زيادة الأعمال

اقتصاد لبنان من الحرير إلى التكنولوجيا الإبداع والابتكار سمة بارزة
إعداد: د. تراز منصور

يشعُّ الإبداع اللبناني منذ فجر التاريخ من خلال مهاراتٍ وابتكاراتٍ أسهمت في تحولاتٍ كبرى في الاقتصاد والمجتمع. من تربية دود القزّ وصناعة الحرير، التي ازدهرت لقرون وشكّلت دعامة أساسية للاقتصاد المحلّي، إلى قطاع تكنولوجيا المعلومات، الذي أثبت قدرته على الصمود وسط الانهيار المالي والأزمة الاقتصادية التي بدأت منذ العام 2019، وهي الأزمة التي وصفها البنك الدولي بأنّها واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. وبينما انهار قطاع الحرير عقب الحرب العالمية الأولى، مخلّفًا، إلى جانب عوامل أخرى، مجاعة قاسية أودت بحياة كثيرين، نجح قطاع التكنولوجيا في تجاوز الأزمة المالية، ليصبح رافعة أساسية للاقتصاد وعاموده الفقري.

يسلّط هذا المقال الضوء على النموذجين المذكورين من الإبداع اللبناني في حقبتين مختلفتين، لمقارنة أثرهما في الاقتصاد والمجتمع من خلال قراءة تاريخية وتحليلٍ لكل من أستاذ التاريخ والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية البروفسور عماد مراد، ورئيسة قسم التسويق في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية الدكتورة نانسي قنبر.

 

يوضح البروفسور عماد مراد أنّ ثمّة خطأً شائعًا يتداوله المؤرخون حول تجارة الحرير وتربية دود القزّ وزراعة التوت في لبنان، إذ يُشيرون إلى أنّ ازدهارها بدأ في زمن الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير، أي في أواخر القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر، بينما في الواقع، تعود جذورها إلى ما قبل التاريخ المسيحي.

ويؤكد مراد أنّ تجارة الحرير كانت قائمة في الصين منذ نحو ألفي عام، وأنّ زراعته وصناعته وصلتا إلى فينيقيا قبل الميلاد بخمسمئة عام، حيث احترفهما الفينيقيون، الذين كانوا حلقة وصل بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وغرب البحر المتوسط وقارة آسيا.

وهو يضيف: «أسهم التبادل التجاري عبر المدن اللبنانية، ولا سيّما صيدا وصور، في ازدهار صباغة الحرير بالأرجوان، التي كانت حكرًا على الأباطرة الكبار في الحضارات القديمة. وقد تفرّد الفينيقيون في تجارة الحرير وتسويقه في أوروبا، كما أسهمت الإمبراطورية الفارسية الكبرى في تنشيط طريق الحرير الذي كان يصل إلى شرق البحر المتوسط، ما عزّز الحركة التجارية في الدول الواقعة على امتداد هذا الطريق.»

 

الشجرة الذهبية

في القرون الرابع والخامس والسادس الميلادية، نشطت الحركات التبشيرية المسيحية في شرق آسيا، وأسهمت في جلب تقنيات متقدمة في تربية دود القز وصناعة الحرير وتجارته، انتشرت في سوريا ولبنان. وبلغ هذا القطاع ذروته خلال الإمبراطورية البيزنطية، وتحديدًا في عهد يوستنيانوس الكبير، ولُقّبت شجرة التوت حينها بـ «الشجرة الذهبية».

وفي السياق، يشير الدكتور مراد إلى الأفكار والتقنيات الزراعية والصناعية المتطورة التي جاء بها الأمير فخر الدين الثاني الكبير من «توسكانا» في القرن السابع عشر، والتي أسهمت في تحويل صناعة الحرير من حرفة فردية إلى صناعة مزدهرة، شهدت نشوء مصانع كبيرة أدّت إلى تطويرها ونموّها.

