ثقافة وفنون

إيليا أبو شديد شاعر المغامرة

أبدعت مغامرة الشاعر إيليا أبو شديد، توجهاً مختلفاً في الشعر العامي اللبناني. هذه المغامرة تدفع"العامية" وتسير جنباً الى جنب مع التطوّر الثقافي العام. واللغة المحكية اللبنانية ليست أبداً متقوقعة على نفسها، لا تتطـلّع الى أبعـد من حـدود جغرافية مرسومة. فالواضح، بعد مقارنة مع اللغـات المجـاورة، أن لغـتنا ليست محلية، بالمعـنى الحصري، لا يفهـمها إلا اللبـنانيون فقـط. ويؤكد البعض أن اللغة العربـية المحكـية في لبـنان، وإن كانت تخـتلف كثــيراً عن العربية المحـكية في أجزاء من العراق، مثلاً، أو في بلاد المـغرب، فإنها لا تخـتلف في تركيبها والجـزء الأكبر من مفرداتها عن اللغة المحـكية في سوريا وفلسطين والحـجاز وليبـيا، كما أنها شديدة الشبه باللغة المحكية في مصر.

 

شاعر بالقلب والعقل

 كتب إيليا أبو شديد الشعر العامي اللبناني بقلبه وعقله. أراد اللغة قلقاً، حمّلها رسالة مستقبلية تتحسسها الأجيال الطالعة، وجعلها هماً ومسؤولية ناضجة. لذلك أتمت المغامرة اللغة في شعره، مع نمو الثقافة والحياة، كي تصل هذه اللغة الى الأجيال المقبلة وهي أكثر نضجاً وأوفر نصيباً من الجمال والغنى.

" حملتك بقلبي..

مركب مكسّر.. غريق

يتشلّع بها الريح

يبكي ع السّقر

يمتصّ عتم الليل

يغفى ع الشهيق

يشرب حياتي

 كلما الموج انعصر!"

اختار شاعرنا الشعر العامي الذي إن أُنصف، فهو لون من ألوان الأدب لا أبهى ولا أبدع. إنه في هذا العصر، أقرب أنواع الأدب الى الحياة، لأنه أشد التصاقاً بأعماقها، وألطف تعبيراً عن مشاعرها. إنه يتفجر من صميم الحياة تفجّر الينبوع الصافي من قلب الجبل. والشعر في مغامرة أبو شديد، إستعمال خاص للغة، "إذ اختارت هذه المغامرة أن تطل على العالم من خلال لغة منبسطة لا تعتمد قواعد جاهزة، إنما يهمها أن تحافظ على الجو المنطقي الداخلي الذي يبني القصيدة، وشكلها الحيوي، فتأتي واقعاً جمالياً ينبض بدم وحضور جديدين". ويحدد علاقته باللغة على قاعدة أن كل التعابير المتداولة مثل "الحداثة" واختراق جدار اللغة لا أهمية لها عنده، إذ أنه يؤمن بأن الشعر، لا يقدر أحد على تحديده بزمان أو مكان. فالمتنبي عمّر شعره أكثر من ألف سنة وهو حديث اليوم أكثر من كل الشعر الحديث. الشعر الأصيل بنظره لا يخضع الى مقاييس زمنية، ولا يتقوقع ضمن البيئة التي عاش فيها. أما بالنسبة الى اللغة، فكل لغة هي لغة شعرية، إذا عرف الشاعر أين يحدد موقع اللفظة. فالشوكة عندما يكون موقعها في العين تؤلم وتجرح، إنما الشوكة في خصر الورد تكمل لعبة الجمال، لذلك كل كلمة في اللغة شعرية. اللغة وفق رأي أبو شديد تخلع على اللفظة روعة وإيقاعاً، وتتجلّى العلاقة الجمالية في الشعر، لأنه يتعامل مع اللفظة المتميزة في لغة إبداعية. وشعره يؤكد على أن ألفاظاً كثيرة وكلمات كثيرة تحيا وتموت، والتعابير تجاري تطوّر العصور. ويشير الى أن ولاء الشاعر الأول يجب أن يكون للغة التي يرثها من الماضي والتي يجب أن يحافظ عليها وينميها. فمهما أطلعنا من روائع في اللغة نكتبها ولا نحكيها، نكون قد تركنا لأجيالنا الآتية انفصاماً في عقولهم يرضعونه مع حليب الأيام الأولى ويرافقهم حتى الموت. إنهم يخافون من العامية على الفصحى، والعامية بنت الفصحى، فمتى كان يخشى على الأم من إبنتها؟ حمّل أبو شديد اللغة العامية ما لم تحمله لدى غيره من الشعراء من قضايا ما ورائية ووجودية. فكيف تأتّى ذلك له؟ تأتّى له من أن مشكلة الشعر اللبناني تتمثل في تمحوره حول وصف "العرزال" و"جرن الكبة" أي حول الأشياء التقليدية ­ الفولكلورية، وقد صمم على أن يجعل هذا الشعر يتناول الحياة كلها، الوجود وما وراء الوجود. بمعنى آخر، أن يتناول كل القضايا العميقة إسوة بغيره من الشعر. ولذلك خاض شاعرنا هذا المعترك وكله إيمان بأن الشاعر إذا لم يؤد دوراً مثل هذا الدور فلن يكون شاعراً يتوافق مع الحياة.

