محاضرة استراتيجية

استراتيجية فخامة الرئيس هي الطريقة الأمثل التي تحفظ لنا حقوقنا ومستقبلنا
إعداد: الدكتور جورج ديب محاضراً في قاعة العماد نجيم

ألقى الدكتور جورج ديب في قاعة العماد نجيم في وزارة الدفاع الوطني, محاضرة بعنوان: “استراتيجية الرئيس لحود لمواجهة تداعيات 11 أيلول 2001”.
مثّل قائد الجيش في مقدمة الحضور نائب رئيس الأركان للتخطيط العميد الركن بيارو سليمان, وحضرها عدد كبير من ضباط الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة.
قـدّم للمحاضرة رئيـس قسـم البحـوث والدراسات في مديرية التعلـيم العقـيد الركـن يوسف عطوي. وفي ما يلي, أبرز المقتطـفات من محاضـرة الدكتور جورج ديب.

 

استهل الدكتور ديب محاضرته بتوجيه تحية شكر الى قائد الجيش العماد ميشال سليمان, وبدأ بالعودة تاريخياً الى سنة 1985, فأشار الى أنه عندما تسلّم غورباتشوف الحكم في الاتحاد السوفياتي دخل مع الولايات المتحدة الأميركية بعقد قمم لحل المشاكل بين الجبارين الكبيرين, فعقدت القمة الأولى في جنيف عام 1985 أي بعد ستة أشهر من استلام غورباتشوف الحكم وفشلت, والقمة الثانية في ليكفيك في ايسلندا أيضاً فشلت, ثم انعقدت القمة الثالثة في 7 كانون أول 1987 في واشنطن, ونجحت هذه القمة لأول مرة خصوصاً في موضوع إزالة الصواريخ القريبة المدى والمتوسطة المدى. ومنذ ذلك التاريخ انتقلت علاقة الدولتين الكبيرتين من المواجهة الى التعاون. وعلى مدى سنتين فقط (1988­- 1989) حُلّت جميع النزاعات الإقليمية في العالم باستثناء الصراع العربي ­ الإسرائيلي: حرب إيران ­ العراق توقفت, الاتحاد السوفياتي انسحب من أفغانستان, انغولا انحلت قصتها, نيكاراغوا انحلت قصتها وأخيراً لا آخراً الحرب اللبنانية في تشرين أول 1989 (اتفاق الطائف).
عندما انحلت المشاكل بين أميركا والاتحاد السوفياتي, يتابع الدكتور ديب, أصبحت أميركا بحاجة لعدو لتبرير عمليات تجييش الشعب, فاخترعوا خمسة أعداء وقالوا أنها تهدد أمنها وهي:
1­- أن تمتلك أي دولة من العالم الثالث أي نوع من أنواع أسلحة دمار شامل أو القدرة على تصنيع أسلحة دمار شامل, وسمّوا خمسة دول: كوريا الشمالية, إيران, العراق, ليبيا, وكوبا.
2­- الأصولية الإسلامية.
3­- خطف الأشخاص.
4­- خطف الطائرات.
5­- المخدرات وتبييض الأموال.


انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991, فأصبح من غير الضروري إيجاد عدو. أصبح هناك قطب واحد في العالم, فانتقلت السياسة الأميركية من الاهتمام بهؤلاء الأعداء الى اهتمام آخر. هي كقطب واحد, عليها أن تقود العالم. ولتقود العالم, وضعت دستوراً عالمياً جديداً. وبموجب هذا “الدستور” أعطت أميركا لنفسها الحق في أن تتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة في العالم, إذا كانت هذه الدولة تقوم بتنفيذ برنامج أسلحة دمار شامل, أو بحجمه, وأبرز بنود هذا “الدستور”: دعم الديموقراطية ­ دعم حقوق الإنسان ­ التجارة الحرة ­ البيئة ­ تبييض الأموال والمخدرات.
في الفترة التي كان فيها كلينتون رئيساً لأميركا, كان عنوان غزو هاييتي سنة 1994 “إعادة الديموقراطية وترسيخ حقوق الانسان”, وتذكيره أنه ما من دولة كانت تستطيع الحصول على مساعدة من البنك الدولي أو من صندوق النقد الدولي ما لم تقدم تقريراً بالقدر الذي تساند فيه الديموقراطية وحقوق الإنسان.
هذه الفترة تعتبر فترة الديموقراطية الوقائية (Preventive Diplomacy) , التي تستعمل القوة بهدف منع النزاع من التضخم لدرجة خلق حرب عالمية. أحداث 11 أيلول ننتقل فيها من الديبلوماسية الوقائية الى الحرب الوقائية ثم الحرب الاستباقية. أميركا أعطت لنفسها الحق في أن تعلن الحرب ساعة تشاء, أينما تشاء, إذا كان العدو يقوم بأي عمل تعتبره أميركا إرهابياً, وإذا كان هذا العدو فرداً أم جماعة أم دولة أم مجموعة من الدول. وهذا ما فعلوه في أفغانستان: شنوا الحرب مباشرة من دون مراجعة أحد إطلاقاً. ومن ثم ضغطوا على العراق عبر إصدار القرار 1441 من مجلس الأمن فلم تأخذ به الولايات المتحدة ولجأت الى الحرب كي يعطوا هذا الحق حصناً داخلياً. في أيلول التالي قدم جورج بوش مشروع قانون للكونغرس عنوانه “الحرب الوقائية” الذي هو في الواقع الحق الذي أعطي في القرار 1373. أما الآن فقد تبناه الكونغرس الأميركي وزاد عليه “الحرب الاستباقية” وهو يعطي لأميركا الحق في أن تضرب بالقوة أي عمل في أي دولة أخرى في العالم إذا كان برأيها يهدد الأمن الأميركي.


