قصة قصيرة

إلى لــبنان يا أبــي
إعداد: العميد الركن إميل منذر

كان قد مضى زهاء عشرة أيّام على إيداع جثمان فؤاد تراب قريته عندما زرتُ صديقيّ يوسف وجميلة في منزلهما الذي يتسنّم أعلى تلّة في تلك القرية الهادئة من قرى وسط شمال لبنان. وكعادتها، انهمكت السيّدة في إحضار مختلف أنواع الفاكهة والحلوى، وجلستْ قبالتي تشاركني تناوُلَ ما صنعتْ يداها، وتنظر إليّ بفرح كلّما رفعتُ قطعة إلى فمي وهززتُ رأسي إعجابًا أو همهمتُ تلذُّذًا بتلك النكهة التي ما عرفتُ لها مثيلًا إلا في هذا البيت، ثم راحت، كما في كلّ مرّة، تضع في صحني كلّ حبّة فاكهة تذوّقتْها ووجدتْها طيّبة، أو قصّت منها قطعة ودسّتْها في فمي وهي تضحك نظيرَ أمّ تُطعم ولدها.
هذه هي جميلة. في بيتها عليك أن تأكل منصاعًا. وإذا طالت بك الزيارة، عليك أن تتناول وزوجها الفطور. أما إذا امتنعتَ، زعلتْ، وزعلها من النوع الذي لا ينجلي بسهولة.
هكذا عرفتُ هذه السيّدة منذ أكثر من عشرين سنة. وهكذا بقيتْ. وإذ أقول سيّدة، فإني أعني ما أقول؛ فجميلة امرأة كريمة اليد، عزيزة النفس، رفيعة الذوق، ومثقّفة. إن قالت صدقت، وإن وعدت وفت، وإن باشرت عملًا خرج من بين يديها غاية في الاتقان والأناقة.
لقد أعطتني من قلبها ومن يدها. وعلّمتني أشياء كثيرة لم أكن أُحسنها من قبل. علّمتني كيف أنحني أمام العاصفة حتى تمرّ، وكيف أصبر على جور الأيّام حتى يجوز. ومَن مثلها اختبر العواصف، وعايش الظلم والحرمان!
كنت كلّما أردت المجيء إلى بيتها، جئت من غير ميعاد، لأني أعرف أنها ستكون موجودة؛ فهي لا تبرح بيتها إلا إلى الكنيسة لتصلّي، أو إلى الطبيب لتخفيف بعض آلامها الكثيرة. وكنت في كلّ مرّة أجيء إليها، أحمل بضع أوراق عليها شيء كتبتُه لأعرف رأيها فيه قبل طبعه ونشره. فإن أثنتْ، مضيتُ قُدُمًا، وإن أبدت ملاحظة، أخذتُ بها.
آه! ما لي أحدّثكم عن جميلة وكنت أردت أن أقصّ عليكم حكاية فؤاد الذي حُمل في النعش من أقاصي الأرض ليرقد في أرض الوطن الذي أحبّه! لقد عرفتم، من غير شكّ، أنّ لهذه السيّدة منزلة كبيرة في نفسي، وتأثيرًا عظيمًا في فكري، وحضورًا قويًّا خلف سطور معظم كتاباتي.
قالت جميلة بعدما رأتني أنظر إلى ساعة يدي: «لا، لن أدعَك تذهب الآن. بعد قليل يصعد يوسف ويأتي حنّا وسالي وولداهما، فتتناولون طعام الغداء معًا... أرأيت؟ لقد تقدّم بي العمر، وأصبحتُ جدّة لها حفيدان صغيران»، أضافت وهي تبتسم.
- ما زلتِ ستّ الستّات، يا أمّ حنّا.
- أنت تعرف سالي زوجة حنّا، أليس كذلك؟
- وكيف لا أعرفها! رأيتها عندكم برفقة أبيها وأمّها منذ ثلاث سنوات خَلَتْ... مسكين فؤاد أبوها. كانت الحياة تليق به بعد.
- لا أحد يعرف متى تأتي ساعته سوى الله خالقه. أتعرف؟ أشعر بأنني لن أعيش طويلًا. كلّ ما أتمنّاه هو أن أراك سعيدًا وعائلتك بخير.
