اتفاقية الشراكة مع اوروبا: قراءة مبسّطة في المضمون

اتفاقية الشراكة مع اوروبا: قراءة مبسّطة في المضمون
إعداد: د. غسان الشلوق
استاذ العلوم الاقتصادية في الجامعة اللبنانية، مقرر اللجنة الاقتصادية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي

يستعد لبنان للدخول، في نيسان ،2002 بعد التوقيع النهائي المفترض على اتفاقية الشراكة اللبنانية-الاوروبية، مرحلة جديدة تنطوي على اهمية خاصة ليس على المستوى الاقتصادي فحسب بل على مستويات سياسية واجتماعية مختلفة خصوصاً ان الاتفاقية هي، عملياً، احد فروع ونتائج (اعلان برشلونة) لعام .1995 وبات لبنان الدولة ما قبل الاخيرة (والتي هي سوريا)، من اطراف برشلونة الذي ينهي المفاوضات مع الجانب الاوروبي.

وتستند الاتفاقية الى خلفية تاريخية عميقة وتستحق بالتالي، وبما تنطوي عليه من ابعاد، قراءة اكثر من مبسّطة، واكثر من تلقائية عادية، في المضمون.

 

أولاً: الخلفية التاريخية

عندما وقّع وزير الاقتصاد اللبناني باسل فليحان ونائبة المدير العام للعلاقات الخارجية الاوروبية كاترين داي، في بروكسل في 10 كانون الثاني ،2002 اتفاق الشراكة اللبناني ـ الاوروبي بالأحرف الاولى، لم يكن بالضرورة (يوماً عظيماً للبنان ـ بالمعنى الاقتصادي والسياسي العام ـ كما قال الرئيس رفيق الحريري([1]) بقدر ما كان (خياراً لا بد منه) للبنان بالدرجة الاولى ولأوروبا ايضاً. وقد وجد لبنان نفسه منذ سنوات مضطراً لسلوك طريق بروكسل، على هذا النحو على الاقل، لملاقاة مجموعة من التحديات الاقتصادية والسياسية لا سيما منها تلك التي افرزتها وتفرزها مفاعيل اتفاقات منظمة التجارة الدولية، على المستوى الاقتصادي، او نتائج تطورات ازمة الشرق الاوسط على المستوى السياسي. اما اوروبا فكانت، وما زالت، تود الانتهاء من هذا الملف في اطار اتفاق الشراكة الأوروبية المتوسطية الذي لم يبق من اطرافه المحددين بعد توقيع لبنان، إلا سوريا.

ويرتبط الاتفاق بالإعلان الذي اقرّه مؤتمر برشلونة المنعقد في 27 و28 تشرين الثاني .1995 وقد وقع هذا الاعلان وزراء خارجية وممثلو 27 دولة متوسطية هي خمس عشرة دولة اعضاء الاتحاد الاوروبي واثنتي عشرة دولة اخرى بينها ثماني دول عربية هي المغرب والجزائر وتونس ومصر والسلطة الفلسطينية والاردن ولبنان وسوريا واربع غير عربية هي مالطا وقبرص وتركيا واسرائيل. وبين هذه الدول واحدة غير متوسطية حرصت اوروبا على اشراكها لأسباب سياسية اولاً هي الاردن بينما غابت لأسباب سياسية ايضاً دولة متوسطية واحدة هي ليبيا.

وتعود فكرة المشروع الى اجتماع المجلس الاوروبي الذي انعقد في لشبونة ايضاً عام 1992 وقد اكدّ على توجهه اجتماع آخر عقد في كورفو عام 1994 واجتماع ثالث عقد في مدينة كان في 1995 ومهد  لـ (اعلان برشلونة) في السنة نفسها. ويلبي هذا الاعلان مجموعة من الحاجات الاوروبية والمتوسطية والعربية ابرز مقوماتها الحرص الاوروبي على اقامة (منطقة من الاستقرار والسلام) على حوض المتوسط الذي يمثل بعداً استرتيجياً لها، ورغبتها ايضاً في وضع صيغة جديدة متطورة للعلاقات الاقتصادية والسياسية مع دول هذا الحوض بعد سقوط  وتلاشي اتفاقات سابقة بفعل الشروط التي أفرزتها بنود منظمة التجارة العالمية وبفعل التحولات السياسية الكبرى الحاصلة في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ولا سيما منها انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي...([2])

اما من الجانب العربي فإن الهم الاساسي كان يتمثل بالبحث عن شريك متقدم لتغطية حاجات سياسية أفرزتها تحديات التسوية لمشكلة الشرق الاوسط، كما الحاجة الى تغطية ثغرات اقتصادية وتجارية وتكنولوجية تفرضها آفاق المرحلة.

وليست هذه الاتفاقية هي الاولى بين الاطراف العربية على الاقل والاطراف ـ بل الطرف الاوروبي. ففي التاريخ الحديث مجموعة من الاتفاقيات كتلك التي وقعها لبنان مع اوروبا عام 1965 ([3]) والتي نّصت على الأخذ بمبدأ الدولة الأكثر رعاية في المبادلات بين الطرفين كما أقرت تخفيضات جمركية وأشكالاً مختلفة من التعاون التقني، وتم توقيع شكل اخر متقدم نسبياً من الاتفاقيات في 1977مع لبنان ايضاً ([4]) وقد نصّ على منح السلع الصناعية اللبانية المصّدرة الى اوروبا معاملة تفضيلية من طرف واحد وتم استثناء السلع الزراعية من هذه المعاملة كما لم يتم لحظ اي اجراء في مجالات الخدمات والاستثمار وسواها([5]).

والأصح والاكثر دقة، ان اوروبا تذهب في هذا الاتفاق، وفي سواه قبل ذلك، الى ترجمة جوانب من خلفية سياسية استراتيجية اقتصادية انسانية عميقة في التاريخ تقول ان لا بد لهذه المنطقة، المتجاورة وربما الموحدة جغرافياً، ان تلتقي لبناء جسم قادر سياسياً (وعسكرياً؟) واقتصادياً على ان يكون جزءاً متكاملاً موحداً في خريطة تقاسم النفوذ العالمي مستقبلاً([6]). ويجد هذا التوجه تعبيراً واضحاً احياناً في التاريخ القديم، منذ الفينيقيين حسب بعض المحللين ([7]) او منذ الحروب الصليبية على الاقل، او منذ السعي لاعادة فرز مناطق النفوذ في العالم بعد الحرب العالمية الاولى.

ويحلو لبعض المحللين أيضاً ان يتذكّر أن (المشروع المتوسطي) كان، اولاً، فكرة لبنانية اجتمع عليها في ايام الانتداب الفرنسي، وعبر ما سمي (جمعية البحر الابيض المتوسط)، لبنانيون طليعيون منهم ميشال شيحا وشارل حلو وشارل مالك وسعيد عقل وكميل ابو صوان وراشد طباره وسليم حيدر وغيرهم(7). 

