اسرائيل في استراتيجيّات شارون التوسّعية (مفاهيم-مخططات-ابعاد)

اسرائيل في استراتيجيّات شارون التوسّعية (مفاهيم-مخططات-ابعاد)
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

اولاً:مدخليّات شارون الاستراتيجية

   أ-الجنوح نحو اليمين الايديولوجي: شهدت إسرائيل خلال العقدين الماضيين، تغيّرات معقّدة في أحجام واتجاهاتها وموازيننها قوى التيّارات والمعسكرات والتكتّلات الحزبية والسياسية، والتي تعرّضت لاهترازات وتحوّلات فكريّة وإيديولوجية، تجسّدت في انتقال العديد من الشخصيات البارزة من معسكر إلى آخر ولأكثر من مرة في بعض الأحيان.

وقد كان للأحداث والوقائع التاريخية التي حصلت في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، على مستوى التسويات السياسية، مع كل من مصر (كامب دافيد 1979) ومنظّمة التحرير الفلسطينية (أوسلو 1993) والأردن (وادي عربة 1994) وانتصار المقاومة في لبنان وانسحاب إسرائيل من أغلب أراضيه المحتلّة عام 2000، بالإضافة إلى التطوّرات في داخل الكيان الصهيوني (مصرع رابين عام 1995)، الدور الكبير في تراجع هاجس الإلتزامات الإيديولوجية من قبل الأحزاب الإسرائيلية تجاه القضايا التي كانت في الماضي البعيد تشكّل أساس الخلاف والإنقسام بين المعسكرات، الأمر الذي أدّى إلى تآكل في الحدود والأسوار ما بينها بحيث أصبح من الممكن مثلًا انتقال حزب يميني مثل غيشر (الجسر) بزعامة دافيد ليفي، إلى اليسار وانتقال مجموعة من أبرز قادة الليكود مثل دان مريدور وإيهود أولمرت وإسحق موردخاي، إلى معسكر الوسط، ثم عودة جميع هؤلاء مع حزب غيشر إلى الليكود من دون أن يثير الأمر الكثير من الدهشة أو الإستغراب ([1]).        

وبناء على ما تقدّم، بدأ الحديث عن التراخي الايديولوجي وعن مرحلة ما بعد الصهيونية. إلاّ أنّ كل ذلك في الواقع لم يتعدّ الشكل، خاصة فيما يتعلّق بالتسوية مع العرب والفلسطينيين، حيث سيطرت الأفكار اليمينية الصهيونية المتطرّفة على مجمل المعسكرات وتمّت تنحية ما يسمّى معسكر السلام وتهميشه. وقد استفحل هذا التوجّه اليميني المتطرّف منذ مطلع التسعينيات عندما تعاظم النفوذ بل والوجود الاميركي في المنطقة ولا سيما في دول الخليج المختلفة على خلفية اجتياح الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين لدولة الكويت، والرد القاسي والمدبّر الذي تبعه.

وفي أعقاب اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق ٳسحق رابين على أيدي متطرّف ديني صهيوني عام 1995 ثم حصول أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 في واشنطن ونيويورك، توقّفت رياح السلام في المنطقة عن الهبوب. وانقسمت إسرائيل على نفسها وانقسم العرب كذلك أكثر فأكثر وراحوا يهرولون لتقديم تنازلات من أجل دعم اليسار الصهيوني، المتمثّل بنوع خاص بحزب العمل، الذي دخل مرحلة خطيرة من التراجع والانهيار.

أما في الجانب الإسرائيلي فإن التطرّف كان سيّد الموقف، وبالتالي إنحصر الفلسطينيون بين مطرقة التسوية الإلزامية وسدّان التملّص الصهيوني من كلّ الاتفاقات والمواثيق تحت ذريعة عدم قابلية المجتمع الإسرائيلي لتقديم تنازلات، واتهام المجتمع الفلسطيني بعدم الوفاء بتوفير كل ما هو مطلوب منه من استكانة وتجاوب لرفع الازعاج عن كاهل هذا المجتمع، ٳلى حدّ الدخول في حرب أهلية، إذا اقتضت الضرورة، ونبذ كل الفصائل التي لا تزال تؤمن بمقاومة الاحتلال خيارًا لتحرير الأرض وبناء المشروع الوطني المنشود.

وكادت مثل هذه الحرب أن تقع لولا انكشاف النوايا الإسرائيلية بعدم الرغبة بتقديم أي شيء في مقابل الحصول على كل شيء. فكانت انتفاضة الأقصى في عام 2000 نتيجة طبيعية لوصول المجتمع الإسرائيلي، في ظلّ صراع قيادات غوغائية مثل نتنياهو وشارون، إلى مرحلة من الجبروت جعلته يتخلّى عن كلّ مستلزمات التسوية واستحقاقاتها، من مدريد إلى أوسلو إلى واي بلانتيشن وطابا وشرم الشيخ... التي وقّعت بإشراف دولي وضمانة أميركية.

وقد تسلّح الجنرال شارون بالفشل الذي حصل في حينه في كامب ديفيد، بعدما رفض الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ما عرضه عليه باراك من تسوية منقوصة وملغومة لا تتناول حقوق الفلسطينيين في القضايا الجوهرية مثل القدس وحق عودة اللاجئين وإقامة الدولة المستقلّة الكاملة السيادة وتفكيك المستوطنات التي تحول دون تحقيق ذلك. وفي هذا السياق، ٳنطلقت آلية صراع دامية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وذلك في أعقاب انضواء  معظم المعسكرات الإسرائيلية تحت راية ما سمّي "حرب الاستقلال الثانية" التي تستكمل حرب عام 1948 ، وتحت شعار إدخال الهزيمة والاستسلام في صميم الوعي الفلسطيني على حدّ تعبير رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق الجنرال موشيه يعالون.

في ظلّ هذه الأجواء من التجاذب الحاد كان من الطبيعي أن ترتفع أسهم زعيم الليكود آرييل شارون الذي ما لبث أن حلّ محل ٳيهود باراك في سدّة رئاسة الحكومة عام2001، باعتباره الزعيم اليميني الاكثر قدرة على سحق الانتفاضة الفلسطينية "في مهلة أقصاها مئة يوم" على حدّ تعبيره، الأمر الذي انعكس على الأرض على الشكل التالي:

-انزياح المجتمع الإسرائيلي يمينًا مما وفّر لشارون وجيشه وحكومته ٳمكان ٳسقاط كل المحرّمات من أجل تدمير التسوية والمبادىء التي قامت عليها، وإعادة الأمور إلى نقطة الصفر، بذريعة عدم وجود الشريك الفلسطيني المناسب للتفاوض معه.

-الفلسطينيون من ناحيتهم وجدوا أنفسهم أمام خيار واحد لا ثاني له وهو الصمود ومواصلة المقاومة بعدما دمّرت إسرائيل مرافق السلطة وكل مقوّمات مشروع الدولة المستقلّة، من مراكز شرطة وخدمات ومؤسّسات وموارد في حين كان شارون يحظى بتغطية أميركية وأوروبية شاملة في ظلّ الحرب العالمية الثالثة ضد "الإرهاب".

-تغيير الخارطة السياسية- الحزبية بحيث بات اليمين هو أقصى اليمين واليسار وسطًا والوسط يمينًا.

وهذا المشهد المتغيّر والمتقلّب، إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على سوء النوايا الإسرائيلية فيما يتعلّق بالاعتراف بحقوق الفلسطينيين خاصة، والعرب عامة، ومن شأنه أيضًا أن يؤكّد على الحقائق والثوابت التالية:

-ٳسرائيل هي دولة احتلال وتوسّع على حساب الشعوب والدول المحيطة بها، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي لا دستور لها ولا خارطة سياسية جغرافية لحدودها النهائية. ولو سلّمنا جدلًا بأن قرار التقسيم الرقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 قد أعطى هذا الكيان الصّفة الشرعية الدولية (علمًا بأن القانون الدّولي لا يجيز للانتداب سلب شعب من الشعوب حقوقه ومنحها هبة مجانية لشعب آخر لا يستحقها أصلًا) فإن إسرائيل تبقي على احتلالها وتوسّعها في الضفة الغربية والجولان ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا وتنتهك يوميًا حرمة السيادة المفترض توفّرها وضمانها للأرض والإنسان في هذه المناطق.

-إن إسرائيل هي التي انقلبت على أسس التسوية على الرغم من عدم ٳنصافها للفلسطينيين، وهي التي تقتل وتعتدي وتنتهك على مدار الساعة مبادىء الشرعية الدولية وحقوق الإنسان. بل وإن قادتها وكبار رجال الدين فيها يأمرون برفض الاستجابة لأي شكل من أشكال التسوية ويصدرون الفتاوى بعدم تفكيك المستوطنات وعدم الاستجابة لأوامر الجيش في هذا الخصوص.

 

ب- سقوط اليسار الإسرائيلي: إن انزياح الأغلبية الساحقة من المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، أدى إلى سقوط اليسار الذي كان يتمثل بنوع خاص في حزب العمل وحزب ميرتس سقوطاً مدويًا. وقد كتب الدكتور ليف غرينبرغ, المحاضر في قسم العلوم الإجتماعية في جامعة بئر السبع, عن هذا الموضوع يقول: "الربط بين كلمتي يسار وسلام كاذب ومموّه جداً. ان كلمة يسار ليست مفهوماً سياسياً بل هي تعبير ثقافي عن مجموعة الأشكناز العلمانيين. . . وتحت عنوان (مسيرة السلام) تعطى شرعية كبيرة جداً لسلب وإهانة الفلسطينيين.

ان هذا السلام الوهمي هو الذي مكّن من مضاعفة سكان المستوطنات، وبناء المواقع الإستيطانية، وبتر الأرض، بواسطة الشوارع الإلتفافية والحواجز. والآن كل هذا يتحقق من خلال الجدار والإنفصال عن غزة مع تجاهل مسار الجدار ومستقبل الضفة الغربية. . . إن ما دفعني إلى الكتابة هو الإعتراف بأن هذا النظام سلب وأذّل بل وأيضاً قتل, ليس البشر وحدهم, بل وأيضاً الهوية الجماعية للفلسطينيين وآمال المستقبل المشترك لليهود والعرب على قطعة الأرض نفسها. . . تلك الآمال التي ولدت مع اتفاق أوسلو والتي مكّنت من تخيّل إقامة دولة فلسطينية في حدود عام 1967"([2]).