وفيما خفضت جميلة رأسها مستسلمةً لأمواج من الأحزان والأماني تجرّها إلى عرض البحر حينًا وتقذف بها إلى صخور الشاطئ أحيانًا، نهضتُ من مقعدي، واتّجهت نحو النافذة، ونظرت إلى الخارج، لكنني لم أرَ سوى وجه فؤاد كما عرفته في ذلك اليوم قبل سنوات ثلاث.
يومذاك جلسنا على مقاعد خشبية من صنع يوسف في طابق الأعمدة التي يقوم عليها البناء. لقد رفض فؤاد -رحمه الله- أن يصعد إلى فوق. ما زلت أذكر أنه قال عندما سأله يوسفُ الصعودَ: «لا يا أخي يوسف. دعْنا نبقَ هنا أرجوك». ثم نهض عن كرسيّه، وخطا خطوتين، وأشار بيده نحو الأفق راسمًا بها نصف دائرة في الهواء: «من هنا نستطيع رؤية سهول الزيتون، ومروج الزهر حيث تلعب الفراشات وتسرح القطعان، وتكحيل أعيننا بمشاهدة تلك القمم التي ما زالت تكلّلها ثلوج الربيع». ثم فتح ذراعيه، وأغمض عينيه، وقال بصوت ينضح صدقًا و... حسرة: «وهنا أستطيع أن أملأ رئتيّ التعبتَين بنسيم بلادي الصاعد من ناحية الغرب محمّلًا برائحة البحر، أو الهابط من الشرق مضمّخًا بعطر أرز الربّ. آه يا تراب وطني ما أطهرك! لقد هاجرنا، وتعبنا، وجمعنا الكثير من المال، لكنه غاب عن بالنا أنّ ذرّة منك لهي أثمن من كلّ ذهب الأرض، وقطرة ماء من ينابيعك العذبة تساوي الدنيا وما فيها».
وفيما قام يوسف ليشعل الفحم في الكانون، قامت جميلة لتُعدّ مائدة الغداء. كانت تذهب وتجيء، وتصعد وتنزل، والطاولة تزدحم شيئًا فشيئًا بالقِصاع يتوسّطها جاط التبّولة فخر المائدة اللبنانية. وعندما سألتْها شمس، زوجة فؤاد، عمّا يمكنها أن تساعدها به، نظرت إليها وابتسمت: «قومي اذبحي الخروف». هكذا قالت بدعابة لأنها لا تقبل أن يمدّ أحد يده إليها بمساعدة. أما شمس فضحكت، ورشفت قليلًا من فنجان قهوتها، وهي لا تعلم أنّ خلف ابتسامة جميلة ألمًا أخرس يمزّق معدتها جرّاء تناوُل الكثير من حبّات الدواء، وأنّ وراء أجفانها تعبًا متراكمًا خلّفه السهر الطويل والنهوض قبل صياح الديك لإنجاز أعمال البيت. هذه هي جميلة التي لو حُمِّل الجبل نصف ما تحمل، لركع أو تهدّم. وإن سألتَها عن صحّتها، أجابت: «الحمد لله، أنا بخير». وإن نصحتَها بخادمة تحمل عنها بعض تعبها، قالت: «قد تحتاج السيّدة العاملة إلى خادمة، أما التي لا تعمل فما حاجتها إليها! ألتتفرّغ إلى «الصبحيّات»، والثرثرات، والتبصير بالفنجان!؟».
وإذ استدارت جميلة نحونا وقد أعماها الدخان المتصاعد من سِياخ اللحمة تُشوى على الجمر، قالت وهي تنظر إليّ: «تفضّلوا إلى المائدة»، فيما الاحمرار الذي تركه لهيب النار على خدّيها كان أشبه بلون أكمام الورود في أوائل شهر أيّار. ثم أضافت: «ابدأوا؛ فأنا آتية». هكذا قالت وأنا أعرف أنها لن تجلس، لأنها تحبّ أن تخدمنا، وتفرح بنا نأكل إلى مائدتها.