ولم تكن منطقة المتوسط هي الورقة الوحيدة التي تراهن عليها اوروبا بل ان هذه القارة التي عادت تحلم بالمجد، تبحث عن منطقة نفوذ مهمة اخرى عبرت عنها في تلك المجموعة الكبيرة المعروفة باسم مجموعة (لومي) (عاصمة توغو) التي تضم غالبية دول افريقيا الى مجموعة من دول اسيا والكاريبي ([8]).

والى هذه الخلفية التاريخية تسعى اوروبا الى معالجة هموم ومسائل عادية منها، الى وجود سوق اقتصادية كبرى، مسألة الامن ومسائل اخرى متفرعة واساسية كالنمو السكاني والهجرة في اتجاه اراضيها وقضايا محورية اخرى لما بات يعرف باسم صراع الحضارات والاديان وسوى ذلك.

اما المجموعة العربية التي لم تعرف، حتى الآن، للأسف، ان تحدد هويتها وتطلعاتها، فتبحث اولاً عن شريك طبيعي الى حد بعيد وأقل ضرراً.

وقد عبّر (اعلان برشلونة) (27 تشرين الثاني 1995) عن جوانب اساسية من التطلعات والهموم الاوروبية والحاجات العربية وان كان يظن في الوسط العربي على الاقل، ان هذه الخطوة كانت (اوروبية) اكثر منها (عربية) خصوصاً انها تدخل اسرائيل ودولاً غير عربية في الشراكة وتبقي غالبية الدول العربية خارجها وترسم، بالتالي، توجهاً متوسطياً لدول عربية مركزية. ثم ان الصيغة كانت، في الشكل، محددة، في الجزء الاكبر منها، من الجانب الاوروبي. وركز الاعلان، على سبيل التذكير، على (اقامة شراكة شاملة) بين الموقعين، وعلى جعل البحر الابيض المتوسط منطقة للحوار والتبادل والتعاون تضمن السلام والاستقرار والازدهار مما يتطلب تعزيز الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وتنمية النواحي الاقتصادية والاجتماعية تنمية دائمة ومتوازنة واتخاذ الاجراءات الكفيلة بمكافحة الفقر وتشجيع التفاهم بين الثقافات تشجيعاً افضل. كما عبّر الاعلان عن ضرورة (مواصلة حوار سياسي متين ومنتظم) و(تطوير حكم القانون والحريات الاساسية وضمان ممارسة هذه الحقوق والحريات ممارسة فعلية ومشروعة بما فيه حرية الرأي والتجمع لاهداف سلمية)، وعلى (احترام التنوع والتعددية ومكافحة مظاهر التعصب) و(احترام حقوق الشعوب المتساوية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها) و(تسوية الخلافات بالوسائل السلمية) ومحاربة الارهاب ومكافحة الفقر وتعزيز الامن الاقليمي. كما اقر الاعلان مجموعة من الاهداف والوسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المختلفة، وارسى آليات تعاون على مختلف المستويات بما فيها منظمات المجتمع المدني ([9]).

وتضمن الاعلان، بالتالي، ثلاثة ابعاد رئيسية: البعد الامني والسياسي، البعد الاقتصادي والمالي، البعد الاجتماعي والثقافي والانساني. وستطبع كل من هذه الابعاد الاتفاقات الثنائية التي تم ـ او يتم ـ التوصل اليها لاحقاً بين الجانب الاوروبي، من جهة، وكل من الاطراف الاخرى الموقعة ـ ومنها لبنان ـ من جهة اخرى.

وعلى رغم الطابع السياسي والامني الاساسي لاتفاقيات الشراكة، فإن اوروبا، كما دول المتوسط المعنية، تحاول ان تعالج خللاً اقتصادياً كبيراً بين الشركاء ابرز عناصره فارق هائل في مستوى الدخل، ومستوى الناتج، وفي الميزان التجاري (كما يستدل من الجدول رقم 1 المرفق). كما تود اوروبا ان تنعش حركة التبادل ـ وربما التكامل ـ كما تقول، بين دول جنوب المتوسط (ومنها اسرائيل) التي يبقى التبادل بين اطرافها محدوداً للغاية (كما يفيد الجدول رقم 2 المرفق).

 

 

ثانياً :  الاتفاقية مع لبنان

تصنف الاتفاقية اللبنانية ـ الاوروبية، من حيث الشكل، على انها ثنائية خاصة اذ تجمع لبنان، من جهة، الى كل من دول الاتحاد الاوروبي، اولاً، والاتحاد كاتحاد، ثانياً، من جهة اخرى. وينطوي الشكل، اساساً، على ثغرة لمصلحة الجانب الاوروبي الذي يفاوض موحداً، استناداً الى مشاريع اوراق معدّة باتقان، ومن موقع الطرف القوي، اطرافاً اخرى منفردة قلما كانت تملك ما يكفي من مقومات وضوح الرؤيا وعناصر الضغط. ويزيد في حال عدم التكافؤ ان الاتحاد الاوروبي يستند الى آليات وعناصر (لوجستية) هائلة، اضافة الى عوامل القوة الاقتصادية والتكنولوجية والمالية التي من ابسط تعابيرها ان دولة اوروبية (صغرى) كبلجيكا (10ملايين نسمة)، تتجاوز، بوضوح في ناتجها الوطني، مجموع الناتج للدول العربية المتوسطية كاملة (نحو 16 مرة عدد سكان بلجيكا)([10]). ثم ان اوروبا تأتي الى المفاوضات موحدة بينما يأتي الآخرون، لا سيما العرب، فرادى.

وعلى رغم ثغرات عديدة وعامة فإن لبنان استطاع ان يحقق بعض الخروقات منها ما هو مهم سواء في الشكل او في المضمون الاقتصادي والسياسي المباشر وغير المباشر. ويرتبط ذلك بما بات يعرف  (بالوضع الخاص) للبنان.

 

1-في المضمون المباشر

تستند الاتفاقية من حيث المضمون، الى قسم رئيسي مباشر، وأبرز عناصره التبادل التجاري والصناعي والزراعي والتحويلات (استثمارات، مساعدات...،) اضافة الى قسم ثان طويل الامد، غير مباشر غالباً، يتضمن مسائل عدة اخرى من خدمات وتعاون.

أ-  في التبادل:

تتألف الاتفاقية اللبنانية ـ الاوروبية من 92 بنداً([11]) اضافة الى ملاحق تتناول قطاعات ومواضيع يفترض ان تحسمها الاتفاقية في مرحلة لاحقة، واضافة ايضاً الى اربعة بروتوكولات تعنى بالشروط المتعلقة بتبادل السلع الزراعية وبعض السلع الصناعية والتعاون في مجالات مختلفة.

وأبرز مضامين الاتفاقية، في باب التبادل تحديداً، النقاط الآتية:

> اقامة منطقة تبادل حر للسلع الصناعية بين الطرفين في نهاية فترة انتقالية تمتد 12 عاماً من تاريخ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ وبشكل ينسجم مع مضامين اتفاقيات منظمة التجارة الدولية لعام .1994

> يمتنع الطرفان عن اعتماد التقييدات الكمية وتمنح اوروبا لبنان اعفاء كاملاً من الرسوم الجمركية على السلع الصناعية اللبنانية (مع شروط خاصة لبعض الصناعات الغذائية) المصدرة الى اسواقها، بينما يطبق لبنان الاعفاءات الجمركية المقابلة، اعتباراً من بدء السنة السادسة، للشروع في تنفيذ الاتفاق، وبشكل متدرج لاحقاً.

