سياحة في الوطن

اسمها بيت العدل وتاريخها عريق - بسكنتا -جارة القمر المتكئة الى صنين ملهمة الشعراء والأدباء
إعداد: باسكال معوض بو مارون

«... نحنا والقمر جيران، بيتو خلف تلالنا، بيطلع من قبالنا...» هكذا يغني أهل بسكنتا فخورين بأرضهم، وجبالهم وتلالهم الرائعة.. وهم إضافة لذلك يملكون تراثاً وآثاراً وأدباً ينشرونه في العالم أجمع...

بسكنتا كانت أولاً مسكناً، أو على الأقل، مصيفاً للفينيقيين، ومكاناً مناسباً لبناء معابدهم ومدافنهم، ومنهلاً لتجارتهم بالأخشاب الثمينة، كما كانت مسكناً للغزاة اليونانيين والرومانيين بدليل آثارهم ونقودهم وكتاباتهم المحفورة، وموطناً للفريق القوي من أمراء المردة الذين جابهوا العرب والغزاة والبيزنطيين حتى آخر القرن الثالث عشر.

 

عصور توالت على البلدة

تعلو بسكنتا البلدة عن سطح البحر 1250 متراً، أما في جرود أراضيها العالية فيصل الإرتفاع الى ما يقارب 2625 متراً. وتبلغ مساحتها نحو 48 كيلومتراً مربعاً، وهي ترتوي من نبع العسل الى ينابيع كثيرة منها: الجويزات، العاصي، جعفر، صنين، باكيش (أعلى نبع في لبنان)، جوز النمل، الوادي.
بفضل المياه والطقس المؤاتي، تكثر الأشجار المثمرة في البلدة التي يعتاش نحو 40 بالمئة من سكانها على الزراعة. كما تزدهر فيها صناعات النول المحترفة من بسط وسجاد صغير وأغطية.
بسكنتا التي يعني اسمها السرياني «بيت العدل» أو القضاء أو الحكم أنشأها أمراء المـردة الذين استوطنـوا كسروان وجعلوها قاعـدة للبلاد التي سميت في ما بعد كسروان نسبة الى كسرى الأول من أمراء بسكنتا.
وهذه الإمارة كانت لها قلاعها وحصونها، وقد امتنعت على الفتوحات العربية منذ مطلع عهد الخلافة العربية حتى عهود المماليك بفضل حصونها الطبيعية وصلابة رجالها.
ترك اليونان والرومان في بسكنتا بعض المعابد والقصور فسكنها أمراء المردة وجعلوها حصوناً لهم. وهؤلاء الأمراء هم: الأمير يوحنا صاحب قصر كفريقده، الأمير سمعان الأول صاحب قصر ضهر الحصين وخلفاؤه الأمير كسرى الأول، الأمير الياس، الأمير سمعان الثاني، الأمير موسى، الأمير سمعان الثالث، الأمير كسرى الثاني، الأمير كسرى الثالث، والأمير سمعان الرابع حتى العام 1130.

ومن آثار الأمراء اللمعيين فيها قصران كبيران مميزان أحدهما تم ترميمه بشكل متقن ويملكه رئيس البلدية الحالي المحامي سامي كرم. وفيها كنائس أثرية عدة منها، كنيسة مار موسى قرب القصر اللمعي ويعود تاريخها الى نحو 150 عاماً. كما يجدر ذكر كنيسة مار يوسف التي قدّر عمرها بنحو 250 سنة، وكنيسة مار روكز التي تجاريها بالقدم.
كانت بسكنتا أولاً فينيقية، ثم أضحت يونانية ثم رومانية. وكانت رابعاً بلداً للمردة ومن قواعد حكمهم، وتغيّرت في عهد الأمراء العسافيين في العام 1664 لتكون مأوى لفلول من النازحين عن شمال لبنان. وفي العهد العثماني أصبحت تحت سيطرة الأمراء اللبنانيين من بني شهاب. ومنذ العام 1711 باتت إقطاعية، حكمها الأمراء اللمعيون والتجأت إليها عائلات مسيحية من حوران وسوريا ولبنان الشمالي. وكان هؤلاء السكان يخضعون أولاً لأمرائهم ثم عن طريقهم لأمير لبنان ومن بعد الإمارة العامة لقائمقامية النصارى حتى العام 1860. وبعد العام 1861 تبعت لقائمقامية المتن وأصبحت قاعدة لناحية عرفت باسمها، أما حدودها فكانت من زحلة (التي كانت ملكاً لأمرائها) حتى نهر الكلب.
اشتهرت بسكنتا قديماً بالنسيج والحدادة والصياغة وكان فيها نحو 400 نول للحياكة و50 مصبغة؛ وفي البلدة سوق تجارية كانوا يدعونها أولاً «السطوح»، فعلى سطوح تلك الدكاكين كان يجتمع رجال البلدة في أوقات الفراغ فيتداولون بالأمور التجارية والصناعية والإقتصادية والعمرانية. وكان فيها خمسة معامل لحل الحرير، حيث كانت البلدة مليئة بأشجار التوت وتنتج من الفيالج 25 الى 40 ألف إقة، الا أن هذه الأشجار استبدلت بعد كساد تجارة الحرير بين الحربين الكونيتين، ببساتين من الفاكهة، وأشهرها الدراقن والخوخ والكرز والتفاح والإجاص. وتشتهر بسكنتا بكرزها الكبير والغامق اللون ذي المذاق الحلو. ومن منتوجتها العسل الأبيض والألبان والجبن والقريشة.

