احتمالات النزاع الصيني الأميركي وموقع روسيا

احتمالات النزاع الصيني الأميركي وموقع روسيا
إعداد: ميشال يمين
كاتب في الشؤون الدولية

ترقب الدول باهتمام بالغ، إن في أوروبا وأميركا، أو في باقي العام، بعضها بإعجاب وبعضها الآخر بخشية، ولادة جبار القرن الحادي والعشرين، الصين المعاصرة. وتنبع خشية الأميركيين والأوروبيين خاصة من كون افتراق الحضارتين الصينية والأوروبية بدأ في أغوار التاريخ مع الكونفوشية ليستمر حاضراً مع الشيوعية الصينية المتجددة أبداً، غير التاركة، قدر مستطاعها ، ماءً عكراً لصيد المصطادين، وغير الآخذة  بنصائح المغرضين القاتلة، ولكن المستفيدة في آن من كل ما هو نافع لها في مسيرتها التاريخية عبر معارج الاستقلال والتقدم. وإن هذا الإفتراق الحضاري المديد في الزمن ليضطر "الأسرة الأطلنطية" والصين أن تحدق إحداهما في الأخرى بعبن الحذر، مثلما كانت تفعل في زمن مضى أوروبا (ومن ضمنها أميركا) وروسيا.

لقد كشفت أحداث السنوات الأخيرة عن تصدعات خطيرة في التكتونيكا السياسية العالمية، لاسيما على صعيد العلاقات بين أعظم وأشد دولتين نفوذاً وتأثيراً في عالم ما بعد الإتحاد السوفياتي: الولايات المتحدة والصين. هذه التصدعات الجوفية المزلزلة، المعبرة عن نفسها تارة في أزمة السوق المالية العالمية، وأخرى في المبادرات السياسية الخارجية الهامة، إلى الذاكرة أحداث سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية. فالطاقة النزاعية الكاملة في العلاقات الصينية الأميركية تتنامى بسرعة، حتى ولو رغبت القيادة السياسية في كلا البلدين بما هو عكس ذلك. والشيء نفسه يمكن أن يقال في روسيا المعاصرة التي فقدت مؤخراً، خاصة بفضل إرادة نخبتها الحاكمة وخيارها الطوعي غير المفهوم، صفة الدولة العظمى. فهي تجد نفسها مضطرة أن تأخذ مكانها في هذا الجانب أو ذاك، في هذا المتراس أو في المتراس المقابل على الصعيد العالمي. فإما أن تكون مع أميركا والشركات العالمية الضخمة ضد الصين والعالم الثالث، وإما مع الصين والعالم الثالث ضد أميركا التي تضرب أينما تريد، كما بينت أحداث الآونة الأخيرة، والاحتكارات العالمية التي لا تعرف حدوداً قومية لأنشطتها. وليس يسع روسيا في وضعها الحاضر أن تنهج سياسة خارجية مستقلة فعلاً، كما أن حدود المناورة لديها ضيقة، وأي انجرار إلى التلاعب قد يجعل أميركا والصين تتفقان على حل مشاكلهما على حساب روسيا بالذات.

 

الخلفيات الجغراسياسية لنتائج المؤتمر الخامس عشر

للحزب الشيوعي الصيني

أجمل المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي انعقد العام الماضي، حصيلة تطور جمهورية الصين الشعبية خلال السنوات الخمس المنصرمة ورسم الخطوط العامة للنهج الذي عليه أن يعتمده في بدايات القرن الحادي والعشرين. ولعل مواد المؤتمر إياها تتيح تقييم مستقبل السياستين الأميركية والروسية تجاه الصين. فبقاء مجموعة من الرجالات المعتبرين أنصاراً لعلاقات وثيقة تقليدياً مع روسيا، بل حتى تعزيز مواقع هؤلاء على رأس القيادة الصينية، يعتبر إشارة هامة من الطرف الصيني. فنتيجة التغيير في الكوادر الذي أجراه المؤتمر كانت تعزيزاً في إدارة شؤون الحزب والدولة والقوات المسلحة لمواقع شخصيات من مثل زيانغ زيمين ولي بنغ وآخرين.

من المعلوم أن زيان زيمين كان قد انتخب في شهر حزيران من عام 1989، بعد أحداث بكين المناهضة للحكومة والمنادية بالديمقراطية الغربية، أميناً عاماً للجنة المركزية للحزب الشيوعي بتزكية من دنغ سياو بنغ، حالاً محل تشاو زيانغ الذي أقيل، كما قيل، بسبب عدد من الأخطاء بينها إحجامه عن التصدي "لليبرالية البرجوازية" (تأثير الأفكار الإقتصادية والسياسية الغربية). وكان زيانغ زيمين قد أجرى خلال عامي 1955-1956 دورة تدريبية في معهد السيارات بموسكو.

أما لي بنغ فهو رئيس لمجلس الدولة في الصين الشعبية منذ عام 1988. وفي اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في حزيران 1989 ألقى تقريراً هو الآخر باسم المكتب السياسي تحدث فيه عن أخطاء تشاو زيانغ أيضاً. ومن سيرته أنه ابن ثوري صيني معروف قتل عام 1931 على أيدي جماعة الغومينتانغ (الحكومة المركزية) الموالين للغرب. ثم تربى في أسرة شو ان لاي. وفي أعوام 1949-1955 تلقى علومه في الإتحاد السوفياتي في معهد الطاقة بموسكو.

إن ارتقاء شخصيات كهذه إلى مناصب رفيعة في الحزب والدولة كان رداً على توجه الصين الشعبية في مرحلة سابقة صوب الولايات المتحدة في إطار سياسة "الإنفتاح". ويتح تركيز السلطة بمفاصلها الأساسية في يدي زيانغ زيمين ولي بنغ افتراض الاحتمال الكبير اليوم لتطور وتوطد العلاقات بين روسيا والصين تفضيلاً لها على أية علاقات أخرى، على الرغم من وجود فئة عريقة من المثقفين الجامعيين الموالين للغرب، لاسيما الولايات المتحدة([1])، شديد تأثيرها في أوساط الطلاب والمتعلمين، ومن أن الصين، المحتاجة إلى كوادر متخصصة مؤهلة، ترسل إلى الخارج، وخصوصاً إلى الولايات المتحدة، الطلاب والاختصاصيين لإعادة تأهيلهم، كما تستقبل المعاهد العليا الصينية للتعليم فيها وهذا ما يخلق بالطبع الشروط اللازمة لتكون شريحة من التقنوقراط الموالين للغرب، ولترقي أفرادها تدريجياً إلى مستوى إداريين في حلقات الإدارة الوسطى، ومن ثم العليا.