> تسمح الاتفاقية لأي من الطرفين بالتوقف عن تطبيق بنود التحرير الكامل للتجارة في حالات استثنائية محددة ومحصورة زمنياً وقطاعياً على غرار ما تقول به اتفاقات منظمة التجارة العالمية. وابرز حالات الاستثناء الحماية المفترضة، لظروف خاصة، لصناعات ناشئة.

 > نصت الاتفاقية على تفاصيل واسعة وشروط مختلفة للتبادل الزراعي في مقابل وضوح وتيسير كبير في التبادل الصناعي نظراً الى الضغط الاقتصادي والسياسي (والانتخابي تحديداً) للزراعة في اوروبا (وسواها). وابرز ما انطوى عليه ملف التبادل الزراعي اعفاء  كامل لقسم كبير من الصادرات الزراعية اللبنانية الى اوروبا من الرسوم الجمركية والأخرى النوعية وكذلك من تقييد الكميات، بينما اعفيت سلع اخرى من الرسوم وخضعت للتقييد (الكوتا). وقد اخذت  المفاوضات الزراعية وقتاً طويلاً حتى ان بعض السلع (كزيت الزيتون، او الازهار...) كان يتطلب عدة جلسات مفاوضات. كذلك طالت المفاوضات حول مفهوم الصناعات الغذائية، لا سيما الصناعات الحرفية كـ(الكبيس)، بين وجهة نظر اوروبية تعتبر هذه المنتوجات (زراعية) ـ تخضع بالتالي لشروط تصدير خاصة ـ ووجهة نظر لبنانية تعتبرها (صناعية) تستأهل، بالتالي، الاعفاء. وقد اقرت في غالبية الحالات وجهة النظر اللبنانية وان بشروط كمية وجمركية او نوعية احياناً عديدة.

> ابقى الاتفاق على السياسة الحمائية في لبنان لعائلتين اساسيتين من المنتوجات الزراعية هما الخضار والفاكهة التقليدية.

> اعفي، بالتالي، المكون الصناعي للمنتوجات اللبنانية، كما اعفيت لائحة من 77 مكوناً  زراعياً. في المقابل اعطي لبنان فترة سماح لمدة خمس سنوات يخفض بعدها تدريجياً رسومه الجمركية على السلع الزراعية المصنعة الاوروبية المستوردة اليه بنسبة خفض 30% على كل الرسوم التي تتعدى 5% حالياً مع الابقاء على الحد الادنى للأستيفاء فيما تلغى الرسوم ذات نسبة 5% في نهاية السنة الخامسة للأتفاقية.

> وضع نظام خاص لبعض السلع منها الاجبان (الاوروبية) غير المنتج مثيل لها في لبنان والخاضعة لرسم 30% حالياً حيث يخفض الرسم، في السنة الاولى، الى 20%، والنبيذ العالي النوعية الذي يخفض الرسم عليه من 70 الى 35 % في السنة الخامسة، والازهار (من 70 الى 30 % في السنة الاولى ثم الى صفر % في السنة الخامسة).

> تمت زيادة حجم الكوتا، كما عدد السلع الزراعية اللبنانية المسموح بتصديرها الى اوروبا، كذلك اعطي لبنان حق اضافة تصدير سلع وكميات اخرى مستقبلاً في ضوء التطور المحتمل لانتاجه الزراعي بسبب ما بات متعارفاً عليه بأن القطاع الزراعي اللبناني اصيب باضرار خلال الحرب وهو يسعى، حالياً، الى اعادة تنظيم وهيكلة.

> نصت البروتوكولات الثلاثة (من اربعة) الاولى المرفقة بالاتفاقية على لوائح تفصيلية تتضمن السلع المعفاة تماماً، او الخاضعة لتقييد في الكمية، او تلك ذات مكونين صناعي وزراعي (الصناعات الغذائية) مع تفصيل للاعفاءات وحدودها وشروطها لكل مكّون. ومن السلع (اللبنانية) المعفاة تماماً الالبان والحلوى والشوكولا والمأكولات المعدة من حبوب وبطاطا (شيبس)...

وبالنسبة لزيت الزيتون ابقي على التقييد اللبناني له (رسم 70% في لبنان)، وسمح للبنان بادخال كمية محدودة الى اوروبا لحاجة المطاعم اللبنانية (الف طن). وبالنسبة للنبيذ الاوروبي خفض الرسم نسبياً على فئة النوعية العالية (من 70 الى 35% في السنة الخامسة) واستمر منع ادخال النبيذ غير المعبأ في قناني.  

> بالنسبة لقواعد المنشأ التي خضعت لمناقشات طويلة ايضاً فقد انتهت الى حل مرحلي تضمن استثناء 11 سلعة من القواعد المحددة العامة الموجودة في بروتوكول تعاون، وبما يسمح للصناعيين بالتكيف مع متطلبات شهادات المنشأ المفروضة.

> وفي جانب اساسي اخر من الاتفاقية اقرّ الطرفان توقيع (اتفاق انتقالي) (Interim agreement) يسمح بالتطبيق الفوري للأحكام  المتعلقة بالتجارة في اتفاقية الشراكة والتي تأخذ عادة نحو ثلاث سنوات لتدخل حيز التنفيذ نظراً الى ارتباطها بابرام الاتفاقيات في كل المجالس التشريعية الاوروبية([12]). وبذلك يدخل الاتفاق الانتقالي حيز التنفيذ في ربيع 2002 خصوصاً ان ثمة تفاهماً لبنانياً على ابرام الاتفاقية بسرعة في مجلس النواب بعد التوقيع عليها في نيسان 2002(12).

 

 ب -  التحويلات

تضمنت الاتفاقية مجموعة بنود وتفاصيل تؤدي الى زيادة التحويلات لا سيما المالية منها. لكن اجزاء من هذه المواد بقيت مشروطة او غير واضحة ومحددة احياناً.

ونصت الاتفاقية على (اقامة تعاون لخلق بيئة ملائمة لتدفق الاستثمارات عبر اعتماد اجراءات متطابقة ومبسطة واقامة اطار تشريعي لتعزيز الاستثمار). ونصت الاتفاقية ايضاً على منح مؤسسات كل من الطرفين حق اقامة مشروعات عند الطرف الآخر وافادتها من المعاملة ذاتها التي تحظى بها المؤسسات الوطنية، كما نصت على (التعاون في ميدان وضع المواصفات والمقاييس واصدار شهادات المطابقة) وعلى (التقريب بين التشريعات المعتمدة في هذا المجال).

وتنص الاتفاقية، ايضاً، على تحرير حركة الرساميل من اية عوائق على حركتها الا في حالات استثنائية محددة، كما تنص على ازالة كل ما من شأنه اعاقة المنافسة بين المؤسسات، وعلى حظر الممارسات الاحتكارية. وينطبق مفعول هذا النص، كذلك، على المؤسسات الحكومية.