قمنا إلى المائدة. وللوقت أخذ فؤاد كسرة خبز، وجعل فيها بضع وريقات هندباء ممّا جمعته جميلة هذا الصباح من البرّيّة، وأضاف إليها حبّتَي زيتون. ولمّا رفعها إلى فمه، جمدت شفتاه، واغرورقت بالدمع عيناه؛ فقال بصوت أشبه بالبكاء: «لطالما اشتهيتُ، وأنا في أوستراليا، هذه اللقمة ولم أجدها. طعم الزيتون في تلك البلاد لا يشبه طعم الزيتون الذي غذّته تربة بلادنا وأنضجته شمس بلادنا. وورقة الهندباء هذه لأشهى عندي من المنّ والسلوى في أرض الغربة التي عشتُ فيها خمسًا وخمسين عامًا وبقيتُ غريبًا. خمسًا وخمسين عامًا حملتُ لبنان في قلبي حتى تعبتُ وأنا أتمزّق بين حنين يشدّني إلى وطني، قريتي، مسقط رأسي، وشِباك غربة لم أستطع أن أفلت منها. الغربة مُرّة. والنجاة منها ليست بالأمر الهيّن».
وبعدما أخذ فؤاد نفَسًا طويلًا وأخرجه زفرة حرّى، تابع يقول: «لم أستطع أن أحبّ تلك البلاد على الرغم من نجاحاتي الكبيرة فيها. كلّما أتيتُ إلى لبنان، أتيت هاربًا إلى الأرض التي أبصرتُ فيها النور لأشمّ رائحتها، لأبصر وجوه الناس التي افتقدها. وكلّما رحلتُ، تمنّيتُ لو اني أستطيع أن أحمل لبنان كلّه في حقيبتي، أن أخبئه تحت ثوبي وأرحل به. لكني كنت أشعر في كلّ مرّة أنني تركتُ قلبي هنا ورحلتُ من دونه».
«أحبُّ لبنان مثلما هو. بسِلْمه وحربه، بيسره وعسره، وبنظامه وفوضاه أحبّه. أجل، لبنان جميل حتى بفوضاه. لقد سئمتُ هناك النظام المُمِلّ. كلّ شيء محكوم بالنظام والرتابة. إنه الموت الذي يسلب الروح ويُبقي الإنسان يأكل ويتنفّس ويدور كالآلة. في أحيان كثيرة كانت تجتاحني نوبات شوق لسماع منبّه سيّارة، وبائع يمرّ مناديًا على بضاعته في الطريق، وجارٍ ينادي جاره من حيّ إلى حيّ، وكرّام ينتهر صِبْيَة ضبطهم يسرقون بعض العنب والتين من كرْمه... القانون ضروريّ، لكن الإنسان يجد لذّة في مخالفته والنجاة من قبضته».
عندئذٍ ابتسم فؤاد، وتابع: «أمس ذهبتُ لأصطاد الطيور في الحقول القريبة، لكنّ رجال الدرك ضبطوني، وألزموني دفع غرامة لأن الصيد ممنوع في هذا الفصل؛ فدفعتُها غير مستاء. وبعدما رحلوا، عدتُ إلى الصيد مجدّدًا». إذ ذاك ضحكنا، وضحك فؤاد من أعماقه؛ فأحسّ بوخز في صدره. آخ، قال. لقد نسيتُ أن أبتلع حبّة دوائي اللعين. وسارع إلى تناوُلها، ثم قال: «الغربة أسقمتني. قتلتني. لقد كانت تجارتي خاسرة معها. أعطتني كنوزها وأخذتْ صحّتي». ثم أضاف ضاحكًا: «إنها مخادعة. سرقت السكَّر عن لساني، ورمَت السكّري في دمي. ولم تُريني سنّها الضاحكة إلا بعدما أخذتْ أكثر بصري».
*  *  *
كلّ هذا أصبح الآن من الماضي؛ ففؤاد اليوم، بقامته المديدة وشعره الأصهب الأجعد، يرقد تحت التراب. لقد عاد إلى لبنان لتستعيد روحه سلامها وسكينتها. كان يتمنّى أن يعود وفيه رمَق حياة ليموت في وطنه، لكن الموت لم يكن ليصبر عليه قليلًا بعد.