كذلك أضحى مثابة مرشد للعمل تأكيد المؤتمر "للمبادىء الأربعة" التي نادى بها دنغ سياو بنغ والتي تحدد جوهر الدولة الصينية الحديثة. هذه المبادىء هي: الحزب الشيوعي هو القوة القائدة، الماركسية-اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ هي الأساس الأيديولوجي، ديكتاتورية الشعب الديمقراطية هي شكل السلطة، الاشتراكية (ذات الخصوصية الصينية) هي الهدف من بناء الدولة. ويعني هذا في المرحلة الإبتدائية التي، حسب تحديد المؤتمر، تمر بها الصين حالياً، اقتصاداً متعدد الأنماط يكون فيه القطاع العام ولرقابة الدولة على المسار الاقتصادي الدور الريادي. هذا النهج أمّن في العقد الأخير من السنين، رغم كافة التعقيدات المرتبطة باختيار أفضل الأساليب، نمو الدخل القومي بنسبة 10-12 بالمائة سنوياً وإمكان تبوء الصين الشعبية مع حلول العام 2020، إذا ما استمرت على هذه الوتيرة من النمو، المرتبة الأولى بين دول العالم قاطبة. وإن الصين هي اليوم البلد الوحيد في العالم الذي تتحسن فيه معيشة الشعب بثبات واضطراد. في هذا الصدد لا ترى مراكز الدراسات الغربية أية دلائل على انحطاط الدولة بكيانها المتشكل إثر قيام جمهورية الصين الشعبية. ويبدو أن احتمال نمو الصين نمواً سريعاً ومطردأً في ظل الحفاظ على النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم هناك هو ما يقض مضجع الأميركيين ويحثهم على العودة إلى السياسة المؤدلجة تجاهها، بما في ذلك دعوتهم لها إلى احترام حقوق الإنسان، حسب مفهومهم.

إن الحزب الشيوعي الصيني، إذ يتعرض لضغوطات دولية شديدة، قد اعتبر في مؤتمره الخامس عشر أن إحدى مهماته الرئيسية هي إصلاح النظام السياسي وتعزيز الديقراطية وسلطة القانون. إلا أن هذه المهمة سوف تعالج، كما تبين، في إطار الواقع الصيني الحالي، أي في ظل الحفاظ على الدور القيادي للحزب الشيوعي، وعلى شكل الدولة (ديكتاتورية الشعب الديمقراطية) والسلطة (نظام مجالس نواب الشعب). ولا ريب في أن خلفية الصياغات المتعلقة بطبيعة الدولة والنظام الحقوقي في الصين الشعبية، ترتكز على التجربة السلبية للعلاقات مع الولايات المتحدة، وكذلك مع الإتحاد السوفياتي زمن غورباتشوف ومع روسيا في ظل ديبلوماسية وزير الخارجية السابق اندريه كوزيريف المرتمية كلية في أحضان الغرب.

وأفرد مكان هام في مواد المؤتمر لقضية البناء العسكري. فالقوات المسلحة ينظر إليها كضمان لخطط التحديث الاشتراكي عموماً. وعلى الرغم من أن مواد المؤتمر لا تتضمن معطيات ملموسة، فثمة أنباء تشير إلى أن الجيش سوف يقلص عديده بما مجموعه نصف مليون رجل، ومع ذلك سيبقى تعداد الجيش مليونين ونصف مليون، وإعادة تنظيمه ضمن عملية الإصلاح ستجعل منه جيشاً اقل عدداً ولكن مجهزاً بأحدث وسائل القتال العسكري([2]).

 

الصين بين الخصم المحتمل والحليف المحتمل

كل هذا يحيل الصين إلى دولة ذات شأن عالمي اقتصادي وعسكري، لا يمكن إلا أن تحسب لها كل حساب أية مشاريع جغراسياسية في عالمنا المعاصر الذي لم تتحدد فيه بعد نسبة القوى الجديدة بعد انمحاء الإتحاد السوفياتي عن الخارطة. وإن انتقال روسيا إلى سياسة أكثر اتزاناً في علاقاتها مع الصين، وإلى التقريب بين المصالح واستبعاد التواجه العسكري، قد أتاح للجانب الصيني أن يركز في مجال البناء العسكري على الولايات المتحدة كخصم أساسي محتمل (تشهد على ذلك بوضوح الجهود الرامية إلى إنشاء "الأسطول البحري الكبير"). إلا أن الصينيين لم ينسوا البتة تفوقهم الجغراستراتيجي على روسيا في منطقة الحدود الشمالية، وهو اللاتوازن الموضوعي الذي ستستفيد منه واشنطن بين هذه أو تلك من صيغ تطوير علاقاتها بموسكو وبكين.

 

عودة هونغ كونغ إلى الحظيرة وانعكاساتها

قبل المؤتمر الخامس عشر بوقت قصير احتفلت الصين بحدث هام هو استعادة سلطتها القانونية على هونغ كونغ. وإن هذا الحدث ليميز السياسة الصينية في دأبها ومثابرتها وصلابتها برفضها كل محاولات الشركاء الغربيين الرامية إلى منع عودة هونغ كونغ إليها أو إلى الإنتقاص من سيادتها بهذا الشكل أو ذلك. ولقد حظي نهج إعادة تجميع الأراضي الصينية بمكان مرموق في مواد المؤتمر. وباستثناء اثنتين أو ثلاث من المشاكل الإقليمية المؤجل حلها طويلاً (مع اليابان وفيتنام) تبقى المشكلتان الرئيستان هما مشكلة ماكاو والمشكلة المبدئية الوطنية الكبرى بالنسبة للصينيين، ألا وهي استعادة جزيرة تايوان. فالولايات المتحدة تعارض عودة الجزيرة إلى الصين وهي أبدت غير مرة استعدادها لنزاع عسكري مع الصين من أجل تأبيد انفصال هذه الجزيرة وحماية للنظام الموالي للغرب القائم فيها. الأميركيون يعللون موقفهم هذا بالالتزامات التحالفية تجاه حكومة الغومينتانغ المركزية، التي لم تعد موجودة حتى في تايوان إلى حيث أجليت عام 1949 تحت غطاء من الدعم الأميركي. غير أن الأسباب الحقيقية تكمن في الأهمية الستراتيجية لتايوان. إضافة إلى ذلك لا بد من أن يؤخذ في الحسبان الوجه السلبي لاستعادة الصين لهونغ كونغ. فالغرب المستاء جداً مما حدث عزز نيته عدم السماح من الآن فصاعداً بإبداء الضعف في مثل هذه الأحوال وهذا ما يبقي مشكلة تايوان أعقد مشكلة في العلاقات الصينية الأميركية.

 

التاريخ والجغرافيا السياسية: التنافس الأميركي-الروسي على النفوذ في الصين

يعرف المؤرخون لعلاقة الصين الدولية جيداً قضية التنافس الروسي الأميركي في التأثير على المثقفين والنخب السياسية في الصين، ومن خلال هؤلاء على المسار السياسي والاجتماعي والثقافي والإيديولوجي للبلد. فالباحثة الكندية م. دجيوارتز([3])، كرست لهذه القضية مؤلفاً عنوانه "بين أميركا وروسيا.." وكما أن المسألة نوقشت مؤخراً في ندوة علمية أقيمت بجامعة كولومبيا وكان النقاش حامياً لدرجة أن المنتدين قرروا الفصل في الخلاف في الرأي بالتصويت فجاءت النتيجة اعتراف الأغلبية بأولية التأثير الروسي. ولعله الحق يقال. فكل تاريخ الصين الحديث بداءً بالحروب التي خاضتها والأحداث الثورية التي شهدتها يدل على مدى التأثير الروسي والأميركي على السواء. بالنسبة لروسيا نرى أنه إلى جانب علاقات موسكو الوثيقة مع الحركة الشيوعية الصينية كان الإختصاصيون المدنيون والعسكريون السوفيات، وبينهم قادة بارزون، يدعون إلى العمل هناك من قبل حكومة صون يات صن (حكومة كانتونغ) قبل عام 1924 أو حكومة تشان كاي تشيك (حكومة الغومينتانغ) خلال سنين الحرب مع اليابان. أي أن الفكر الاقتصادي والسياسي والعسكري المعاصر في الصين قد تطور تحت التأثير العارم للتجربة السوفياتية. وحتى الإصلاحات المعروفة التي أجراها في تايوان بعد عام 1949 ابن تشان كاي تشيك زيانغ زنغو عكست إلى حد بعيد تجربة عمله الإداري والسياسي في الاتحاد السوفياتي حيث تلقى علومه الجامعية وأمضى وقتاً طويلاً في الاغتراب عن بلده.