وتتضمن الاتفاقية، ايضاً، بنوداً تقول بتقديم المساعدة للقطاعات المتضررة من عملية التحرير التجاري، وعلى اعتماد سياسات دعم وتشجيع الاستثمار الخاص وازالة العوائق من امامه، وعلى توفير اطار دعم متعدد الوجوه لبرامج التصحيح الهيكلي.

وتركز الاتفاقية، ايضاً، على التعاون المالي (بهدف تعزيز مسار الاصلاحات الاقتصادية ومسيرة الاعمار ومعالجة آثار تحرير الاسواق على الاقتصاد اللبناني). لكن الاتفاقية لا تحدد حجم المساعدات المالية المفترضة للبنان.

وتتناول الاتفاقية وجهاً آخر مهماً من وجوه التحويلات هو المتمثل في عملية نقل التكنولوجيا، وتتحدث عن (التعاون الاقتصادي في مختلف المجالات بهدف الدعم المستمر لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز التعاون في مجالات التكامل الاقتصادي الاقليمي والتطور التكنولوجي).

لكن الاتفاقية لا تفصح بوضوح عن كيفيات وآليات التعاون في مجالات التحويلات، وترهن هذه الكيفيات، كما التعاون في مسائل اخرى عدة، الى مجموعة من الخطوات والاجراءات يفترض ان تتخذها الحكومة اللبنانية او تبقى مرهونة لتطور التعاون، في اطار (عملية برشلونة)، لاحقاً.

 

2- مسائل اخرى   

جنباً الى جنب مع المواد ذات الطابع التجاري الصناعي والزراعي ، والطابع التحويلي، تبرز في الاتفاق مواد اخرى تكتسب اهمية خاصة وتتعلق بمسائل تتراوح بين الخدمات المختلفة والجوانب السياسية العامة.

 

أ- الخدمات:

لم تحسم الاتفاقية، بشكل نهائي او واضح، موضوع التعاون في مجال الخدمات ربما لارتباط هذا القطاع بشروط تشريعية لم تكتمل او لارتباطه بمفاوضات لم تنجز في اطار منظمة التجارة الدولية. ونصت الاتفاقية، في نص مرفق، على (بدء الطرفين، بعد سنة من وضع الاتفاقية موضع التنفيذ، محادثات تهدف الى تحرير قطاع الخدمات). وربطت التقدم في هذا المجال بالمفاوضات التي سيجريها لبنان في اطار عملية الانضمام الى منظمة التجارة الدولية وفقاً لاحكام الاتفاق العام لتجارة الخدمات (GATS). ويستثني مشروع الاتفاق بعض الخدمات من عملية التحرير المقترحة ومنها خدمات النقل الجوي والبحري والبري.

وبالتوازي مع الخدمات، يتناول النص المرفق موضوع الملكية الفكرية ويشير الى التزام لبنان الانضمام اعتباراً من نهاية السنة الخامسة الى عدد من الاتفاقات الدولية حول الملكية الفكرية.

وتنص الاتفاقية، ايضاً، على التزام آخر للبنان في استحداث تشريعات محددة وعلى اعداد البنية المطلوبة للتعاون في مجالات مختلفة ومنها مجال الخدمات المالية ومنع تبييض الاموال ومكافحة الاجرام والمخدرات ودعم شروط المنافسة التجارية. كما تتضمن الاتفاقية موادَ تعرض لشروط التعاون في مجالات النقل  وتكنولوجيا المعلومات والاقتصاد المعرفي والاتصالات والطاقة والسياحة والاحصاءات وسواها.

وفي المجال الاجتماعي تتحدث الاتفاقية عن وجوه تعاون مختلفة وعن نية الطرفين في العمل في اتجاه محاربة الفقر وتعزيز المساواة بين الرجل والمرأة وتحسين مستوى المعيشة في المناطق المحرومة واعتماد برامج للأم والطفل ودعم التغطية الصحية والتأمينات الاجتماعية الدنيا. وتتحدث الاتفاقية عن اشكال تعاون في حقول عدة منها منظمات المجتمع المدني وهيئات اصحاب العمل والعمّال.

وفي المجال الثقافي تركز الاتفاقية على هدف مشترك يتمثل (في تحقيق معرفة متبادلة افضل للثقافات المختلفة) عبر خطوات عديدة منها الترجمات الادبية وتأهيل الأماكن التاريخية واقامة علاقات تبادل بين الجامعات. وينطوي التعاون العلمي، ايضاً، على اشتراك لبنان في برامج الابحاث الاوروبية وعلى تطوير برامجه البحثية الخاصة.

وتتناول الاتفاقية، وان بشكل خجول وغير واضح، موضوعاً اجتماعياً آخر هو موضوع تنقّل العمالة، وهو موضوع انطوى على حساسية اوروبية خاصة مع شركاء متوسطيين عديدين، لا سيما منهم عرب شمال افريقيا. ونصت الاتفاقية مع لبنان على تسهيل منح سمات الدخول وعلى عدم تقييد تنقّل العمال بين اطراف الشراكة وعلى تحسين اوضاعهم الاجتماعية ومنع الهجرة غير القانونية واتخاذ الاجراءات المطلوبة لوقفها ومحاربتها.

 

- ب : التعاون الاقليمي

ركز الجانب الاوروبي، منذ البداية، وفي اطار (عملية برشلونة) تحديداً، على ارساء ما سمي (تعاون اقليمي)، وهي عبارة يقصد بها، خلق وتشجيع اشكال تعاون بين اطراف (جنوب المتوسط) ومنها اسرائيل. وعرضت الادبيات الاوروبية المختلفة، منذ برشلونة وحتى اليوم، اشكالاً مختلفة من (التعاون الاقليمي) بدءاً بالأمن والحوار السياسي ومروراً بمسائل دقيقة كالمياه ووصولاً الى مواضيع فرعية منها عمل المجتمع المدني والنقابات وسواها([13]).

لكن الجديد في الاتفاقية المعدة مع لبنان هو حذف بند يتعلق بالتعاون الاقليمي (يشمل اسرائيل)، وربط لبنان هذا الملف بتقدم المفاوضات لحل شامل وعادل لازمة الشرق الاوسط وفق قرارات الامم المتحدة ([14].(

لكن هذا التحفظ، او حتى حذف بعض البنود، لا ينفي الصفة العامة للاتفاقية المنسجمة مع خط (عملية برشلونة)، علماً ان الاتفاقية تتحدث، في بعض المجالات على الاقل، عن (دعم التحول الاقتصادي في منطقة البحر المتوسط) وعن (اقامة توازن اقتصادي اجتماعي في بلدان البحر المتوسط...) وعن (تعزيز الاندماج(

وفي خط سياسي آخر مواز تركز الاتفاقية، في مطارح عديدة، على الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الانسان واستقلالية القضاء، الى البنود السياسية ـ الاقتصادية التي تتناول مسائل (الاصلاح الهيكلي) و(تحرير الاقتصاد) وسواها. وتعكس كل هذه البنود مذاهب ليبرالية متقدمة، في الشأن الاقتصادي، وخيارات سياسية واضحة في المفهوم الشامل للشراكة ضمن منطقة المتوسط، بما ينطوي على نتائج مختلفة على المستويين الاقتصادي والعام.