تواصل ازدهار قطاع الحرير وبلغ تقدّمًا ملحوظًا في عهد المتصرّفية، مع انتشار التطوّر والعلم والثقافة. فقد أنشئت في تلك المرحلة المعامل والمصارف والكرخانات والمراكز التجارية الكبرى على ضفاف البحر المتوسط، حيث كان يتم تسعير الحرير وتصديره إلى أوروبا، لا سيما إلى مرسيليا والبندقية. وشهدت المرحلة تنافسًا بين الأوروبيين المقيمين في حيفا ومناطق أخرى على نقل الحرير إلى بلدانهم. وقد سعت القنصليات الأوروبية، ولا سيّما الفرنسية، للسيطرة على تجارة الحرير في لبنان، خصوصًا في صيدا وصور.

 

تحوّل اقتصادي ودور محوري للمرأة

بعد سقوط الإمارة المعنية في العام 1697 وبداية عهد الإمارة الشهابية، استمر اعتماد المقايضة في العمليات التجارية، فكان الحرير يُستبدَل بالخشب مثلًا. وبعد نحو مئتي سنة، وتحديدًا في القرن التاسع عشر، شهد لبنان تحوّلًا جوهريًا في الاقتصاد والسياسة، ونقلة نوعية في المجتمع ككل، خصوصًا مع دخول المرأة إلى سوق العمل، وتحديدًا في مجال غزل الحرير وتربية دود القزّ. وللغاية استُقدمت خبيرات في صناعة الحرير من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، لتدريب الفتيات اللبنانيات، ما أسهم في رفع مستوى الإنتاج وزيادة المداخيل. وأدّى ذلك إلى تنشيط الحركة التجارية في مرافئ بيروت وصيدا وصور، وإلى قيام شركات مالية أسهمت في تحقيق البحبوحة المالية.

أمّا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد شهدت المتصرفية نقلةً نوعية وسط تحديات سياسية، أبرزها النزاع بين داوود باشا ويوسف بك كرم بين العامين 1861 و1864. كما ازدادت الاستثمارات الأوروبية في جبل لبنان، فشهدت الكرخانات توسّعًا ملحوظًا، وارتفعت أجور النساء، فيما أقدم الفرنسيون على شراء أراضٍ للاستثمار.

ويلفت الدكتور مراد إلى الجذور التاريخية للعلاقة بين فرنسا ولبنان، فضلًا عن ارتباط فرنسا بالدولة العثمانية منذ بداية القرن السادس عشر في إطار «نظام الامتيازات» الذي أقرّه السلطان سليمان القانوني. وقد مكّن هذا النظام الفرنسيين من تعزيز نفوذهم في لبنان خلال الفترة الممتدة بين 1850 و1871، ما منحهم صلاحيات واسعة أسهمت في فرض ما يُعرف بـ«الهيمنة الاقتصادية» على جبل لبنان، بما في ذلك السيطرة على المرافئ وإنشاء المدارس الناطقة باللغة الفرنسية.

 

طفرة اقتصادية

في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، شهد لبنان طفرة اقتصادية، ترافقت مع ازدهار زراعة أشجار التوت في مختلف البلدات، مما عزز مكانة قطاع الحرير. ظهر في هذا المجال عدد من الشخصيات البارزة، من بينهم رجل الأعمال الفرنسي فيغون، الذي أنشأ أكبر كرخانة لاستخراج شرانق الحرير وتحويلها إلى خيوط حريرية في قرى قضاء بعبدا وبتاتر. كما لمع اسم عدد من تجار الحرير الأثرياء في لبنان، مثل فرعون وشيحا وآل عقل وشديد في منطقة المتن.

وفي إشارةٍ إلى الارتفاع المتزايد في أعداد الكرخانات والمصانع وتطورها آنذاك، أوضح مراد أنّها بلغت 200 مصنع عشية الحرب العالمية الأولى، معظمها في مناطق المتن، الشوف وعاليه، فيما لم يتجاوز عدد المصانع الأخرى المنتشرة في أقضية كسروان وجبيل والبترون أصابع اليد الواحدة.