أما صراع الأميركيين على النفوذ في الصين فبدأ منذ السنوات الأولى للقرن التاسع عشر بالتغلغل الاقتصادي (التجارة) ونشاط الإرساليات الواسع النطاق (التعليم، طبابة، دعاية دينية). وفي ثلاثينات القرن العشرين توائم رأسمال البيروقراطية الصينية الحاكمة الذي كان يشكل الأساس الاقتصادي لنظام الغومينتانغ مع الرأسمال البنكي الأميركي كما فرضت واشنطن سيطرتها على مجموعة الغومينتانغ المركزية (تشان كاي تشيك، صون زيانغ، كون سيان صي وغيرهم).ثم تعززت هذه السيطرة إبان الحرب مع اليابان والحرب الأهلية.وصرفت الولايات المتحدة ملايين الدولارات في دعمها لحكومة تشان كاي تشيك.

إن العوامل الجغراسياسية التي أكدت أهميتها الأحداث التاريخية المتعاقبة، تركت بصماتها دائماً على علاقة الصين بالبلدان القارية (روسيا) وبلدان ما وراء البحار (الولايات المتحدة واليابان). فالصين بخلاف روسيا والولايات المتحدة الجامعتين في منظومة واحدة كتلتي الأطلسي والهادي في السياسة العالمية، تقع في شرق آسيا كلياً. غير أن حدودها (40 ألف كلم) يمتد نصفها تقريباً عبر سواحل بحار المحيط الهادي. هذا الجزء من الحدود يعتبره الوعي العام في الصين منذ القرن التاسع عشر مثابة بوابة لعدوان من جانب بلدان ما وراء البحار عليها، طالما تهدد الكيان والمصير.

لقد تكونت علاقة الصين بروسيا خلال عملية تلاق على مساحة قارية مشتركة. فالتوسع الإقليمي النشط لهذين الشعبين الطامح كلاهما إلى بناء الدولة العظمى جعلهما يلتقيان في آسيا الشرقية. وفي سياق تماسهما الذي اتخذ أحياناً شكل صدام مسلح تشكلت عبر التخوم الطبيعية حدودهما المشتركة التي عينت المجال الإقليمي لتطور كل من الشعبين. ولم تكن العلاقات الروسية الصينية لاحقاً بالعلاقات السوية دائماً، لكنها كانت دوماً علاقات تكافؤ.فقرون ثلاثة من الزمن مرت منذ معاهدة نرتشينسكي (1689)، أول معاهدة بين الصين وروسيا، لم تشهد أية حروب، بل أية صدمات مسلحة ذات شأن بينهما. علاوة على ذلك، كانت الصين حين تجد نفسها في ضائقة تلجأ إلى مساعدة روسيا، مثلما كان الأمر، مثلاً، إبان الحرب مع اليابان والحرب الكورية.

         

جذور الصراع الصيني-الأميركي

في هذا الوقت كان من أهداف السياسة الخارجية الأميركية منذ الخطوات الاستقلالية الأولى للولايات المتحدة على الساحة الدولية الحصول على حصتها من الاستعمارات في منطقة المحيط الهادي الآسيوية. فبعد أن استوعبت الجزء الشمالي من القارة الأميركية وساحله الواقع على المحيط الهادي اتخذت لها من جزر الهاواي والفيليبين وساموا معابر متقدمة إلى المستعمرات الآسيوية. إلا أن الهدف الرئيس كان أبداً الصين. ويمكن القول أن تاريخ العلاقات الأميركية الصينية هو تاريخ السعي الأميركي لاستعمار الصين. والتفكير الاستعماري الذي ورثته النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة عن بريطانيا، أضيفت إليه النزعة العنصرية لمالكي العبيد، التي باتت لاحقاً عند الأواسط الليبرالية فيها مثابة عقدة تفوق حيال الصين والصينيين. واصطدام الصينيين العاديين، ومعهم جزء من النخبة الحاكمة بهذه الظاهرة جعلهم يكنّون الحذر والكراهية للأوروبيين عموماً وللأميركيين خصوصاً. وسيطرت على الصينيين مشاعر العداء للأميركيين خاصة بنتيجة التدخل الأميركي في كوريا وفيتنام.

هذه الأحداث رافقتها في الصين حملات دعائية وسياسية على الأميركيين في المنظمات الحزبية والهيئات الحكومية والجيش وبين المواطنين، حرضت فيها القيادة الصينية على مقاومة الضغوط الأميركية الأيديولوجية والسياسية والثقافية. فالتفكير الاستعماري الأميركي الموروث والعداء للأميركيين المتأصل في وعي الصينيين بشكلان، إذا، الخلفية النفسية لأي نزاع محتمل في العلاقات الصينية الأميركية.

 

هل هي ممكنة الشراكة الستراتيجة بين روسيا والصين؟

يعتقد الصينيون أن من شأن نزاع صريح بينهم وبين الولايات المتحدة أن يرتد كارثة على الصين، وأن يرمي بها إلى الوراء بعيداً، إلى مواقع البداية في الخمسينات. ومن جهة أخرى توصلت الولايات المتحدة إلى استنتاج خطر المواجهة العسكرية المباشرة مع الصين "حتى بمعونة الحلفاء"، على الأقل قبل العام 2030. ويبدو أن عدم اتضاح الوضع وما له في روسيا لا يزال يجعل واشنطن تفتقد إلى ستراتيجية "سلمية" فعالة حيال الصين كتلك التي استخدمت لإضعاف الاتحاد السوفياتي وصولاً إلى تفكيكه. وبيّن أن الولايات المتحدة لا ترغب بتجاوز الحد الخطر في علاقاتها بالصين، مكتفية حيال بتصعيد وعرقلة تطورها الاقتصادي.

في ظل هذه الأجواء جرى اللقاءان الأخيران لزعيمي البلدين في واشنطن وبكين، فاتفقا في الزمن مع محاولة تقويض استكرار عملات بلدان جنوب شرق آسيا، حيث للصين تقليدياً نفوذ واسع. ولعل ستراتيجية مغايرة سوف تستخدم لاحقاً في الإتجاه الصيني. هذا ما تدل عليه الحيوية التي تظهرها الدبلوماسية الأميركية على طول الحدود الصينية. ففي عام 1997 جددت الولايات المتحدة مضمون حلفها مع اليابان. وكانت قبل ذلك قد تراجعت عن خططها المعلنة لتقليص عديد قواتها البالغ 37 ألف عسكري في كوريا الجنوبية، وعادت إلى تأكيد لا محدودية فترة تواجد قواتها في هذا الجزء من شبه الجزيرة. وفي الوقت ذاته أبدلت واشنطن نهجها كلياً حيال كوريا الشمالية باتجاه تطبيع العلاقات مع حكومتها. والشيء نفسه يمكن أن يقال في تحولات السياسة الأميركية تجاه فيتنام. والمقصود هو احتمال توجيه طاقات هذين البلدين، في ظروف