 

- ثالثاً :  قراءة في النتائج

تنطوي اتفاقية الشراكة اللبنانية الاوروبية على نتائج واسعة لا تقف، بالتأكيد، عند الحدود التجارية والتحويلية المباشرة كما يمكن ان يظن بل تتجاوز ذلك، في قراءة مبسطة للمضمون، الى حدود ذات طابع هيكلي جذري على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العامة .

 

1- على المستوى  الاقتصادي

تتراوح الآثار الاقتصادية الاساسية للأتفاقية بين التغيرات المحتملة على مستوى التبادل والاستثمار وتلك المتوقعة على مستوى الهيكلية.

      أ- في صورة الهيكلية

قلما توقفت التحليلات لاسيما تلك الرسمية منها عند الاثر الهيكلي لمثل هذه الاتفاقية علماً ان تطوراً من هذا النوع لا يمر عادة بدون اثر واضح يطاول جذور البنية الاقتصادية والاجتماعية العامة.

واول ما يمكن تصوره في هذا المجال هو مدى الاثر الذي قد يصيب البنية الصناعية من جهتين: الاولى اتجاه قسم كبير من المؤسسات اللبنانية الضعيفة اساسا الى معاناة اضافية، نتيجة انفتاح الاسواق خصوصاً ونتيجة عدم قدرة هذه المؤسسات لأسباب مالية او تجهيزية او تقنية، بما يعرّضها كمؤسسات الى خطر حقيقي للزوال. والثانية تحول الاقتصاد الوطني عموماً للبحث عن هوية جديدة له وعن دور جديد لمؤسساته ينسجم مع ما تفرضه هذه الشراكة وما تؤدي اليه على المستوى الاقليمي وعلى المستوى العالمي ([15]). ويرافق ذلك تشكيك في النمو الاقتصادي المستدام على المدى الطويل خصوصاً ان المؤسسات اللبنانية لا سيما الصناعية منها، وعلى رغم اعطائها فترة سماح لكي تتمكن من الصمود، لن تكون قادرة تماماً على مواجهة اعباء تنافس حاد اذا لم تسرع الى التكيف مع هذا الواقع الجديد وعلى ادخال تغيرات كبيرة في آليات عملها وفي عوامل انتاجها([16]).

ويراهن اللبنانيون في المقابل على تحول هيكلي بالتأكيد يؤدي الى زيادة دور المؤسسات الصناعية الكفوءة في قطاعات قادرة على المنافسة كما يراهنون على قيام مؤسسات جديدة، في قطاعات متطورة من مثل قطاع التقنيات الحديثة واقتصاد المعرفة، تكون قادرة على تسويق سلع وخدمات مكملة في الاسواق الاوروبية ولو بعد حين.

وعلى المستوى الزراعي لا يقدر ان يكون الاثر الاوروبي سريعاً وفعالاً خصوصاً ان الانتاج اللبناني يلقى منافسة من الاسواق العربية القريبة وليس من الاسواق الاوروبية اصلاً علماً ان الاتفاقية حرصت على حماية قطاعات زراعية اساسية (خضار وفاكهة) كما تركت مجال النمو مفتوحاً امام العديد من الصناعات الغذائية. ويمكن للبنان ان يتطلع، مستعيناً بمضمون الاتفاقية، الى انتاج انواع جديدة من الفاكهة القابلة للتصدير الى اوروبا. وتلعب خريطة المبادلات التجارية دوراً في تسريع التغيرات الهيكلية المحتملة.

ب : ثمن التبادل

من المعروف ان لبنان يستورد القسم الاكبر من حاجاته من الاتحاد الاوروبي في حين ان هذا الاخير لا يمثل سوى سوقاً ثانوية للصادرات اللبنانية.

وتوزعت الواردات اللبنانية في التسعينات مناصفةً تقريباً بين الاتحاد الأوروبي و بقيّة دول العالم بينما لم يستقبل هذا الاتحاد سوى 17% من الصادرات اللبنانيّة([17]). و بعد توقيع الاتفاق وازالة الرسوم الجمركية عن الصادرات اللبنانية الى اوروبا لا يقدر ان يتجاوز الوفر اكثر من3% بينما يمكن ان يؤدي الخفض التدريجي للرسوم الجمركية على الواردات من اوروبا الى خسارة اكبر باعتبار انّ هذه الرسوم تبلغ وسطياً 15% ([18]). كما يؤدي خفض الرسوم الجمركية على الواردات الى تحول، ربما يكون حاداً، في سوق الاستيراد اللبناني لمصلحة السلع الاوروبية التي تصبح اكثر جاذبية وقدرة على حساب السلع الامركية والاسيوية والاجنبية الاخرى ([19]).

وقدرت دراسة اجريت عام 1996 ([20]) انّه ينجم عن توقيع الاتفاقية ارتفاع للواردات من الاتحاد الوروبي بنسبة 23%. اما الصادرات فيفترض ان تزيد قدرتها التنافسية بسبب ازالة الرسوم الجمركية وبسبب اعتماد قواعد منشأ جديدة تجعلها اكثر قدرة على ولوج الاسواق الأوروبية. لكن الدراسة لا تتوقع زيادة ملحوظة لهذه الصادرات. وينجم عن توقيع الاتفاقية تراجع لمستوى الرفاه بنسبة 0,3% من حجم الانفاق لعام 1996 لان الاعباء المترتبة على تحويل التبادل تتجاوز المنافع الناجمة عن خلق التبادل. وتدعو الدراسة بالتالي الى تحرير التبادل مع الدول الاقليمية في وقت واحد مع الدول الاوروبية.

اما بالنسبة لاثر الاتفاقية على الايرادات الجمركية فقد اوردت الدراسة نفسها تقريراً يقول ان وتيرة تراجع الواردات تبدأ متدنية في السنوات الاولى ثم ترتفع بوضوح في السنوات الاخيرة للسماح حيث تبلغ 4,2% من الناتج القومي.

قد يكون هذا التقدير، وسواه من التقديرات المشابهة (ومنها ما ورد في شكل نصيحة من الجهات الاوروبية) قد ادّى الى تسريع انجاز وتطبيق نظام الضريبة على القيمة المضافة قبل توقيع الاتفاقية وبشكل انطوى على قدر من التخبط والفوضى في مرحلة الاطلاق.

ولا تقف الآثار السلبية عند هذه الحدود بل يمكن ان تتجاوزها الى خسارة القطاع الصناعي لجزء مهم من حصته في السوق الداخلية. ولا يؤمل ان تعوض القطاعات الصناعية هذه الخسارة بزيادة التصدير في مرحلة اولى على الاقل الاّ اذا قامت بعملية استثمار واعادة تأهيل واسعة وهو ما قد لا يكون متاحاً بسرعة.

