وقاية وإرشاد

ادمان المهدئات والكحــول
إعداد: ناديا متى فخري

تعددت الأسباب والنتيجة واحدة

يعمد بعض الناس إلى تناول الكحول والعقاقير المهدئة بغرض تخفيف آلامهم الناتجة عن مرض معين (جسمي أو نفسي)، ويجدون فيها وسيلة يلجأون إليها للتغلب على حالات التوتر والاكتئاب والآلام الحادة على اختلاف نوعها ومصدرها. ولكن، أين تكمن مواطن الخطر في ذلك، وما هي انعكاساته على الصحة العقلية والجسدية؟


 

ظاهرة التعاطي

التعوّد على تعاطي العقاقير المهدئة والكحول ظاهرة تفاوت انتشارها بين حضارة وأخرى ومجتمع وآخر، ومع أن هنالك فترات تاريخية اتسمت بالإسراف في الإقبال على هذه المواد، إلا أن عصرنا الحالي يتّسم بانتشار أوسع وأكثر إسرافاً في تعاطيها إلى الحدّ الذي جعل من إساءة استعمالها مشكلة، لها أبعادها في المجال الصحي والخلقي والاجتماعي وغيرها من مجالات النشاط الإنساني... وأهم ما في هذه الظاهرة، امكانية تطور التعاطي، مهما كان الدافع له، إلى تكوين حالة من التواكل والاعتماد بحيث لا يستطيع المتعاطي لهذه المواد ممارسة السيطرة الإرادية للتوقف عن استعمالها فيستمر في تناولها حتى لو ظهرت آثارها الضارة في نفسه وفي صحته.

 وقد اتجه اهتمام الباحثين في المجالات الطبية والاجتماعية والقانونية إلى بحث أسباب الإدمان، وطرق علاجه، وسُلّطت الأضواء على نقاط تم التركيز عليها، مثل: معرفة الحدود الفاصلة بين الاستعمال الطبيعي للمواد المهدئة، والاستعمال غير الطبيعي لها، والدافع للتعوّد على المهدئ، ومتى يصبح مستعمل المادة مدمناً، ومدى خطورة إساءة استعمال المهدئات والمشروبات الكحولية وتأثير التعاطي والإدمان على شخصية الفرد.
من الناحيتين الطبية والعلمية هناك إجماع بأن سوء استعمال المهدئات والتعوّد عليها حالة مرضية مقلقة، وان الإدمان نذير بوجود تصدّع أساسي في تكامل الشخصية وتوازنها، وأخطر ما في الأمر أن للمهدئات تأثيراً عميقاً في حياة الفرد وفي صلاته الاجتماعية والعلائقية وقابليته على العمل ونشاطه العام... وباختصار، ان ادمان المهدئات مشكلة لم تسلم المجتمعات من تيارها العبثي، ولا بدّ من التصدّي لها، لأنها مشكلة انسانية - اجتماعية بحتة، ويفترض النظر إليها نظرة واقعية للحدّ من انتشارها، خصوصاً بين جيل ما زال في بدايات عمر الشباب ويلوذ إليها هرباً من معاناة نفسية - شخصية يعيشها وتفرض حوله حصاراً من التشاؤم.

 

عوامل الإدمان!

ان ما جاء في الدراسات يُظهر توافر أكثر من عامل واحد في تكوين حالة الإدمان، ولعلّ في طليعة هذه العوامل، شخصية المريض الذي اعتاد استعمال المهدئ، على اختلاف نوعه والظروف التي دفعته إلى هذا الاتجاه، والتي سهّلت له المضي في استعمال المهدئ المعتمد كمسكّن للألم أو مخدّر للأعصاب بعد ذلك. ومتى تأكدت حالة الإدمان تصبح شخصية الفرد ذات طبيعة إدمانية خاصة، لها صفات نفسية وخلقية وسلوكية واجتماعية. وأبرز هذه الخصائص، التواكل والاعتماد على الغير والتهرّب من المسؤولية، وعدم الثقة بالنفس والكفاءة والاتجاه السلبي والمضاد للمجتمع والقيم والمثل، وعدم التقيّد بالنظم التي تتجلّى فيها انسانية الانسان. فكثيراً ما تأتي من المدمن تصرفات غير مقبولة، فقد يكذب، أو يسرق، وغير ذلك من التصرفات ذات المظهر الخلقي والسلوكي المرفوض أدبياً واجتماعياً والتي لا يحترز المدمن من اللجوء إليها لتيسير حصوله على المادة التي أصبحت شريكة له في حياته اليومية.