معينة، ضد جمهورية الصين الشعبية، بما يشبه توجيه طاقات الصين ضد الاتحاد السوفياتي في السبعينات. أضف إلى ذلك أن واشنطن مهتمة بكازاخستان ومنغوليا. لا بد هنا من الإشارة إلى أن الكازاخ كانوا في الأمس القريب مشوبين بأجواء العداء للصين وشاركوا غير مرة في التحركات العسكرية ضدها. أما منغوليا فتحازي منطقة الحكم الذاتي الصينية المعروفة باسم منغوليا الداخلية. ولكلتا هاتين المنطقتين تاريخ وجذور إتنية ولغة وثقافة وديانة مشتركة. وثمة أيضاً صلات تاريخية حميمة مصبوغة طائفياً بين منغوليا والتيبت كمركز للإنمائية (نسبة إلى الدالاي لاما). وهنا نعيد إلى الأذهان أن التيبت كجزء من الصين تشكل موضوعاً حساساً جداً في علاقة بكين بواشنطن والهند. كل هذا يحث الأميركيين على أن يجعلوا من كازاخستان ومنغوليا جزءاً من لعبة كبرى يلعبونها استناداً إلى الأجواء الانفصالية لبعض مجموعات السكان في الصين.

 

فأين موقع روسيا من كل هذا؟

تتميز السياسة الخارجية الروسية حيال الصين بالتناقض. فالجانب الروسي إذ يتخذ خطوات تبدو مدروسة لتطوير العلاقات مع الصين بأمل أن تصبح روسيا والصين في القرن الحادي والعشرين شريكتين ستراتيجيتين، يحاول في الوقت نفسه الدخول في روابط وثيقة تكاد تكون تحالفية مع الولايات المتحدة، بما فيها التعاون العسكري. ففي 24 نيسان 1997 وقّع الطرفان الروسي والصيني في موسكو "بياناً مشتركاً حول العالم المتعدد الأقطاب وتشكيل النظام العالمي الجديد" أكدا فيه رفضهما الهيمنة وسياسية القوة (تلميحاً إلى الولايات المتحدة)، وأعربا عن القلق من توسيع وتعزيز الكتل العسكرية (تلميحاً إلى حلف الأطلسي). ولم يمض شهر واحد بعد هذا حتى وقّعت روسيا (في 27 أيار 1997) "الوثيقة الأساسية" حول العلاقة بالناتو، المتعارضة مع اتجاه السياسة الروسية شرقاً، إذ هي تحول دون إقامة علاقة شراكة وثيقة مع الصين. ولا بد أن نزيد على هذا نقطة حساسة بالنسبة إلى الصين وهي أن تعاون روسيا مع الناتو في عمليات السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة، وحيث مُنِحَ التحالف المذكور استقلالية كبيرة، يسيء إلى دور الصين كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، مشارك في معالجة قضايا الأمن الدولي.

هناك عنصر قد يصبح نقطة ضعف في المشروع الجغراسياسي الأميركي في الاتجاه الصيني، كما عرضناه: إنه روسيا ودورها في النزاع الأميركي-الصيني المقبل. فالولايات المتحدة التي تقود حرب "المدينة العالمية" على "الريف العالمي"، حرب "المليار الذهبي" على مليارات البؤس والتخلف، لا يمكنها أن تأمل ولو بفوز نسبي إلا إذا ساندتها في هذا، إلى هذا الحد أو ذاك، روسيا. حتى الحياد، الحامل في طياته احتمالات فرض الصين عقوبات على روسيا، قد لا يصبح عوناً لواشنطن في تواجهها المصيري مع بكين. ولعل هذا ما يفسر السعي إلى اجتذاب روسيا إلى تعاون أكثر وثوقاً مع الناتو، ولكن في الوقت نفسه دون السماح لها بالمشاركة في اتخاذ القرارات الستراتيجية.

 

الصراع الأميركي-الصيني الطويل

يصف المراقبون الأزمات المالية التي أخذت تعصف في الآونة الأخيرة ببورصات آسيا الشرقية، فتخبو نارها حيناً وتسعر حيناً آخر، بالحرب الأميركية-الصينية الثانية([4])، باعتبار أن الحرب الأميركية-الصينية الأولى جرت خلا أعوام 1950-1953 وكان مسرحها شبة الجزيرة الكورية.

وهي كانت قد عرفت بالحرب الكورية لأنها فقط جرت على أرض كوريا، لكنها في مضمونها وجوهرها، حسب رأي الكثيرين، حرب واشنطن على بكين في مسعاها لوقف زحف الثورة الصينية الشيوعية المظفر عبر آسيا الشرقية قبل أن يستفحل أمرها. وحتى الاتحاد السوفياتي يمكن اعتباره مشاركاً سنوياً في تلك الأحداث، رغم أهمية دوره آنذاك في الانتصار الصيني.

ولقد تواجه حينذاك بضعة ملايين من الأميركيين والصينيين في قتال ضارٍ ودامٍ أسفر عن سقوط مئات ألوف البشر بين قتيل ومعاق. ومثل هذا لا ينسى. ولم يحصل مثيل له خلال كل تاريخ "الحرب الباردة" بين الغرب والاتحاد السوفياتي على الرغم من اللحظات العصيبة التي مرت بها العلاقات السوفياتية الأميركية إبان أزمة الكاريبي وغيرها.

وحين نتكلم عن انتصار صيني في الحرب الكورية، برغم ما أعلن آنذاك عن انتهائها إلى "لا غالب ولا مغلوب" (ربما حفظاً لماء الوجه الأميركي وخوفاً من التهديد الأميركي آنذاك باستخدام السلاح الذري)، فإن لهذا الكلام مرتكزاً. ذلك أن الصين دخلت الحرب في تشرين الثاني عام 1950 بعد أن كان الجيش الأميركي ومعه الجيوش الحليفة قد سيطر عملياً على كل شبه الجزيرة وحاذى الحدود الكورية-الصينية مباشرة عند نهر يالوزيانغ؟ وها هو الجيش الشعبي الصيني قد أنهاها عند خط العرض 38 في عام 1953، مسترجعاً تحت سيطرته نصف أراضي البلاد ومقيماً فيها الحكم الشيوعي تحت اسم جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية. صحيح أن الصين اضطرت في الوقت نفسه إلى التضحية بتايوان التي احتلها الأميركيون عملياً مستغلين أحداث الجبهة الكورية، مانعين بكين من شن الحرب على قوات الغومينتانغ وتوحيد الصين تحت الراية الشيوعية، بل ومانحين تشان كاي تشيك فرصة تدعيم نظامه الموالي للغرب. لكن ماو تسي تونغ اعتبر، على ما يبدو، أن كوريا الموحدة تحت احتلال أميركي أخطر على الصين ستراتيجياً من التمرد التايواني.

من البديهي القول أن النصر الستراتيجي لبكين في حربها الأولى مع واشنطن كاد يكون متعذراً بدون الدعم السوفياتي، ذلك أن البيت الأبيض كان عليه دائماً أن يتصرف وعينه على الكرملين وسلوكه في أوروبا: حصاره لبرلين وحشده الجزئي للقوات الخ. فاستخدام السلاح الذري، مثلاً، ضد الصين، حسبما كان يطالب البنتاغون، لم يكن ليجرؤ عليه لا ترومان ولا أيزنهاور الذي خلفه في عام 1952، لأن هذا السلاح بات آنذاك في حوذة موسكو أيضاً، ولم يكن صعباً عليه أن تسلمه للصينيين دون حاجتها إلى استخدامه بنفسها، خصوصاً في غياب معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية.