واذا كان الاثر المنظور لاعتماد الاتفاقية غير ايجابي في المدى القصير فان ايجابيات عدة تظل محتملة، بل مرجحة، على مدى متوسط وطويل لكن بشروط عدة في طليعتها تأهيل المؤسسات الصناعية بشرياً وتجهيزياً، وزيادة الاستثمار بشكل ملموس، وادخال التشريعات الضريبية والمالية والاقتصادية المطلوبة ومواكبة الانفتاح الحاصل على اوروبا بصياغة متقدمة للعلاقات العربية تفترض حداً ادنى ملحاً من التعاون.

كما ان النجاح المطلوب ازاء التحدي الاوروبي يفترض حرصاً متزايداً من الادارة الحكومية لرعاية مؤسسات الانتاج لا سيما تلك القابلة للعيش منها، ومدّ هذه المؤسسات بكل وسائل المساعدة.

 

- ج : شروط الاستثمار

تقتضي تحديات التحرير التجاري والتبدل السريع في الهيكلية الاقتصادية مزيداً من السهر لزيادة حجم الاستثمار والتحويلات المالية المختلفة ومن ضمنها المساعدات في محاولة لقلب نتائج الشراكة سريعاً في اتجاه الايجابية.

لكن المعطيات المتوافرة عن الاستثمار والمساعدات لا تشجع تماماً خصوصاً ان المعايير المعتمدة داخل منظمة التجارة الدولية، والتي تؤكد عليها المجموعة الاوروبية، تشترط، لدفع الاستثمار، كتلة من السياسات (الادارية، الضريبية، الاجتماعية، القضائية  الاقتصادية العامة...) التي يمكن ان تكون مؤذية للدول لاسيما الصغيرة والنامية منها. وقد ادى بعض هذه السياسات الذي صيغ في اطار (الاتفاق المتعدد الاطراف للاستثمار)([21]) (AMI) الى صراع حاد حتى داخل اوروبا المتقدمة شارك فيه اطراف اجتماعيون، كالنقابات العمالية، ابدوا خشية من ان تتحول الدول الى (ادوات ضعيفة) في ايدي الاستثمارات الكبرى  والشركات المتعددة الجنسية ([22]).

وعلى رغم ما بدا، من خلال الاتفاقية والمفاوضات التي واكبت اعدادها، ان لبنان يعِد بالسير في (الاصلاحات الاقتصادية والمالية المطلوبة) لتشجيع الاستثمار، فان التشكيك بإمكان الحصول على ضخ كبير لـ (الاموال الطازجة) يبقى قائماً، خصوصاً ان ما يعرف بـ(اشكالية المركز والاطراف) تشير الى ان  الاستثمار يتوجه، عادة، نحو المركز ـ وفي هذه الحال اوروباـ لدى توقيع اتفاق تعاون مع اطراف مختلفة. ويؤكد محللون، في الاتجاه نفسه، ان اوروبا تملك، في اي حال، مقومات اجتذاب الرأسمال اكثر مما يملك لبنان وسواه من الدول الصغيرة ([23]).

ويجد هذا التوجه بعض تأكيد له في ما يبدو انه (شروط صعبة التحقيق) ـ بعضها سياسي ـ لتدفق الاستثمارات، وكذلك في المعطيات الاحصائية حول هذا الموضوع. وتفيد احصاءات البنك الدولي([24]) ان  (حجم التدفقات الاجنبية المباشرة) بلغ، في ،1998 نحو 619,2 مليار دولار منها نحو 72% (448,3 ملياراً) توجهت نحو الدول الغنية و27% نحو الدول الفقيرة والمتوسطة. وحصلت اسرائيل (1,8 مليار) على اكثر مما حصلت عليه دول عربية عدة مجتمعة منها لبنان (200 مليون) وسوريا (80 مليوناً)، والجزائر (5 ملايين)، والكويت (59 مليوناً)، والاردن (310 ملايين)، وان تكن احدى الدول العربية، مصر، (1,07 مليار) حصلت على حصة متقدمة(24).

وعلى رغم ما يبدو من ضبابية تحيط بهذا الملف فإن لبنان يظل يراهن على تفعيل الاستثمار مستنداً، ربما، الى المنطق القائل انه (بعد الحد الادنى لا يقوم الا التحسن) بمعنى ان المستقبل لا يمكن ان يحمل الا تحويلات اضافية بعدما بلغ لبنان الحدود الدنيا، خصوصا (ان جذب الاستثمار لا بد ان يتنامى مع التحسن المفترض في بعض المعطيات السياسية والاقتصادية الاساسية.

وجنباً الى جنب مع الاستثمار يراهن لبنان، كما سواه من الدول النامية، على تحسين شروط نقل التكنولوجيا اليه. وعلى رغم وعود اوروبية متكررة في هذا الاتجاه، سواء في الاتفاقية او في العديد من الاوراق التحضيرية والمفاوضات التي سبقتها ([25])، فإن المساعدة الفعالة في هذا الشأن لم تحسم بل ارتبطت، هي الاخرى، بشروط تشريعية واقتصادية ومالية مختلفة لا يبدو ان لبنان يجد صعوبة، مبدئية، في التعامل معها.

ويراهن لبنان ايضاً على مساعدات مباشرة اضافية عبر (برنامج ميدا)MEDA) ) الاوروبية او عبر هيئات اوروبية اخرى كالبنك الاوروبي للإستثمار والاجهزة الحكومية المختلفة. لكن الحصة اللبنانية من (برنامج ميدا 1) للفترة ما بين 1995ـ1999 كانت محدودة جداً (185 مليون اورو) بالنسبة الى المجموع (3400 اضافة الى مبالغ موازية من بنك الاستثمار وصناديق واجهزة اخرى) وكذلك لحصص (فرقاء مميزين)، كاسرائيل او تركيا او حتى مصر. ولم تتعدل حصة لبنان في (ميدا 2) (5350 مليون اورو للفترة من 2000 الى ،2006 تضاف اليها تحويلات اخرى من صناديق متخصصة) إلا قليلاً ([26]).

وعلى رغم محدودية المساعدات المقررة في (ميدا)، لبلد كلبنان خصوصاً، فان هذا البرنامج شكا من عراقيل ادارية عدة تحول دون صرف المساعدات فعلاً مما ادى الى انخفاض نسبة المساعدات المدفوعة الى نحو ربع تلك المقررة ([27]). ووعد الجانب الاوروبي خلال مفاوضات سبقت ورافقت توقيع اتفاقيات الشراكة ([28]) بتسهيل دفع المساعدات المقررة فعلاً.

ولم يظهر اسم لبنان على لائحة المساعدات المقدمة من قبل (البنك الاوروبي للاستثمار) في 2001 على رغم قروض بلغت 1,5 مليار اورو (منها 225 مليوناً للجزائر، 280 للمغرب، 270 لتركيا، 180 لمصر، 115 لسوري...)([29])، لكن لبنان كان قد حصل، حسب الجدول رقم3 المرفق، على التزامات اوروبية بقيمة 167 مليون اورو (منها 76% هبات) في .2000

 

كذلك فان الاتحاد الاوروبي يمثل، حتى الآن، جهة رئيسية في تمويل عملية اعادة اعمار لبنان (الجدول رقم 4 المرفق)، على رغم ثغرات منها شروط صعبة ترهن، احياناً، طريقة اعداد وتنفيذ المشاريع بأكلاف يمكن ان تكون عالية.