أما البروفسور ايلان بابيه الكاتب والمؤرخ المعروف من جامعة حيفا فاعتبر أن اسرائيل الشارونية تعيش حالة اجماع وتبن لموقف واحد هو موقف اليمين وقال: "الكل يمين اليوم. لايوجد يسار إسرائيلي. نحن نحيا في بلاد لا يسار فيها. وهذا يعني بالضرورة وجود خطر على الشعب الواقع تحت احتلال هذه الدولة. خذ على سبيل المثال الجزائر. فقد كانت هناك قوة كبيرة داخل فرنسا نادت بإنهاء إحتلال الفرنسيين للجزائر ولكن من الصعب أن تجد هذا في إسرائيل"([3]) وحتى لو افترضنا وجود يسار في أيام رابين وبيريس في مطلع التسعينيات, فإن ذاك اليسار بحسب رأي بابيه كان بمثابة "يسار دي لوكس يتبنى موقفاً سياسياً يحتّم على الفلسطينيين تقبل الخيار الإسرائيلي للسلام. وآمن ذلك اليسار بأن الفلسطينيين لن ينالوا سوى ما يريد الإسرائيليون منحه لهم. وهذا ما تمت ترجمته مع وصول ايهود باراك إلى السلطة عام 1999. . . الذي لم يعترف بقضية اللآجئين ولا بحق العودة ولا حتى بحصول النكبة عام 1948"([4]).

 

ج- شارون يكمل طريق باراك: لقد تمت تسمية حزب العمل في ظل ولاية رابين وبيريس وباراك بأنه الليكود رقم 2. وهذا يعني انعدام وجود أية فروقات حقيقية تذكر بين الطروحات السياسية والإيديولوجية للحزبين. وفي هذا الخصوص يقول البروفسورايلان بابيه: "لقد آمن اليسار بمنح الفلسطينيين دولة من دون حدود ومن دون سلاح ومن دون جيش ولا قوات أمن يعني دولة من دون دولة. وهذا ما تمّ عرضه في صيف 2000 في كامب ديفيد. وقد وافق الفلسطينييون على ذلك مشترطين ان يكون هذا الحل بداية الإتفاق وليس الحل النهائي. ولكن كلينتون وباراك قالا لعرفات بطريقة غير مباشرة: إما ان تقبل بهذا الحل وإما أن لا تكون هناك دولة فلسطينية وسنضعك في موضع الرجل الإرهابي"([5]). وبتعبير آخر قيل للرئيس عرفات إنك أمام معادلة تناقصيّة مستمرة فإذا عرض عليك عام 1947 مانسبته 50% من الارض ورفضت، فإنه سيعرض عليك بعد عشرين عاماً ما نسبته 18% وإذا تأخرت أكثر ستتضاءل النسبة أكثر فأكثر.

ويشرح بابيه ظروف وخلفيات هذا التفكير بالقول إن الصهيونية لاتتفق مع اليسار ولا مع الحلول الوسط "لأن كونك صهيونياً يعني أنك لاتستطيع ان تقترح أي شيء على الفلسطينيين. لأن الصهيونية تقوم على أساس أن الأرض بأكملها لليهود . . . وللأسف أقول إنه طالما استمرت الصهيونية في اسرائيل, طالما فقدنا الطريق نحو السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين". من هنا كان لابد من البحث عن صهيونية جديدة ومتجددة مع القائد التاريخي آرييل شارون. فالليكود بزعامة شارون مؤخراً مثّل الوسط، بينما كان يمثّل في الماضي اليمين المتطرف، اما اليمين التقليدي فقد مثّله حزب العمل. واليوم انقسم الليكود الى قسمين : قسم بقي مع اليمين المتطرف والقسم الآخر ذهب مع شارون عندما أسس حزبه الجديد "كديما".

 وما من شك في أن أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 في الولايات المتحدة كان لها أثر بالغ في توجهات شارون السياسية, حيث وجدناه يقتنص الفرصة ويركب خشبة الخلاص من ورطة انتفاضة الأقصى ومن لوثة تاريخه الدّموي في مجزرة صبرا وشاتيلا والفرقة 101 ليتحول إلى شارون المحارب الأول ل"لإرهاب"!!

باختصار يمكن القول إن شارون مرّ بهذه التحولات المهمّة، من نفي وجود الفلسطينيين وإنكار أي حق سياسي لهم، إلى الاعتراف بوجودهم وحقهم في دولة (بغض النظر عن مداها السياسي والجغرافي)، بدافع من عوامل عديدة، لعل أهمها:

ـ وصوله إلى قناعة مفادها أن اسرائيل وصلت إلى حائط مسدود في صراعها الدامي مع الفلسطينيين. فهي تستطيع أن تقتل وأن تحاصر وأن تدمر ولكنها، مع كل ذلك، لا تنجح في إخضاع الفلسطينيين أو في كسر إرادتهم.

- تصاعد المخاوف بين الاسرائيليين من مخاطر الوضع الراهن، القائم على تعزيز الاستيطان وتقويض السلطة الفلسطينية، على أساس أن هذه المسارات تشكل انقطاعاً مع عملية التسوية القائمة على دولتين لشعبين، وتضع إسرائيل أمام أحد خيارين: إما التخلي عن كونها دولة ديموقراطية والتحول إلى دولة عنصرية، بكل معنى الكلمة، للحفاظ على كونها دولة لليهود، وإما الحفاظ على كونها دولة ديموقراطية لسكانها بالتحول إلى دولة ثنائية القومية، الأمر الذي يقوّض طابعها كدولة يهودية؛ وكلا هذين الخيارين لا يتوافقان مع فرضية إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية، تشكل نقطة إجماع لدى الاسرائيليين.

- على الصعيد الخارجي باتت إسرائيل تواجه تحديات كبيرة من نوعها، إذ باتت بمثابة دولة مكروهة وخارجة عن القانون الدولي، أكثر من أي وقت مضى، بسبب معاملتها الوحشية للفلسطينيين ورفضها الاستجابة لقرارات مجلس الأمن الدولي، القاضية بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 ووقف الاستيطان ووقف بناء الجدار الفاصل. وهكذا بات الرأي العام الأوروبي يعتبر اسرائيل أكثر دولة تهدد السلام العالمي، وباتت الحكومات الأوروبية أكثر تعاطفا مع قضية الفلسطينيين.

أما الولايات المتحدة،  وعلى الرغم من  كل الدعم الذي تغدقه على اسرائيل، فانها باتت تبدو محرجة من الاستمرار بتغطيتها، لان هذه الاخيرة تحولت الى عبء ضاغط يثقل على سياستها الإقليمية والدولية، ويطعن بصدقيّة الشعارات الإصلاحية التي تطرحها من اجل تغيير الأوضاع في المنطقة العربية.

   وخلاصة الأمر أن اسرائيل في وضعها الراهن تحولت لدى الرأي العام العالمي(59% من الرأي العام الاوروبي)، الى ما يشبه دولة استعمارية وعنصرية تسعى إلى فرض سيطرتها على شعب آخر بالقوة العسكرية الغاشمة وبوسائل مثل جدار الفصل العنصري، الذي يذكّر العالم بجدار برلين وبنظام «الأبارتهايد» البائد في جنوب أفريقيا. وبالاضافة الى كل ذلك لم تعد اسرائيل تحتكر صورة الضحية، الأثيرة لديها، والتي كانت تبتزّ بها العالم، لا سيما أنها باتت تظهر على صورة دولة متجبّرة تستخدم الطائرات والدبابات والجنود المدجّجين بالسلاح لقهر الفلسطينيين العزّل والضعفاء، والتنكيل بهم يومياً.

على خلفية هذه التطورات إذن، حصلت التحوّلات السياسية (ولو المحدودة) لدى شارون، والتي بلغت ذروتها باعترافه أنه لا يمكن لاسرائيل أن تتحمّل الاحتلال، لأنه مضر لها ولاقتصادها ولأمنها، وأنه لا يمكن الاستمرار في السيطرة على 3.5 ملايين فلسطيني؛ وهذا ما فتح الباب امامه لاتخاذ خطوات أحادية الجانب في عملية التسوية مع الفلسطينيين.

في هذا السياق يقول بابيه: "شارون ونتنياهو يملكان الخطة نفسها تقريباً. ولكن شارون يفهم ما لا يفهمه نتنياهو. شارون يفهم ان عليه التفوّه بتعابير مثل (نهاية الإحتلال) و (دولة فلسطينية مستقلة) ولكنه في المقابل لايلتزم بأية قرارات ولا بأية كلمة يقولها, ويفصل بين هذه اللغة وبين الواقع فصلاً تاماً. أما نتنياهو فهو على العكس تماماً لأنه يعتقد بأن على العالم أن يفهم أن إسرائيل لاتحتل أحداً ولا تستوطن أراض ليست لها, مما يسقط شرعيته أمام العالم. شارون يختلف عن نتنياهو وغيره أيضاً, ويدرك انه إذا قال هذه الكلمات الساحرة, سيستقطب العالم من حوله ويتفادى الضغوط الخارجية. وإذا لم يتعاون معه الفلسطينيون فهم المذنبون".

ويضيف بابيه شارحاً تكتيتكات شارون بقوله: "لقد نجح شارون بجلب الأمريكيين والأمم المتحدة وأوروبا وروسيا، الذين يلعبون الأدوار الرئيسة والمركزية في مسيرة السلام في الشرق الأوسط إلى جانبه. كلهم يتحدثون اليوم بلغة شارون ويقترحون ما يقترحه. وعندما يتحدثون عن دولة فإنهم يتحدثون عن غزة فقط. وعندما يتحدثون عن سلام فهذا يعني أن الفلسطينيين سينحنون امام الإسرائيليين. . نتنياهو إنسان سياسي من دون ايديولوجيا وشارون ايديولوجي مع أسس وإستراتيجيات خطيرة"([6]).

 

د- تهميش السلطة الفلسطينية ورئيسها: لقد كان من الواضح تماماً أن شارون منذ أن تسلّم السلطة عام 2001 لم يرغب اطلاقاً في احترام أي اتفاق مع رئيس السلطة الفلسطينية، وفي مقدمة هذه الإتفاقات إتفاق أوسلو. وكان من الواضح أيضاً أنه يريد إلغاء كل ما حققه سلفه اسحق رابين, ليبني مكانه واقعاً جديداً على الأرض تحت اسم خارطة شارون. وعلى الرغم من أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان وراء كل التنازلات التاريخية أمام الإسرائيليين منذ القبول بمبادرة قمة فاس عام 1982 وتوقيع اتفاقية الخروج من بيروت مع فيليب حبيب ومروراً بأوسلو عام 1993 التي كانت ترمي إلى وأد انتفاضة الحجارة (1987-1993) ووصولاً إلى إلغاء النقاط الأساسية في الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنص على رفض الإعتراف بإسرائيل وعلى حق الشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين من البحر إلى النهر, والتي إستحق على أثرها الحصول على جائزة نوبل للسلام مع كاسر عظام الأطفال اسحق رابين، وهذا كله فقط من أجل الحصول على تسوية، كان من المفترض أن تمكّن الفلسطينيين من الحصول على دولة ذات سيادة على 22% المتبقية من أرض فلسطين؛ الا ان آرييل شارون مع ذلك اعتبره بمثابة الإرهابي الأول وأنه "بن لادنّا" في دغدغة لمشاعر الأميركيين المكتوين بنار بن لادن في واشنطن ونيويورك, وذلك في مسار ممنهج ومخطط له للتحرر من أية ارتباطات أو قيود سابقة أو لاحقة لأوسلو مثل خارطة الطريق المضمونة من قبل اللجنة الرباعية التي تضم أعلى مرجعيات سياسية في العالم, أو مثل بيان القمة العربية المنعقدة في بيروت عام2002 والتي على أثرها شن شارون أعنف عملية تصفية وتدمير لقيادات وهيكليات الشعب الفلسطيني السياسية والإجتماعية والإقتصادية تحت إسم "السور الواقي"  وذلك انسجاماً مع مقولة العلامة آرنولد توينبي: "إن إسرائيل تعيش في الحروب ولكنها تذبل في السلام".