إلى ذلك كانت أميركا تسعى، بدورها، إلى درء نمو منافس جغراسياسي قد يصبح ذا جبروت ولو في مستقبل بعيد نسبياً، هو الصين، دون أن تنسى الخصم الآخر الأخطر، الاتحاد السوفياتي، الذي كان بدأ، برأيها، ينضج للتغيير الديمقراطي الليبرالي على الطريقة الغربية وحان موعد قطافها. فأجّلت تنفيذ الشق الأول من المهمة المزدوجة واختارت أن تركز جهودها على الشق الثاني منها. واستطاعت في وقت من الأوقات أن تستدرج الصين نفسها، عدوة الأمس في كوريا إلى سياسة "لجم" الاتحاد السوفياتي مستغلة الخلاف في المعسكر الشيوعي آنذاك على الرغم من أن ذلك التحالف لم يكن أكثر من "زواج مصلحة مؤقت". ولقد حلف الأميركيين النصر هذه المرة. ومع ذلك لا يعتبر الأميركييون، هم المتطلعون إلى أن يكونوا "زعماء العالم الأوحدين"، أن النصر المبين المتحقق عام 1991، عام انهيار الاتحاد السوفياتي، هو نصر كامل وناجز. إذ يبقى الشق الثاني من المهمة، المتروك من 45 عاماً دون حل. لقد جاء درو الصين الشيوعية.

إن افتراض استقامة الأمور وحلول عهد من السلام الدائم بين الولايات المتحدة والصين، وإن العالم هو على عتبة قيام نظام ذي قطبين مجدداً، كما يروج أحياناً، يتجاهل اعتدال أميركا بأنها بلد ذو رسالة عالمية، ولا يلحظ نفوذ هذه النزعة الرسالية إلى مجمل سياستها وممارستها على صعيد السياسة الخارجية. فليس بين من يصنع هذه السياسة من يمكنه أن يتصور أو يتقبل ظهور منافس جغراسياسي جديد مكافىء لها. والحملة الحضارية التي تحدث عنها س. هانتنغتون، فيقول أن الحضارتين الغربية والكونفوشيوسية ستكونان في المستقبل المنظور الخصمين الرئيسين، هي مثابة ثابت أيديولوجي تستند إليه اليوم عملياً كاف الخطط العالمية للستراتيجيين الأميركيين على تنوعها. ويكفي أن ينظر المرء إلى السيل الهائل من الأدبيات المهتمة بالشؤون الصينية، التي أخذت تزيح تلك الدارسة أوضاع الاتحاد السوفياتي السابق من واجهات المكتبات الأميركية. ومن بين أشهر هذه الكتب مؤلف لريتشارد برنستاين وروس مونرو تحت عنوان "النزاع الآتي مع الصين" وحتى بريزينسكي الذي لعب دوراً هاماً في انهيار الاتحاد السوفياتي ولا يفتأ يكرر أن على الروس أن ينسوا أنهم شكلوا ذات يوم دولة عظمى،  يقترح تقاسم لا كل العالم مع الصين، بل ما هو أصلاً واقع ضمن دائرة نفوذها في جنوب شرق آسيا، بالإضافة طبعاً إلى روسيا. ولعل عرضه هذا نابع من الخزف من موقف سلبي لبكين ما لم تنل الحصة اللائقة بها، لن تتمكن الولايات المتحدة حياله من بلوغ ما تصبو إليه من تزعم العالم. وهكذا يبدو أن جل ما يبدي الستراتيجيون الأميركيون استعداداً لإعطائه إلى الصين هو حيز مريح ولكن هامشي في النظام العالمي الجديد، مع ربطها بألوف الخيوط التي من شأنها أن تضمن السيطرة على قياد هذا الجبار الآسيوي. وإن طرح مهام أكثر جذرية في الوقت الحاضر لمن الخطر بمكان لأن ما لم يعرف بعد هو كيف ستتصرف روسيا في خاتمة المطاف. فالغرب يعرف أيضاً وصايا أحد العقلاء الصينيين في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد صون زي التي ضمّنها كتابه في الفكر العسكري، والتي تقول أن خير ما يمكن فعله حسب قواعد خوض الحرب هو الحفاظ على دولة العدو سليمة معافاة كي يمكن الاستفادة من ثرواتها، وتدميرها يأتي في الدرجة الثانية. لذلك، يقول هذا الحكيم الصيني، على العارف بكيفية خوض الحروب أن يدحر جيش العدو بلا قتال، وأن يستولي على حصونه بلا حصار، وأن يحطم دولته دون إبقاء جيوشه فيها طويلاً.

 

الأزمة المالية في شرق آسيا

الوجه الحالي لهذا الصراع

وانطلاقاً من هذه المقولة للقائد والنظري العسكري الصيني يعتقد المراقبون أن الزمن ليس زمن المدافع والبوارج وحدها. فهناك البورصات المالية الموزعة في كل أنحاء المعمورة، ولكن التي يقع مقر أركانها، حسب كافة الدلائل، في الوول ستريت. ومنه تشن حرب اقتصادية مالية على العالم غير الغربي، وخاصة على طليعته الحالية الصين، بما يضمن أولوية الحضارة الغربية أطول مدو ممكنة في الزمن الآتي. ووسائل بلوغ هذه الأولوية هي إلزام الجزء الآخر من البشرية بتحنيط أنمذجة اقتصادية محددة ركيزتها إنتاج بضائع متدنية التقنية وخامات متدنية القيمة المضافة، أي بضائع تتطلب نفقات باهظة على الموارد والأيدي العاملة، ولكن لا تؤتي ربحاً وفيراً. كما أن إنتاجها، بما يتميز به من ضعف القدرة على التركيم، مرهون بضرورة الحصول باستمرار على قروض وتسليفات خارجية تؤمن لمن يعطيها رقابة أكيدة. في هذا الوقت يفترض أن تحافظ الولايات المتحدة والغرب عموماً على احتكار إنتاج البضائع ذات الربح الأوفر، المرتبطة بالتقدم العلمي والتكنولوجي وبالفروع الصناعية "النظيفة بيئياً" وذات القيمة المضافة العالية. في هذا السياق يورد بول كينيدي في آخر مؤلف له هو "ونحن ندخل القرن الحادي والعشرين"، جدولاً يبين أن القيمة المضافة تبلغ لدى إنتاج: الأقمار الصناعية 20000 بالمائة، القاذفات المقاتلة النفاثة 2500 بالمائة، السوبر كمبيوترات 1700 بالمائة، فيما هي لا تتجاوز في إنتاج أجهزة التلفزيون الملون التي لا تزال تتطلب تقنيات رفيعة نسبة 16 بالمائة، وفي إنتاج سفن الشحن 1 بالمائة فقط. من هذا الجدول يضحي واضحاً لماذا سمح للصين، مثلاً، أن تتبوأ المراتب الأولى عالمياً دون أية مشاكل ظاهرة في إنتاج الصنفين الأخيرين. بينما تكبح بقوة كل محاولات بكين وغيرها من الدول الساعية إلى اللحاق بركب الحضارة الصناعية المعاصرة للخروج من الأطر المحددة لها. والأساليب المستخدمة هنا شتى: من استعمال آليات السيطرة على التصدير إلى توافق الاحتكارات الغربية توافقاً مدهشاً على وجهة توظيف رساميلها بما يتفق وسياسة دولها، رغم ما يبدو لغير المتمعن من استقلالية قرارها. أما المشاغبون، الساعون إلى استقلالية مفرطة في توزيع وجهات برامج التنمية، أو إلى التقارب مع من لا يُنصح بمقاربته كان يشتروا، مثلاً، السلاح الروسي بدلاً من الأميركي، فتستخدم ضدهم تدابير زجرية خاصة مثل التلاعب بسعر صرف العملات الوطنية وإحداث انهيار كلي أو جزئي في أسواق الأرصدة الخ.، وهو ما له فاعلية خاصة وتأثير شديد في البلدان ذات الاقتصاد المنفتح. والأسلوب الأخير مريح جداً أيضاً لصعوبة العثور على أسباب الظواهر السلبية، ذلك أن أبطالها الرئيسيين متخفون عادة وراء ستار كثيف من الوسطاء. أضف إلى ذلك أن حكومات البلدان التي تتسبب في هذه الظواهر يمكنها لاحقاً أن تتزيا بزي صناع الخير إذ ترمي بقوارب الإنقاذ إلى قليلي الحظ في صورة ديون جديدة يكون منحها مرهوناً، طبعاً، بشرط إجراء تعديلات "معقولة" على نهجها السياسي والاقتصادي. إلا أن هذه الأعمال تبقى تتسم مع ذلك بطابع محلي عادة. فإشعال الحريق في كل سوق المال العالمية مسألة خطرة وشاقة. وهو أمر حصل مع ذلك. ففيم السبب، يا ترى.

