- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
يا لسـخـريـة الـقـدر!
يتساءل الكاتب الإسرائيلي ديمتري تشومسكي في صحيفة «هآرتس» (14/3/2013): «ما الذي قصده رئيس وزراء تركيا رجب طيب اردوغان، في واقع الأمر، حين شبّه الصهيونية بالفاشية بل ووصفها بأنها إحدى الجرائم الكبرى ضد الإنسانية؟». ويحاول بالتالي الإجابة على ذلك بالقول: «لقد أراد، على اي حال، أن يقول أن سياسة الاحتلال في الضفة والحصار غير الإنساني على غزة... يشبهان أعمال التنكيل التي تقوم بها الدول الفاشية بحق مواطنيها - رعاياها». ويضيف: «ينبغي الاعتراف بأنه في ادعاء من هذا القبيل يوجد اكثر من ذرة من الحقيقة. فممارسة حجب حقوق الإنسان الأساسية عن الفلسطينيين... وما نجده في الاعتقالات الإدارية وفي إخفاء الناس لسنوات طويلة في السجون الإسرائيلية بسبب مقاومتهم القمع والإذلال، يشبه على نحو مفزع أساليب القمع التي اتخذتها دكتاتوريات الظلام في القرن العشرين ضد معارضيها». ويخلص الكاتب الى الاستنتاج بأن «الصهيونية تتماثل أقل فأقل مع مفهومها الأصلي المزعوم كحركة تحرر وطني لشعب مضطهد، لتتطابق أكثر فأكثر مع نقيضها التام: خليط من الاستعمارية العسكرية والقومية الشوفينية لنظام يحرم رعاياه حريتهم وكرامتهم وحقوقهم، ويستدعي بذلك التشبيهات التي تطلق في حقه وتضعه في خانة الأنظمة الفاشية والعنصرية، وهي تشبيهات ملائمة له».
إسرائيل، الكيان الغاصب والمحتل، والغدّة السرطانيّة التي ترتكب الجرائم ضد الإنسانية وتفتك بأرض العرب والمسلمين وحقوقهم ومقدساتهم، يأتي رئيسها ليتحدّث بكل ثقة أمام البرلمان الأوروبي عن حرصه على لبنان وسوريا وفلسطين، بينما لجيشه سجل حافل بأكثر المجازر وحشيّةً بحقّ الأطفال في قانا العام 1996 وفي حرب تموز 2006، وفي فلسطين على مدى أكثر من ستين عامًا حيث كان آخر مجازره إحراق الفلسطينيين بالفوسفور الأبيض العام 2008، وكذلك يفعل بالشعب السوري من خلال التحريض والتآمر والتسليح والتشجيع على الفتنة بين أهل الوطن الواحد.
يلجأ شمعون بيريس، رئيس الكيان الصهيوني الحالي، الى تقديم نفسه كزعيم معتدل يتطلع الى السلام، ويستخدم معسول الكلام لكي يقنع مستمعيه في العالمين العربي والغربي بأنه حمامة سلام، في حين ان تاريخه مليء بالإجرام والنفاق. وهو قد وقف في البرلمان الاوروبي أخيرًا، ويا لسخرية القدر، محاضرًا بالعفة ومتشدقًا بالحديث حول كيفية حقن الدماء في سوريا، داعيًاً الى «تدخل قوة تابعة لجامعة الدول العربية لوقف المجزرة التي تجري حاليًا هناك» على حد قوله، مفتيًا بضرورة تشكيل حكومة سورية مؤقتة تضم شخصيات من المعارضة. ولو كان هذا الكلام صدر عن رئيس سويدي او فنلندي او برازيلي، لكان يمكن ان نفهمه او نتفهمه، فحقن دماء الشعب السوري بأسره مهمة انسانية وواجب أخلاقي قبل اي شيء آخر، لكن ان يصدر عن رئيس دولة تمارس القتل والاحتلال كعقيدة، وتجتاح أراضي جيرانها وتبني فيها المستوطنات، وتتفنن في ممارسة التطهير العرقي لإقامة اسرائيل الكبرى على اراضي الغير، فهذه هي المهزلة بعينها وقمة المغالطة.
