ثقافة وفنون

اصدارات ثقافية
إعداد: الهام نصر تابت

 

«المزراب» للعميد مخول مفتوح يتسلطن من عليائه بصوت واضح لا لبس فيه ولا مواربة

في ما مضى كان لسطح البيت في زاوية منه فتحة تأتي إليها مياه المطر لتسقط عبرها إلى الأسفل، فيظل البيت آمناً من شر الدلف أيام البرد.
تلك الفتحة هي المزراب بصيغته المفقودة في أيامنا بعد أن حلّ محله قسطل يحبس المياه في داخله، ليقودها إلى مكان ما لتذهب إلى سبيلها من غير جلبة.
لكن المزراب الذي اختاره العميد أسعد مخول عنواناً لكتابه، هو ذلك الذي ألفه أهلنا وعرف بعضنا صوراً له وإن نادرة. مزراب مفتوح للماء والشمس والهواء معاً، يتسلطن من عليائه تاركاً للمياه أن تتدفق عبره من غير خفر، وتلك ليست ميزته الوحيدة.
فتساقط المياه من أعلى يجعل زخمها أقوى، وهذا الزخم يترجمه صوت واضح جلي، تتغير تقاسيمه وفقاً لهمة الطبيعة في زخ المطر. لكنه في كل الأحوال يظل صوتاً واضحاً جلياً لا لبس فيه ولا مواربة، حتى النقاط الأخيرة لا تغيب في الأرض من دون صدى.
وقبل أن يصل المزراب إلى مبتغاه في الأرض يكون رذاذ الماء قد نقش في الحجر أحياناً، أو ترك على الجدار وشوشاته، ليعود إلى التراب محركاً فيه الحياة.
هذا الصوت الواضح الجلي يرافق كتاب العميد مخول من الغلاف إلى الغلاف. وإن كان المؤلف يعرّف بالمزراب «ماءً صافياً مرنماً يضج فوق الجدار...»، فإن للقارئ أن يكتشف نصاً تلو آخر، كم هو ساطع غضب الصوت المرنم، وكم هو  مؤلم العيش في ظل حضارة اكتسحت في طريقها معظم ما هو جميل ولطيف ورهيف وشفيف، في الطبيعة وفي البشر.
حضارة خرج فيها الانسان المتسلطن المتسلح بكل ما حباه به الله من عقل وقوة وغرائز على النظام الذي أرسته الطبيعة لتقيم التوازن بين عناصرها وكائناتها.
يكشف الكاتب باكراً (عبر: الغلاف، المقدمة، «ساعة عمتي»، و«جمهورية جدتي») معالم جمهوريته التي ينتمي اليها وباتت فردوساً مفقوداً. ويواصل على امتداد صفحات الكتاب بناء نصه المتأمل، المتألم، الغاضب، والباحث عن مكان ما تحت الشمس لم تعبث به يد انسان، وعن انسان قادر على عيش انسانيته من دون أن يكون عيشه على حساب الكائنات الأخرى، ويبحث عن لحظة يمكن خلالها استعادة زمن كان العالم فيه اكثر نقاء وبساطة.
يتأمل مع «أبو ابراهيم» في عناصر الطبيعة وأقانيمها مقدساً المياه مقدّماً اياها على سواها. ويرتحل مع صديقه «الياس» في حلم من شأنه ايقاف مجازر الناس في حق الشجر مسلّماً أمره للسنديان.
أما حين يدخل المدينة من باب المصرف فهو يتذكر جارته «أم جرجس» وصحونها المملوءة خيراً على الدوام تحسباً لزيارة ضيف أو مرور عابر سبيل. وإذ يوغل في المدينة اكثر يحسب للهاتف الف حساب. وتصبح «حفيدة حواء» تلك «الفاتكة الشائكة»... على كلٍ فإن «حفيدة حواء» تنال من التهكم اللاذع ما يكفي لجعل نساء الأرض يتكاتفن في ثورة تطيح بالمزراب وربما بالسطح... ومن لم يصدق فليقرأ مثلاً في الصفحة 170: «استراحت أعصابي لوقوف تلك الفاضلة الشهمة إلى جانبي، لكنني كنت أرى فيها ملاكاً منقذاً حيناً، وانتقل فجأة إلى تخيّل الكلبين وهما يعضانني، بالنيابة عنها لا سمح الله، بحيث يبقى أحمر شفتيها سليماً، وتبقى يداها غير ملطّختين بدمي»... هذا مجرد مثل بسيط، ففي مقالة «ما الجمال؟» كما في سواها، ما هو ربما أعظم!
لوهلة نظنه يكسر حدة الدخول في الحياة المدينية وأخلاق نسائها ورجالها وأحوال فنانيها وسياسييها... فيعود إلى التنور وصاحبته «بلوطة». لكنه لا يتأخر في اخبارنا أن أنياب المدينة امتدت إلى الخبز، وان غبارها وضجيجها ونفاقها احتلت التنور.
ومع تواتر النصوص تتصاعد المرارة ويعلو صوت التهكم والسخرية اللاذعة، لكن يظل للتأمل مكان رحب وللغضب مكان آخر.
ليست المرة الأولى التي نقرأ فيها للعميد أسعد مخول. وهي لن تكون الأخيرة، لكن في كل مرة نتأكد اكثر ان هذه الكتابة السلسة في ظاهرها تستدعي اكثر من قراءة. في كل سطر قرصة، أو فكرة تستأهل أن نتفرغ لمرافقتها، أو ربما طرفة، أو حتى مجرد نزهة إلى أماكن باتت جزءاً من الماضي والحنين. لكن في كل الأحوال نحن أمام نص فيه من الصعوبة بقدر ما فيه من الجمال، فيه من البساطة بقدر ما فيه من الحدة والصرامة، وفيه من العمق والتأمل بقدر ما فيه من التهكم اللاذع.