يبدو أنه في الحدث العالمي الأهم للسنتين الأخيرتين، ألا وهو عودة هونغ كونغ إلى الصين في العام الماضي. فالولايات المتحدة وجدت نفسها أمام سؤال: كيف ستتصرف الصين الكبرى؟ ألن تحاول، مستفيدة من الموارد الهائلة الإضافية التي دخلت اقتصادها ومن شعور الابتهاج بالنصر المحقق، زيادة قدراتها العسكرية والسياسية وتحقيق اختراق نحو حالة جغراسياسية جديدة وتغيير وجهة التطور المفروضة عليها لتبقى مثابة الورشة القذرة للعالم "المتقدم"؟

الرد على هذا السؤال كان الحرب الأميركية الصينية (المالية) الثانية. في البدء خيًل أن الصين ستكون خاسرة لا محالة وأنها لن تقوى على المقاومة، إذ لم تتمكن مع هونغ كونغ أن ترمي في السوق بصفة "مقاتلين" أكثر من 200 مليار دولار في مواجهة تريليون دولار "جندها" الغرب بأجمعه تقريباً، تماماً كما في عهد الحملات الصليبية.

أول ضربة استكشافية وجهت في اليوم الثاني لاحتفالات الابتهاج بعودة هونغ كونغ إلى أحضان الوطن الأم، حين بدأت لعبة خفض سعر صرف دولار هونغ كونغ ومعه سوق الأرصدة بغية تحويل عودتها إلى الصين الشعبية عبئاً عليها ووجع رأس بدلاً من أن تكون مورد ثروة إضافية لها.

وفي الخريف من العام نفسه عاود التحالف المالي الغربي الكرة لاستنزاف الصينيين، فأقبل عليهم هذه المرة في حملة شاملة هدفها أيضاً هونغ كونغ، ولكنها طاولت في طريقها الأجنحة في ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند، اللواتي تقربن في الآونة الأخيرة من الصين، الخصم الرئيس، كما أن الأوليين تعاملتا مؤخراً مع روسيا في صفقات أسلحة. لكن السحر الصيني ارتد على الساحر الغربي ترنحاً للبورصات في العواصم الأوروبية وطوكيو وسيول. فسقطت هذه الأخيرة مثلما في العام 1950. هكذا أتت "الحرب الأميركية-الصينية الثانية"، وفي نفس المكان، بهزيمة لواشنطن ونصر مرحلي لبكين. والآن بات صعباً على الأميركيين الاستمرار في الحرب المالية من دون أن يخاطروا بحليفهم الستراتيجي كوريا الجنوبية، إذ اضطروا إلى تجنيد ما لا يقل عن 60 ملياراً من الدولارات دعماً لاقتصادها من الانهيار النهائي. ولم يتسنّ لهم في الوقت نفسه فصل بكين عن منظمة بلدان جنوب شرق آسيا، بل بالعكس تدعمت مواقعها في هذه المنظمة الإقليمية بنتيجة الأحداث الأخيرة، وها هي قد أخذت تسلف المليار تلو المليار للصامدين معها في المعركة التكتيكية دعماً لاستقرارهم، في محاولة للظهور بمظهر من معه بعد ما يكفي وأكثر من مليارات الدولارات.

إلا أن "الحرب المالية الباردة" لم تنته بعد فصولاً بين الولايات المتحدة والصين. ففي السنوات القادمة سيذر قرنه الخلاف بين واشنطن وبكين بسبب مشكلة توحيد كوريا. ومن جديد ستكون كوريا إياها مسرحاً لـ"حرب أميركية-صينية ثالثة" حبذا لو لم تشبه الحرب الأولى بينهما. أفلم تطل الحروب البونية الثلاث بين روما وقرطاجة في الأزمنة الغابرة 120 سنة عجافاً؟ فمن يدري كم ستطول الحروب الكورية؟ على أية حال، لا يريد الأميركيون أن يروا، لا في الحلم ولا في اليقظة، كوريا موحدة حليفة الصين، وهو الأمر الذي تسعى إليه حثيثاً هذه الأخيرة.

ماذا علها تجند واشنطن ضد الصين في الحرب المقبلة؟ فيالق نقدية جديدة؟ لكن الصين أثبتت أنها بحفاظها على نظام مالي مغلق استطاعت أن تحصن نفسها من هجمات البورصة أكثر مما استطاعت فعله كل دول شرق آسيا وحتى أن توجه "عقصات" جوابية موجعة للنظام النقدي العالمي. أم توصد الأبواب بوجه البضائع الصينية الرخيصة التي تؤمن السلام الاجتماعي، ليس فقط في البلدان الفقيرة، بل أيضاً في أميركا نفسها؟ أم تلعب ورقة حقوق الإنسان والورقة القومية والإتنية التين لعبتهما بنجاح مع الاتحاد السوفياتي؟ أحد الشعارات الرئيسية في حملة الانتقادات الغربية والأميركية على الزعماء الصينيين لا يزال انتقاد التنكيل بالمناضلين من أجل الديقراطية في ساحة تانان مين. ولعل الأميركيين، بتركيزهم عليها باستمرار، يأملون في تكرار التظاهرات تلك. لكن إذا ما عدنا بالذاكرة إلى السبب الذي دفع في ذلك اليوم من شهر dhvعام أيار عام 1989 بآلاف المتظاهرين إلى وسط العاصمة الصينية، لتبين لنا أنهم هرولوا إلى هناك للقاء الرئيس السوفياتي صاحب "التفكير السياسي الجديد" المتوهج بريقه آنذاك، لأنه درجت العادة أن يستقبل الصينيون في هذا المكان كبار الضيوف الأجانب. هرولوا بمختلف فئاتهم ومشاربهم وهم، كما قسم كبير من الشعب السوفياتي ومن شعوب العالم، مبهورون بسحر كلمة "البرسترويكا". بيد أن الاحتفاء الرسمي بغورباتشوف جرى في المطار. بعدها أخذ الشعب المخدوع في الساحة يعبر عن سخطه مع ما استتبعه هذا من عواقب مأساوية معروفة. ولكن إذا كان تأييد أفكار غورباتشوف قد هبط في روسيا نفسها من 70 بالمائة إلى 0.5 بالمائة (هكذا أظهرت نتائج آخر انتخابات رئاسية في روسيا)، فمنطقي توقع حصول الشيء نفسه في رؤوس الصينيين المشاركين في تظاهرات تانان مين. ومنطقي أيضاً أن يعزف المطالبون بالانفصال في بعض أنحاء الصين عنه لدى رؤيتهم ما حل بآسيا الوسطى السوفياتية من بؤس وشقاء. ومن جهة أخرى تعلم الصينيون "من كيس" غيرهم إذ لا نراهم ينجرون إلى مغامرات ما خارجية، أو إلى تضخيم إنفاقهم الدفاعي. قهم يفضلون التكتيك الحالي، تكتيك "فهر جيوش الغير بلا قتال وأخذ حصون الغير بلا حصار".