ألقتْ جميلة يدها على كتفي وهي تقوم لإحضار بعض الفاكهة، وسألتني: «فيمَ تفكّر؟». لكن قبل أن أجيب بكلمة، قُرع الباب قرعًا خفيفًا. وعندما فتحتْ، اندفع إلى الداخل طفل وطفلة كأنهما قمران من أقمار الربيع، وتعلّقا بأذيال ثوب جميلة: «جدّتي، جدّتي». فأخذتْهما أمّ حنّا بين ذراعَيها، ثم دخلت سالي ودخل حنّا؛ فسلّما وجلسا.
حنّا عرفتُه مذ كان تلميذًا يتأبّط كتبه ويذهب إلى المدرسة، ويعود بعد الظهر ليبدأ رحلة طويلة مع الدرس تمتدّ حتى قُبَيل منتصف الليل. لم يكن نور غرفته لينطفئ قبل ذلك الوقت إلا عشيّة أيّام العطلة. هذا ما كنت أعاينه كلّ ليلة من شرفة البيت الذي سكنّاه فوق بيت ذويه لمدّة سنتَين كاملتَين؛ فتوسّمتُ فيه الخير، كلّ الخير.
وصحّتْ توقّعاتي. فكبر حنّا، وتخرّج من الجامعة، وخطب سالي بنت فؤاد، وسافر إلى أوستراليا، وتزوّج هناك، وبقيتْ صورته، التي يبدو فيها وسيمًا قويّ العضلات، قُبالة عينَي أمّه في غرفة الجلوس، وحتى في المطبخ.
في أوستراليا عمل حنّا، وكدّ، ونجح. هذا هو اللبناني في كلّ مكان وزمان. في الوطن يجاهد ويجالد وينتزع لقمة عيشه من فم السبع، وفي المهجر يزرع التعب والسهر ويحصد النجاح.
وإذ حانت مني التفاتة إلى سالي، رأيتها رصينة، أنيقة بفستانها الأسود. لا يجد الناظر إليها صعوبة في تبيُّن لمعة الذكاء في عينيها السوداوَين الواسعتين اللتين تركت الدموع فيهما احمرارًا خفيفًا. أما الوجه المستدير، فزادته مسحة الحزن جمالًا فوق جمال.
قلت لها: «هوّني عليكِ؛ فكلّنا على هذه الدرب سائرون». وللحال سالت على وجنتَيها النضرتَين دمعتان كانتا محتبستَين خلف أخفانها لأن سالي كانت تأبى أن تظهرا للناس. ثم قالت بصوت يحمل كلّ معاني اللوعة والأسى: «لقد رحل باكرًا. إني أفتقد ضحكته، مزاحه، وحيويّته التي كان يملأ البيت بها». وبعدما مسحتْ دمعتَيها بأصابعها، تابعت تقول: «لقد تعب أبي كثيرًا ليوفّر لنا حياة كريمة. حتى طفولته كانت مطبوعة بالتعب والقهر. يوم صعد إلى الباخرة ابنَ ثماني سنوات برفقة والديه، نظر إلى التلال المشرفة على البحر بعين حزينة، ولم يكن يعلم أن هذه الصورة التي ستغيب عن عينه ستصبح محفورة في روحه، وأن النسمة التي داعبت وجنته وعبثت بخصل شعره، ستحرق قلبه».
«في أوستراليا لم يكن يحبّ المدرسة. كان يهرب من الصفّ ليعمل في مصنع للجوارب. ثم فتح مطعمًا صغيرًا. وعندما سافر إلى الولايات المتّحدة في إجازة قصيرة، شاهد هناك الكثير من أمكنة السهر واللهو؛ فأعجبته. ولما عاد إلى أوستراليا، فتح ملهىً ليليًّا إلى جانب المطعم».
«إلا أن طموحه لم يقف عند هذا الحدّ. كان لا يكفّ عن التفكير والتخطيط والسعي الدؤوب. ومع الوقت أصبح مستثمرًا لثلاثة وعشرين مطعمًا وملهىً واحد. هذه الإدارة الواسعة أرهقته، ونالت من صحّته؛ فاشترى ثلاثة مطاعم، وتخلّى عن استثمار الباقية».