لقد اعتبرت الإدارة الأميركية برئاسة الرئيس جورج دبليو بوش العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني بأنه "دفاع عن النفس" واعتبرت الإنتفاضة عملاً إرهابياً وبذلك وفّرت الفرصة والتغطية المناسبتين لشارون, وأفلتت له الحبل على الغارب للإنتقام من الإنتفاضة وقادتها التي استعصت عليه، ومن ثم القيام بكل ما يخطر بباله من حيث تدمير البنى التحتية للسلطة الفلسطينية وارتكاب أبشع المجازر وعمليات الإبادة الجماعية في مختلف أرجاء الأراضي المحتلة عام 1967 في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة ولا سيما في مخيم جنين, بهدف زرع الهزيمة عميقاً في الوعي الفلسطيني.

وبعد كل هذه الجرائم أجاز شارون لنفسه أن يعتلي أعلى منبر في العالم في الأمم المتحدة بتاريخ 15|9|2005 وأن يلقي خطاباً باللغة العبرية وبحضور رؤساء وأمراء الدول المختلفة، محاولاً من خلاله التنكّر بثوب السلام متجاهلاً الحقائق الميدانية والتاريخية الدموية اللصيقة بشخصيته طارحاً أضاليله بالقول: "جئتكم إلى هنا من القدس, عاصمة الشعب اليهودي لأكثر من ثلاثة آلاف عام, وعاصمة دولة إسرائيل إلى أبد الآبدين" ثم تحدث عن سيرته الذاتية بفخر قائلاً: "ولدت في أرض إسرائيل ابناً لمزارعين وفلاحين, لم يسعوا للخصام ولم يأتوا من اجل إغتصاب الأرض من سكانها, ولو لم تجبرني الظروف لما صرت جندّياً ولكنت فلاحاً ومزارعاً. . . أنا الذي قادني مسار حياتي لأن أكون مقاتلاً, رائداً وقائداً في كل حروب إسرائيل. أمدّ يدي إلى جيراننا الفلسطينيين, في نداء من أجل المصالحة والتسوية ووضع حدّ للدّماء, ومن اجل أن نصعد سويّاً على مسار السّلام والتفاهم. . . إنني أرى في ذلك رسالتي ومهمتي الأساسية في السنوات المقبلة"([7]) وقد تناسى شارون أن يذكر أنّه ابن عائلة أوكرانية تبعد بلادها آلاف الكيلومترات عن فلسطين في حين لم ينس ألمه على ما يقدّمه للفلسطينيين: "إنني أشعر بالألم من أعماق قلبي للإقرار بأن علينا تقديم تنازلات من أجل تحقيق السلام بيننا وبين الفلسطينيين . . . فأرض إسرائيل غالية عندي, غالية علينا, نحن اليهود, اكثر من أي شيء آخر, والتنازل عن أي جزء من أرض أجدادنا يمزّق قلوبنا, وهو أقسى من شق البحر, فكل بقعة أرض, كل تلة وواد, كلّ صخرة وجبل, مشبع بالتاريخ اليهودي. وهو مخزن ذكريات. والوجود اليهودي في أرض إسرائيل لم ينقطع أبداً, بل إن أولئك الذين تشتتوا في العالم, رغماً عنهم, بقيت أرواحهم على مدى الأجيال مربوطة بينابيعنا بآلاف الروابط الخفية. . . وفي قلب قلبها القدس الموحّدة مدينة الأقداس على جبل موريا, ومحور حياة الشعب اليهودي في أجياله وموضع حنينه وصلواته منذ ثلاثة آلاف عام". وعلى هذا الأساس رأى شارون أنه يتوجب على الفلسطينيين في مقابل دموع التماسيح هذه التي يذرفها، أن يثبتوا رغبتهم في السلام من خلال الرضوخ لإملاءاته, بل إن على العالمين العربي والإسلامي أن يطبّعا العلاقات مع "دولة إسرائيل" بعد انسحاب جيشها من غزة، وياللسخرية: "التزاماً بحل النزاعات بالطرق السلمية ووفق مبادىء الديموقراطية" على حدّ زعمه!!.

 

هـ- تمييع وتحريف خارطة الطريق: لقد كان الهدف الأساسي المعلن من خارطة الطريق في نصّها الحرفي المعدّل بتاريخ 14|11|2002 هو الوصول إلى تسوية نهائية للصراع الفلسطيني في العام 2005, حسبما جاء في خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن في 24|6|2002 والذي تمّ التّرحيب به من قبل الإتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة في البيانات الوزارية  للجنة الوزارية. والمفترض بهذه التسوية أن ينبثق عنها دولة فلسطينية تنهي الصراع وتضع حدّاً للإحتلال الذي بدأ عام 1967 على أساس مرجعية مؤتمر مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام وقرارات مجلس الأمن رقم 242و338و1397 وسائر الإتفاقات المبرمة بين الأطراف. وحدّدت الخطة جدولاً للتنفيذ لا مجال هنا للدخول في تفاصيله. إلا أن شارون والتيار الذي يمثّل كانا بمثابة الطرف الأكثر رفضاً لهذه الخارطة، الأمر الذي تجلّى في اعتراضاته وتحفظاته الأربعة عشر. ومن أجل إحتواء هذه الخارطة وتعطيلها وتمييعها لجأ إلى المزايدة عليها، صانعاً من نفسه رجل سلام استثنائياً, فبادر للهروب ألى الأمام من خلال طرح وفرض خطة فك الإرتباط من طرف واحد ليصل إلى غايته. وزيادة في التضليل ربط تنفيذها بخطة خارطة الطريق مؤكداً أنه سيلجأ إلى وضعها موضع التنفيذ العملي إذا لم يف الفلسطينييون بالتزاماتهم الكاملة تجاه خارطة الطريق. علماً بأن شارون نفسه قال عام 2001 أي بعد مضي ثمانية أعوام على اتفاق أوسلو أنه يرى أن الفلسطينيين جميعاً هم ارهابيون لا يستثني منهم أحداً. وقد ظل بمثابة الراعي والمنفذ الأساسي لعمليات الإستيطان اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة من دون أية تفرقة بين المنطقتين. وبقي شارون يدافع عن الضرورة الماسّة لمثل هكذا إستيطان حتى بعد أوسلو. وقد أجرت صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 16|4|2003 مقابلة موسّعة معه كرئيس للوزراء بعد قيام حكومة أبي مازن. وقرأ مندوب الصحيفة على مسامعه مقطعاً من رسالة مفتوحة وجهها المؤرخ الإسرائيلي الشهير يعقوب تالمون قبل 23 سنة, إلى رئيس الحكومة آنذاك مناحيم بيغن, يحذّره فيها من سياسة الإستيطان مؤكّداً أنه "بالنسبة لكل عربي, تعتبر كل مستوطنة بمثابة خطوة أخرى في عمليات السلب والاحتلال الزاحف" ورد شارون على ذلك بقوله: "بالنسبة إلى المستوطنات, فقد كان البروفسور تالمون مؤرخاً كبيراً, لكنني لا أريد تقييم مفاهيمه الإستراتيجية, فالعمق الإستراتيجي يعتبر مسألة ذات أهمية في كل مكان".

وعلى ضوء هذا الفكر يمكننا أن نفهم الخفايا الإستراتيجية المبيّتة وراء إخلاء مستوطنات غزة لتكريس الإستيطان في الضفة الغربية واستقطاع الجزء الأكبر من أراضيها, واحتوائها ضمن ما سمّي "الجدار الأمني" أي جدار الفصل والعزل العنصري. ومن أبرز هذه الخفايا ما يلي:

  1. تحلّل إسرائيل من جميع وعودها وعهودها السابقة بشأن التسوية في المنطقة.
  2. جعل المبادرة السياسية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومسألة حلها بيد الحكومات الإسرائيلية المقبلة لوحدها.
  3. القبول بالإحتفاظ بالمكتسبات التي توفرها خارطة الطريق لصالح إسرائيل فقط ورفض ما سواها. ومن هذه المكتسبات وقف المقاومة ونزع سلاحها والتعاون والتنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الفلسطينية لصالح أمن الإستيطان الصهيوني.
  4. إعطاء جرعة مخدّرة للمجتمع الدّولي من خلال إظهار إسرائيل بمظهر صاحبة المبادرة إلى السلام بواسطة هذه الخطة التي تعطي إسرائيل ولا تأخذ منها, وتبقي لها صورة الدّولة الديموقراطية المرنة النابذة للإرهاب! !
  5. المحافظة على التأييد والدّعم الأميركيين للتوسع الإستيطاني في الضفة الغربية. من خلال تغطية بناء السور العازل، مقابل ترك قطاع غزة يغرق في الهموم الأمنية والديموغرافية مع محاصرته براً وبحراً وجواً على غرار سجن كبير([8]).
  6. كسب المزيد من الوقت لاستكمال جدار الفصل العنصري الذي يفرض حلاً من جانب واحد على غرار ما حصل في غزة ويحوّل الضفّة الغربية إلى بانتستونات معزولة وغير قابلة للحياة.
  7. ايجاد شرخ في صفوف المجتمع الفلسطيني من خلال الفصل الحاد بين مكوّنات قضيته الواحدة ما بين الضفة والقطاع والتمهيد لتهيئة كل أسباب الصراعات الداخلية والحروب الأهلية بين مختلف ألوان وانتماءات هذه الصفوف.
  8.  

ثانياً- خطة الفصل الأحادي وأهدافها الإستراتيجية.

-مقدمات الخطّة ومبرّراتها: عند النظر إلى البيئة السياسية التي انبثقت عنها خطة الإنفصال من طرف واحد عن قطاع غزة, يمكن ملاحظة ثلاثة مجالات أساسية لهذه الخطة: المجال الدّولي والمجال الإسرائيلي والمجال الفلسطيني. فدولياً رفض شارون بأسلوب المناورة والخداع خطة خارطة الطريق الأميركية- الدولية عندما فرض عليها تعديلاته الأربعة عشر, وكذلك عندما تبنى تطبيق بنود الخارطة بالتتابع وليس بالتوازي مما أفرغها من مضمونها وجعله يظهر بمظهر المعطّل الفاقد لأي توجه سياسي. ومن هنا كان لا بد له من تقديم بديل لتلافي الجمود وخفض هذه التوترات الأمنية مع الفلسطينيين لعدم ازعاج الأميركيين أكثر مما هم مزعوجون ومحرجون في العراق مما يؤثر سلباً على شعبية الرئيس بوش صديق شارون الحميم. كذلك كان لابد لشارون من تقديم أوراق سياسية للأوروبيين الذين انخفض مستوى التأييد لإسرائيل عند شعوبهم إلى أدنى مستوى حيث اعتبرها 59% منهم أنها تمثّل خطراً أساسياً على السلم والأمن الدّوليين في استطلاع للرأي أجري لهذا الغرض.