 

التراب والبعد الفلسفي

 أعطى أبو شديد التراب بعداً فلسفياً ­ وجودياً. وانطلاقاً من أن التراب هو كل شيء، ولأنه إبن التراب، أحب اللعب في التراب كما لو كان صغيراً. لقد كان يشعر أن بينه وبين التراب وحدة حنين، لا يقوى على تفسير هذه الحالة لأن إحساسه بها أقوى من فكره، يرتاح الى الأرض والى التراب.

"ياما مَرَق عالم قبل منّا

بهالأرض كانوا ونحنا ما كنّا

ومنغيب بكرا متل ما غابوا

وناس بيجوا وبيسألوا.. عنّا

ويلّي بيجي بيقول للّي غاب

هالدني ورشة وترابها كمشة

في تراب باقي.. تراب

وتراب.. عميمشي"

والتراب عند أبو شديد، لا ينفصل، من الناحية الرمزية عن الذاكرة الإجتماعية والتراثية للشعب اللبناني. أدونيس يعود الى الحياة عندما يزهر التراب، والمهاجر يأخذ معه الى الغربة كمشة تراب، لأنه يدرك بحدس باطني أن التراب ليس جماداً، بل هو في بعده إنسان في الماضي، وفعل إيمان باستمرار الحياة.

 "كَمشْت التراب، وفرّخ بإيدي

 كل العشب والزهر

 وانفج صوت النهر

 بشي ألف ضحكة وألف تنهيدة!"..

 التراب موضوع جديد في الشعر العامي، خلق منه شاعرنا صوراً مختلفة في المسيرة الشعرية اللبنانية كما يقول جان صدقه.

 أبو شديد وتجربته مع المرأة

  في غمـرة الأسرار الكونية، لجأ شاعرنا الى المرأة يتأمل فيها، باحـثاً عن المعنى الشامل والعميق للحياة والكـون، ومتسائلاً عن سر العـواطف المتـضاربة في داخـل الإنسان والتي تؤثر على دوره وعلاقته مع الآخر. فأقـبل عليها، في "ثورة حب" كأنـها البديل عن الأم الضائعة.

 "جوعان وحدك عارفي جوعي

 وعطشان، ودموعك على دموعي

 لَسبِد ما نوقع بليلة عمر

 وما عود أوعى، ولا توعي"

وكان في حياة الشاعر نساء.. وليس امرأة واحدة. ومن الطبيعي أن يمر الشاعر في تجارب عاطفية كثيرة، واحدة تهزّه، وواحدة تجرحه، وأخرى توقظه، لذلك في حياته نساء عديدات. والحب بالنسبة إليه بمثابة البحر والنساء موجات، موجة تأتي وراء أخرى، فتتراكم الأمواج الى أن تصل الى الشاطئ بأمان. والعمر لا قيمة له عند أبو شديد. فلما كتب قصائد لبنات العشرين، كتب قصائد لنساء في الأربعين، تلك النساء فيهن النار والوهج والإحتراق أكثر من بنات العشرين. المرأة تعني له امرأة في أي عمر، فهذا البركان الذي سينفجر معه لا يسأل عن عمره، بل يسأل عن ناره كم هي محرقة.

 "وحدي تركيني، يا سمر

 إتعذّب.. وموجوع

 مصلوب ع سيف القدر!

معَنزَق بحلم إنكسر

 ضايع.. بصحرا

 من العطش والجوع

 فتّش ع كلمة، ع خبر

 ع متل دعسات.. البشر

 بعدو كأنو صوتها مسموع

 تحفر الرمل

 تدِل ع درب الرجوع".