في حزيران 2002, أي قبل 3 أشهر من إصدار هذا القانون من قبل الكونغرس, عقد مؤتمر قمة الدول السبع في كالغاري في كندا, وجاءت بنوده كالتالي:
1­- الطلب من روسيا محاربة تبييض الأموال مقابل هبة قدرها 20 مليار دولار نقداً مقسطة, واتباع حكم أكثر ديموقراطية.
2­- الاتفاق مع الدول الأفريقية على إزالة منظمة الوحدة الأفريقية التي تأسست في الستينات واستبدالها باتحاد الدول الأفريقية تيمناً باتحاد الدول الأوروبية, فتم الأمر, ثم الطلب الى 5 رؤساء أفريقيين تحديث الديموقراطية وحقوق الإنسان مقابل 5 مليار دولار سنوياً (لا تدخل ضمنها نفقات محاربة الإيدز وتوفير المياه, الخ...), حتى يفتح لها المجال في التأثير في القرارات الدولية, وهذا ما طلب من ياسر عرفات أيضاً كشرط لإقامة دولة فلسطينية.
كل ذلك يعني ما يلي: 75% من الثروة على وجه الكرة الأرضية يملكها الثمانية الكبار. أميركا وحدها تملك 55% منها, والسبعة الباقون يملكون 20%, ما يعني أن أميركا تحاول أن تحكم العالم أولاً بالقوة وثانياً عن طريق السيطرة على الثروة على وجه الكرة الأرضية وفي باطنها.


أما على الصعيد الحضاري والثقافي, فلنتطرق الى موضوع العولمة التي يمكن اختصارها بثلاث كلمات:
1­- تعزز الفرد على حساب الوطن.
2­- تعزز الاستهلاك على حساب الادخار.
3­- تعزز الإباحية على حساب الأخلاقيات.


هذا النمط من الحياة أدى الى ضعف الدولة عبر الخصخصة, والدولة الضعيفة أفقدت الحماية للفرد الذي أصبح يلجأ للدين لحمايته, وهذا أيضاً ما جعل 150 مليون شخص عبر العالم يقفون ضد الحرب في العراق, وجعل البابا وأئمة المسلمين يؤكدون أن هذه الحرب غير شرعية وضد الإنسانية. فعندما وجد الفرد نفسه في خطر تكاتفت الأديان لتقف في وجه طغيان الدولة الواحدة التي تريد أن تبني لها امبراطورية في العالم وتحكمه. وإن أفضل مثال على هذا التوجه وهذا التلاحم للوقوف في وجه الطغيان هو النموذج اللبناني.
وفي معرض حديثه عن كيفية مواجهة لبنان لهذه المتغيرات, أشار د. ديب الى أنه في العام 2000, كان يجري الحديث عن الـ”واي بلنتيشن” والمفاوضات في المسار السوري الإسرائيلي, وكانت تطرح تساؤلات: كيف تقوم سوريا بالمفاوضات من دون لبنان؟ الجواب بسيط: المفاوضة هي عملية يحاول فيها كل فريق أن يأخذ أكثر ما يمكن مقابل التنازل عن أقل ما يمكن. السؤال يطرح نفسه: كيف يمكن أن تربح في أقل خسارة ممكنة؟ هناك عناصر كثيرة, ولكنّ الذي يحسم القصة مسألتين: القانون ­ القوة. والقوي لا يدخل في مفاوضات سلمية إلا ليحصل بوسيلة سلمية على ما يمكن أن يحصل عليه بوسيلة الحرب.


