قضايا إقليمية

اسرائيل وجدوى الحروب
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

كشف حساب

 

لم يكن العدوان الأخير على قطاع غزة والذي حمل اسم «الجرف الصامد» العدوان الأول من نوعه على الشعب الفلسطيني منذ نكبة 1948، وبالتأكيد لن يكون الأخير. بيد أن ما حصل خلاله كان فريدًا من حيث نتيجة المواجهات، إذ تكبّدت إسرائيل خلال 51 يومًا، خسائر فادحة تتجاوز الخسائر البشرية والمادية والمعنوية، لتصل إلى تحمّل تبعات استراتيجية الطابع، ستترك أثرًا غير مسبوق على وعي الإسرائيليين حيال القضية الفلسطينية أولًا، وحيال الصراع مع العرب ثانيًا، مما قد يشكّل النتيجة الأهم للحرب.

 

القوة الصلبة فشلت
لقد أنهت تفاهمات القاهرة الحرب، ولكنّها ما لبثت أن أجّجت حربًا داخلية في إسرائيل وفتحت الباب على مصراعيه لجدل واسع، كالعادة، حول جدواها وكلفتها المادية والمعنوية، وليس حول أخلاقيتها ومشروعيتها. وربما يكون التوصيف الأدق لنتيجة هذه الحرب، متمثلًا في ما جاء على لسان قائد الاستخبارات العسكرية السابق عاموس يادلين الذي اعتبر أنها انتهت بنتيجة «تعادل استراتيجي» بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية. وهذا يعني بتعبير آخر أنّ العقيدة العسكرية الإسرائيلية التقليدية قد انقلبت على رؤوس مبتدعيها ومنفّذيها، بعدما تبيّنت عبثيّتها وظهرت تداعياتها السلبية المتكرّرة مرة تلو أخرى. كذلك، اتهم زعيم المعارضة الإسرائيلية ورئيس حزب العمل إسحاق هرتزوغ، الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتانياهو، بأنّها «فقدت رشدها السياسي بصورة مطلقة»، وبأنها «تفتح كل يوم جبهة مع دول صديقة لإسرائيل في العالم».
لقد اعتمدت إسرائيل منذ قيامها على استراتيجية القوة الصلبة غير المحدودة وغير المنضبطة لتأمين وجودها (كما تزعم)، كملجأ آمن لليهود. ومنشأ هذه الاستراتيجية كان أفكار القائد والمنظّر الصهيوني الروسي المتطرف زئيف جابوتينسكي الذي عبّر عنها في مقال نشره في العام 1923 بعنوان «الجدار الحديدي - نحن والعرب». وقد أكّد فيه مبدأ ترهيب العرب عمومًا والفلسطينيين خصوصًا، بالقوة، وباحتلال وعيهم بالحديد والنار. طبّق  أرييل شارون إيمانه بهذا المبدأ، من خلال تأسيسه الوحدة 101 التي كان رئيسًا لها، والتي عملت وفق مبدأ «ما لا يتأتى بالقوة يمكن تحقيقه بالمزيد منها». وهذه القاعدة الإجرامية تناوب على تطبيقها قادة إسرائيليون كثر وقد تباهى بها وزير الحرب الحالي موشيه يعلون الذي عبّر عن تأييده لها (قبل أن يطبّقها في غزة وسواها) في كتابه «طريق طويلة طريق قصيرة»، حيث يتحدث عن «كيّ وعي الفلسطينيين وكل من تسوّل له نفسه مقاومة الاحتلال».
مُنيت هذه القاعدة كما هو معلوم، بفشل ذريع في غزة وفي لبنان، بعدما يئست إسرائيل وهي تنتظر الرايات البيضاء التي لم ترتفع قط. وهذا لم يكن فقط نتيجة خلل وأخطاء تكتية واستراتيجية ارتكبتها الحكومة كما ارتكبها الجيش في اسرائيل بإدارتهما للحرب، بل هي نتيجة صبر قوى التصدي والمواجهة وتضحياتهم، وصمودهم وتعلّمهم من أخطائهم. وبدلاً من تراجع الوعي، ظهرت بداية تشكّل وعي جديد يزرع القلق والخوف في قلوب الأعداء من إمكان تطوّر هذا الوعي إلى حالة عامة وشاملة على مستوى الشعوب العربية. وعلى هذا الصعيد، قال وزير الحرب الأسبق موشيه أرنس في مقال له في صحيفة هآرتس ما معناه: «المدفع لوحده لا ينفع»، مؤكّدًا عدم إمكان ردع ما يسميه «الإرهاب» بالقوة. هذا الأمر جعل الوزير السابق أوفير بينيس يكشف صراحة عن وجود أزمة قيادة مستعصية في إسرائيل، محذّرًا من تأثير توالي الحروب عليها وعلى الإسرائيليين المقيمين وغير المقيمين.
وفي السياق نفسه، يعترف المعلّق البارز في صحيفة «هآرتس» إيتان هابر، مدير ديوان رئيس الوزراء الراحل اسحق رابين، بأنه لم تعد هناك حروب إسرائيلية زهيدة الكلفة تنتهي ببساطة بـالضربة القاضية على غرار ما يحصل في أفلام جيمس بوند. وأوضح هابر في مقاله أنّ إسرائيل لن تستطيع أن تقف دائمًا على رؤوس أصابعها متأهبة 66 عامًا. ويدل هابر على اختلاف إسرائيل الحالية عما كانت عليه في عقود ماضية، بالإشارة الرمزية المهمّة إلى هرب المستوطنين من المناطق الملتهبة، بخلاف آبائهم في الحروب الماضية.