أما على الصعيد الإسرائيلي فهناك عدّة أسباب جعلت شارون يطلق خطته ويصرّ على تطبيقها بالرغم من عدم مصادقة حزبه عليها (62% من أعضاء الليكود صوّتوا ضد الخطة و38% صوّتوا لصالحها) ويمكن تصنيف هذه الأسباب لثلاث مجموعات([9]):

أ-الأسباب الأيديولوجية: فغزة لا تشكل بعداً أيديولوجياً بالنسبة لإسرائيل. حتى أن طبيعة المستوطنين الذين يقطنون مستوطنات غزة لم تتبلور لديهم بعد العقيدة الأيديولوجية في استيطان القطاع وذلك لقلة عددهم (7500مستوطن) وسعة انتشارهم (22 مستوطنة). كما انه لا توجد في غزة أية مزاعم تدعي الحركة الصهيونية انها تشكل جزءاً من العقيدة الايديولوجية الخاصة بها، اضافة الى ذلك فهناك بعد اخر في الايديولوجية الصهيونية المعاصرة وهو ما أطلق عليه في مؤتمر هرتسليا (القنبلة الديموغرافية). فالإنسحاب من غزة يفقد إسرائيل 1% من الأراضي المحتلة فقط ونصف السكان الفلسطينيين (مليون وثلاثمائة ألف نسمة)([10])وهذا ما اعتبرته أوساط إسرائيلية عديدة انتصاراً لها في حل مشكلة الميزان الديموغرافي على الرغم من أن بعض المتدينين يعتبرون أن المشكلة الديموغرافية تكمن في عرب 1948 وليس في فلسطينيي غزة([11]).

ب- الأسباب السياسية: وأهم هذه الأسباب يكمن في التغيير الحاصل في بنية الثقافة السياسية والحزبية الإسرائيلية وتنوعها. فالأحزاب حالياً بحسب تعبير الباحث عدنان عودة تنقسم إلى قسمين أساسيين: الأيديولوجيون, وأوضح من يعبر عنهم هم القوميون المتدينون، والبراغماتيون الذين ينقسمون إلى متطرفين (ومنهم شارون) ووسط ويسار([12]).

 وفي هذا السياق تأتي خطة شارون في إطار سياسي يتماشى وهذا الإنقسام بل إن عملية الإنسحاب من غزة تكاد تكون مصدر إجماع لدى أطياف الوسط الحزبي والسياسي في إسرائيل كما أن خطة الفصل تأتي في إطار حصار حزب العمل, في حين أنها استوعبت بطريقة ليكوديّة، وتحوّل حزب العمل إلى مجرد تابع لا خيار أمامه سوى التصديق عليها أو يفقد شرعية وجوده السياسي, وهذا ما أجبر هذا الحزب على الالتحاق بحكومة شارون.

وهناك سبب آخر لا يكاد يقل أهمية عن الأسباب الآنفة الذكر وهو أن شارون قد وعد الناخب الإسرائيلي بقضيتين أساسيتين:

 أولهما القضاء على الإنتفاضة خلال مئة يوم وهذا لم يتم، ويجب تقديم البديل عنه، والثانية هي أن الدولة الفلسطينية لن تشمل أكثر من 42% من مساحة الضفة الغربية والخطة تاتي منسجمة مع هذا الطرح.

أما فلسطينياً فقد أعلن شارون أنه لا يوجد هناك شريك فلسطيني بوسعه ان يقدم منذ انتهاء عمليات "السور الواقي" على تدمير البنية التحتية للكفاح المسلح الفلسطيني. بل على العكس حصل في هذا المجال تحوّل دراماتيكي تمثّل في التأييد الكاسح لحركة حماس سواء في الإنتخابات البلدية أو الإنتخابات التشريعية, مما ادى إلى تهميش السلطة ووضع القوى الإيديولوجية وجهاً لوجه مع مناورات شارون الأمر الذي لم تستطع كل الإستطلاعات الإستخباراتية حسبانه او التحسب له.

ج-الاسباب الموضوعية: لقد ورد في تقرير صادر عن مركز "إدفا"([13]), وهو مركز مستقل لدراسة المجتمع الإسرائيلي، ان ثمن الاحتلال الإسرائيلي خلال الفترة بين (1967-1987) كان متدنياً، إذ كان الميزان الإقتصادي للاحتلال ايجابياً من وجهة النظر الإسرائيلية, بحيث تحولت الاراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة والقطاع إلى ثاني أكبر مستورد للبضائع الإسرائيلية بعد الولايات المتحدة. ولكن مع انطلاق الإنتفاضة الأولى عام 1987 (ثورة الحجارة) ثمّ الثانيةعام 2000 (انتفاضة الأقصى)، تصاعد الثمن بصورة متفاقمة على جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية ناهيك عن عدد القتلى والجرحى, إذ تكبّدت إسرائيل بين عامي 1987-2004 أكثر من 1355 قتيلاًًُ و 6709 جرحى من العسكريين والمدنيين. وقد بلغت قيمة التعويضات المالية التي تدفعها مؤسسة الضمان الوطني الإسرائيلية للمدنيين الذين قتلوا أو جرحوا عام 2003 فقط، ما قيمته 80 مليون دولار. وبالنسبة للوضع الإقتصادي جاء في التقرير أن التراجع في النمو في الناتج القومي الإجمالي سجل هبوطاً من 8% عام 2000 إلى نمو سلبي بلغ -0,9% عام 2001 ثم إلى 0,7% عام 2002 كما تراوحت التقديرات حول خسائر الناتج القومي الإجمالي خلال الفترة بين 2002-2004 ما بين 7 إلى 9 مليارات دولار و 12 مليار دولار وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدّولي.

    كما تضمنت نتائج تقرير حكومي اسرائيلي أعدّته لجنة خبراء إسرائيليين برئاسة الرئيس السابق للجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست دان مريدور المتخصص في الشؤون الإستراتيجية, والرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الجنرال غيورا آيلاند, أن المقاربة التقليدية التي تعتبر أن الأراضي المحتلة عام 1967 تشكل عمقاً إستراتيجياً لدولة إسرائيل في وجه الجيوش النظامية العربية قد تمّ تخطيها. ونص التقرير على أن هذه المناطق قد فقدت معناها الأمني كجبهة إستراتيجية, تحمي دولة إسرائل الصغيرة الحجم لسببين: الأول هو تلاشي إحتمال نشوب حرب مباشرة تقليدية بين الجيوش النظامية كما كان يحصل في الماضي, والذي حلّ محلّه تعاظم تهديد الصواريخ البعيدة المدى وتعاظم تهديد ما يسمى "الإرهاب" العالمي ضد إسرائيل, والثاني هو إزدياد أهمية الأسرة الدّولية بشكل كبير وتعاظم قدرتها على فرض خطوات إجرائية على مختلف دول العالم, مما يعرض إسرائيل لضغوطات أكبر للتراجع نحو حدود عام 1967.

 

2-الخطة واستراتيجية إدارة الصراع: يمكن القول إن زيارة آرييل شارون إلى الولايات المتحدة في ربيع العام 2004 قد شكّلت بداية تحوّل استراتيجي في المواقف الأميركية والإسرائيلية، تمثلت في بداية الإستعداد للتخلص من التشابك والإشتباك مع الفلسطينيين وانتهاج خارطة عمل جديدة تتجاوز اعتبارات الشرعية الدّولية أو أية اتفاقات سابقة مع الفلسطينيين. ومما قاله شارون لدى توجهه للقاء صديقه بوش في واشنطن واطلاعه على خطته الجديدة: "أنا مضطر لهذه الخطة, وأقول ذلك بأسف شديد, لأنه لا يوجد في الطرف الآخر من يصلح لأن يكون شريكاً لي في مسيرة السلام. وبما أنه لم يكن ممكناً ابقاء الأمور جامدة, وبما أن المبادرات السياسية بدأت تتدفق علينا كالمطر فقد لجات إلى مبادرة إسرائيلية صرف تضع نصب عينيها مصالح إسرائيل وحسب"([14]).

وبهذا أكّد شارون أن المأزق الحقيقي للدّولة هو مأزق وجود وأرض، وهو في الوقت ذاته مازق نفسي خاص بشارون, يعود إلى تنشئته وتربيته وتاريخ عائلته من ناحية, ومن ناحية اخرى إلى طبيعة نشأة الكيان الصهيوني الممزوجة بعقدة الخوف النابع من عدم شرعية الحق في الأرض المسلوبة، إلا من مزاعم تاريخية توراتية لا أساس لها منطقياً أو قانونياً. ومما قاله إيهود اولمرت, رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي إثر دخول شارون حالة غيبوبة دماغية دائمة, في مقال له في صحيفة يديعوت أحرونوت بعنوان "شعب إسرائيل بدأ مرحلة العودة إلى بيته", في سياق محاولة تبريره لخطة الإنسحاب من غزة: "شعب إسرائيل بدأ الآن رحلة جديدة نحو بيته, بيتنا الحقيقي وغزة ليست جزءاً منه". ويضيف في المقال نفسه قائلاً: "الحسم الذي توصل إليه شارون هو حسمنا الذي نرغب فيه جميعاً". بينما يقول ناحوم برنياع في تقرير له حول زيارة شارون لواشنطن بعنوان "شارون يعود منتصراً": "إن خطة فك الإرتباط ولدت في رحم الضائقة الإسرائيلية الداخلية". وهذا كاف للتعبير عن عمق المأزق الذي شعر به قادة الكيان العبري إزاء استمرارالمواجهة الدّامية مع فصائل المقاومة الفلسطينية من دون امكانية الوصول إلى حسم استراتيجي عسكري, على الرغم من كل الإمكانيات المتوفرة لوجستياً ودبلوماسياً. ولم يجد شارون أمامه من وسيلة لحفظ ماء وجهه في هذا المجال سوى إلقاء التبعة على الجانب الفلسطيني فكتب يقول: "هذا هو السبب الذي أوصلني إلى الإستنتاج بأن إسرائيل ملزمة بالمبادرة إلى خطة سياسية خاصة بها، خطة فك الإرتباط التي تحبط توجهات عرفات وشركائه في تركيع إسرائيل من خلال الجمع بين الإرهاب الداخلي والضغط السياسي الخارجي"!!