لدينا القرار رقم 425 الذي انشأ لنا حق خروج إسرائيل من لبنان, لكن هذا الحق لم نقدر على تنفيذه. جاء فخامة الرئيس إميل لحود رئيساً للجمهورية. كانت هناك مقاومة لفترة طويلة, فتبنى المقاومة, وبالتالي تبنت الدولة المقاومة فأصبح لدينا خطوتان مهمتان:
● الخطوة الأولى: موقف قانوني.
● الخطوة الثانية: التمييز بين نشوء الحق (القانون ينشئ الحق) وتنفيذ الحق. فتنفيذ الحق يتطلب قوة, فإذا لم يكن هناك من قوة فليس بإمكانك أن تنال حقك. فتبنّي المقاومة كان القوة التي احتضنتها الدولة لتأخذ حقها الذي هو انسحاب إسرائيل. القوة, ليست فقط قوة عسكرية. فهناك قوة أخرى لا تقل أهمية عن القوة العسكرية, وهي الالتفاف الشعبي, الالتفاف الوطني. فعندما يتأمن لديك موقف شرعي قانوني, تتوفر لك قوة لتنفيذ الحق الذي أعطاه إياه القانون ويتوفر لديك تضامن, وتكتل شعبي وراء هذا الموقف, وعندها لا أحد يستطيع التغلب عليك أبداً. لذلك, لبنان لم يدخل المفاوضات, لأن الاستراتيجية التي وضعها الرئيس لحود كانت بالتأكيد وبدون أي شك, ستصل الى وقت قصير جداً تندحر فيه إسرائيل وتنسحب من لبنان. وبالتالي جدول المفاوضات بالنسبة للمسار اللبناني الإسرائيلي, الانسحاب لم يعد الأولوية. لماذا؟ لأن الانسحاب سيقع, لا بد أنه سيقع بعد أن اتخذنا هذا الموقف الاستراتيجي. ماذا هناك من شيء مهم بعد الانسحاب, لا يقل أهمية عن الإنسحاب؟ إنه عودة الفلسطينيين, عدم التوطين, لذلك, بالنسبة للبنان, جدول أعمال المفاوضات اختلف في أولوياته عن جدول أعمال المسار السوري ­ الإسرائيلي, حيث يبقى هناك الإنسحاب أولوية. نحن أصبح لدينا الانسحاب آخر خطوة يجب أن تكون في المفاوضات, لتحل محلها مسألة اللاجئين الفلسطينيين أو عدم التوطين, أو حق العودة. لذلك أعطينا الأولوية لمسألة الفلسطينيين (وعددهم حوالى 400 ألف في لبنان), وإعطاؤنا الأولوية لهذه المسألة حمل ياسر عرفات أن يقول في اجتماعه مع باراك في شرم الشيخ بعد سنتين: “طبعاً سنقبل عودة جزء كبير أو “مئة ألف” فلسطيني الى إسرائيل, وأن تعطى الأولوية للفلسطينيين في لبنان”. وبذلك جعلنا هذه المسألة أساسية بالنسبة لنا بعد أن كانت منسية.
لذلك, كيف نواجه مسألة العراق بهذه الاستراتيجية؟ بنفس الطريقة. الحرب ضد العراق هي حرب غير شرعية وضد القانون. نحن مع الشرعية الدولية ومع القانون الدولي ونحن مع الشعب العراقي. نحن نفصل بين صدام حسين كنظام, وبين الشعب العراقي.
أول مشكلة نجابهها بقوة هي مسألة الإرهاب. أميركا تعتبر حزب الله إرهابياً, نحن لا نعتبره إرهابياً. كيف تمكّنا من جعل أميركا تتردد بموضوع حزب الله وبمواضيع أخرى؟ بالضبط بسبب الإستراتيجية لدينا في لبنان. الاستراتيجية التي وضعها الرئيس لحود أساساً.
أولاً, حق كل شعب في العالم أن يحمل السلاح ليكافح ضد احتلال أجنبي, حق واضح ولا لبس فيه ولا إبهام لكل شعوب العالم. وبالتالي طالما أن هناك جزءاً من لبنان لا يزال تحت الاحتلال, يحق لنا أن يكون لدينا مقاومة وطنية. وتلك العمليات التي يقوم بها حزب الله هي عمليات لها صلة بالقطعة التي لا تزال تحت الإحتلال, يعني منطقة شبعا. عندما تحصّن نفسك بهذه الطريقة قانوناً, صحيح أن القانون ليس كل شيء أحياناً, لكن حتى الخصم سيتردد في ضربك, لأنه سيخرق القانون.