 

حسابات مختلفة
تظهر بدايات ارتداد نظرية «كيّ الوعي» الإسرائيلية على أصحابها من خلال مطالبة الباحثَين في معهد أبحاث الأمن القومي شمعون شتاين وشلومو بروم، بضرورة تغيير السياسة الإسرائيلية، وبالاتجاه نحو تسوية الصراع بدلًا من إدارته. وهما يعتبران أن «نشوب جولات حربية متكرّرة في غضون ست سنوات يدل على فشل المفهوم الذي وجّه سياسة إسرائيل حتى الآن». ذلك أن الحروب الإسرائيلية في المنطقة باتت تأتي على شكل دوّامة من الحروب العبثية، التي لا تفضي إلى شيء، سوى تكريس الكراهية وتنمية الأحقاد، ونشر العنف والإكراه والهيمنة في الشرق الأوسط. وعلى صعيد العلاقات الدولية، ظهرت إسرائيل في ضوء هذا السلوك العدواني كدولة متوحّشة فاقدة للشرعية، وهي سقطت في نظر العالم المتحضّر كدولة تقدّر قيمة الحياة الإنسانية والإعمار والسلام والحرّية.
على هذا الأساس تعيش إسرائيل، على الرغم من قوّتها الطاغية واحتكارها التسلّح النووي وضمانة الدول الكبرى لأمنها وتفوّقها، مفارقات كبيرة في وضعها الجيواستراتيجي. فهي قوية من الناحية العسكرية، إلا أن الهاجس الأمني يقضّ مضجعها، وهي مستقرة إلى حدّ كبير من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها تشكو من عقدة الخوف الوجودي المستقبلي. وصحيح أنّها دولة استطاعت إلحاق الهزيمة بعدة دول عربية (بالجملة والمفرق)، إلا أنّها لم تنجح في وأد مقاومة احتلالها، وأخفقت في تطبيع وجودها في هذه المنطقة.
باختصار، يمكن تلخيص الإشكالية البارزة هنا في كون إسرائيل محكومة بمحدودية القوة، وبالتالي بمحدودية الانتصار. وهي تعاني دائمًا ضعف قدرتها على التعايش مع انتصارات كاملة بسبب التناقضات التي تكتنف طبيعتها، فهل هي مجرد دولة، أم دولة ودور، أو دولة وظيفية؟ وهل هي دولة لمواطنيها اليهود أم دولة ليهود العالم؟ وهل هي دولة دينية تعيش في الأسطورة، أم دولة علمانية/حداثية؟ ثم أين تقف حدود هذه الدولة؟ وما شكل علاقاتها مع محيطها؟ وبالتالي فإن أي شكل من أشكال التعايش السلمي (بالنسبة اليها) مع محيطها، يفترض اولاً تحديد حدودها السياسية والديمغرافية والجغرافية والدور المسند إليها في المنطقة. ومن ثم الخروج من الأسطورة والأوهام والنظريات المطلقة إلى مجريات التاريخ الواقعي والنسبي، لأن الانتصارات تولّد نقيضها، بمعنى أنها تتحول إلى أزمة وجود بسبب ما تفرزه من أشكال المقاومة المتطورة والنامية. وفي هذا الإطار، يكتسب الصراع على الأرض مكانة مقدّسة؛ فالوطن وأرض الوطن يأتيان أولاً وهذا المنظور لا يأخذ، على الأرجح في حساباته، الخسائر المباشرة البشرية والمادية أو تحقيق الإنجازات الملموسة، بقدر ما يأخذ في حسابه القدرة على إدامة الصراع مع العدو وإرباكه، وتحصيل إنجازات معنوية متراكمة، بحيث يحتسب الصمود والاستمرار في الكفاح والتصدي، كإنجازات وانتصارات بحد ذاتها. أما بالنسبة إلى الخسائر، فهي كناية عن تضحيات واجبة، مهما عظم شأنها أو زادت عن حدّها، بالقياس مع الإنجازات المتحققة على مستوى نهضة الوطن والأمّة.
إنّ حسابات هيئات الرفض والمقاومة في المنطقة تختلف تمامًا عن الحسابات الإسرائيلية؛ فالشعوب عندنا تتعايش بنوع من الهدوء والاطمئنان مع تاريخها العتيق والمغروس في هذه الأرض، ومع عمقها الحضاري، بالإضافة إلى كونها غالبية وإلى إدراكها أن الأنظمة الاستعمارية والعنصرية آيلة حتمًا إلى الزوال. وهذا في الواقع ما يغذّي ممانعتها ومقاومتها الإملاءات الإسرائيليــة المتغطرســة مهمــا بلــغ ثمــن ذلك.