قضايا إقليمية

اسرائيل في ورطة التخبط الاقتصادي
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

يمثّل الاقتصاد الإسرائيلي حالة فريدة من نوعها، إن من حيث التكوين والنشأة، أو من حيث المسار والتطور. فقد تمتع هذا الاقتصاد قبل تحققه «اقتصاد دولة» بآليات وبنى مكّنته من الانطلاق بقوة، بالرغم من كل العوامل المحيطة به. وتوافرت له في الطريق، عوامل وموارد استثنائية (التعويضات الالمانية عن الهولوكوست، المساعدات الاميركية، التبرعات اليهودية وغير اليهودية...) استعاض بها عن ضعف الموارد وضيق المساحة. وقد أثبتت الوقائع أنه لولا الرعاية الأميركية المتواصلة ودعم المتموّلين اليهود في الولايات المتحدة، ولولا تدخّل الأجهزة الحكومية الإسرائيلية منذ البداية، انطلاقًا من الصبغة «الاشتراكية»  للنظام الاقتصادي ايام حكومات حزب العمل، ووصولًا إلى الحكومات الليبرالية والنيوليبرالية في ايام نتنياهو حاليًا من جهة، ولولا الحروب والتوسع والهجرة الاستيطانية من جهة أُخرى، لما كانت اسرائيل على ما هي عليه اليوم.
لقد سعت إسرائيل منذ إقامتها للتحول من مجتمع مهاجرين غير متجانس على جميع الصعد، إلى مجتمع تغلب عليه صفات المجتمع «الأصيل» المتجانس والمتطور على الرغم من تعدد ثقافاته، مجتمع متكافل اجتماعيًا، حداثي، لا تشكل الانتماءات الاثنية والدينية فيه العصب الأهم والأبرز لصياغة هويته، مجتمع يسعى إلى التمثّل بالمجتمعات الغربية المزدهرة ويقيس نفسه عليها كي ينأى عن المجتمعات العربية المجاورة ذات الطابع القبلي والعرقي والمذهبي.
وباختصار كان عنوان هذا السعي الوصول إلى مجتمع يتمتع بدرجة عالية من الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. لكن ازاء كل هذه الأماني والأحلام، هل حققت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بمختلف تلاوينها الحزبية والسياسية ما يتمناه المجتمع الاسرائيلي من تقدم وازدهار وسؤدد؟
لقد وجهت عضو الكنيست عن حزب العمل ستاف شفير (وهي من قائدات الاحتجاجات الاجتماعية البارزات، في صيف 2011)، انتقادًا لاذعًا إلى السياسة الاقتصادية والمالية المعتمدة من قبل حكومة نتنياهو الحالية والتي تهدف إلى المسّ بالطبقات الضعيفة، قالت: «قبل وقت غير طويل، لم يكن بوسع الإسرائيلي المتوسط التذمر من غلاء المعيشة أو الاحتجاج عليه، والتذمر من سعر شراء شقة أو استئجارها. كانت المواضيع المهمة هي الأمن، والتهديد الإيراني، ومستقبل السلام مع الفلسطينيين. لكن الاحتجاجات في الصيف غيرت فحوى الحديث السياسي والاجتماعي. كنا مضطرين للاحتجاج على غلاء المعيشة، على الفوارق الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء، وعلى ضعف الجهاز التربوي. لقد تحدث يائير لبيد (زعيم حزب يوجد مستقبل) قبل انتخابه عن تآكل الطبقة الوسطى، والحاجة إلى حماية هذه الطبقة من سحق وحشي، واليوم يتنكر لطريقه، ويحقق سياسة نتنياهو الرأسمالية، ويمرر موازنة تخنق الضعفاء أكثر فأكثر. لا برامج حقيقية لتحسين مسألة السكن، أو الاستجابة لتربية ذات مساواة أكبر في الدولة. وللأسف الشديد، لا يبدو مستقبل الحكومة الحالية برئاسة نتنياهو، بنيت ولبيد، واعدًا في المجال السياسي مع الفلسطينيين».