 

قضية توحيد كوريا مجدداً

إن الجيش الأميركي سيضطر، عاجلاً أم آجلاً، إلى الانسحاب من كوريا لأن الحراب لا تبني مستقبلاً. بعد ذلك ستكر المسبحة ليأتي دور قاعدة أوكيناوا، ومن بعدها اليابان، إذ كيف يعقل أن تبقى "بلاد مشرق الشمس" هذه تطأها قدم جيش غريب، لاسيما في ظل عدم تهديد اليابان من قبل الصين عسكرياً.

وقبل أن يحل موعد هذا الانسحاب لا يستبعد المراقبون، ومن صمنهم س. هانتغتون إياه في كتابه "صدام الحضارات"، أن تنشأ على قاعدة تقارب طوكيو وبكين، عاصمتي الينّ واليوان، هملة عالمية جديدة تنافس الدولار الأميركي، وربما سبقت إلى ذلك العملة الأوروبية الموحدة المزمع نشرها في التداول عام 1999. إلى مثل هذا الاحتمال يشير أيضاً سلوك اليابان إبان "الحرب الأميركية-اليابانية الثانية"، إذ تشك الأوساط المصرفية في نيويورك في مدى وقوف اليابان على الحياد، ويزيد من شكوكها كبر ثقة الصين بنفسها في تلك المعمعة.

 

موقع روسيا في الصراع الأميركي-الصيني

ما هو موقع روسيا، يا ترى، في الاشتباك الحاصل: أهي "ضيف طارىء" ومتفرج سادر، أم عملة تبديل "تروح تحت الدعس"، أم ما تزال بلداً له دور ما في الشؤون الكبرى؟

لا بد هنا من ذكر أن الأميركيين، وإن قللوا في دعاياتهم من شأن روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لا يزال الرأي السائد بينهم هو أنها لا تزال وستبقى حتى أمد بعيد الدولة الوحيدة في العالم القادرة على تدمير الولايات المتحدة. ومن هذه المقولة تنطلق الصين أيضاً تقريباً وهي تضع ستراتيجية صراعها مع المنافس التاريخي الأقوى، الولايات المتحدة، فلا تميل إلى تجاهل العامل الروسي. لكن المهم معرفته هنا هو: أي دور تفرده لروسيا، وبأية طريقة تعتزم التعامل معها؟

الموقف الأميركي من روسيا بات واضحاً إلى حد ما. ومقالة بريزنسكي في الـ"فورين أفيرز" الداعية صراحة إلى تقسيم روسيا، والتي أظهرت بعد خمسين سنة بالتمام على ظهور مقالة ج. كينان في نفس المجلة حول ضرورة "لجم" الاتحاد السوفياتي، لا تبقي مجالاً للشك. وبريزنسكي ليس وحسب مشتغلاً في علم السياسة، يمكن أن يطرح رأياً بين الآراء قد يؤخذ به وقد لا. إنه من أهل النخبة في الولايات المتحدة ومن صانعي القرار السياسي الكبار. وحتى هانتنغتون الذي يزعم أنه أميل إلى روسيا، ومستعد أن يبقي لها بعض الوجود في العالم الأرثوذكسي، لا يمكنه أن يتصورها شريكاً مكافئاً للولايات المتحدة. وإذا تذكرنا أن عدداً من البلدان "القريبة روحياً" من روسيا قد أخذ مكانه في الطابور المؤدي إلى حلف الناتو، وأن عدداً آخر منها محتل عملياً من قبل الحلف المذكور (الجمهورية الصربية في البوسنة والهرسك) أو هو في عزلة دولية مثل يوغوسلافيا، أو هو مرشح للاحتلال (تهيئة الرأي العام العالمي مؤخراً للتدخل في كوسوفو)، فلن يبقى من تعاطف هانتنغتون أكثر من الشر الذي يسوّله لها بريزنسكي. وها هو نائب وزير الخارجية الأميركية ستروب تالبوت يحذر الروس في خطاب ألقاه في جامعة ستانفورد من التفكير في أن "يسترجعوا نهج ألكسندر نفسكي"([5]).

الأمور أكثر تعقيداً مع الصينيين، فهم ليسوا بالصراحة التي يعبر بها الأميركيون عن أفكارهم حيال روسيا. وقلما يسدون إليها النصح في ما يجب عليها أن تفعله وما لا يجب. لكن مراميهم تجاهها يمكن استشفافها من خلال استعراض التوجهات العامة للسياسة الصينية. وكل شيء يقول أن توجههم، ليس فقط في المستقبل المنظور، بل من حيث المبدأ، سيكون شرقاً وجنوب شرق. فهناك بالذات تتركز المصالح الحيوية الرئيسية للصين بين الشعوب القريبة منها حضارياً. وليست مهمتها مجرد التقدم نحو ميانما وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا (بالمعنى الاقتصادي المعاصر)، والتوحد مع تايوان مع ما سيواجهه تطلعها هذا من رفض واشنطن، بل هي المكوث هناك دائماً وأبداً. أما التوسع في آن معاً شمالاً نحو روسيا فسيدفع هذه الأخيرة أكثر إلى أحضان الناتو والولايات المتحدة، وسيكون بمثابة انتحار للصين الشعبية. علاوة على ذلك سيظهر في ستراتيجيتهم، حسبما تشير الدلائل، بعد استعادتهم ماكاو في العام 1999، اتجاه هام جديد لتوسعهم، هو أميركا الجنوبية.

وإنه لمن المدهش كيف بدأ جسور الحضارة الغربية بفرعيها الإنكليزي واللاتيني تلعب دوراً معاكساً تماماً لذاك الذي نشهده عادة في الدول الأخرى، إذ تصبح أفعلَ أداة للصين في تنافسها مع "ممدّنيها" السابقين، وكأنها تقاصصها على خطاياها الاستعمارية. فقيمة هونغ كونغ ليست فقط في الاحتياطي النقدي وفي التكنولوجيا المتقدمة التي أضيفت إلى قدرات الصين، بل هي أيضاً في مئات الآلاف من مديري الأعمال الذين يتكلمون الإنكليزية إلى جانب الصينية، ويتقنون بامتياز كل دقائق اللعبة الاقتصادية العالمية. فلإعداد هذا الجيش اللجب من الخبراء كان على الصين أن تنفق ربما أكثر مما أحرزته بنتيجة توحيد الصين وهونغ كونغ. وضم هؤلاء إلى اللعبة ساعد الصين مساعدة كبيرة في المعارك المالية الأخيرة، ولسوف يساعدها أكثر مستقبلاً. ويمكن الزعم بالقدر عينه أن أهالي ماكاو الناطقين بالبرتغالية إلى جانب الصينية، سيكونون الاحتياطي البشري الطبيعي اللازم للقفز باتجاه أميركا اللاتينية.

