قضايا اقليمية

اسرائيل في أجواء العولمة وتداعياتها
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

السعي إلى محاصرة كل منطق للمقاومة


منذ أحداث ايلول 2001 طرحت الولايات المتحدة مفهومًا جديدًا للأمن الدولي في شقه المتعلق بالترتيبات والاستراتيجيات الأمنية الجديدة، اذ عملت على فرض أجندتها الخاصة بمفهوم الأمن وحصره في كون «الإرهاب» يشكل أخطر مصادر التهديد الذي يواجه أمن الدول والمجتمعات، وأن العالم كله معرض لاعتداءات ارهابية وذلك من منطلق الخلط ما بين مفهومي الارهاب والمقاومة. وشرعت واشنطن في بناء تحالف دولي على أساس ما سمي «استراتيجية الهجمات الوقائية» التي تخوّلها توجيه ضربات عسكرية وقائية ضد أي دولة أو جماعة ترى أنها تمثل خطرًا أو تهديدًا للأمن الأميركي. وبدأت  تتصرف بمنطق القوة العظمى الوحيدة في العالم، مع محاولة توظيف كل هذا الحراك من أجل الاحتفاظ بموقعها المميز على قمة النظام العالمي الى أجل غير مسمى.
العام 1992، قال الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش (الأب): «لقد حان الوقت لتقول أميركا للعالم إن عهدًا جديدًا قد بدأ هو عهد ستصنعه الولايات المتحدة الأميركية بمبادئها الليبرالية التي تدافع عن الشعوب والقيم النبيلة التي دافع عنها أسلافنا، إنه نظام جديد تأخذ به الولايات المتحدة على عاتقها المسؤوليات الدولية».
في المقابل انتقد الرئيس بيل كلينتون هذا التوجه الكوني للرئيس بوش، وقال: «ثمة فرق كبير بين أن تدير العالم وأن تسيطر عليه».  
لكن النفوذ الصهيوني لدى الإدارة الأميركية كان أقوى من ارادة التعقل وكبح جنون العظمة، هذا الجنون عبّر عنه الرئيسان بوش (الأب ومن ثم الإبن) في ظل هيمنة وسيطرة من يسمون بالمحافظين الجدد الذين لم يعترفوا بشيء اسمه الحلول الوسط، «أنت متهم حتى تثبت براءتك، وإن لم تكن معي فأنت مع الإرهاب».
لقد عمدت الولايات المتحدة في ظل نفود اللوبيات الصهيونية الى توظيف الأخطار الكامنة من خلال تضخيم حجمها وتشويه حقيقة أهدافها، عبر اختلاق الأزمات التي ليس من الضروري أن تشكل تهديدًا للمصالح الأميركية، وعبر توظيف المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن عند الضرورة لحل هذه الأزمات المفترضة وتحقيق الأهداف الآتية:
- السيطرة على اهم ثروات العالم وفي طليعتها النفط الذي يوجد مخزونه الأعظم في البلدان العربية والاسلامية، وذلك بغية التحكم بعصب الحياة الصناعية والاقتصادية في العالم، بما في ذلك الدول الصناعية الكبرى.
- منع أي دولة تقف بوجه المصالح الاميركية في العالم من امتلاك قدرات عسكرية أو تكنولوجية في مجال السلاح النووي أو التقليدي الذي تفوق قدراته ما لدى الولايات المتحدة الاميركية، ويمكن أن يحد من تنفيد استراتيجيتها المقررة للهيمنة.
- تفكيك الدول العربية والاسلامية عبر مخططات الفوضى الخلاقة لتحقيق هدف مشروع الشرق الأوسط الجديد، من خلال الهيمنة عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا واعادة تركيب بناه السياسية على أسس طائفية وأتنية وعرقية، ما يجعل من اسرائيل، الحليف الإستراتيجي الأبرز، الدولة الطائفية الأقوى في الشرق الأوسط والمتحكمة ضمن محيطها الإقليمي الواسع، بحسب تعبير وزير الدفاع الاسرائيلي الجنرال ايهود باراك.