 

لقد اوردت وسائل الإعلام الاسرائيلية أخبارًا مفادها أن الحكومة الإسرائيلية الحالية شرعت في الشهر الماضي بمناقشة مشروع تقليص 14 مليار شيكل (حوالى 3.5 مليار دولار) أخرى من ميزانيتها العامة، لمواجهة التدهور في الوضع الإقتصادي العام, وتأتي هذه الخطوة في ظل تنامي القلق من تدهور الإقتصاد الإسرائيلي، إثر تنامي معدلات البطالة وتراجع مداخيل الدولة من الضرائب جراء تقليص الصادرات. وعلى هامش هذه الأوضاع انفجرت انتقادات حادة في وجه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يسعى ووزير ماليته يوفال شتاينتس، إلى بلورة مشروع قانون الميزانية العامة لعرضه على الحكومة, وتأتي هذه النقاشات على الرغم من القناعة الكبيرة في أوساط واسعة بأنه ليس من المؤكد إن كان بوسع الحكومة الحالية إقرار الميزانية، أم أنها ستضطر للدعوة لإنتخابات مبكرة، فالظروف القائمة حاليًا، سواء لجهة الوضع الأمني أو الوضع الإقتصادي في إسرائيل خصوصًا، وفي مجموعة اليورو عمومًا، لا تسهّل إقرار الميزانية.
وذكرت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» الشهر الماضي، إنه بعد تأكيد الإسرائيليين لأكثر من ثلاث سنوات على تفوّق اقتصادهم على الكثير من اقتصادات العالم، فاجأ نتنياهو الكثيرين باتخاذه قرارًا يقضي بفرض إجراءات تقشف تشمل فرض ضرائب عالية على أصحاب المداخيل العليا، ورفع ضريبة القيمة المضافة التي تعد نوعًا من أنواع ضريبة المبيعات من 16% إلى 17%. وتوقعت مجموعة معلومات الأعمال «بي.دي.آي كوفيس» أن يتكبد إقتصاد إسرائيل خسائر تصل إلى 167 مليار شيكل (42 مليار دولار) إن هي هاجمت إيران بسبب برنامجها النووي كما تهدد وتدعي، وكان ستانلي فيشر محافظ بنك إسرائيل المركزي قد حذّر من قبل من انفجار أزمة إقتصادية حادة إذا نشبت الحرب مع إيران. وقالت المجموعة إن الأضرار الإقتصادية المباشرة ستصل إلى 47 مليار شيكل أو ما يعادل 5.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي, واضافت أن الأضرار غير المباشرة ستصل بعدئذ إلى 24 مليار شيكل سنويًا لمدة ثلاث إلى خمس سنوات بسبب انهيار ألاعمال. وأشارت المجموعة إلى أن الحرب مع حزب الله اللبناني التي استمرت 33 يومًا العام 2006، قد خفضت نمو الإقتصاد الإسرائيلي 0.5 في المئة , وكبدت التكاليف المباشرة، مثل الأضرار التي لحقت بالعقارات والبنية التحتية المدنية، الإقتصاد، خسائر أخرى بلغت نسبتها 1.3 في المئة. وأضافت: «في حالة نشوب حرب بالحجم نفسه والمدة والأضرار نفسها فمن الممكن توقع حصول أضرار تبلغ 16 مليار شيكل»، وأنه إذا نشبت حرب فسوف تشمل وسط فلسطين المحتلة الذي يضم 70 في المئة من النشاط الإقتصادي لإسرائيل.
من ناحية اخرى تشير الأبحاث الاسرائيلية الى أن 5% فقط من الاقتصاد الإسرائيلي متجدد ومنتِج وأن إسرائيل هي إحدى الدول الأقل إنتاجًا بين دول OECD (منظمة التعاون والتنمية).