وجود المقاومة جاهزة في الجنوب هي القوة الموجودة بين يدينا. لا نقدر أن نضع الجيش على الحدود, ففي كل المخططات الحربية, إذا ما زلت في حالة حرب مع العدو, ليس معقولاً أن تضع جيشك على الحدود, عليك أن تبقيه أبعد من الحدود قليلاً الى الوراء. نحن لدينا جيش في الجنوب وبعدد لا بأس به ويبعد نحو عشرة أو عشرين كيلومتر عن الحدود. لكن هذا من الناحية العسكرية لنا حق به مئة بالمئة.
عدّلنا قوانينا الداخلية ضد تبييض الأموال وضد المخدرات. ونحن أيضاً أول دولة وأكثر دولة دفعت ثمن الإرهاب الذي يفكر فيه الأميركان, ونحن وضعنا كل قوتنا لنقضي على الإرهاب الموجود لدينا داخلياً. وأكبر برهان على ذلك هو ما حصل في الضنية عام 2000, وماكدونالدز أمس, يعني ليس هناك أي طريقة لأي شخص أو لأي دولة لاتهام لبنان بأنه دولة إرهابية. هناك فقط خلاف حول معنى الإرهاب. نحن نعتبر أن الإرهاب لا يمكن أن يشمل حق الشعوب في أن تكافح بقوة السلاح ضد الاحتلال العسكري الأجنبي, وكل العالم معنا وليس ضدنا. إننا من هذه الناحية أمينون جداً عندما نقرّ بوجوب أن تبقى جهوزية المقاومة في الجنوب.
أما في ما يتعلق بتلازم المسارين السوري واللبناني, فأكد الدكتور جورج ديب أنه إذا ضربت واحدة من هذه تضرب الباقية كلها. وأشار الى أن هذه المسألة تخص الأمن القومي اللبناني ولا يمكن أن تقرر إلا باتفاق وتفاهم بين السلطة اللبنانية من جهة والسلطة السورية من جهة ثانية, ولبنان أعلن موقفه بكل وضوح. الوجود السوري, شرعي, ضروري ومؤقت. حينما يصبح غير ضروري يصير هناك اتفاق بين الدولتين. أما حول تهديدات وإنذارات أميركا, فأوضح د. ديب أن أميركا, لا شك تريد تنفيذ ما تطلب تنفيذه, لكن أميركا لا تحمل السلاح وتقتل الناس فوراً. نحن في مرحلة حيث أميركا تعرض ما تريد ونحن نعرض ما عندنا... نحن في مرحلة الحوار, لذلك كان مهماً أن فخامة الرئيس ترك الباب مفتوحاً: “ماذا لديكم للاستفهام, نحن حاضرون, وماذا لدينا كذلك”. بالطبع أميركا تريد معظم هذه الأمور أن تحصل بسبب أنها تريد أن تمشي خارطة الطريق. غير أن لبنان وسوريا ليسا واردين في خطة الطريق إلا في شكل عابر جداً, وهناك ثلاث مراحل لهذه الخارطة:
المرحلة الأولى أمنية مئة في المئة إسرائيلية ­ فلسطينية. إذا انتهت المرحلة الأولى تصير المرحلة الثانية في الـ2004, فيعقد مؤتمر دولي يدعى إليه الأفرقاء في الصراع العربي الإسرائيلي من سوريا ولبنان. مسألة ثالثة مهمة جداً بالنسبة لنا وهي مسألة الفلسطينيين, وهي ليست واردة أبداً في خطة الطريق, وإذا أخذنا الوضع بكل تشعباته, فإنّ الاستراتيجية التي اعتمدها الرئيس لحود والتي تبنتها السلطة اللبنانية كلها, هي الاستراتيجية الأفضل لحفظ حقوق لبنان والاستقرار في لبنان. والبرهان على ذلك أنه من الوقت الذي استلم فيه الرئيس لحود الحكم في لبنان, أصبحت الدول العربية الأخرى غير مستقرة, نحن أصبحنا مستقرين, والعالم عليه أن يختار, يريدون لبنان مستقراً أو غير مستقر؟ إذا كانوا يريدون لبنان مستقراً, الطريقة المتبعة من السلطة اللبنانية على أساس الاستراتيجية التي وضعها الرئيس لحود, هي الطريقة الأمثل التي تحفظ لنا حقوقنا ومستقبلنا.