 

صنين ونقوش أدريان

اسـم صنين كلداني مركب من لفظتين «سين» وهي اسم أحد آلهة القمر و«نين» معناها النور، فيكون معنى الإسم: نور القمر وقد وجدت كتابات قديمة ذكرت الإسم بحرف السين أي «سنين».
و«صنـين» جبل في القسم الشمالي من سلـسلة جبـال لبـنان يعلو نحو 2680 متراً عن سطح البحر وهو على شكل مثلث، ويـبدو من بيروت على شكل قمتين شاهقتين.
على قمته الجنوبية الأكثر ارتفاعاً منطقة «خربة المزار» وهي بقية هيكل روماني على اسم كوكب المشتري أو «رامي الصاعقة» كما كان يدعى آنذاك. وحجارته منحوتة ضخمة ويبدو نصفه القائم حتى اليوم واقفاً يتحدى عوامل الطبيعة.
في المنعطف الأسفل لهذا الجبل وفي محلة «حيط لوزه» آثار قلعة «سنان» التي ذكرها الرحّالة الجغرافي «استرابون» وخرّبها بومبه الفاتح الروماني، الذي خرج عام 64 ق.م. بعسكره من بيروت وتوجه نحو القلعة وقام بتدميرها شر تدمير، ولا تزال لها بقايا حتى اليوم ومنها أقبية تحت الأرض. وفي أسفل الرابية مكان يدعى «الشمسان» نقش على صخر ضخم فيه كتابـة منع بها الأمبراطور أدريان قيصر قطـع 4 أنواع من الشـجر منها الأرز والعرعر.
وقد عثر قرب نبع صنين تحت الأرض على شجرة أرز قديمة لم يفسد خشبها مع السنين، كما عثر أيضاً على متحجرات لثمار الدراق ما يدل أن هذه الشجرة كانت في ما مضى شجرة حرجية.

 

قناة باكيش

تمثل المحلة منبسطاً من الأرض يمتد من تلة «المحروقة» وحتى نبع العاصي بارتفاع تدريجي، وعلى القمة يقع أعلى نبع في لبنان وهو نبع «قناة باكيش» الذي يعلو 1860 متراً عن سطح البحر.
وكلمة باكيش تحريف للفظة «باخوس» وهو إله الخمر الذي أقيمت له الهياكل في تلك المشارف. وقد وجد قلب خاتم من الحجر الكريم بلون الخمرة الذهبية محفور عليه صورة الإله باخوس وهو يعصر عنقوداً من العنب في كأس منقوشة برسوم مختلفة.
بين صنين وقناة باكيش مضيق دعي ثغرة البندق نسبة الى ما سقط فيه من رصاص البنادق يوم طارد أهالي بسكنتا وكسروان ابراهيم باشا ابن محمد علي المصري فأخرجوه من البلاد في العام 1841.
تزخر ناحية قناة باكيش بالمزروعات وأبرزها الحنطة والذرة والحمص والبطاطا والدخان، وأضيفت عليها في الآونة الأخيرة الفاكهة الصيفية اللذيذة.

 

وادي أولون وقلعة الحبس

هو من أعمق أودية لبنان، واسمه الأول يوناني وقد حمل لقب وادي الجماجم عام 1290 لموقعة جرت بين القيسيين واليمنيين حيث امتلأ الوادي بجماجم القتلى.
في أسفل الوادي قرب الطريق المؤدية الى بتغرين كتابة صليبية يعود تاريخها للعام 1025، كما عثر على نقود فضية كتب عليها الملك الصالح أبو جعفر مالك الدنيا والدين، والملك الناصر قلاوون.
أما في المكان المعروف بشاوية الزمّار، فهناك موضع يعرف باسم «قلعة الحبس»، كانت توجد فيه أبنية رومانية ومدافن، ومعالم أثرية أخرى.