«كان لبنان يعيش معه، في دمه. واسم لبنان حاضرًا أبدًا على لسانه. لم تستطع أوستراليا أن تنتزعه منه. لذلك أقام له يومًا خاصًّا سمّاه يوم لبنان. وفيه كان يستقدم فِرَق الزجل اللبنانية. وكلّما غنّت الوطن وحثّت المغتربين على العودة، كانت الدموع تسقط غصبًا عنه من عينيه».
هكذا قالت سالي بلغة عربية ركيكة، لكن بلَكْنة محبَّبة. وكلّما تعثّرتْ أو استغلق عليها التعبير، استعانت بالإنكليزية، أو التفتت إلى أمّ زوجها، فتولّت إيجاد المفردة العربية عنها.
ولمّا رأى حنّا أن زوجته قد أتعبها التحدّث بالعربية، أخذ الكلام عنها. قال: «أحبَّ فؤاد أن تكون شريكة حياته لبنانية. لقد عرف في أوستراليا الكثير من بناتها. لكنه لم يشأ الارتباط بأيّ منهن. لذلك جاء إلى لبنان؛ فعرّفوه إلى كلّ فتيات القرية والجوار. كان يضحك كلّما دلّوه على بنت ودعوه إلى مرافقتهم في زيارة أهلها. لكنه كان يمضي معهم لأنه يحبّ الناس، ويأنَس إلى مخالطة الناس. لقد كره في أوستراليا ألا يزور الجار جاره، ولا يلتقي الأخ أخاه إلا في المناسبات. فكأنه، كلّما جاء إلى لبنان، جاء ليعوّض ما فاته هناك».
«وكان يوم خريفيّ رافق فيه صديقَه قيصر في نزهة بين كروم الزيتون. وصادف أن مرّت في طريقهما جماعة عائدة إلى القرية بعد انقضاء نهار طويل في جمع الغلال. وإذ رأى فؤاد في الجماعة بنتًا جميلة ورديّة الخدّين، ترتدي فستانًا تلامس أذياله الأرض، وقف يرافقها بنظراته وهي تبتعد. وقبل أن تتوارى خلف المنعطف، التفتت الصبيّة إلى الوراء. ولمّا رفع لها فؤاد يده بالتحية، ابتسمت، وأشاحت بوجهها، وتابعت دربها».
- على مهلك. هذه ابنة عمّي، قال قيصر.
- ابنة عمّك! لماذا لم تخبرني أن لك ابنة عمّ جميلة إلى هذا الحدّ! ما اسمها يا رجُل؟
- شمس.
- شمس... شمس، ردّد بصوت منخفض. ثم نظر في عينَي قيصر: «أريدها. هذه هي».
- وكم تدفع لي إذا أقنعتُها بك؟ قال قيصر ضاحكًا وهو يحيط خاصرتَي فؤاد بذراعيه.
- تقنعها بي! لماذا! أتراني صاحب عيوب! أنظرْ. صحّة، شباب، مال، وكلّ ما تتمنّاه الفتاة بالشابّ موجود لديّ. خذني أنت إليها، ودعِ الباقي عليّ.
- حسنًا. ليكن ذلك غدًا إن شاء الله.
- ولمَ غدًا! لماذا لا يكون اليوم؟
- اليوم يا سِيْدي. لا تزعل.
«وعرّف قيصر فؤادًا إلى ابنة عمّه مساء ذلك اليوم. وبعد أقلّ من شهر كان في القرية عرس قلّ نظيره. ولم يطُل الوقت بعد ذلك حتى حمل فؤاد عروسه وطار بها إلى أوستراليا. وهناك ولدتْ له رينة، وميلادًا، وسالي، وهيلدا، وشاديًا، وسليمًا».
«ولمّا كان رينة غير ميّال إلى حمل المسؤولية من بعد أبيه، وميلاد غير محبّ للمدرسة والعِلم، أخذ فؤاد يُعدّ سالي لتولّي إدارة كلّ أعماله، خصوصًا بعدما اشتدّ عليه داء السكّري، وأضعف بصره وكِلْيتيه. فعلّمها كيف تدقّق الحسابات، وتستثمر كفاءات الموظّفين. ثم درست سالي هذا الاختصاص في الجامعة».