 

-ج:و مسائل اخرى:

ولا تقف النتائج الاقتصادية للإتفاقية عند ملفي التبادل والتحويلات بل تتجاوزها الى مسائل حساسة عدة منها، على سبيل المثال لا الحصر، قضية المياه التي تنطوي على ابعاد مهمة. واذا كانت الاتفاقية الموقعة مع لبنان لا تتحدث مباشرة وبوضوح عن مثل هذه المسألة الا ان كل الادبيات الاوروبية التي تعتبر في اساس الاتفاقية، وفي خلفية الاعداد لها، ومنها (اعلان برشلونة)، تفرد مطرحاً واسعاً، وتركز بشكل ملفت، على هذه المسألة ([30]). وتدعو هذه الادبيات الى (التعاون على حسن استعمال الموارد المائية بين دول الضفة الجنوبية للمتوسط) والى اعتبار المياه (اساساً في عملية الاستقرار والنمو في المنطقة)...([31])، في اشارة، اخرى ملفتة، الى مطامع اسرائيلية معروفة ومرفوضة لبنانياً في هذا المجال.

 

2-على المستوى الاجتماعي

تتراوح ابرز الآثار الاجتماعية للشراكة بين مسائل العمالة وحوار الثقافات والديمقراطية .

أ- العمالة:

يمثل ملف العمالة، وما يلحق به من ملف السكان، هاجساً اوروبياً اساسياً وقضية محورية في كل المفاوضات الاوروبية العربية. وتخشى اوروبا انعكاسات منها (زحف العمالة)، لا سيما غير المشروعة، في اتجاهها وما يمكن ان ينطوي على ذلك من آثار اجتماعية وامنية. كما تخشى اوروبا النمو الذي ظلّ (فالتاً) طويلاً للتوالد السكاني على الضفة الجنوبية للمتوسط. وركز فرقاء عرب لدى بحث مثل هذه المواضيع على ضرورة احترام حقوق العمال (العرب) المهاجرين الى اوروبا وعلى تحديد الشروط المذلّة احياناً للإنتقال الى اوروبا ولا سيما لدى طلب تأشيرات الدخول الى نقاط العبور.

ويستند المفاوض الاوروبي الى معطيات عديدة منها ان عدد (غير الوطنيين) (وجلّهم من العرب) ربما وصل الى حدود 30 مليون شخص في اوروبا قسم كبير منهم في وضع غير شرعي([32]). كما تستند الى استمرار عمليات الهجرة غير المشروعة بشكل واسع، كما حصل ويحصل على الحدود المغربية الاسبانية، والى اعمال عنف اتهم بها عرب في اوروبا. ويسجل تقرير اوروبي آخر ([33]) ان متوسط النمو السكاني ينطوي على فارق كبير  بين اوروبا والدول العربية المتوسطية، وقد ظهر هذا الفارق بوضوح في الفترة ما بين 1993 و1997 على رغم بدء اعتماد سياسات للحد من الولادات (3,8% في الاردن، 2,8% في سوريا، 2,2 في مصر... مقابل 0,6% في فرنسا و,20% في اسبانيا). وتركز اوروبا في هذا المجال، وتريد ان يركز شركاؤها ـ وهو ما ظهر في اتفاقية الشراكة ومنها الاتفاقية مع لبنان ـ على اعتماد برامج عدة لمواجهة هذه الحالة منها محاربة الهجرة غير المشروعة (مقابل تسهيل الانتقال المشروع) واعتماد سياسات لمحاربة الفقر ودعم عمل النساء وتحسين برامج التعليم والتأكيد على المساواة بين الرجل والمرأة. وتنطوي البرامج الاوروبية الخاصة بالمرأة على خلفية ديمغرافية واجتماعية اساسية باعتبار ان المرأة هي صاحب دور اول في (قرار) التوالد. كما تركز اوروبا على ان لا مفر من معالجة هذه المسألة في اطار البحث عن تنمية مستدامة وانماء.

 

ب- حوار الثقافات والديمقراطية:

تكتسب الشراكة بعداً ايجابياً مهماً آخر في ما بات يسمى حوار الثقافات والاديان، هو مسألة حقوق الانسان والديمقراطية. وتتناول اتفاقية الشراكة، سواء منها تلك الموقعة مع لبنان او الاخرى الموقعة مع اطراف متوسطيين اخرين على مثل هذه المسائل. وتود اوروبا ان تعزز هذا الحوار باعتبار انه مدخل الى (لقاء عميق) يضمن الخلفية الصلبة لشراكة فعالة وغير سطحية. وفي مقابل تعامل ايجابي بنّاء في هذا المجال، يركز الجانب الاوروبي باستمرار وبقوة، بل بنوع من الحدة احياناً، على قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان التي يتهم اطراف  متوسطيون بقلة احترامهم لها. وتظهر في العديد من مواد وفقرات اتفاقية الشراكة مع لبنان واتفاقيات مماثلة اخرى عبارات تؤكد على ان الديمقراطية هي اساس للتعاون الاقتصادي السليم والفعال كأن اوروبا تقول ان التقدم الاقتصادي في الشراكة يفترض ان يترافق مع التقدم المحقق في احترام حقوق الانسان والديمقراطية وان العكس هو صحيح. ويذكر ان مثل هذه المسألة كانت ايضاً اساسية بل انها هددت بعرقلة اتفاقية (لومي) بين اوروبا ومجموعة الدول الاسيوية والافريقية والكاريبية.

وهذه نقطة تمثل حتى الآن، وربما ستظل تمثل، مع نقاط سياسية اخرى، عنصراً اساسياً لتنفيذ الشراكة حتى بعد توقيعها.

 

ان اتفاقية الشراكة اللبنانية الاوروبية، بل كل اتفاقيات الشراكة الاوروبية المتوسطية، انطوت على ثغرات تنظيمية وادارية بلغت، احياناً، حدود (الاذلال) لمنطقة الجنوب المتوسطي([34])، لكنها انطوت في المقابل، على احتمالات توسع وتنمية لدول هذه المنطقة، خصوصاً اذا اخذت هذه الدول، ومنها لبنان، بشروط النهوض واذا احسنت التصرف ازاء السياسات المفرطة في الليبرالية التي تقول ببعضها الاتفاقية فعملت، بالضرورة، على رعاية قطاعاتها المنتجة، لا سيما الصناعية، ومهدت طريق النمو للقطاعات المتطورة ومنها قطاعات اقتصاديات المعرفة، وتوجهت الى تعاون عربي عميق، على شكل سوق مشتركة سليمة فعالة، سريعاً.

ان احتمالات النجاح الكبير، في منطقة الـ700 مليون نسمة ويزيد، تظل مفتوحة، اذا ادركنا ماذا نفعل...