 ومن هنا فإن فشل شارون في غزة، مثلما فشل سابقاً في جنوب لبنان, هو واحد من أبرز المداخل المنطقية لتفسير انكساره "السلمي" وانحنائه البراغماتي أمام تضحيات وإصرار الشعب الفلسطيني على مواصلة النضال حتى تحقيق الحلم الوطني الشرعي والإنساني. وعلى الرغم من أي شيء فإن الخطة تنطوي على ألغام وأهداف خطيرة منها: إضفاء شرعيّة غير مسبوقة للاحتلال وممارساته في الضفة وحول القطاع في ظل ذريعة أن إسرائيل قدّمت أقصى ما تستطيع لمساعدة الفلسطينيين وتحسين ظروفهم لكنهم لا يتخلون عن "الإرهاب" وهم بالتالي يتحملون وزر استمرار معاناتهم. وهذا يعني أن إسرائيل دخلت ما يمكن تسميته "الإحتلال المشروع" الذي يسمح باستمرار احتلال أراضي أية دولة لأي شعب طالما أن ذلك يمكن أن يندرج تحت راية الحرب العالمية الثالثة ضد "الإرهاب" وحماية الديموقراطية. أي بتعبير آخر أنه لم تعد ثمة قضية احتلال في قاموس السياسة الدّولية الجديدة طالما أنه احتلال مرضي عنه من قبل الإدارة الأيديولوجية الأميركية, المتربعة على عرش القطبية الأحادية في العالم, بالرغم من احتجاجات بعض المرجعيات الدّولية في أوروبا وسواها([15]).

 

3-أهداف الخطة الإستراتيجية: في أعقاب لقاء القمة الذي جمع شارون وبوش في شهر نيسان 2004 خرج شارون متبختراً شامتاً بالفلسطينيين وهو يقول: "إنهم يقرأون ما حدث أفضل من الإسرائيليين, لقد قلت أننا سنوجه إليهم ضربة مميتة ولقد تلقوا بالفعل ضربة مميتة".

وفي السياق نفسه كتب المعلق آلوف بن في صحيفة هآرتس العبرية بتاريخ 13|1|2004 ان رئيس الحكومة شارون "مستعد لتخليد اتفاق مرحلي أحادي الجانب لسنوات طويلة قادمة في المناطق (الفلسطينية المحتلة) وسحب ما تبقى من مكانة الشريك السياسي من سلطة ياسر عرفات الفلسطينية ومن مجموعة أوسلو-تونس. ومن ناحية شارون فإنه يتوجب على الفلسطينيين أن ينسوا لفترة طويلة إقامة دولة مستقلة, من غالبية مناطق الضفة ومن القدس". وفي تبرير وتفسير لخطوات شارون أمام الرأي العام الإسرائيلي, قال: "يجب أن نتساءل هل نريد صد الأميركيين أعز أصدقاء إسرائيل في العالم . . . ومن الذي يرفض الضمان الشامل والجازم والتاريخي الأميركي".

هذا التكتيك الذي اتبعه شارون سهّل الطريق أمامه للتغلب على الكثير من الإعتراضات وفتح السبيل أمام نهجه الجديد المسمى "الشارونية" حتى لو مات شارون جسديّاً أو غاب نهائيّاً عن ساحة القرار السياسي الإسرائيلي, والذي من أبرز معالمه الإستراتيجية ما يلي:

-التأكد من استمرارية الحفاظ على ضمانات أميركية كافية وحرفيّة للإلتزام بالمطالب الإسرائيلية في أية تسوية محتملة مع الفلسطينيين. وهذا ما عبّر عنه شارون بالقول إثر لقائه الرئيس بوش: "ما فعله بوش يفوق كل التوقعات. أليس كذلك. . . كل التوقعات". وقصد بذلك الرضوخ التّام لمطلب إسرائيل بعودة الفلسطينيين إلى فلسطين وليس أبداًً إلى إسرائيل, وبأن الكتل الإستيطانية اليهودية الكبرى في الضفة الغربية ستبقى في مكانها، وبأن لا عودة إلى حدود عام 1967وبأن لامفاوضات مع الفلسطينيين إلا إذا غيّروا مشروعهم وقادتهم.

- التنكر لاية تعهدات سابقة من شأنها أن تلزم إسرائيل بالوفاء بالإتفاقات والتعهدات السابقة مع الفلسطينيين أو أيّة التزامات أمام المجتمع الدّولي بما فيها تلك التي تمثل الشرعيّة الدّولية.

-التخلص من التبعات الأمنية والاقتصادية المطلوبة للسيطرة على الفلسطينيين والقضاء على الانتفاضة، لا سيما أن حوالي 75% من "الإسرائيليين" باتوا يؤيدون هذا الانفصال، إن من خلال التسوية أو من دونها.

- تحسين سمعة "إسرائيل" على الصعيد الدولي، عبر الإدعاء بأن هذه الخطة هي جزء من "خارطة الطريق"، وذلك بعد الاحتجاج الدولي على الاغتيالات والمجازر التي مارستها "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني وقياداته.

- التحلل من الخطر الديموغرافي الناجم عن زيادة عدد الفلسطينيين قياساً بـالإسرائيليين، خاصة بعد تعذر تنفيذ خطط الترانسفير والتهجير بحق الفلسطينيين، والتي تعتبر بمثابة الحل الوحيد لتلافي تحوّل إسرائيل إلى دولة ذات أغلبية عربية او ثنائية القومية.

 - الالتفاف على الانتقادات الداخلية في إسرائيل، بعد إخفاق اليمين في تحقيق سياساته الداخلية والخارجية، وتراجع نسبة تأييد شارون إلى ما دون النصف، خاصة بعد تهم الفساد التي طالته وطالت ابناءه.

 - تجريد الفلسطينيين من أي غطاء دولي أو اتفاقات سابقة يمكن أن تشكل لهم طوق نجاة في اللحظات الحرجة من الصراع الداّمي بين الطرفين.

-تفكيك القضية الفلسطينية كقضية احتلال بإمتياز إلى جزئيات امنية أو معيشية أو إنمائية.

-اطلاق يد الاحتلال في حسم الحقائق على الأرض وفقاً لميزان قوى غير متكافىء والقول للعرب وللسلطة الفلسطينية معاً، إن إسرائيل هي الأقدر على فرض الحلول التي تراها مناسبة، أي بمعنى "إن لم تتجاوبوا معنا فإننا قادرون على فرض حلولنا الأمنية الأحادية الجانب". فالخطة طلبت من الجانب المصري أن يؤدي دور ملء الفراغ الحاصل أمنياً على قاعدة الاقرار بعجز السلطة الفلسطينية عن تأدية هذه المهمة بالشكل المطلوب الان وفي المستقبل.

-ادخال الفلسطينيين في حالة من الارباك والفوضى والصراعات الداخلية البينيّة.

-محاولة إخراج الدولة العبرية من عزلتها الاقليميّة والدّوليّة ومن توصيفها كدولة نابذة للسلام.

- التخلص من أية معاهدات او أوضاع من شأنها أن تلزم الإسرائيليين بإجراءات تساعد الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة والقابلة للبقاء.

-العمل على عزل المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها المقاومة الإسلامية والسعي إلى تفكيكها بذريعة دمغها ب "الإرهاب".

- فرض معادلة سياسية جديدة يتم فيها تهميش وتعطيل أي ثقل سياسي فلسطيني أو عربي أو حتّى دولي.

-رسم حدود الكيان المستقبليّة من جانب واحد وفق رؤية توسّعية جيوستراتيجية تحفظ مصالح الإستيطان وأمنه.

-توريط الولايات المتحدة بالتزامات وتعهدات وموجبات تجاه الأمن الصهيوني بحيث تكون رسمية ومكتوبة وتقيّد ايدي أية إدارة أميركيّة أخرى في المستقبل لجهة التعامل مع أي مشروع سياسي لمعالجة الصراع مع الفلسطينيين بحيث تظل المبادرة بيد القادة الإسرائيليين في رفض أو قبول أية مشاريع او تسويات في المستقبل.

- عزل قطاع غزة والسيطرة عليه ومحاصرته, مما يوفّر المجال امام خفض عدد القوات العسكرية المحيطة به، والحد بالتالي من النفقات والخسائر التي كان يتكبّدها الجيش الإسرائيلي من دون جدوى او منفعة لصالح أمن الإحتلال الإستراتيجي.

-الزام الفلسطينيين بدفع ثمن اقتصادي معيشي، يتفاقم كلما ازدادت فعالية مقاومتهم ضد الإحتلال.

-الإيحاء للإسرائيليين بأن هدف الخطة تحقيق الفصل مع الفلسطينيين من دون التخلي عما من شأنه أن يؤثّر على المشروع الصهيوني المفتوح في فلسطين، فالهدف أن نكون "نحن هنا وهم هناك".

-تعزيز الإستيطان اليهودي في الجليل والنقب والقدس الكبرى وبالتالي اعطاء دفع جديد لتعزيز قوة الصهيونية الشارونية المتجدّدة.

وفي مقابل هذه النقاط الاستراتيجية الواضحة رأى رئيس الاستخبارات الاسرائيلية الاسبق الجنرال شلومو غازيت "أن الهدف الاستراتيجي للسياسة الاسرائيلية الحالية هو النضال من اجل استخدام الجدار الامني كوسيلة لتحديد الحدود المستقبلية من طرف واحد، خاصة وان الجدار سوف يتحول من حاجز امني الى حاجز ديموغرافي-سياسي".([16]) واضاف ان التعبير العملي عن هذه السياسة سيكون من خلال استئناف تكثيف انشطة البناء في المستوطنات الموجودة حالياً بالاضافة الى التوسع الاستيطاني. والهدف من ذلك كله هو خلق امر واقع على الارض يضمن بقاء هذه المستوطنات في يد اسرائيل مدة طويلة كأراض ذات سيادة اسرائيلية، وتجاهل موضوع وجوب تخلّيها عن مساحات واسعة من المستوطنات. الا ان هذه السياسة تؤدي بحسب رأي غازيت الى تجدد العنف ، كما وتضع اسرائيل في وضع غير مستقر على المستوى الدولي وتعيدها الى الوضع الذي كانت عليه قبل عملية فك الارتباط. والخطة الاسرائيلية البديلة بحسب رأي غازيت فتكمن في الادراك بانه لايمكن الوصول الى ترتيبات نهائية قبل فصل الفلسطينيين عن الاسرائيليين، بحيث تضم اسرائيل اقل مساحة ممكنة من الاراضي الفلسطينية ويكون هناك طرح واقعي لمسألة الحدود وتأمين تضاريس متصلة تسمح للفلسطينيين ببناء دولة قابلة للحياة.  

 

ثالثاً_ إسرائيل المتمدّدة في مداها الحيوي:

1-مدخل: لقد تبين لنا في الفقرة السابقة أن خطة الفصل التي فرضها آرييل شارون على الإسرائيليين والفلسطينيين والمجتمع الدّولي كتغطية للهروب من استحقاقات الحل الدّولي المتمثل في خارطة الطريق الرباعية, إنما جاءت لتفرض أمراً واقعاً جديداً من حيث تمدّد إسرائيل في مداها الحيوي وذلك من خلال حماية الإستيطان الكبير في الضفة الغربية عموماً والقدس خصوصاً, وفي ظل الإستفادة من الفرصة التاريخية التي وفرها له وعد بوش المشار إليه آنفاً لحماية الخيارات الأمنية الاستراتيجية المتعلقة بحماية وصيانة الأمن القومي الاسرائيلي على المديين المتوسط والبعيد.