 

المنبوخ ومشميشه

في محلة المنبوخ التي يعني اسمها الفينيقي «الينبوع»، يوجد حجر اسطواني قديم له فوهتان متساويتان قطراً، تصب مياه الواحدة الى اليمين من جهة جبل الزعرور حيث آثار أبنية ضخمة؛ أما الثانية فتصب مياهها شمالاً متجهة الى أبنية قديمة كانت قائمة في أعلى وادي الدلب. وتلك الأبنية كانت قلاعاً يونانية ثم رومانية حربية لم يبق من آثارها اليوم الا الحجارة الضخمة والنواويس المكشوفة؛ وفي أسفل وادي محلة الخلّة آثار مطاحن قديمة كانت تدار بقوة الماء.
وفي مشميشه آثار بارزة لقلعة قيل إنها فينيقية، ومدافن لملوك وأمراء العصور القديمة.
وقد وجدت في تلك المحلة صحون من الفخار ونقود نحاسية يرجع عهدها الى سلفقوس نيكاتور وأخرى فضية تعود الى أنطيوخس الثالث، الى نقود رومانية عديدة أكثرها من النحاس وآنية من خزف من النوع المعروف بالقيشاني.

 

الحقل المشتعل

في محلة كفريقده ومعنى الإسم «الحقل المشتعل» قصر الأمير يوحنا أحد أمراء المردة الذي قيل إنه أنشئ في العصر السابع للميلاد.

وقد بني القصر بحجارة ضخمة حسنة النحت يشبه بعضها حجارة بعلبك، وحوله أعمدة ضخمة لبعضها تيجان منقوشة نقشاً بديعاً؛ وحوله نواويس منحوتة في الصخر الثابت وبعضها مقطوع مسنّم وعليه نقوش لولبية. وفي الناحية الشرقية ينبوع قديم غزير على قنطرته كتابة يونانية لا تزال واضحة، كما وجدت نقود يونانية ورومانية وسُرُج من الفخار وقواري لحفظ دموع الباكين على موتاهم؛ وكل هذا يدل على أن القصر الذي سكنه يوحنا أحد أمراء بسكنتا من المردة، هو من العهد اليوناني والروماني.

 

 الحصين

فوق وادي صنين قمة تدعى الحصين وهي تصغير «حصن»، وجدت عليها آثار قصر كبير هو قصر الأمير سمعان أحد زعماء المردة الذي مسحه بطريرك الموارنة بحضور أمير جبيل وبقية أمراء المردة ملكاً على كسروان.
وهذا القصر يمكن أن يكون معبداً فينيقياً رممه الرومان وسكنوه، وعلى حد قول الأب مارتن اليسوعي سكنه في ما مضى الفيلسوف الفينيقي «سنكن تين» الذي كان يصطاف في بسكنتا ويقال انها أخذت إسمها منه.
وعلى قمة الحصين وجدت نقود يونانية ورومانية وآثار لقساطل من فخار مردومة بالتراب كانت تجر عبرها المياه الى تلك الرابية من نبع الخريبة الواقع شمالي بسكنتا. كما عثر على تمثال لإله مجهول وقطع فخار كثيرة ترجع الى عهود قديمة جداً.

 

مغارة سيف الدولة

في الجانب الشمالي من وادي الخلّة مغارة أثرية طبيعية قائمة على صخور متفرّعة من مجرى الوادي. وفي قنطرة المغارة التي تعلو عن الأرض نحو خمسين متراً، حلقة خشبية، وفي الداخل أيضاً قنطرة أخرى محفورة في الصخر الأصم.
يقال أن هذه المغارة التي يوجد فيها آثار مذبح للعبادة سميت على إسم سيف الدولة، ويحكى أن في داخلها دهليزاً بدرج في باطن الأرض يفضي الى الوادي للاستقاء من ماء النهر.