 


[1] انظر عدد جريدة (النهار) في 11 كانون الثاني .2002

[2]  يمكن في هذا المجال مراجعة رولا مخايل في (النهار)، الاثنين 3 كانون الاول .2001

[3]  اقر قانونها بتاريخ 13 نيسان 1968 ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 25 نيسان .1968

[4]  جرى ابرام هذه الاتفاقية الجديدة بالمرسوم الاشتراعي رقم 17 تاريخ  25/6/ 1977 المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 30/6/.77

[5]  من المفيد في هذا المجال مراجعة البير داغر، (لبنان وسوريا: التحديات الاقتصادية والسياسات المطلوبة) لا سيما النص الوارد في كتابه هذا حول اتفاق الشراكة (ص 183 وما يليها) الذي نشر ايضاً في مجلة (الدفاع الوطني اللبناني) العدد ،35 كانون الثاني .2001

[6]  يمكن في هذا المجال مراجعة ورقة عمل غسان الشلوق في موضوع (منطقة الشراكة الاوروبية المتوسطية: الثغرات والآفاق)، من تنظيم البعثة التجارية الالمانية في مقر غرفة التجارة والصناعة والزراعة في زحلة والبقاع، زحلة 6 تشرين الثاني .2000

[7]  انظر في هذا المجال منح الصلح ، (العروبة والمتوسطية في ميزان التنافس بين اميركا واوروبا) مجلة (تحولات المتوسط)، العدد الاول بيروت، كانون الثاني 1996 ص 18-.20

[8]  حول اتفاق لومي ، تاريخه ومضمونه وابعاده ، يمكن مراجعة عدد ايلول/تشرين الاول 1979 من مجلة PROJET الفرنسية المنشور في la Documentation Francaise  عدد كانون الاول .1979

[9]  النص الكامل (المترجم الى العربية) للاعلان نشر في العدد الاول لمجلة (تحولات المتوسط) (مرجع سابق)، كانون الثاني ،1996 ص 2 الى ص .17

[10]  بلغ حجم الناتج القومي لبلجيكا في 1999 نحو 250,6 مليار دولار في مقابل 87,5 لمصر، 7 للاردن، 15,8 للبنان15,2، لسوريا، 19,9 لتونس، 46,5 للجزائر و33,8 للمغرب. انظر تقرير البنك الدولي حول التنمية في العالم 2000-2001 (النسخة الانكليزية) ص274-.275

[11]  نص الاتفاقية، وزارة الاقتصاد والتجارة (علماً ان النص احيط، حتى شباط ،2002 بسرية ريثما يحال الى مجلس النواب لابرامه). وكان النص ما قبل الاخير، قبل التوقيع، يتألف من 102مادة دمج او ارجئ بعضها في النص النهائي.

[12]  حديث لوزير الاقتصاد باسل فليحان، (النهار)، 10 كانون الثاني 2002 الصفحة السادسة.

[13]  يمكن مراجعة نص (اعلان برشلونة) (مرجع سابق)، كما يمكن مراجعة العديد من الاوراق الصادرة عن الاتحاد الاوروبي ومنها الخاصة الى مؤتمر مالطا الاوروبي المتوسطي (1997)، ومؤتمر (شتوتغارت) (1999) وسواهما. يمكن ايضاً مراجعة ورقتي اللجنة الاقتصادية والاجتماعية الاوروبية الى القمة السابعة للمجالس الاقتصادية والاجتماعية (آثينا، آذار 2002) الاولى  بعنوان:Avis sur le partenariat euro-méditerranéen , bilan et perspectives

والثانية بعنوان:Commerce international et développement social

[14]  الوزير باسل فليحان ((النهار)، 10/1/2002) (مرجع سابق) والمعلومات (الرسمية) المنشورة في (النهار)، في 11/1/2002 (مرجع سابق).

[15]  انظر في هذا المجال Le libre échange euro-méditerranéen : un atout pour le développement? problèmes économiques , la documentation française numéro 2686 paris2000

[16]  راجع Le libre échange est-il un facteur de croissance ? probl‏‎èmes économiques , la documentation française numéro 2688-2689 Paris 2000

[17]  راجع جدول التبادل التجاري الاوروبي المتوسطي المرفق.

[18]  راجع البير داغر (لبنان وسوريا: التحديات الاقتصادية والسياسات المطلوبة)، مرجع سابق ص 199

[19]  راجع في هذا المجال البير داغر (مرجع سابق). راجع ايضاً سهيل قعوار (بعض الاعباء الاقتصادية للشراكة) النهار، 28 كانون الثاني .2002

[20]  Annalisa Fedelino , Association agreement between  Lebanon and the European Union , IMF 1999.  منشورة ايضاً في البير داغر، مرجع سابق ص .200

[21]  حول AMI ، طبيعته، وشروطه، وتعثره لاحقاً، يمكن مراجعة Le Monde Diplomatique ، عدد نيسان 1999

[22]  اقرأ بهذا الشأن ورقة عمل الاتحاد الدولي للنقابات الحرة الى اجتماعات باريس حول اتفاق الاستثمار،CISL, Bruxelles, Avril 2000

[23]  البير داغر، (لبنان وسوريا...) مرجع سابق ص.206

[24]  التقرير السنوي حول التنمية في العالم، 2000-،2001 ص .315

[25]  انظر، مثلاً، التقرير الخاص في موضوع Le commere international et developpement social, comité économique et social européen , Bruxelles ,2001.

[26]  المرجع في .25

[27]  المرجع في .25

[28]  منها المفاوضات في اطار اللجنة الخاصة المنبثقة عن المجالس الاقتصادية والاجتماعية الاوروبية - المتوسطية، واللجنة الاقتصادية الاجتماعية الاوروبية، بروكسيل، شباط وتموز .2001

[29]  تقرير صادر في 31 كانون الثاني 2002 منشور على صفحة Banque europeenne d’ investissement على الانترنيت.

[30]  يمكن، على سبيل المثال لا الحصر، مراجعةLa charte méditerranéenne de l,eau (Rome , 1992)

والاعلان الختامي للمؤتمرين القطاعيين حول المياه المنعقدين في اطار الشراكة الاول في مرسيليا (1996) والثاني في تورينو (1999).

[31]  تردد بعض هذا الكلام، ايضاً، في الورقة حول Le commerce... (المرجع في 25 )،ص.12. وعارض اللبنانيون، باستمرار، هذه النصوص.

[32]  راجع في هذا المجال (Les  travailleurs migrants) تقرير مقدم الى مؤتمر العمل الدولي، الدورة ،87 جنيف 1999 ص.4.

[33]  Les relations entre l’union européenne et les pays tiers méditerranéens , avis présenté par J.C. PASTY , conseil économique et social francais , ed. Les journaux officiels 2000 p. 42 et suivantes

[34]  كلمة (اذلال)، كما تفاصيل من الثغرات، وردت في ورقة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية الاوروبية بعنوان avis sur le partenariat euro- méditerranéen - Bilan et perspectives après cinq ans,  المقدمة الى اجتماع القمة للمجالس الاقتصادية والاجتماعية الاوروبية المتوسطية، اثينا، اذار ،2002 (مرجع سابق) ص.6.