ولربما أمكن القول أن ما يساق عادة من زعم بخطر صيني على روسيا مصدره العامل الديمغرافي، ليس دقيقاً إذا ما نظر إليه عن كثب. فكثافة السكان في مناطق الصين المتفقة في خصائصها الطبيعية مع المناطق الروسية المحاذية، ليست أكبر بكثير منها في روسيا نفسها. وموجات النزوح الصيني الأساسي تتجه هي الأخرى جنوباً. ويكفي أن يتخذ الروس الإجراءات اللازمة على الحدود لكي ينتفي هذا الخطر.

وإذ يفضل الصينيون اليوم استخدام الأدوات الاقتصادية في تنافسهم مع الأميركيين، ويعتكفون حتى اللحظة عن زيادة قدراتهم العسكرية زيادة جدية، فإنهم لا يمكنهم، في الوقت نفسه، أن يبقوا واثقين تماماً من أن الأميركيين لن يستفيدوا في لحظة من اللحظات من تفوقهم في هذا المجال، لاسيما بصدد مشكلة تايوان. وقد هددت واشنطن غير مرة بذلك. وهنا يمكن لروسيا أن تقدم لهم خدمة جلى. فوجود آلة الحرب النووية الروسية كمقابل للمجمع النووي الصاروخي الأميركي هو في حد ذاته "فزّاعة"، إن لم يكن أكثر، يمكن أن تشكل رادعاً للأميركيين، وهو ما يستجيب موضوعياً للمصالح الصينية الستراتيجية. في هذا يكمن الاختلاف المبدئي الرئيسي في موقفي الولايات المتحدة والصين من روسيا.

ومن هنا يمكن استنتاج أن الصينيين بحاجة إلى روسيا قوية والى "سقف أمين في الشمال"، لا قولاً بل فعلاً، بفضل عوامل جغراسياسية بعيدة المدى وشاملة. والعائق الوحيد هنا هو تأرجح السياسة الروسية نفسها بين كلام معسول عن الصداقة الروسية-الصينية التقليدية وعن الشراكة الستراتيجية مع الصين وغزل دائم مع حلف الأطلسي والغرب، فلا هذا الطرف ولا ذاك يمكنه أن يعتبرها مثابة الشريك المضمون في عالمنا المليء بالتناقضات والصراعات. كما أن الجغرافيا الاقتصادية تجعل الصين وروسيا يسعيان إلى التعاون فيما بينهما. وكل التنبؤات تشير إلى أن العائق الرئيسي في وجه تطور الصين اقتصادياً على المدى القريب سيكون نقص الكهرباء ومصادر الطاقة عموماً. ولئن كان بالإمكان حل مشاكل الجنوب الصيني في هذا المجال بفضل الطاقة المائية الهائلة لهضبة التيبت، فليس بوسع الصين أن تحل هذه المشكلة في الشمال من دون التعاون مع الروس، على الرغم من محاذير التبعية للإنتاج الطاقي الروسي.

 

خاتمة

قيل أن "الحرب الباردة" انتهت مع انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن "الحرب الباردة" تلك اتخذت ذاك المنحى الظاهر بوضوح للعيان لأن الاتحاد السوفياتي بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية على هتلر الذي كان يمثل التطرف المفرط والجائر في الفكر والممارسة الاستعماريين اللذين ميّزا الغرب خلال قرون، أخذ يتطاول تحدوه إرادة ستالينية، على كل الإمبراطورية التي عنوانها "الحضارة الغربية الرأسمالية"، وتنطح لـ"تنتيفها" شبراً شبراً، فساعد حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وكان هذا يستجيب لمطامحه الجغراسياسية الستراتيجية. الصين المرشحة لخلافة الاتحاد السوفياتي في هذا الصراع تبدو أكثر حذراً في التعامل مع تطلعاتها الجغراسياسية، وقد تعلمت من تجربة الاتحاد السوفياتي القاتلة. لذا تبدو وكأنها ثابتة في "حرب مواقع" لا تحشر أنفها في كل مكان من العالم، تاركة هذه العادة الموروثة من أيام "الحرب الباردة" للأميركيين وحلفائهم. ومع ذلك، ليس ما شهدنا ونشهد من مناوشات "بورصمالية" من العيار الكبير سوى وجه آخر "للحرب الباردة" لا يقل عنها تدميراً و "إراقة لدماء" الاقتصاد العالمي، وإساءة إلى عيش الناس ومستقبلهم في كل أرجاء المعمورة.

 


[1]- خلال فترة النفوذ الأميركي الأشد في الصين والسيطرة الأكمل للولايات المتحدة مالياً وسياسياً على حكومة الغومينتانغ المركزية (نهاية الثلاثينات) كان الصينيون الذين نالوا تحصيلهم العلمي في معاهد وجامعات الولايات المتحدة يشكلون نسبة أكثر من 56% من الموظفين في الهيئات الحكومية والاقتصادية والعسكرية والأكاديمية والاجتماعية.

[2]- ثمة شكوك في الغرب حول إمكانات الصين العسكرية. فالمراكز المتخصصة هناك (لندن-ستوكهولم) المهتمة بدراسة القدرات العسكرية، تقلل من شأن القدرات العسكرية الصينية جيشاً وتسليحاً وصناعة حربية ودينامية تطور. ذلك أن بعض التقديرات المتفائلة يقول بأن العناصر الرئيسة للقوات المسلحة الصينية (باستثناء سلاح البحرية) ومعها مجمع الصناعة العسكرية بنيةً وإنتاجية، تؤمن للصين من حيث جبروتها وقدراتها على القتال وجاهزيتها له، أحد المراكز الأولى بين دول العالم عسكرياً. فهناك، حسب هذه التقديرات، 72 مصنعاً لإنتاج الصواريخ و7 مصانع لإنتاج الوقود النووي، ومصنعان لإنتاج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات أحدهما في بكين ينتج سنوياً منذ عام 1986 من 16 إلى 50 صاروخاً ثقيلاً. ومن ثم يفترض أن تمتلك الصين ابتداءً من التسعينات بين 14 ألف و30 ألف رأس نووية. أما التقديرات الغربية للترسانة النووية الصاروخية الصينية فتقول إنها أقل بعشرات بل مئات المرات.

[3]- Gewurtz M. 1975

[4]- أنظر مقالة دميتري مينين: أمامنا الأنواء. الحرب المالية في شرق آسيا وبعض الاستنتاجات لروسيا. زفترا،

العدد 5 (218) الموافق 3/5/1998.

[5]- أمير روسي شجاع في القرن الثالث عشر استعاد الأرض الروسية من السويديين والألمان. كان قائداً سياسياً حذراً بعيد النظر. فرفض إقحامه من قبل الكوريا البابوية في حرب بين البلاد الروسية و "الأرطة الذهبية" لأنه كان مدركاً عبثية الحرب مع التتار آنذاك.