 

الحاضر والمستقبل: سياحة وازدهار

بسكنتا البلدة والأهالي تحدث عنها المحامي سامي كرم رئيس بلديتها، فقال: انها تتمـيز بانفتاح أهلها وكرمهم، وبتلالها التي يبدو من خلفها القمر في الليالي الصافية.
وعن البلدية تحدث المحامي كرم قائلاً: يضم المجلس البلدي الحالي 5 محامين وطبيبين ومهندساً وأساتذة في التعليم ومتعهدين يعملون جميعاً بتوافق تام من أجل مصلحة البلدة ونهضتها.
بدايـة قامت البلـدية بتزفيت الطرق الداخلـية بصـورة كاملة ويجري العمل على تزفيت الطـرقات على أطـراف الضيعة كما تم توسيع وتزفيت مدخل بسكنتا الجـنوبي؛ والجدير ذكره أن أهالي البلدة لم يتقاضـوا مالاً بدـل أراضيهم التي استخدمـت خـلال عمـلية التوسيع وذلـك تشجـيعاً للإنمـاء والتحسـين في منطقتهـم.
وأضـاف: نتيـجة للجـهود المستمـرة من قـبل البلديـات السابقـة والبلدية الحالية تم بناء حيطان دعم وأقنية وترميم أدراج قديمـة وإقامــة أخرى، إضافـة الى توسيـع الطـرقات الداخـلية والخارجيـة كافـة وإنارتـها، وإنشـاء البـنى التحـتـية.
وأكـمل رئيـس البلدية قائلاً: مشاريعـنا المستقـبلية كـثيرة وأولـها إنشـاء ملاعب رياضية وتوسيع طريـق وادي الجماجـم وتأمـين سلامـة السير عليـها وذلك لتشجيـع السياحة في المنطقة.
وختم قائلاً:
منـذ إنشاء مركز التـزلج في أعالي الجـبل في العام 1967 ازدهرت المنطـقة، وتكاثـرت في جبل صنين المـقاهي والمطـاعم، كـما ازدهرت مؤخراً منطقة قـناة باكيـش وانتعـشت فيها السياحة. وثمـة مشـروع ســوف يحـوّل اعتـباراً من العـام القـادم منطـقة باكيش في العقبة الحمراء الى منـطقة سياحيـة من الطـراز الأول.

 

ثائر في بسكنتا

يروي بعض أهالي البلدة الحادثة التالية: كان نعوم لبكي ثائراً من بلدة بعبدات وكان يقوم بمؤامرات ضد الأتراك، فلاحقه هؤلاء فهرب الى بسكنتا حيث  شكّل قوة من الرجال ومنهم طانيوس أبو ناضر، وقد واجهوا الأتراك في منطقة الجريد ودحروهم ولم يستطع المهاجمون دخول المنطقة وبقيت عاصية عليهم. وفي وادي الجماجم مغارة يستحيل الوصول إليها، تدعى مغارة طانيوس أبو ناضر.

 

عائلات بسكنتا
يبلغ عدد سكان بسكنتا حوالى 17 ألف نسمة، وعائلاتها بحسب الترتيب الأبجدي هي: أبو حيدر، الحاج، الخوري حنا، أبو ناضر، الكتّاني، أيوب، أرويان، أبو خليل، أبو عماد، أبو فرح، أبو مارون، الريف، بلعة، بشّور، بصيبص، بعلبكي، تنوري، تبشراني، تبانه، جلاليان، جدعون، حبيقة، حدثي، حداد، حبيب، حرب، حريقه، حموي، حنكش، خوري، رينو، رميلي، سلامة، شتت، صقر، صفير، صالومي، صيّاح، ضو، عاقوري، عبدو، عتيق، عجوز، علم، غانم، فريفر، فليحان، قرطباوي، قرطاس، كرباج، كعدي، كيوان، كرم، لطيف، مهنا، متني، مدوّر، معتوق، منيّر، مبارك، نجيم، نعيمه، هراوي.

 

ميخائيل نعيمه

في منطقة الشخروب يقع منزل الأديب الكبير الراحل ميخائيل نعيمه الذي طالما تغنّى في كتبه بهذه المنطقة الرائعة، والتي كتب عنها تحت سنديانة منزله المطلّ واستلهم من جبالها ووديانها وطبيعتها الوعرة أجمل ما دوّنه من سطور الأدب، وقد اقترن اسم ميخائيل نعيمة باسم المنطقة حتى عرف بناسك الشخروب.
في العـام 1999، وبهمّة أبناء البـلدة تمـت إقامة نصب قرب منـزل الأديب حيث الغرفة الصخرية التي كان يكتـب فـيها. وأقيــم له تمثــال يمـثل وجـهه.
ومن الأدباء والشعراء الذين انجبتهـم بسكنتـا نذكر: عبـدالله غانم، جـورج غانـم، ميشـال طـراد، رشيد أيوب وسليمـان الكـتاني.

 

                 المرجع                       

«تاريخ بسكنتا وأسرها»

الخوراسقف بطرس حبيقة