وبحسب مراد، شكّلت صناعة الحرير وتجارته عماد الاقتصاد اللبناني في تلك الفترة، إذ ارتفع الإنتاج من 150 ألف كيلوغرام في العام 1870 إلى 300 ألف كيلوغرام بين العامين 1913 و1914، مما أسهم في تحفيز قطاعات أخرى. وتحوّلت الأراضي البور إلى حقولٍ مزروعة بالتوت، ووفّر القطاع فرص عمل لنحو 15 ألف شخص، (من بينهم 12 ألف امرأة، أي ما يقارب 80% من نسبة العمّال)، وهم يشكلون الطبقة الوسطى، أي بمعدل 50% من مجمل العاملين في لبنان.

خلال الازدهار المالي والتجاري في متصرفية جبل لبنان، شهدت المدن اللبنانية والأسواق المالية وفرة في العملة النقدية، ما أدى إلى إنشاء «الكونتوارات» التي كانت تمنح القروض بهدف توسيع الأعمال وتحقيق تحوّل في نمط الحياة. كما أدّى الانتعاش الاقتصادي إلى إدخال أصناف جديدة من المنتجات إلى الأسواق، إلى جانب ازدهار فكري وثقافي تجلّى في انتشار المجلات والصحف وتطوّر المطابع.

وشهدت تلك الفترة أيضًا نهضة علمية بارزة تزامنت مع افتتاح الإرساليات التعليمية، ولا سيّما تأسيس الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) في العام 1866، تلتها الجامعة اليسوعية (USJ) في العام 1875، ما أسهم في تعزيز الحركة الفكرية والتعليمية في البلاد.

وأشار الدكتور مراد إلى أنّ النمو السريع الذي شهده لبنان خلال تلك المرحلة أدى إلى بروز مظاهر الرفاهية ونشوء طبقة واسعة من الأغنياء والبرجوازيين، لا سيّما في عمشيت والمتن. وقد حظيت تجارة الحرير وازدهارها في لبنان باهتمام الصحافة آنذاك، حيث نُشرت العديد من المقالات التي وثّقت تأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

 

نكسة وجوع

كان للطفرة الاقتصادية آثار سلبية كبيرة، تجلّت في الحرب العالمية الأولى (191٨1918) . فبعد أن اتجه عدد كبير من المزارعين نحو زراعة التوت وتجارة الحرير، رغبةً بتوفير السيولة الفائضة، مهملين الزراعات الأخرى، حدثت كارثة اجتماعية كبيرة برزت إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى، إذ نزح الناس من مناطق الحرب وهاجروا، فتأثرت تجارة الحرير في لبنان وكذلك في أوروبا. كما ظهرت موجة من الجراد الذي أكل «الأخضر واليابس»، وتزامن ذلك مع موجة من الجفاف، أدّى إلى الشحّ في المياه، ما أثّر على أشجار التوت وتسبّب في تلفها مع باقي المزروعات. وأصيب قطاع الحرير بنكسة قوية، وعمّ الكساد والبطالة والفقر، وجاع اللبنانيون. وبسبب المجاعة، خسر لبنان 200 ألف شخص من أصل 1.6 مليون نسمة، نتيجة الارتهان الكامل لصناعة الحرير وتجارته.

 

تكنولوجيا المعلومات والصمود في وجه الانهيار

من خلال مقارنة علمية بين حقبة صناعة الحرير وتجارته وبين العصر الحالي الذي يشهد تطور قطاع التكنولوجيا، يتضح الدور المحوري الذي لعبه كلٌّ منهما في الاقتصاد اللبناني ضمن سياقه الزمني. ففي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت صناعة الحرير الدافع الأساسي لعجلة الاقتصاد، إذ حرّكت مختلف القطاعات والمرافئ، ووظّفت نحو 50% من اليد العاملة اللبنانية، كما أسهمت في إدخال المرأة إلى سوق العمل لأول مرة بنسبة 80%.