بيريس ليس الشخص الذي يجب ان يعلّمنا كيف نتعاطى مع الأوضاع المؤسفة في بلداننا، واذا كان فعلًا حريصًا على الشعوب العربية فلينسحب من هضبة الجولان ومن الضفة الغربية ومن مزارع شبعا التي تحتلها قوات حكومته، وتنهب ثرواتها، وتصدر القوانين بضمها. انه لمن سخرية القدر ان يتحدث بيريس نيابة عن الجامعة العربية، ويعلن تأييده إرسال قوات تابعة لها الى سوريا ليس من اجل وأد الفتنة، وإنما من اجل توسيع رقعة الاختلافات والنزاعات، وقد تذهب به الوقاحة الى أكثر من ذلك ربما فنجده يقف يومًا على منبرها في ميدان التحرير مخاطبًا وزراء الخارجية، وربما الزعماء العرب باعتباره واحدًا من اهل البيت تمامًا مثلما خاطب القمة الاقتصادية في المغرب قبل عقد ونصف العقد من الزمن. لقد حاول الكيان الإسرائيلي دائمًا وأبدًا زعزعة استقرار المنطقة والقضاء على كل قائد أو حركة أو طرف ممانع له ولحلفائه او عامل لوحدة الأمة وعزتها واسترجاع حقوقها، وهذا ما تجلى أخيرًا في مؤتمر هرتسيليا الثالث عشر، الذي يتناول عادة قضايا اسرائيل الاستراتيجية. فقد أوصى المؤتمر بتأجيج الصراع السني - الشيعي في منطقة الشرق الأوسط من أجل تحقيق أمن اسرائيل ومصالحها الاستراتيجية البعيدة المدى، وذلك من خلال السعي الى تشكيل محور سني من دول المنطقة يقوم أساسًا على «دول الخليج ومصر وتركيا والأردن». وذهب المؤتمر الى ان هذا المحور «سيكون حليفًا لإسرائيل والولايات المتحدة، في مقابل محور الشر الذي تقوده إيران باعتباره محورًا للشيعة». وبدا واضحًا ان المؤتمر إنما يريد ان ينبّه اسرائيل وحلفاءها الى ضرورة القيام بدور أكثر فعالية في تنشيط هذا الصراع المذهبي ليكون في خدمة اسرائيل ومصالحها في مواجهاتها الراهنة ضد ايران المتطورة تكنولوجيًا ونوويًا، الأمر الذي يعني ان المفكرين الاستراتيجيين الإسرائيليين وحلفاءهم يرون في هذا الصراع فرصة ذهبية سانحة وما يستحق بذل المزيد من الجهود للخروج بنتائج أفضل في ما يتعلق بتكريس الاحتلال في الأراضي العربية ومكافحة الخطر الإيراني المتفاقم على أمن إسرائيل.
لقد أعلن المؤتمر صراحة انه «بينما تتزايد الاحتمالات لتقسيم سوريا وتتحول هذه الاحتمالات الى حقيقة... فإنه من الممكن ان تؤدي ظروف معينة على أرض الواقع إلى القيام بخطوات عسكرية دولية هناك». وانتقد المؤتمر ما اسماه «سياسة الاختفاء من امام العاصفة، تلك السياسة التي انتهجتها اسرائيل منذ أن بدأت الاضطرابات في المنطقة قبل عامين». ويضيف: «إن استمرار السلبية الاسرائيلية في هذا السياق يمكن ان يعرض مستقبل اسرائيل للخطر». خصوصًا وان اسرائيل «قادرة على إحداث التغيير المطلوب» والذي ينبغي ان يكون هو المهمة الأولى لحكومة نتنياهو الجديدة.
في المحصلة، ان مؤتمر هرتسيليا انما يكشف عن الوجه القبيح والحقيقي للقادة الصهاينة من حيث أنه يوجه اللوم الى الحكومة الإسرائيلية لأنها لم تقم بدور أكثر فاعلية في تأجيج الفتنة وإثارة الصراع المذهبي في المنطقة، وفي الوقت نفسه يسارع ويدعوها الى تدارك هذا الإهمال والتقصير لأن الصراع موجود بالفعل ويمكن تأجيجه وإطالة أمده واستغلال زيادة حدة النيران فيه. ان ما يحصل للأسف في العديد من البلدان العربية من صراعات ونزاعات عبثية داخلية، موجهة وممولة في معظمها من الخارج، انما قصته كقصة القط الذي يلحس المبرد، يشرب من دمائه من دون أن يدري انه يستنزف ذاته، ولو كان دارياً فتلك تكون الطامة الكبرى.