- اعتبار أمن اسرائيل وقدراتها العسكرية التي تفوق عدة مرات قدرات الدول العربية  مجتمعة خطًا أحمر، وكذلك اعتبار السيطرة على النفط (منبعًا وممرًا وتسويقًا) من الأمور التي يحرّم التنازل عنها أو المسّ بها.
- محاربة العائق الإيديولوجي الدائم لسريان مشروع الهيمنة الأميركية الصهيونية وهو الاسلام، من خلال تشويه تراثه ومكوناته والتحريض على تعميق الخلافات بين تياراته ومذاهبه، واستبداله بشعارات الديمقراطية وحقوق الانسان وحرية المرأة وتحسين الدخل وتوزيع الثروة.
- تصنيف أي دولة أو جمعية او منظمة تقف بوجه هذا المشروع على أنها جماعات مارقة أو إرهابية ومصدرة للارهاب، وذلك في مقابل اعتبار الكيان الصهيوني النظام الديموقراطي الوحيد في المنطقة، الأمر الذي تجلى مرارًا وتكرارًا في الدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل في كل حروبها واعتداءاتها على قضايا الأرض والانسان في فلسطين وسائر الدول العربية المحتلة او المعتدى عليها.
في هذا السياق، جاءت نظرية «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما ونظرية «التوسع الديموقراطي» لانطوني لايك، اللتان تدعوان الى تدمير الأنظمة الدكتاتورية، ومحاربة النزعات القومية في العالم الثالث (العراق، ليبيا، السودان، ايران، سوريا...)، وبالتالي تجاوز منظمة الأمم المتحدة واستبدالها بحلف شمال الأطلسي بتجانسه وقدراته العسكرية الرادعة.
انطلاقًا من هذه الرؤية تم رسم خريطة جيو سياسية لمنطقة الشرق الأوسط باعتبارها وحدة واحدة تضم الوطن العربي وآسيا الوسطى، وتتكون بؤرتها من منطقتين متميزتين هما محيط اسرائيل والخليج العربي، ولكل من هاتين المنطقتين وظيفتها السياسية والاستراتيجية. فدول الممانعة العربية والمنظمات المنوطة بها تهدد أمن اسرائيل ومنابع النفط، ومواجهتها تستوجب تأسيس احلاف ذات أبعاد شرق اوسطية متعاونة في مجال انهاء الصراع العربي الاسرائيلي. أما دول الخليج النفطية فيجب أن تكون مرتهنة للسياسات الاميركية، الأمر الذي ظهر جليًا في حربي الخليج الأولى والثانية، وفي خضوع النظام العربي وتهميش دوره وتحويله الى مجرد تابع ينفذ الأوامر الخارجية على الرغم من وضوح المؤامرة عليه، وتمزيق كياناته السياسية والجغرافية، وتبديد الطاقات العسكرية والجغرافية الوطنية في صراعات داخلية، ومنع أي مساع للتقدم والتطور والنهوض العلمي والتكنولوجي والاجتماعي.
باختصار، يمكن القول ان اسرائيل تشكل حجر الزاوية في السياسة الاميركية الاقليمية في الشرق الأوسط، وهذا ما يتجلى في السعي الأميركي الدؤوب إلى ضمان أمن هذا الكيان وتفوقه النوعي في مختلف المجالات، وفي اشراكه في الترتيبات الجديدة في المنطقة من موقع الشريك المتميز. ومن اجل ذلك تم رهن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني بوقف الانتفاضات واشكال الكفاح المسلح على اختلافها، وتغيير قياداته ومؤسساته بحيث لم تعد القضية الفلسطينية هنا قضية عدوان أو استيطان واضطهاد واحتلال وتهجير وقتل، وانما باتت قضية فرعية مشمولة ضمن ما يسمى «الحرب على الارهاب»، عبر السعي إلى طمس الحقوق السياسية العربية وتغيير الأنظمة واجهزة التعليم والنظم الاجتماعية والثقافية في مختلف أنحاء العالم العربي .
إن العولمة  الاميركية انما تسعى إلى تكريس الاختلال في التوازن المتدهور لمصلحة اسرائيل، عبر تحطيم الارادة العربية ومحاصرة كل منطق للمقاومة، حتى المعارضة السياسية بما يخدم هيمنة المشروع التوسعي الصهيوني بأبعاده الاستراتيجية والحضارية والدينية.