«كان -رحمه الله- يصرّ على أن يكلّم أولاده بالعربية؛ فتعلّموها وتكلّموها، لكنهم لم يتعلّموا أن يكتبوها. وبالعربية كان يحدّث أولاده عن لبنان، عن القرية وذكرياته فيها. وبهذه اللغة أيضًا سمعتُه، وهو على فراش الموت، يوصي سالي بأن تحمله وتدفنه إلى جانب أبويه في لبنان. قالت سالي: لماذا توصيني أنا يا أبي! لماذا لا توصي أمّي وإخوتي! ساعتئذٍ احتضن يد سالي، وقال: أنا أعرف على مَن ألقي وصيّتي؛ فلا تخذليني».
- غدًا تتعافى يا أبي. الأطبّاء قالوا إنّ جسمك قويّ.
- حتى الأقوياء يموتون يا حبيبتي، حتى الأقوياء.
«وإذ رأى فؤاد دموع سالي تنزلق بصمت على خدَّيها، ضمّها إلى صدره، وقال: عِديني بأنكِ ستقومين بما أوصيتكِ به يا صغيرتي.
- أعمامي، يومذاك، قد لا يصدّقونني. إنهم يريدونك أن تبقى بينهم.
- هاتي لي ورقة وقلمًا يا حبيبتي.
«ولمّا جاءته سالي بقلم وورقة، حاول أن يكتب بخطّ يده، لكن لا يده أسعفته ولا نظره؛ فطلب أن تأتيه بآلة تسجيل. ولمّا أتته بها، سجّل عليها وصيّته بصوته... مسكين فؤاد. لقد أخذت الغربة شبابه وصحّته؛ فرفض أن يعطيها أيضًا روحه وعظامه».
هكذا قال حنّا. ثم رفع بصره إليّ، وأضاف: «أرأيتَ جموع الناس التي احتشدت في يوم دفنه! لقد كان مأتمًا مَهيبًا حقًّا».
أجل، كان مأتمًا مهيبًا جلستُ فيه على مقعد واحد إلى جانب يوسف وجميلة وحنّا. القرية كلّها، يومذاك، خرجت لتمشي خلف نعش ابنها العائد. والجوار كلّه تألّب ليلقي نظرة الوداع الأخيرة على رجُل أحبّ الأقربين والأبعدين؛ فأحبّوه، وجاؤوا ليندبوه ويرثوه.
بعد أن ووري الجثمان الثرى وقام الناس بواجب التعزية وعادوا إلى بيوتهم، غادر أفراد العائلة إلا سالي. سالي توجّهت وحدها إلى حيث دُفن أبوها. لقد أرادت أن تقول له كلامًا من غير أن يسمعها غيره؛ فهو أيضًا كان يقول لها كلامًا من دون أن يسمعه غيرها.
هناك وقفتْ أمام باب المقبرة، وأخذت تتلمّس حجارة الجدران الباردة، وتقول: «ها أنا لم أخذلك يا أبي. لقد وفيتُ بوعدي وجئت بك إلى أرض الوطن التي تحبّها. نَمْ هنيئًا؛ فبعد اليوم لا مرض، ولا أوجاع، ولا دموع يستدرّها الشوق والحنين إلى القرية التي أبصرتَ النور فيها، لأنك في حضنها ستبقى، وفوق سفوحها سترفرف روحك الطاهرة».
«الآن أعرف أنك أردت أن ترقد ههنا كي لا ننسى وطننا. أعِدُك يا أبي بأنني لن أنسى هذه الأرض لأنك ترقد فيها. وأعدك أيضًا بأنني سآتي في كلّ سنة -ولو وحدي- لأزورك، وأتأكّد من أن هذه السنديانة ما زالت تظلّل مرقدك، ونسمات الروابي ما برحَتْ تمرّ من هنا لتلقي السلام عليك».
في تلك الأثناء كانت الشمس تتوارى خلف الأفق؛ فعزّ على سالي أن يرقد أبوها الليلة تحت ظلمتَين باردتَين: ظلمة الطبيعة وظلمة القبر. وإذ خانتها قواها، هبطت إلى الأرض على ركبتَيها، وأخذت تلطم جدران المقبرة بكفَّيها، وتبكي.