أما في القرن الحادي والعشرين، فقد برز قطاع التكنولوجيا، أو ما يُعرف باقتصاد المعرفة، كقوةٍ دافعة جديدة، حيث أثبت متانته وكان العمود الفقري للاقتصاد خلال الأزمة المالية في العام 2019. وفي الوقت الذي انهارت فيه معظم القطاعات، استمرت الشركات التكنولوجية في العمل، ولم تكتفِ بالحفاظ على موظفيها فحسب، بل توسّعت أيضًا، فوظّفت المزيد وافتتحت فروعًا في دول الخليج العربي وقبرص وأوروبا وأميركا، وذلك بخلاف ما حدث في الماضي على صعيد الحرير، إذ وجد اللبنانيون أنفسهم في أزمة بعدما تخلّوا عن مختلف الزراعات لصالح زراعة التوت، ما أدى إلى إغلاق مصانع الحرير، وخلّف فراغًا اقتصاديًا واجتماعيًا كبيرًا.

 

نمو متسارع رغم التحديات

يشهد القطاع التكنولوجي في لبنان نموًا مطّردًا في مختلف مجالاته، ويمكن تصنيفه من بين الأسرع نموًّا في العالم. فهو يشمل تطوير المحتوى الرقمي، تطبيقات الهواتف الذكية، البرمجيات المتخصصة، ألعاب الخلوي والإنترنت، إضافةً إلى تطوير المواقع الإلكترونية والخدمات الرقمية…

وقد بلغ حجم سوق هذا القطاع في العام 2016 نحو 436 مليون دولار، وقُدّرت نسبة نموه بـ9.7% مع حلول العام 2019، وفق دراسة أعدّتها المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات (إيدال). ويضم هذا القطاع اليوم مئات الشركات، معظمها صغيرة ومتوسطة الحجم، وتوظّف عددًا كبيرًا من ذوي المهارات العالية، مع تزايد الطلب على مهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات سنويًا في لبنان والخارج.

مع ذلك، يواجه قطاع تكنولوجيا المعلومات تحدّيات وأزمات منذ العام 2019، أبرزها هجرة الأدمغة، فهو يعتمد على المهارات البشرية، والأنشطة المعرفية، التي تُسهم في تسريع وتيرة التقدّم الإبداعي والتقني والعلمي.

هنا لا بد من الإشارة إلى أنّه في إطار اقتصاد المعرفة، تعتمد الأعمال التجارية على القدرات الفكرية أكثر من اعتمادها على المدخلات المادية أو الموارد الطبيعية، إذ تقوم على ركائز أساسية، تشمل التعليم، والنظام الاقتصادي والمؤسسي، والبنية التحتية الرقمية، إضافةً إلى الابتكار، الذي يعدّ المحرّك الأساسي لاستدامة هذا القطاع في ظل التحديات الراهنة.

وفي لبنان، تشكّل المؤسسات الأكاديمية، والشركات العاملة في البحث والتطوير، إضافةً إلى المبرمجين والمصممين الذين يبتكرون برمجيات وحلولًا رقمية جديدة، عناصر أساسية في اقتصاد المعرفة. ويتم لاحقًا دمج هذه المعرفة وتوظيفها في مختلف القطاعات الاقتصادية، ما يسهم في تعزيز الإنتاجية والابتكار.

ويتجلّى أثر اقتصاد المعرفة في العديد من المجالات، فعلى سبيل المثال، يعتمد المزارع اللبناني على التطبيقات الرقمية لإدارة محاصيله، وتسويق إنتاجه، وتحسين وصوله إلى الصناعات الغذائية. كما يستفيد قطاع التصنيع من الأدوات الرقمية لتطوير عملياته وزيادة كفاءته. وفي المجال التعليمي، توفّر المدارس والجامعات وسائل تعليم رقمية متطورة، إلى جانب الدورات الإلكترونية التي تتيح للطلاب فرص تعلّم أكثر مرونة وفعالية.