وهذا التمدّد إنما يأتي كنتيجة حتمية لاستراتيجية شارون التي استحوذت على نسبة عالية من الاجماع الداخلي, والقاضية باسقاط المفهوم القائل إن السلام يمكن أن يوفّر بدائل عن الترتيبات الأمنية – الجيوستراتيجية المتينة والكافية, التي اعتبرت بالتالي على انها هي وحدها القادرة على أن تعزز التسويات السلمية. وهذا المنحى إنما ياتي كإحياء لنظرية وزير الدفاع الإسرائيلي الراحل الجنرال موشيه ديّان الأساسية التي قال فيها أن شرم الشيخ من دون سلام هو أفضل من سلام من دون شرم الشيخ, بالرغم من تراجعه عنها فيما بعد. والتفسير لهذا المنحى يكمن في الفهم الاسرائيلي للعلاقة الجدلية بين السلام والأمن, حيث يرى شارون ومؤيدوه، مثل شمعون بيريس, ان السلام هو حالة عقلية تتطلع إلى مستقبل آمن ومستقر, في حين أن الأمن هو حالة واقعية ميدانية تتعاطى مع مشاكل ثابتة ومخاوف كانت وما تزال حاضرة في الوعي الجمعي الإسرائيلي. من اجل هذا حسم المجتمع الإسرائيلي اولوياته الى جانب توفير الامن الشخصي (الجدار) وخيار الطبيعة اليهودية للدولة (الانسحاب من طرف واحد) ونحّا جانباً مسألة إنهاء الصراع، التي تسدعي من الفلسطينيين التخلي عن حق العودة والاعتراف ب"حق شرعي تاريخي وديني لليهود في جبل الهيكل" اي المسجد الاقصى وهي امور تبدو للاسرائيليين مستحيلة التحقق في الوقت الحاضر.  

 

2-حدود التوسع ومبرراته إسرائيلياً: إن الحل القائم على تصوّر دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل, هو تصور إستراتيجي أميركي، لقي القبول والتبني من قبل اليمين واليسار الإسرائيليين, وعليه بالتالي أن يستجيب لمتطلبات الأمن القومي الإسرائيلي والتحديات الفريدة من نوعها التي يمكن أن ينتجها بمختلف أبعاده السياسية والاقتصادية والجغرافية والنفسية والثقافية وليس العسكرية فقط. وبالتالي فموضوع مقاومة الشعب الفلسطيني المسماة " بالإرهاب" لابد أن تدخل في هذه المعادلة الاستراتيجية المفروضة لجهة محاصرتها وكبحها وخنق الإرادة الوطنية الكامنة فيها. وانطلاقاً من هذه المعطيات جاء التمدّد الاسرائيلي الاقليمي ليطلق الشرارت الاولى لتحدّيات وارهاصات يمكن ان تضع دول المنطقة برمتها على كف عفريت. وأما تفاصيل هذا التمدّد فيمكن أن نلاحظها ضمن الحدود التالية([17]).

-بقاء قطاع بعرض 16-20 كلم في غور الأردن, من النهر وحتى شارع آلون تحت السيطرة الاسرائيلية .

-بقاء قطاع بعرض نحو 10 كلم  من صحراء الضفة القليلة المساحة أصلاً (أي الطريق الذي يربط القدس بأريحا عبر نهر الأردن) تحت السيطرة الإسرائيلية.

-بقاء قطاع أضيق على طول الخط الأخضر من الغرب يبلغ 7,5 كلم. وهذا ما جسّده عملياً جدار الفصل والقضم الذي أقامته إسرائيل بحجة حماية الإسرائيليين وتعزيز أمنهم.

 

وبصورة تفصيلية أكثر نجد ان خطة شارون سينتج عنها ما يلي:

أ-إقامة أربع كتل فلسطينية في الضفة الغربية مشتتة شمالاً ووسطاً وجنوباً, ترتبط بممرات ضيقة تبقى تحت الرحمة الأمنية الإسرائيلية مع بعضها البعض ومع قطاع غزة باستثناء القدس.

ب- بقاء المستوطنات المعزولة في عمق الأراضي الفلسطينية بغرض المساومة عليها, خاصة في قضايا حساسة ومصيرية للشعب الفلسطيني مثل اللاجئين والقدس والحدود والمياه.

ج- تقليص العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية إلى الحد الأدنى, بهدف ارغام الفلسطينيين على البحث عن حلول أخرى في الرزق والعلاقة مع الآخر التي تتيح فرص التطور من خلال الهجرة إلى دول الجوار وتفعيل الهجرة الإختيارية.

 

وبالنسبة للجدار, تؤكد استمرارية البناء فيه على أن شارون يريد تحقيق الاهداف الميدانية التالية:([18])

- شمول حوالي 53 ألف مستوطن يعيشون في 19 مستوطنة في غرب الجدار وضمهم إلى إسرائيل.

- الحاق الضرر بنحو 150 قرية فلسطينية يسكنها نحو 697 ألف مواطن على جانبي الجدار مما يمهد لأوضاع ضاغطة من التهجير الإختياري.

- تصل المساحة المستهدفة بالضم والقضم بواسطة جدران الفصل القائمة إلى ما يربو على 1248 كلم2 أي ما يعادل 21,3% من مجمل مساحة الضفة الغربية في حين أن الخطة ترمي في النهاية إلى ضم نحو 45% من مساحة الضفة.

اما الإخلاءات الإسرائيلية فلن تطال سوى عدد محدود جداً من المستوطنات النائية والقائمة في قلب التجمعات الفلسطينية أو التي أقيمت من دون ترخيص حكومي.

وفي ضوء هذا التوسع يرى الكاتب شلومويناي ([19]) رئيس المجموعة الصناعية الإسرائيلية وخبير الإستراتيجية الإسرائيلية, أن هذا التمدّد إنما قام على أساس أربع ركائز تقع في قلب متطلبات الأمن القومي الإسرائيلي وهي التالية:

-عمق استراتيجي ظرفي: من منظور عسكري متخصص, نجد أن أفضل مناطق يمكن الدفاع عن إسرائيل عبرها إذا واجهت تحدّيات من الشرق, هي وادي الأردن والمرتفعات الواقعة جنوب غزة, فإذا قبلت إسرائيل بالحل القائم على إنشاء دولتين, فإن هذه المناطق قد تؤول إلى الدولة الفلسطينية, ولذلك يتوجب على إسرائيل التوصل إلى ترتيبات ثنائية تخول الجيش الإسرائيلي ارسال قواته إليها في الحالات الطارئة.

-دولة فلسطينية منزوعة السلاح: مع اشراف على المداخل البرية والبحرية والجوية التابعة للدولة الفلسطينية, يقوم به جهاز أمني خاص, بحيث تكون هذه المداخل تحت السيادة الفلسطينية, فيما يظل أمنها من اختصاص هذا الجهاز الذي قد يكون إسٍرائيلياً أو دوليّاً.

-التعاون الأمني: لايمكن لأية ترتيبات أمنية أن تكون ناجعة بغياب التزامات فلسطينية فعالة من الدولة الفلسطينية المستقبلية بمحاربة "الإرهاب" وكبح مختلف مظاهره.

- السيطرة الإسرائيلية على الملاحة الجوية العسكرية: نظراً لضيق مساحة الأراضي فإنه من المستحيل اقتسام الإشراف على الملاحة الجّوية العسكريّة بين الدولتين, وبالتالي يجب أن يظل هذا الأمر من مسؤولية إسرائيل, لأنها الطريقة الوحيدة لضمان متطلبات الأمن الإسرائيلي الأساسية.

 

3-سلبيات الخطة وايجابياتها إسرائيلياً:

أ-السلبيات: تنطوي هذه الخطة على الكثير من السلبيات والمخاوف بالنسبة للطرف الإسرائيلي, ذلك أنه مهما كان حجمها وشكلها واتساعها, لن تستطيع إيقاف عمليات المقاومة بالكامل, وهي سوف تفسّر على أنها إنكسار بوجه القوى المسلحة الفلسطينية مما يعيد إلى الذاكرة الصهيونية صور الهزيمة والإذلال التي مني بها الجيش الإسرائيلي أثناء انسحابه من لبنان عام2000. كما وأن هذه الخطوة في مظهرها الإلزامي تساعد على تكوين رأي عام فلسطيني جديد يراهن على حركات نضالية مثل حماس والجهاد على حساب الحركات البراغماتية مثل حركة فتح وامثالها.

يضاف إلى ما تقدّم أنّ هذه الخطة سوف تطلق حركة سجالات قاسية في الساحة السياسية الإسرائيلية وتجعل اليمين القومي واليمين الديني يدخلان في مواجهة قاسية وطويلة الأمد مع حزب شارون الجديد "كديما" مما يترك الخريطة الحزبية الإسرائيلية على ابواب الإنتخابات المقبلة في حالة اضطراب وإرباك دائم.

ب-الإيجابيات: هذه الخطة ادّت بإختصار إلى:

- شطب وتهميش خارطة الطريق من الأجندة الأقليمية واستبدالها بخارطة إسرائيلية من صنع محلي وموافق عليها     أمريكي.

-اضفاء شرعية زائفة أو ضمنية على جدار الفصل العنصري تحت ذريعة كونه مؤقتاً لادائما،ً وأمنياً لا سياسياً، من اجل احتواء التحفظات الدّولية على تداعياته الجيوسياسية والمعيشية السلبية بالنسبة للفلسطينيين.

-التنصل من استحقاق وقف النشاطات الإستيطانية التي تنص عليها خارطة الطريق.

-كسب التوافق الأميركي حول المنظور التوسعي الإسرائيلي للتسوية الدائمة بما في ذلك مسألتي الحدود الدائمة وعودة اللاجئين الفلسطينيين.

-ارغام الفلسطينيين على التعامل كأمر واقع مع فكرة الدولة ذات الحدود المؤقتة أي مع مشروع شارون للتسوية الإنتقالية الطويلة الأمد.

-التخلص من أكبر كم سكاني يشكل خطراُ حقيقياُ على الميزان الديموغرافي في أرض فلسطين التاريخية([20]).

-إبعاد الأنظار عن انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة والتي شملت قتل المدنيين واغتيال القيادات وهدم المنازل واتلاف المحاصيل والمزروعات.

 

4-خلاصة الموقف الفلسطيني من مجريات الأحداث:

1-تأتي خطة شارون للانسحاب من طرف واحد وبالرغم مما نجم عنها من تداعيات وسلبيات على الواقع الجغرافي في الضفة الغربية, وكأنها تلبي إستراتيجية حركتي حماس والجهاد الإسلامي اللتين ترفضان الخضوع لسقف اتفاق أوسلو أو لأيّة شروط إسرائيلية أخرى.

2- تعتبر منظمتا حماس والجهاد الفلسطينيتان أن الإنسحاب من دون قيد او شرط من قطاع غزة إنما أتى نتيجة المقاومة وتصاعدها وهما بالتالي ترفضان المشاركة في أي نظام قد يتم العمل لفرضه إثر الإنسحاب الناجز.

3- لقد سلّط الإنسحاب الإسرائيلي الأضواء على تقصير حركة فتح وضياع الهوية الفتحاوية سواء على صعيد القاعدة التي كانت تطلق فكراً مضاداً للمقاومة أو على صعيد القيادة التي كانت تعطي الأولوية للتبشير بالحلول السياسية والدبلوماسية في ظل اوضاع هائلة من الفساد الإداري والمالي.

