قضايا إقليمية

اسرائيل: متغيرات مصيرية في واقع الدولة والمجتمع
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

 

يشكّل الخلاف حول طابع الدولة وعلاقتها بالدين، أحد مظاهر الإستقطاب الأساسية في واقع الدولة والمجتمع في اسرائيل. فهناك تيارات تدعو إلى توثيق العلاقة بين الدين والدولة، وصبغ الحياة في هذا الكيان، الذي يقدم نفسه على أنه كيان علماني، بمزيد من المضامين الدينية، وهناك تيارات أخرى معارضة تدعو إلى فصل الدين عن الدولة. ولقد اعتبر المفكر اليميني واستاذ الفسلفة في الجامعة العبرية موشيه روزنفيلد الدعوة الى فصل الدين عن الدولة في هذا الكيان وصفة ناجعة لتصفية المشروع الصهيوني برمته. ويضيف أن هذه الدعوات تتجاهل الطابع الخاص لدولة إسرائيل، بحيث أنه لا يمكن تطبيق النموذج السائد في الدول الغربية، ونموذج الفصل بين الكنيسة والدولة الذي رأى النور مع تفجر الثورة الفرنسية، لم يتم تطبيقه حتى الآن في أكثر الدول الأوروبية تقدمًا. وحتى تلك الدول التي تشدد بشكل خاص على الفصل بين الدين والدولة مثل الولايات المتحدة وهولندا وفرنسا، لا يوجد فيها في الواقع فصل بين الهوية الدينية والدولة. وينتهي الباحث روزنفيلد إلى الاستنتاج بأن الدعوات لفصل الدين عن الدولة في اسرائيل بالذات إنما تهدف إلى الدفع نحو انهيار السمات اليهودية للدولة، وبالتالي تسويغ الدعوات لإقامة دولة لكل مواطنيها، تذوب فيها الأكثرية اليهودية ديموغرافيًا مع مرور الزمن على ضوء الخلل في الميزان الديموغرافي لصالح العرب.
من ناحية أخرى، تبدي الحكومة الإسرائيلية والمنظمات اليهودية قلقًا كبيرًا تجاه ظاهرة تحوّل الكثير من الشبان اليهود في العالم عن اليهودية. وأحد الأسباب وراء هذه الظاهرة - كما تقول الحكومة والوكالة اليهودية - هو توجّه الشبان اليهود للزواج من غير يهوديات. وقد نظّمت الحكومة الإسرائيلية والوكالة اليهودية حملة دعائية لحث الشبان اليهود على عدم التزوج من غير يهوديات، وكانت الحملة تحت عنوان «مفقودون»، أي أن الشعب اليهودي قد فقد من يتزوجون بغير يهود بصورة نهائية.
لكن بعض النخب الإسرائيلية، مثل سافي شاكيد (صاحب شركة إعلان كبيرة في إسرائيل)، انتقد الحملة بشكل كبير على اعتبار أنها تنم عن العنصرية العارية عن الأخلاق، وقال: حتى نوضح الصورة، تخيّلوا لو كانت هناك حملة في ألمانيا تعتبر كل من يتزوج من يهودية بأنه مفقود. ومن جهة أخرى يقول مدير عام «مركز تخطيط سياسات الشعب اليهودي» نحمان شاي: «إن نحو 50 يهوديًّا في الولايات المتحدة يتحولون عن اليهودية يوميًّا». وشدد في مقابلة أجراها معه التلفزيون الإسرائيلي على أن «الوجود اليهودي في الولايات المتحدة يتعرض لخطر كبير، بسبب حالات التحول الواسعة من الديانة اليهودية إلى الديانات الأخرى». واعتبر أن أكبر خطر يواجه اليهود في الولايات المتحدة هو الزيجات المختلطة (بين اليهود وأتباع الديانات الأخرى)، وذوبان اليهود في المجتمع الأميركي. وقال إن دولة إسرائيل ستكون أكبر خاسر من هذا الواقع، لأنها تعتمد بشكل كبير على دور المنظمات اليهودية «اللوبي» في الضغط على الادارة والكونغرس الأميركيين من أجل الاستجابة للمطالب الإسرائيلية.
ويشير عالم الاجتماع الإسرائيلي سامي سموحا، الأديب اليهودي العراقي الأصل، إلى مسألة الشرخ الإتني في واقع تركيبة المجتمع الإسرائيلي وإلى ثلاثة عوامل رئيسة أدت إلى فشل الاندماج بين المكونين الإتنيين الأساسيين، السفاراديم ذوي الأصول الشرقية والأشكناز ذوي الصول الغربية، وهذه العوامل هي:
1- سياسة الهجرة: يرى سموحا أنه على عكس المهاجرين الأشكناز الذين لم توضع قيود على هجرتهم، فقد وضعت القيود على هجرة اليهود السفاراديم بشكل كبير، بحيث أنه روعي أن يكون هؤلاء المهاجرون من الفئات التي تمد سوق العمل الإسرائيلي بالعمال. وتركت هذه القيود شعورًا بالغبن بين أوساط الشرقيين، على اعتبار أنهم ضروريون لتطوير البلاد، ولكنهم غير مرغوب فيهم، الأمر الذي أظهر الفوقية في فرض الاندماج.
2- سياسة الاستيعاب: يؤكد سموحا وجود القيود التي كانت توضع على هجرة اليهود الشرقيين لهدفين أساسيين إثنين، أولهما: منع الشرقيين من تدمير الثقافة الإسرائيلية ذات التوجهات الغربية الصارخة التي اسسها الأشكناز، أو تهديد أسس النظام الاجتماعي - السياسي الذي بناه هؤلاء. وثانيًا: استخدام طاقة العمالة لدى الشرقيين لخدمة الأهداف الإجتماعية والعسكرية للأغنياء من الأشكناز.
3- ضعف اليهود الشرقيين ثقافيًا وتنظيميًا واقتصاديًا، الأمر الذي شكل عاملًا حاسمًا في طبيعة العلاقة بينهم وبين الأشكناز. ذلك ان معظم اليهود الشرقيين لم يكونوا متعلمين، ولديهم عائلات كبيرة، ولم يكن لديهم أقرباء يقدّمون لهم العون، إلى جانب عدم امتلاكهم الخبرة السياسية التي تساعدهم على تنظيم أنفسهم وخدمة مصالحهم.
هذه العوامل أدت إلى انقلاب في التوجهات الأيديولوجية والسياسية لدى الفئات الضعيفة خصوصًا بعدما اضطرت للاستيطان في مستوطنات الضفة الغربية، مما أدى إلى ظهور ثلاثة تحولات بارزة:
أولًا: تعاظم رفض الأكثرية الجماهيرية للتسوية السياسية للصراع، على اعتبار أنها ستكون مرتبطة بتفكيك المستوطنات أو بعضها، وبالتالي بانهيار منظومة المزايا الإقتصادية التي تمتعت بها.
ثانيًا: تحوّل جميع الذين انتقلوا للإقامة في المستوطنات لتأييد الأحزاب والحركات الدينية واليمينية المتطرفة التي ترفض بطبيعة الحال فكرة الانسحاب من الأراضي التي احتلت العام 1967، على اعتبار أنها «أراضٍ محررة» وأنها تمثل «أرض الأجداد»، والسعي في الوقت نفسه إلى توفير كل الظروف التي تسمح بتعاظم المشروع الاستيطاني وجعله مصدر جذب لمزيد من الإسرائيليين.
ثالثًا: أقنعت الأزمات الاقتصادية المتعاقبة جماهير الأحزاب الدينية الحريدية الأصولية التي لم تظهر حماسة كبيرة للانتقال للعيش في المستوطنات بعد حرب العام 1967، ليس فقط بالإقبال على الإقامة في هذه المستوطنات، بل أيضًا على إنشاء مستوطنات خاصة بها. لقد منحت المستوطنات المقامة في الضفة الغربية أتباع التيار الحريدي بيئة مناسبة تلائم توجهاتهم الإنعزالية في ظل أدنى مستويات الإحتكاك مع المجتمع العلماني. من هنا ليس من المستغرب أن تكون ثلاث من أصل ست مستوطنات يهودية قد تحولت إلى مدن في الضفة الغربية، وهذه المستوطنات يقطنها المتدينون الأصوليون (الحريديم)، وهي: عمانوئيل، كريات سيفر، وبيتار عيليت. وتدل معطيات وزارة الإسكان الإسرائيلية على أن معظم اليهود الذين يتجهون للإقامة في مستوطنات الضفة الغربية هم من المتدينين الحريديم. وقد أدى هذا الواقع إلى كسر احتكار المتدينين القوميين لواء الاستيطان في الضفة الغربية، حيث أصبحت الأحزاب الحريدية الشرقية والغربية صاحبة مصلحة في الدفاع عن بقاء المستوطنات.