 

لبنان في المرتبة الثامنة عالميًا

يُعدّ الابتكار عملية تفاعلية تتطلب بيئة حاضنة وداعمة لتعزيز نموها واستدامتها. وتبعًا لمؤشر الابتكار العالمي في العام 2015 (GII)، احتل لبنان المرتبة 74 من بين 141 دولة، مسجّلًا 33.82 من أصل 100، (سجلت الإمارات 40.06 والأردن 33.78). إلا أنّ ترتيب لبنان شهد تراجعًا في العام 2021، ليحلّ في المرتبة 92 من بين 132 اقتصادًا.

وبحسب الركائز السبع لمؤشر الابتكار العالمي، جاء تصنيف لبنان على النحو الآتي: المركز 64 في تطوير الأعمال و87 في رأس المال البشري والبحوث و90 في تطور السوق و91 في مخرجات المعرفة والتكنولوجيا و92 في المخرجات الإبداعية و100 في البنى التحتية و112 في المؤسسات. كما سلّط المؤشر الضوء على نقاط الضعف الرئيسية في الركائز الفرعية، إذ حلّ لبنان في المرتبة 129 في البيئة السياسية و121 في فعالية الحكومة و120 في المشاركة الإلكترونية.

ورغم هذه التحديات، برز لبنان كمركزٍ مهم في الصناعات الثقافية والإبداعية. فقد شكّلت صادرات هذا القطاع 17% من إجمالي تجارته، وهو ما أكده أيضًا مؤشر المعرفة العالمي، إذ احتل لبنان المرتبة الثامنة عالميًا في حجم الصادرات الثقافية والإبداعية. ويعكس هذا التصنيف الدور البارز الذي تلعبه مؤسسات البحث والتطوير والابتكار في تعزيز الثقافة والإبداع على الصعيد الدولي.

 

تحديات الأزمة الاقتصادية

رغم تميّز لبنان في الصناعات الثقافية والإبداعية، إلا أنّ هذه القطاعات تواجه تحدّيات كبيرة في ظل الأزمة الاقتصادية، تحدّثت عنها رئيسة قسم التسويق في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية الدكتورة نانسي قنبر «خبيرة في التنمية المستدامة»، في إطار تقييم القطاع التكنولوجي في لبنان وسرّ صموده خلال الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي.

ترى الدكتورة قنبر أنّ التعاطي مع التطوّر الاستثنائي الذي يشهده القطاع التكنولوجي في لبنان ما زال خجولًا، رغم وضوح معالم التحوّل نحو اقتصاد رقمي قائم على اقتصاد المعرفة. وأوضحت أنّ المقوّمات البشرية الكفوءة متوافرة لدعم هذا الانتقال، إلا أنّ التساؤلات تظل قائمة حول مدى توافر البنية التحتية اللازمة والإمكانات الاستثمارية، في ظلّ الأزمات المتعددة التي يعانيها لبنان، وخصوصًا الحرب الأخيرة التي أعادت الاقتصاد اللبناني إلى مرحلة التركيز على معالجة الأزمات الفورية، بدلًا من المضي قدمًا في إصلاحات بنيوية تدعم التطوّر التكنولوجي.

وتضيف أنّه على الرّغم من التحديات المذكورة، علينا الاعتراف، وبالمُعطى العلمي أنّ نسبة كبيرة من الشّباب اللبناني انخرطت في القطاع التكنولوجي، إذ يعمل العديد منهم عن بُعد مع دول الخليج والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وتتنوّع خبراتهم بين تطوير البرمجيات، والأمن السيبراني، وتحديث تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي، وتقييم الأداء. ومن الواضح أنّ هذا القطاع بات يشكّل رافدًا أساسيًا للدخل القومي اللبناني.