 

رابعاًً-إسرائيل على مفترق طرق:

  1. إسرائيل والتحولات الفلسطينية: تعتبر تجربة حركة حماس في الإنتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة, من اصعب التجارب التي تواجهها الحركات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي. فصحيح أن هذه الحركة قد فازت بغالبية المقاعد البرلمانيّة (76 من أصل 132), إلا أن هذا الفوز شكّل صفعة مدوّية لخطتيّ بوش وشارون فيما يتعلق بنشر الديموقراطية في المنطقة وفرض تسوية سلمية غير منصفة على الشعب الفلسطيني, لاسيما إذا نظرنا إلى هذا الفوز من زاوية امتداداته في كل من مصر والجزائر والمغرب والسودان والبحرين وتركيا. والتحدّي الذي تواجهه حماس هو في قدرتها على تشكيل حكومة ذات توجه إسلامي لأول مرة في انتخابات عربية, وذلك ضمن منطقة تعج بالمشاكل وتستفز أنظمة حليفة لواشنطن في مصر والأردن بنوع خاص, هذا ناهيك عن التحدي الكبير الذي تطرحه بوجه الدّولة الصهيونية , مما يشكل تهديداً مباشراً لمصالح واشنطن وتل أبيب وانقلاباً في خريطة الصراع وثوابته في المنطقة.

    الجدير بالذكر أن المحللين الغربيين لا يكفّون حالياً عن الحديث عن فشل خطة بوش لدمقرطة الشرق ألاوسط وضرورة وقفها بعدما ثبت أن صناديق الإقتراع لاتأتي، في دول هذه المنطقة إلا بالإسلاميين, وأن الشعوب العربية التي تعاني سلبيات الفساد والدكتاتورية تذهب تلقائياً في اتجاه الخيار الإسلامي إثر سقوط وفشل الأحزاب الليبرالية والعلمانية العربية، وانهيار صدقيّة نوايا المحافظين الجدد في كل من ابو غريب وغوانتنامو. ويراهن المراقبون في الوقت الحاضر على أن تتصرف الإدارتان الأميركية والإسرائيلية بواقعية في تعاملهما مع فوز حماس في فلسطين، وذلك بعدما افشلتا تجربة التعامل مع حكومة براغماتية بقيادة فتح, لأن البديل في المرحلة المقبلة هو عودة الامور إلى النقطة صفر في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي واستشراء مشاعر الكراهية ضد الولايات المتحدة لدى شعوب المنطقة, خاصة على ضوء غياب شخصية قوية مثل شارون عن سدّة القرار السياسي في إسرائيل, في وقت كان يضع بصماته الأولى في المرحلة التأسيسية المقبلة تحت عنوان إعادة تقسيم "أرض إسرائيل" كبرنامج لحزبه الجديد "كديما" وكتعبير عن إستراتيجية الحفاظ على يهودية الدولة من منطلق قاعدة: أرض أكثر وعرب أقل.
     
  2. إسرائيل وغياب شارون: لقد إعتاد الإسرائيليون الإعتماد على آرييل شارون خلال ما يزيد على خمس سنوات عاصفة ومخيفة, ليس فقط بإعتباره الضامن لأمنهم, وإنما لأنه أصبح أخيراً السياسي الوحيد القادر على تسوية النزاع التاريخي الدّامي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. أمّا الآن ومع غياب شارون في غيبوبته الأبدية يجد الإسرائيليون أنفسهم مضطرين للتسليم بحقيقة ان شارون ولّى وولّت معه نسبة لا يستهان بها من الإحساس بالتفاؤل على مشارف الإنتخابات السابعة عشرة بتاريخ 28 آذار 2006 من دون أن تظهر في الأفق ملامح شخصية قيادية إسرائيلية بوسعها أن تملأ الفراغ الكبير الذي خلفه هذا الغياب. وقد ذكر افرايم ها ليفي مستشار الأمن القومي السابق لشارون, أن هذا الأخير "فتح جروحاً عديدة في المجتمع الإسرائيلي نتيجة للإجراءات التي إتخذها, والطريقة التي إتخذت بها تلك الإجراءات. وسيكون الحكم على خليفة شارون, أيّاً كان, من خلال قدرته على معالجة تلك الجروح"([21]). وكتب أنشل فيغر في الجيروزاليم بوست يقول: "مع رحيل شارون من الممكن نشوب نزاع داخلي حول القيادة. وفي هذه الأثناء تحوّلت مهام رئيس الوزراء حسب القانون إلى نائبه وزير المالية ايهود أولمرت. لكن معظم أعضاء كديما لا يرغبون في أن يقودهم واحد هو أدنى السياسيين شعبية, إلى المرحلة الإنتخابية"([22]).وأولمرت حسبما هو معروف ملتزم بإستراتيجية شارون الدبلوماسية إلاّ أنه مع ذلك يفتقد إلى الكاريزما التي تؤهله للاقدام على اتخاذ خطوات مثيرة للجدل في المستقبل.

    الكاتب الإسرائيلي دان بن دافيد طرح في صحيفة هآرتس السؤال التالي(­­­­[23]): ما الذي تخططه دولة إسرائيل لليوم التالي بعد الإنفصال؟ وجوابه هو ان الصدّمة الوطنية التي تمّ الإعداد لها إعلاميّاً بشكل جيد تجاه دول الغرب ستسمح لإسرائيل بالتحول يميناً وتوجيه موارد وأناس بحجم كبير إلى المناطق التي ستبقى في ايدي إسرائيل. والدولة إذ تخرج من المستنقع الذي صنعته بيديها في قطاع غزة، تعود لتبني مستنقعاً أكبر في الضفة". وبالتالي يرى بن دافيد أنه لا ينبغي ضرب الرأس مراراً في الحائط حتى يتكسر ويقول: "لقد حان الوقت لإعادة النظر وتحديد إستراتيجية سياسية وأمنية بعيدة المدى من انتاج إسرائيل تستند على تحقيق الهدف المبدئي وهو ضمان مستقبل وهويّة دولة إسرائيل اليهودية الديموقراطية. والجدير بالذكر أنه ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط 10,5 مليون شخص من بينهم 45% من اليهود. وهذا يعني أن استمرار وجود الديموقراطية إلاسرائيلة في الشكل والجوهر يستوجب الحسم التاريخي­ العاجل لمسالة الحفاظ على أغلبية يهودية صافية داخل مجال سيادة الدولة . . . وهذا يعني أن تشكيل الحدود النهائية لإسرائيل يستوجب منح الأفضلية للإعتبارات الديموغرافية الأمنية وذلك على حساب الحق الطبيعي والتاريخي للشعب اليهودي على أرض إسرائيل الكاملة".

من ناحية اخرى يطرح المراقبون الاسرائيليون تساؤلات حول الاوضاع السياسية التى ستواجهها اسرائيل بعد غياب شارون ويتوقع هؤلاء ان تؤول الامور الى الاحتمالات التالية:

- استعادة حزب الليكود عافيته وحيويته اثر غياب شارون، وبالتبعية غياب  حزبه "كديما".

- بانتهاء حياة شارون السياسية، يكون قد وضع بذلك نهاية للمسيرة السياسية للحرس القديم فى اسرائيل, اولئك الذين نشأت اسرائيل على ايديهم عام 1948 ولم يبق منهم سوى شمعون بيريس البالغ من العمر 82 عاما، اى انه اكبر من شارون بنحو خمسة اعوام. وثمة توقعات ان يعلن بيريس اعتزاله السياسة بعد غياب شارون, بالنظر الى تطابق ارائهما السياسية فى الفترة الاخيرة, خاصة فيما يتعلق بالصراع الفلسطينى الاسرائيلى. واذا لم يعتزل السياسة فالارجح ان يعود الى حزب العمل تحت رئاسة بيريتس.

- من المتوقع ان تجري الانتخابات التشريعية في اسرائيل فى موعدها المحدد وهو يوم 28 اذار من هذا العام، ولن يكون باستطاعة أولمرت خلال هذه الفترة اتخاذ قرارات مصيرية اواستراتيجية مثل تلك التى كان يتخذها شارون، مما سيؤجل الحديث عن مفاوضات مع الفلسطينيين ويؤخر جلاء الصورة السياسية الى مابعد الانتخابات. وسيكون على الاحزاب السياسية الاخرى مراجعة حساباتها والاعداد للانتخابات القادمة ومن المتوقع ان تكون المنافسة الكبرى بين نتنياهو وبيريتس المناصر لاتجاه تسوية النزاع الفلسطينى الاسرائيلى من خلال حلول وسط.

 

خلاصة واستنتاجات:

لاشك بأن البصمات الأخيرة التي تركها شارون في مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بنوع خاص، والإسرائيلي العربي بشكل عام, من خلال خروجه القسري من قطاع غزة, قد عمّقت حالة الإنقسام في المشهد السياسي الحزبي الإسرائيلي وأحدثت تبدّلات نسبية أيديولوجية وسياسية وحزبية ومجتمعية تشغل بال العديد من المفكرين والمحللين المعنيين بالشأن الإسرائيلي. وفي هذا السياق تحدّث الكاتب المعروف يوئيل ماركوس في صحيفة هآرتس عن تداول فكرة لدى الإسرائيليين مفادها ضرورة وجود ديغول أو تشرشل في إسرائيل. وهي فكرة تستحضر التجربة الفرنسية للإستعمار الإستيطاني في الجزائر رغم وجود فروقات جوهرية بين الإستعمار الصهيوني الإجلائي (طرد الشعب الفلسطيني من أرضه) في فلسطين والإستعمار الإستيطاني الفرنسي في الجزائر. واعتبر ماركوس ان صورة شارون ووزير حربه شاؤول موفاز لاتشبه صورة ديغول ولاتشرشل, لأنهما لم يوجها للإسرائيليين الرسالة التي تقول: "إن صراعاً سياسياً ضارياً وعنيفاً بين الحكم المنتخب وبين الفوضويين من دعاة أرض إسرائيل الكاملة يجري من وراء عملية فك الإرتباط ولم يقولا للشعب إلى أي مدى وصلت خطورة خروج العدو الداخلي (حماس) ويده هي العليا".

اما سيفربلوتسكر فقارن في صحيفة يديعوت احرونوت بين القصة التاريخية الإيرلندية وما أسماه "القصة الفلسطينية الإسرائيلية" ودعا إلى ظهور مايكل كولينز الفلسطيني ومايكل كولينز الإسرائيلي نسبة إلى مايكل كولينز الإيرلندي الذي وقّع قبل نحو 84 عاماً إتفاقاً يقضي بالتنحّي عن حلم "ايرلندا الكاملة" وأن يساعد على تقسيمها بين المناطق ال26 الكاثوليكية التي أقيمت منها الجمهورية.