وبذلك، يصبح المدمن ليس مجرّد مشكلة مرضية خاصة، بل يتحوّل إلى مشكلة اجتماعية واسعة الأبعاد والاعتبارات، وهذا أمر يدعو إلى القلق.. فالخطر كامن في كل حالة من حالات الإدمان، الذي يترك آثاراً جانبية تعبث بالسلامة الصحية والمعنوية والسلوكية، وفي ما يلي وصف لبعض أنواع الشخصية التي نجدها في مرضى الإدمان:
الشخصية القلقة: صاحب هذ الشخصية يتناول المهدئات أو الكحول لتغطية الشعور بالقلق، وكذلك صاحب الشخصية الانطوائية والشخصية الكئيبة.
الشخصية السايكوبائية: صاحب هذه الشخصية يتّسم بانعدام القدرة على التواصل العلائقي الإىجابي، والعجز عن مواجهة المشكلات التي تفقده توازنه المعنوي، فيتعاطى المهدئات أو الشراب الكحولي بعشوائية لكبت شعوره بالإخفاق والإحباط، أو كتعبير منه عن كراهيته للمجتمع، أو انعدام ثقته بنفسه وكل من حوله.
الشخصية المريضة عقلياً: ان أي عاهة عقلية تجعل المريض يعاني التشتت الفكري والصراع النفسي ويقبل على تناول المهدئات ليتجاوز حالته، وخصوصاً مرضى الكآبة النفسية والعقلية، حيث يتناول المريض المهدئات لغرض التخفيف من حدة الشعور بالكآبة.
والخطير في الأمر، أن البعض لا يتقيد بالوصفة الطبية ويتناول مقادير تفوق النسبة التي يحدّدها الطبيب المختـص. والجدير ذكره، أن معظـم المواد التي تستعمل كعلاج لهذه الحالات لها بعض الخصائص التي تزيل لمدة قصيـرة الشعور المؤلم بالكآبة والتوتر، ولكن المشكلة هي أنه بانتهاء المفعول القصير للـدواء تعود هذه الأعراض للظهـور مما يدفع المريض مجدداً إلى اللوذ للمهدئ، وهكذا، حتى يصل به الأمر إلى حدود الإدمان.

وقد أشار الأطباء إلى أن الامتناع عن المهدئات أو الكحول بعد اعتياد المرضى عليها، يعود عليهم بردة فعل عكسية فالمدمن يحتاج إلى الوقت وإلى معالجة دقيقة ومتابعة حتى يشفى، والامتناع المفاجئ يُفقده توازنه النفسي، ويرشّح مشاركاته الاجتماعية والمهنية للفشل. وأخطر ما ينشأ عن التوقف، أنه كثيراً ما يؤدي إلى المحاولات الانتحارية، خصوصاً إذا كانت حالة الإدمان مزمنة، والأكثر تعرّضاً للسوء والضرر، هم الذين اتضح أنهم يعانون من كآبة مزمنة، ومن كانوا يعيشون تحت وطأة صراع نفسي وفراغ عاطفي منذ طفولتهم؛ والمشكلة هي في الذين يسرفون في الاعتماد على المهدئات وإلى الحدّ الذي يؤذيهم صحياً ويفقدهم السيطرة على أعصابهم وتصرفاتهم، فالإدمان ينتج منه تغير في السلوك وفي الشعور الذاتي وفي النواحي النفسية لدى المدمنين، مع نقص في قدرتهم على التغلّب على حالتهم، كما أن المحاولات التي يسعى المدمن من خلالها للعودة عن ادمانه للمادة التي أصبحت بالنسبة إليه أشبه بحاجة حياتية ضرورية تعرّضه لمشكلات صحية واضطرابات نفسية وسلوكية، أما الشعور الذاتي بالنقص فيتكوّن من إدراك المدمن لعجزه عن مقاومة المهدّئ الذي يرى فيه منشّطاً أو مسكّناً لألمه.

 

كيف يبدأ الإدمان؟

يلجأ إلى الإدمان على المسكرات أو المهدئات بعض الناس الذين نشأوا في جو من الحرمان، وعانوا من اضطراب العلاقات الأسرية.
والميل إلى التعاطي ليس وليد صدفة، بـل أزمة شخصية تهدّد الأمن النفسي للفرد وتعـزّز لديه الشعور بالقلـق والكآبـة، بحيث يقـع فريسة سهلة في تجربة ليس من السهل الشفاء منها.
نحن نعرف أن الكثيرين يتعاطون نوعاً أو آخر من المشروبات الكحولية أو العقاقير المهدئة، غير أن هذا التعاطي يختلف بينهم من حيث النوع ومقادير الاستعمال ونسبة الإقبال. ويقتضي التفريق بين ما يقع ضمن الحدود الطبيعية لهذا الاستعمال وبين من يتجاوز هذه الحدود، فهناك فرق بين من يحتسي كأس خمرة من وقت لآخر، أو يلجأ إلى المهدئ بوصفة طبية، وبين من يشرب زجاجة كاملة من الكحول ويداوم على ذلك يومياً، ومثل هذا التعاطي المتواصل أمر مضرّ صحياً فهو يؤدي مع الوقت إلى التعرّض للنوبات الصرعية، وإصابة الفرد بتلف في الأنسجة الدماغية. وعلى العموم، تستأثر المواد المخدّرة للألم بالخلايا والأنسجة العصبية وتؤثر على وظيفتها بشكل قوي وحاد.