 

والانطباع السائد في الاتحاد الأوروبي هو أن إسرائيل اليوم رائدة في الابتكار، لكنها ستواجه صعوبة في الحفاظ على تفوقها حيث ينخفض الاستثمار النسبي في البحوث والتطوير في السنوات الأخيرة، وأحد أسباب ذلك هو نقص الاستثمار الحكومي. وهذا مجرد غيض من فيض. وبالتالي لا بد لإسرائيل من تنفيذ تغييرات بنيوية طويلة الأمد، ومحاربة مجموعات المصالح، مثل وزارات الأمن المختلفة التي تحولت، على الرغم من صدق قلقها على أمن الدولة، رويدًا رويدًا إلى «مجموعة مصلحة» تسعى  للحصول على المزيد من الميزانيات، وابتزاز أموال تستطيع تدبّر أمرها من دونها، مما يؤدي بالتالي إلى خنق المجتمع الإسرائيلي وتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية أكثر فاكثر.  
لقد كان موضوع ميزانية الدولة، الذي أدى لتقديم الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وصعود قوى سياسية جديدة (حزبا «هناك مستقبل» و«البيت اليهودي»)، الموضوع المركزي الذي تصارعت عليه الأحزاب المختلفة قبل الانتخابات، فقد وعد يائير لبيد زعيم حزب «هناك مستقبل» قبل الانتخابات والفوز بـ 19 مقعدًا، أن في نيته بذل قصارى جهده لتقسيم موازنة الدولة بطريقة أكثر مساواةً، وتقوية الطبقة الوسطى، وتقليص نفقات الحكومة، وتفكيك جمعيات العمال القوية التي تبتز خزينة الدولة، وإحداث تغيير جوهري في تقسيم الممتلكات العامة لمصلحة الطبقة الوسطى في إسرائيل. فوفق معطيات إحصائية تنشرها لجنة الإحصاء المركزي، تشكّل الطبقة الوسطى في إسرائيل نحو 50% من الأسر. وكان الدخل الشهري الصافي للفرد في هذه الطبقة العام 2011 نحو 4000 شيكل جديد، أي 1080 دولارًا أما الآن فإن المجتمع الإسرائيلي يعاني عدة أزمات وعلى جميع المستويات، تنبع من واقع اقتصادي سيّئ للغاية، كنتيجة للإدارات الحكومية السيئة المتعاقبة، وبالتالي فهو يعاني تصدعات جوهرية في الجانبين السياسي والاجتماعي، لأن هناك علاقة تبادلية بين المنعة القومية والقدرة على تأمين المعيشة. وتشير التقديرات إلى خسارة الإسرائيليين أكثر من 15 مليار دولار بسبب الإنهيارات المالية في البورصات وإفلاسات بعض الشركات التي لليهود حصص كبيرة فيها، من جراء الأزمة الإقتصادية العالمية التي خلفت بصماتها على مختلف مناحي الواقع السياسي والإجتماعي في إسرائيل، مما ينذر بمزيد من الركود والانكماش والتباطؤ الاقتصادي. لقد أدت الأزمة الإقتصادية العالمية، بأسبابها وتداعياتها ونتائجها في إسرائيل إلى نقاشات ومشاحنات واسعة بين المحللين الإقتصاديين المختصين. هذه النقاشات التي وصلت إلى دوائر التجاذبات السياسية بين القوى والكتل الحزبية المختلفة ضمن أجواء من التوتر والارتباك، تمحورت بشكل أساسي حول مدى ضرورة التدخّل الحكومي، في الشأن الإقتصادي وآليته، وحول الحاجة الى تخفيض بنود الموازنة والمخصصات الحكومية فيها في بعض المجالات، مع ضرورة المحافظة على شبكة الأمان الإجتماعي. كما وصلت هذه النقاشات أيضًا إلى حد الحديث الإيديولوجي عن صواب طريق الرأسمالية بحد ذاتها. ورأى بعض الباحثين الإسرائيليين أن الأزمة بحجمها وخطورتها قد أعطت شرعية لعملية نقد ما يسمى «رأسمالية الكازينو» القائمة على التهور والمجازفة على غرار «وول ستريت» وليس الرأسمالية المتنورة والإجتماعية السائدة في فنلندا وهولندا على سبيل المثال.