نعم لقد تمّ إخلاء قطاع غزة من المستوطنيين اليهود وتمّ أيضاً هدم المستوطنات وتفكيك القواعد العسكرية وانكفاء الجيش الإسرائيلي, ولكن هذا كله لم يحصل إلا بعد ان ثبت لجميع النخب الصهيونية السياسية والحزبية والعسكرية والإقتصادية بأن كلفة البقاء أكبر بكثير من المردود.

  باختصار يمكن القول إن شارون، والشارونية من بعده, لم يريدا من الخسارة الجزئية  في قطاع غزة الا ان تكون مجرد خسارة جزئية تكتيكية لحماية مكاسب استراتيجية أهم منها في الضفة الغربية حيث المياه والاراضي الزراعية الخصبة والمواقع الطوبوغرافية المسيطرة، والتخلي عن الجزء أفضل من التخلي عن الكل.

لقد كسبت استرتيجية شارون الدبلوماسية-البراغماتية المزيد من الأرض والمياه والإجراءات الأمنية-السياسية المتمثّلة بالسكوت عن جدار الفصل العنصري, والمحميّة كلّها بوعد الرئيس بوش, الذي يمثل حالياً رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم. لكن ما بين وعد بلفور 1917 ووعد بوش 2004 جرت مياه كثيرة تحت الجسر, وما من شك في أن تكرار تجربة لبنان في فلسطين، يعتبر محطّة إيجابية، لانتفاع محبي السلام الشامل والدائم والعادل بعبر التاريخ، في منطقتنا والعالم.


[1] دليل إسرائيل العام 2004 مؤسسة الدراسات الفلسطينية الطبعة الأولى ص 136-137.

[2] قضايا إسرائيلية العدد 17-18 شتاء وربيع 2005 ص26 وما بعدها.

[3] المصدر السابق ص31

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه ص 32.

[6] المصدر نفسه ص 33.

[7] نداء القدس, السنة الرابعة, العدد 38 تشرين الأول 2005 ص 1.

[8] لمزيد من التفاصيل انظر مجلة دراسات باحث العدد الثامن السنة الثانية خريف 2004 ص 33 وما بعدها.

[9] جاء ذلك نتيجة مسح أجرته القناة الأولى للتلفزيون الإسرائيلي حسبما أوردته شبكة الشرق الأوسط للإعلام على موقعها http://www.mideastureb.org

[10] المصدر السابق.

[11] دراسات باحث مصدر سابق ص 71.

[12] جريدة البيان 13|6|2004.

دراسات باحث مصدر سابق ص 80.

[13] فاينايشل تايمز 24|1|2006 العدد 4488, هارفي موريس

[14] -في هذا الخصوص قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك على سبيل المثال أن الحلول المفروضة من طرف واحد في الشرق الأوسط تمثل تلاعباً وفقاً للظروف أو الأشخاص بالإستقرار الدّولي وبقواعد القانون الدّولي وهذا يشكل سابقة مؤسفة.

[15] التقدير الاستراتيجي ، المجلد الثامن ،العدد الثاني ، مركز يافيه للدراسات الاستراتيجية .

[16] دراسات باحث مصدر سابق ص 48و49.

[17] المصدر السابق.

[18] آفاق استراتيجية العدد الرابع, أيلول 2005 ص 10.

[19] www. Almassar.com تموز 2004.

[20] فاينايشل تايمز 24|1|2006 العدد 4488,مصدر سابق.

[21] المصدر نفسه.

[22] المصدر نفسه.

[23] هآرتس8/2/2005 دان بن دافيد, ومذا بعد الإنفصال؟ النور, العدد 172 تشرين الثاني-كانون الاول.                                                                 

 *( من هذه التغيرات انتفاضة عام 1987 ثم اتفاق اوسلو عام  1993 واتفاق وادي عربة عام 1994 ثم مصرع رئيس الحكومة الاسبق اسحق رابين عام1995 ثم عمليتا تصفية الحساب وعناقيد الغضب في لبنان بين عامي 1993 و1996 وصولاً الى انسحاب عام2000 وتسلم آرييل شارون السلطة اثر فشل مفاوضات كامب ديفيد بين ياسر عرفات وايهود باراك واندلاع انتفاضة الاقصى، ثم احداث الحادي عشر من ايلول في الولايات المتحدة...)

Research outline: Israel under the expansion strategies of Sharon  

The adherence of many segments of the Israeli society to the extreme right wing ideology led Sharon, as well as his army and government, to abolish all prohibition measures, in order to close down the settlement principle and its foundations set forth since Madrid until the road map, passing through Oslo. Thus, Palestinian people found themselves facing the unique choice of resisting, and continuing their resistance, following the Israeli destruction of Palestinian ports, and the inherent parts of the project of an independent and viable Palestinian State.

In the midst of great tension, Sharon, drawing profit from the September 11 2001 events, launched important terrorist operations against Palestinian civilians and militants, as the operation of the “preventive wall”, confirming thus the saying of Arnold Toynbee: “Israel lives in time of war, and withers in time of peace”.

In a harmonious coordination, the American administration of Georges Bush son and the Israeli government of Ariel Sharon worked in a way to drive Palestinian people to despair, through imposing a difficult and long term state of fact. Thus, the unilateral division plan and the building of the segregation wall have substituted the precedent settlements, in order to pave the way for the successive Israeli governments to manage the conflict at a long term instead of resolving it. These facts made things return to the starting point, and show that the fighters conflict on the Palestinian scene is a conflict of land, existence and ideology, bearing in mind that the idea of “the great land of Israel” has won, through decades, and until present times, a preponderant place within the ideological, public and private life of a great number of nationalist and religious Israeli people.

For these people, the plan aiming to dissolve the engagement represents a decisive moment of a non return point. This led to a great crisis that was about to destabilize lot of realities, that are the foundations of their world-wide visions, and opened the debate over the possibility of a civil war, in order to spread fear and intimidation, and not by a record of facts. When it was clearly impossible that a party would surrender to the other, and despite the use of all kinds of weapons and combat capacities, Sharon imposed the option of less harm to Israeli interests, and sacrificed some of his ideology to

earn more weight on the ground, ensure the continuity of the enormous U.S support on the financial, political and diplomatic levels, justify the Israeli evasion regarding its precedent engagements, confirm the necessity of disarming Palestinian people and depriving them from any international cover, dismantle the Palestinian cause as an occupation cause mainly, and transform it to security and colony enclaves, and involve the United States in some engagements and obligations regarding the Zionist security following the building of the segregation wall, and the expansion of colonies around Jerusalem, and the rest of the regions in the West Bank, on the basis that peace cannot bring substitutes to security geo-strategic arrangements.  

On the other hand, the victory of Hamas movement in the local and legislative elections represented a great strike to Bush and Sharon, mainly when considering the regional extension of this victory, in Egypt, in Algeria, in Morocco, in Sudan, in Bahrain, in Turkey and in Iran, what clearly constitutes a challenge facing the joint Israeli American plans concerning the region. Whereas Sharon is clearly kept away from any decision, due to his brain attack, and in the absence of anyone capable of replacing his stature, the internal Israeli affairs and the region are about to experiment, once again, waves of violence and mutual terrorism, in order to ensure the rebalance and steadiness on new basis of powers that are changing every day, and every hour.

Précis de Recherche: Israël sous les stratégies d’expansion de Sharon.  

Le virement de plusieurs tranches de la société israélienne vers l’idéologie de l’extrême droite a ouvert la voie à Sharon, ainsi qu’à son armée et son gouvernement, de lever toute prohibition en vue d’abolir le principe du règlement et ses fondements, mis en place depuis Madrid jusqu’à la feuille de route, en passant par Oslo. Ainsi, les Palestiniens se sont retrouvés face à l’unique choix de résister et poursuivre la résistance, après qu’Israël eût détruit les ports de l’autorité palestinienne et les parties constituantes du projet d’Etat national palestinien indépendant et viable.      

C’est dans cette ambiance de grande tension que Sharon, tirant profit des événements du 11 septembre 2001, lança de grandes opérations terroristes, contre la société civile palestinienne et les militants, dont l’opération « muraille préventive », confirmant la pensée du célèbre Arnold Toynbee : « Israël vit en temps de guerre et flétrit en temps de paix ».     

En parfaite coordination, l’administration américaine de Georges Bush fils et le gouvernement israélien d’Ariel Sharon ont œuvré à décourager le peuple palestinien et le pousser au désespoir, et ce en lui infligeant un état de fait difficile à supporter et de long terme. C’est ainsi que le plan de séparation unilatéral et la construction du mur de ségrégation raciale ont substitué aux précédents règlements, en vue d’ouvrir la voie aux successifs gouvernements israéliens de diriger le conflit à long terme et de ne pas chercher à le dénouer. Ces réalités ont ramené les choses au point de départ, et ont dévoilé que la crise des combattants sur la scène palestinienne, est une crise de terre, d’existence et d’idéologie, notamment que l’idée de « la grande terre d’Israël », a occupé des décennies durant, jusqu’à nos jours, une place prépondérante dans la vie idéologique, publique et privée d’un bon nombre d’israéliens nationalistes et religieux. Pour ces derniers, le plan visant à résoudre l’engagement a été un moment décisif du point du non retour. Ceci provoqua une grande crise qui a été sur le point de déstabiliser bon nombre de réalités, aux fondements de leurs visions mondiales, et a ouvert le débat sur la possibilité d’une guerre civile, dans le but de répandre la frayeur et l’intimidation et non pas par constat de fait. Au moment où il était clairement devenu impossible d’imposer à un parti de se rendre à l’autre, et en dépit de l’utilisation de tous genres d’armes et de capacités de combat, Sharon imposa l’option du moindre mal vis à vis des intérêts israéliens, et sacrifia ainsi un peu de son idéologie pour gagner un peu plus sur le terrain, garantir la continuité de l’énorme soutien américain sur les plans financier, politique et diplomatique, justifier la dérobade d’Israël vis-à-vis de ses engagements précédents, confirmer la nécessité de désarmer les palestiniens et de les priver de toute couverture internationale, démanteler la cause palestinienne en tant que cause d’occupation par excellence et la transformer en enclaves de sécurité et de colonies, et par la suite impliquer les Etats-Unis dans des engagements et obligations vis-à-vis de la sécurité sioniste dans ses dernières manifestations à la suite de la construction du mur de séparation ségrégationniste, et l’expansion des colonies autour de Jérusalem, et dans le reste des régions en Cisjordanie, et ce sur la base que la paix ne peut fournir des substituts aux arrangements sécuritaires géostratégiques.    

En contre partie, la victoire du mouvement Hamas aux élections locales et législatives a constitué une grande frappe pour Bush et Sharon, notamment si cette victoire est considérée dans son extension régionale, en Egypte, en Algérie, au Maroc, au Soudan, à Bahreïn, en Turquie et en Iran, ce qui constitue manifestement un défi face aux plans communs israélo américains concernant la région. Alors que Sharon est écarté de toute prise décision, dû à son état comateux, et en l’absence de toute personne capable de remplir le vide laissé par Sharon, les affaires israéliennes et la région sont sur le point d’expérimenter, à nouveau, des vagues de violence et de terrorisme mutuel pour assurer le rééquilibre et la stabilité sur les nouvelles bases des forces changeantes quotidiennement et à toute heure.