غير أنّ الإشكالية الأساسية، وفق قنبر، تكمن في غياب الاستثمارات الكبرى في لبنان، حيث ما زال النشاط محصورًا  في مربّع الشركات المتوسطة والصغيرة.

 

إمكانات النّمو والتحديات المستقبلية

وعن آفاق نموّ القطاع التكنولوجي لدى إيلاء اقتصاد المعرفة الأهمية اللّازمة وتشجيع الشركات الناشئة (Startups)، أكّدت الدكتورة قنبر ضرورة اعتماد مقاربة شاملة تأخذ في الاعتبار البعدَين الكلي والجزئي للاقتصاد (Macro & Micro Economics)، بمعنى إعادته إلى فهم طبيعة الميزات التفاضلية التي من الممكن أن يقدّم فيها مُساهَمة منتِجة ومستُدامة، بعيدًا عن الارتجال وتوخّي الربح الرّيعي السريع، وهذا يتطلب تخطيطًا، وحَوكمة سليمة، وتقييمًا بمعايير علمية، متسائلة ما إذا كان لدى لبنان رؤية مماثلة.

وقالت: «إنّ الكفاءات الفردية متوافرة، والمبادرة الفردية ممتازة، لكن التخطيط غائب، وكذلك البحث عن أُطر جديدة للاستثمار والتطوير، ما يشكل عائقًا جوهريًا أمام نمو الاقتصاد اللبناني».

أما في ما خص نموّ هذا القطاع في حال توافر الدعم للشركات الناشئة، فرأت الدكتورة قنبر أنّ الأمر يستدعي إعداد دراسة متكاملة تحدّد موقع اقتصاد المعرفة في المنظومة الاقتصادية اللبنانية، ومدى اهتمام المستثمرين في دعم هذا القطاع. وتساءلت عمّا إذا كانت الفرصة متاحة في ظلّ الأوضاع الراهنة، مشيرة إلى أنّ انعدام الاستقرار يدفع بالكفاءات القادرة على تحقيق هذا التحوّل إلى الهجرة.

 

الإبداع اللبناني بين الحرير والتكنولوجيا

في مقارنة بين تجارة الحرير في الماضي والقطاع التكنولوجي اليوم، أضاءَت الدكتورة قنبر على الإبداع اللبناني، معتبرةً أنّ تجارة الحرير كانت ميزة تفاضلية عالمية في الاقتصاد اللبناني، وقد جذبت اهتمامًا دوليًا إلى صناعة مربِحة، لكنّ الظروف آنذاك كانت مختلفة ومشجّعة، ما أتاح بناء منظومة صناعية وتجارية متكاملة بفضل صبر اللبنانيين وتفانيهم في تطوير هذه الصناعة.

وأكدت أنّ القطاع التكنولوجي، يمكنه أن يشكّل للبنان ميزة تفاضلية تجذب العالم إلى اقتصاده، شرط إعادة بناء هذا الاقتصاد على أُسس سليمة، تحميه من الاهتزازات المتلاحقة. كما أشارت إلى قدرة الإبداع اللبناني على تحقيق نهضة مماثلة، من خلال التعاون الفعال ما بين القطاع الأكاديمي والتقني والجامعي، والقطاع الخاص، على أن تثبت الدولة أنها تستند إلى حكم القانون، والشفافية، والحَوْكمة السليمة.

وختمت بالتشديد على مسؤولية النخب في بناء فرص جديدة لإنقاذ لبنان، مؤكدةً أن إعادة دوره الريادي ما زالت ممكنة. كما أثنت على الإبداع اللبناني في مختلف الحقبات، موضحةً أنّه يحتاج إلى بيئة حاضنة، كي ينمو ويزدهر. وأضافت أنّه لا يمكن إغفال أهمية التطور التكنولوجي وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي، الذي قدم فوائد جمّة للبشرية جمعاء، مع ضرورة قوننة هذا التطور والإفادة منه بما يخدم الأهداف الإنسانية والاقتصادية.