، بل يترك لمحاوره فسحة تسمح بالتمييز الواضح بين السائل والمجيب، والابقاء على علامة الاستفهام طيّــبة متواضعة تجلب السعد وتوحي بالكلام؟
في البداية، أما زلت تحسب الوقت بدقائقه وثوانيه، خشية أن تتأخر في الوصول الى مكتبك، أو إلى مكان ما، أم أنك أفسحت لنفسك ورحت تنام على هواك وتصحو، وتتنزه وتلهو؟ أم أنّ ذاك الوقت بات أكثر أهميّة، وأندر وأفقر، وصار من الحتمي الحرص عليه عدّاً ورصداً؟ وهل أن الحياة مالت إلى المغيب في نظرك، وأنا وأنت والجميع، لا نعلم متى يأتي ربّ البيت ويقفل أنفاسنا؟ وما دام كل شيء إلى زوال، لمَ الحرص على كل شيء إذاً، حديداً وحطباً وذهباً وقماشاً وحبراً وورقاً وأخباراً وأسراراً وذكريات؟ وإلى من ينتهي الارث في الختام بين الحفيد وحفيد الحفيد، وحفيد حفيد الحفيد، وصولاً إلى البعيد البعيد في سلالة الإنجاب؟
ثمّ، عن صحتك، وكان يجب أن أطمئنّ اليها في البداية، هل من ألم في الرأس أو في الصدر أو في القدمين، خصوصاً وأنك كثيراً ما أهملت داء وأجّـلت علاجاً، منعاً لتأخير عمل أو تعطيل واجب؟
ومعدتك، هل تضرب عليها بملء اليد من وقت لآخر، وتسمع صداها، وتطمئن الى أن ما فيها وما حولها منسّـق متناسق منظّـم مريح، وأنّ نسبة الملح الساقط عليها صحيحة، ونسبة السكَّـر أيضاً، وأنّ حركة الدم حولها مستقرة بين أبيض الكريّات وأحمرها، وأن الطبيب، لو راقبها بآلاته العصرية المستوردة حديثاً من بلاد العلم والفهم، لأحضر قطعة خشبية على الفور، لا ليضربك بها، بل ليطلب منك أن تضرب عليها أنت، وأن تدقّ صفحتها خزياً للعين الحاسدة لدى جارتك أو أختها... أو بنات عمها وخالها؟
وقل لي، هل بدأ بعض أبناء الحي عندك، أو البلدة أو القرية، لوماً عليك وعتباً، أو أسفاً واستفساراً، لعدم تلبيتك طلبات شخصية عرضها عليك في ماضي وظيفتك فأعرضتَ عنها آنذاك لتعارضها مع القانون والنظام في رأيك، ولاقتناعك بأن لا داعي لواسطة أو وساطة في ذلك، وأنّ بإمكان فلان وفلان، كائنين من كانا، الحصول على الحقوق بنفسيهما، على الأقل في مؤسّستك الأم؟ أم أنّ ذاك البعض بات يميل، كما ملت أنت، الى أنّ الكفاءة هي المعيار، وأنّ دورك لم يكن في تيسير معاملات المواطنين وطلباتهم، بل في القيام بواجبك الأصلي الذي نذرت ذاتك من أجله حين أتيت مرشّحاً مشتاقاً لحمل شعار بلادك على العين والرأس بالـ "كولبك" التراثي الأبيض؟
أمّا زوجتك، فهل تطلب اليك أن تلازمها في البيت، وفي كل مكان، ملازماً متمرناً متدرباً في المؤسسة الجديدة، لا عميداً متقاعداً، فتخبرك وتتلو عليك وتطلب رأيك وتطرح رأيها هي قبل أن تهمّ أنت بالجواب، وتعدُك بترقية اضافية إن أنت شربت نخبها وأكلت طعامها وحملت أفكارها وكتبت بقلم كحلها إعجاباً بها، ولوّنت قلبك بأحمر شفتيها تعبيراً عن هيامك وغرامك، وأعلنت إعراضك عن كلّ أُخرى حتى آخرتك التي لا بد أن تأتي قبل آخرتها، مع وعد منها بألاّ تدع لآخر مكاناً في فؤادها حتى لو استحال بوراً مصخّراً مصحّراً، وبأنها سترفع حوله سوراً، وستكون حريصة على ذكراك كما كنت أنت في زمانك، حريصاً خفيراً غيوراً؟ أم أنّـها، في العكس، تطلق سراحك وتستريح من وجهك، وتدفعك للعمل، أي عمل، مع وعد بألاّ تستفسر عنك إن تأخرت في الوصول، أو تباطأت في الإياب، فالحرص السابق على وصولك وحضورك الى القفص النفيس قد تحوّل الى انفتاح على الدنيا وما فيها، شرط التأكد من انكسار الجناحين إلى غير سلامة والى غير عافية؟
إنّـني، يا أيها الزميل، أحاول أن أحيد عن اعتبار الموضوع وداعاً للحياة، خصوصاً وأنّ ذلك لا يرتبط بعدد السنين من دون غيره، وأنّ الولادة قد تتخذ شكلاً آخر في وقت آخر، وأنّ السعادة، في لحظاتها المعدودة، لدى عظيم الناس، قد تطل في الطفولة، وقد تأتي في الشباب، أو في الكهولة، أو في الشيخوخة... وقد لا تأتي، لكننا لا نستطيع أن ننكر، لا أنا ولا أنت، أنّها، أي السعادة، كلما تأخرت في الظهور، كلما ضعف الأمل بها، وأن التجربة في البداية هي غيرها في النهاية، وأَعِدْ معي القراءة في الجواهري، تلقَ:
فـلستَ بـواجــــــدٍ أبـــداً     على السّبعــينَ مــــا فـقــدَ!