إن الوصول للإدمان له غير سبب أخطر من أن يكون عادياً، وفي معظم الحالات تكون أسباب الإدمان متقاربة، أما نتيجة الإدمان فهي بحد ذاتها أزمة لا بد من تداركها لنبني مجتمعاً انسانياً معافى.. فالمدمن على الكحول قد يصل إلى مرحلة لا يستطيع التغلّب عليها فيتجاهل مسؤولياته تجاه مستقبله وعائلته، والمدمن على المهدئات قد يقع ضحية الخمول والارتباك السلوكي ويتحول إلى انسان ضعيف الإرادة مسلوب الشخصية.
وعموماً يبدأ معظم الناس تعاطيهم للمسكرات والمهدئات كغيرهم، ولكن متى أقبلوا عليها بشغف وكرروا ذلك أكثر مما هو مألوف لا بدّ أن يسقطوا في شباك الإدمان الآسرة، ويصبح اعتمادهم على المواد التي تعوّدوا عليها اعتماداً كاملاً.

 

كيف نتعرّف على المدمن؟

يطرح موضوع الإدمان أسئلة، منها: ما هو التفسير الموضوعي للأسباب التي تجعل بعض الناس يتجهون نحو الاعتماد بينما يتوقف البعض عند حد معين؟ وكيف نتعرف على المدمن الذي وصل إلى مرحلة الاعتماد وأصبح أسير المهدئ الذي أدمنه؟

المعرفة تكمن بالسلوك، هذا ما يؤكده الأطباء، فمن اعتاد على المهدئات والمسكرات لا بد أن يطرأ عليهم تغير ملحوظ في تصرفاتهم وسلوكهم، فيبدّلون فجأة طريقة عيشهم، ويميلون إلى تبذير المال والاهتمام بالحصول عليه لضمان شراء المادة التي أدمنوها... أما بالنسبة إلى الاعتماد والسبب الذي يجعل من فرد يعتمد على المهدئات أو الكحول، بينما لا يدفع بفرد آخر نحو هذا المصير حتى لو كان من العائلة نفسها، فيرى الأطباء أن التركيز على استهلاك مادة معينة مهما كان نوعها يزيد من امكانية الاعتماد والميل اليه يصبح واقعاً لا محالة.. والاعتماد هو الحالة الناتجة عن الرضا النفسي لتناول مهدئ أو شراب كحولي يجد فيه المريض ملاذاً مريحاً، والدافع مردّه إلى الرغبة في الحصول على الطمأنينة وتجنب الضيق وتأهيل النفس لقبول الواقع.

أما الاعتماد الجسمي، فهو حالة تظهر على شكل اضطرابات صحية - سلوكية وجسمية عند التوقف عن استعمال المهدئ المعتمد أو عند الامتناع عنه. ومع أن الاعتماد النفسي يمكن أن يحدث نتيجة تناول أي نوع من المهدئات أو الكحول وبأية مقادير ولأي فترة زمنية، إلا أن الاعتماد الجسمي يحدث عادة بعد زمن طويل من التعاطي ويتحدد بنوع المادة المستهلكة وما تحتويه من خصائص لها مفعول مخدّر... ومع أن هنالك من يعطي الرأي بأن كل انسان يمكن أن يصل إلى مرحلة الاعتماد إذا تناول مقادير كبيرة من الكحول أو ظلّ يتعاطى المهدئات لمعالجة قلقه واكتئابه النفسي، إلا أن هذا الرأي لا يكفي للتبرير، فالاعتماد يحدث تحت عامل الضغط الذي توفره العناصر التي تفقد الشخص مناعته النفسية والجسمية: الشرب المفرط، تناول جرعات متزايدة من المهدئ، والظروف التي تحيط به.
حـين نقول إن الإدمان مـرض.. فهذا قول مقبول، ولكن ما هو غير مقبول هو أن نشير إليه على أنه جريمة.. ومـن غير المقبول أن نعامل المدمـن كمجرم، بل كمريض علـيه أن يخضع للعلاج ليشفى من مرضه... وإذا حصل ووقع أحدهم ضحية الإدمان (أي نوع من الإدمان) ولم يكن لديه السبب الأساسي الذي هو عضوي أو نفسي فعلاجه سهل جداً ويمكن أن يشفى بسهولة.