لغات وحضارات

الأبجدية اللبنانية كانت هي الحل...
إعداد: الدكتور يوسف الحوراني
باحث في التاريخ الحضاري

نقلة نوعية حررت الكتابة من التقاليد والموروثات

 

كما هي بيروت اللبنانية اليوم هكذا كانت أوغاريت الكنعانية في أواسط الألف الثاني قبل التاريخ الميلادي على الشاطئ الشرقي للمتوسط: لغات وكتابات مختلفة وسلع تجارية يتداولها التجار والناس بحرية واطمئنان ونشاط.

 

الكتابة قبل أبجدية الفينيقيين
حفظت لنا أثريات أوغاريت مجموعة من الكتابات على ألواح من الطين المشوي تفيدنا عن مشاكل التفاهم التي كانت سائدة بين الشعوب القديمة قبل الاتفاق على كتابة موحّدة يقبلها الجميع ولا تحتاج إلى جهود ومراكز اختصاص لفهم رموزها، كما كانت الحالة.
هذه الكتابات كانت وفق سجل نبشياتها: الأكادية، الأوغارتية الكنعانية، السومرية، الحثية، المصرية، القبرصية - المينوية، والحورية.
وكانت هذه تستعمل خمسة أنواع من الكتابة هي: المسمارية المقطعية، المسمارية الأبجدية، الهيروغليفية المصرية، الهيروغليفية الحثية، القبرصية - المينوية، وبعض الكتابات الحثية بالمقطعية.
وإلى جانب هذه يبرز أدب بارز باللغة الحورية، وهو ديني أو تعليمي، وبعضه مكتوب بالأبجدية المسمارية كما بعضه الآخر بالمقطعية التي كانت تحافظ على تشكيل اللغة (أي الفتح والضم والكسر).
كانت اللغة الأكادية مع كتاباتها المقطعية لغة دولية تتعامل بها الشعوب للتفاهم والمراسلات السياسية، كما أظهرت ذلك رسائل تل العمارنة في مصر.
ولكن هذه اللغة كانت تتوسع بمصطلحاتها ورموزها المسمارية. ولذلك كانت تتطلّب كتبة متمرّسين يرافقون تطورها ويطّلعون على الجديد الطارئ من لغات أخرى تنشرها الجامعات التي كانت غير أكادية. وبهذه العملية غدت الكتابة الأكادية تبتعد عن فهم ساكني الأرياف والقبائل المقيمة بعيدًا عن العاصمة ومدارس التعليم.
كما كان الكتبة الأكاديون، في الوقت ذاته، ملزمين معرفة اللغة السومرية ومصطلحاتها لكونها كانت الأصل لكتابة الأكادية، أي كما كانت اللغة اللاتينية للشعوب الأوروبية.
كانت اللغة الأكادية ثلاثية المقاطع كالعربية اليوم، لكنها كانت تستعمل اثنين وعشرين حرفًا للكتابة فقط.
مثلها كانت اللغة الكنعانية التي ورثتها العربية، في حين كانت اللغة السومرية، التي لازمتها الكتابة المقطعية، تستعمل خمسة عشر حرفًا. ولهذا كان على الأكادية أن تبتكر مقاطع زائدة خاصة بها ابتعدت بها عن السومرية وغدت ذات مرونة وقابلية لاستعمال مقاطعها في كتابة لغات أخرى كالحورية والحثية والكنعانية وغيرها. وقد رافق ذلك التوسع حصر الكتابة والقراءة بمدارس خاصة واختصاصيين لا يوجدون إلا في المدن الكبرى حيث تكتب سجلات الملوك والصكوك الرسمية.
وعندما نجد كتابة للحثيين بالطريقة الهيروغليفية فلأن هؤلاء حصروا الكتابة بالملوك والنخبة: على الأنصاب والأختام الشخصية والأواني الثمينة والتعاويذ، وكل ما يتطلب وجود فنانين محترفين لإنجازه. وكذلك كان وضع المينويين وهيروغليفيتهم في قبرص.
برز الكنعانيون على الشواطئ الشرقية للمتوسط كشعب مبدع مسالم ينزع أفراده إلى الفردية والاستقلال وصعوبة الانقياد للآخرين. وكانت بلادهم ملتقى الشعوب واللغات والأطماع غالبًا...
برزت لديهم تلقائيًا الرغبة في التوفيق بين المتباعدين مع الحفاظ على توكيد الذات والتعبير عنها بالرموز الكتابية إن تعذّر ذلك سياسيًا. وقد تجلّت هذه الرغبة في اعتماد كنعانيي أوغاريت الطريقة الأكادية المسمارية لكتابة أبجدية خاصة بهم، حيث تحرّروا بهذه العملية من الالتزام المقطعي الموروث عن السومرية.
لم يرفض كنعانيو أوغاريت الكتابة المسمارية. فهذه، عدا عن تآلف الناس معها، كانت تعتبر مقدّسة لدى الأكاديين، والسومريين قبلهم، لأن العقيدة الدينية التجديدية لديهم كانت تنص على أن الإله يكتب ألواح الأقدار بها سنويًا لكل فرد بعد كسره الألواح القديمة، في يوم فراغ يخلو من الالتزامات والقوانين (آكيتو) ويكون رأسًا لسنة جديدة.
ولنا أن نعتبر أن التزام الحرف الأبجدي من دون المقطعي كان التزام إشراك القارئ عفويًا في فهم الفكرة المقصودة بالكتابة من خلال ترك مسؤولية تشكيل الحروف له، بينما المقطعية تحفظ له هذه العملية.
والتزام الكتابة المسماريــة كمصطلحات للفظ كان في الوقــت ذاته ميلاً لالتزام الثقافــة الأكادية. وتعبــر عــن هــذه الحالــة كثــرة النصــوص الأكاديــة التــي وجدت في نبشيات أوغاريت، وبينها نصوص دينية وأدبية، ما يعني أن النفوذ الثقافي الأكادي كان كبيرًا هناك.

 

نقلة نوعية
كان لا بد من نقلة نوعية خاصة تحرر الكتابة من أي التزام أو ثقافة، سواء كانت قداسة أم احترامًا عمليًا. وجاءت هذه النقلة في الظروف المناسبة، في بلاد كنعان الجنوبية، حيث كان النفوذ المصري هو الأقوى ومعه كانت الكتابة الهيروغليفية التي كانت تصويرية بمعظمها أي ملتزمة المواضيع المادية التي تصوّرها وليس الإنسان وإيقاعات كلماته. وقد أوحت هذه الحالة التزام الصور رموزًا للحروف الأبجدية وليس للأشياء بذاتها. وهذه الصور لا تزال معتمدة في بعض الحروف اللاتينية مع مدلولاتها الفينيقية.
إحتل الكنعانيون مصر وحكموها مباشرة ما يقارب مئة وثلاثين عامًا، لكنهم لم يتركوا آثارًا كتابية بالهيروغليفية. وعندما خرجوا عائدين إلى بلاد كنعان، كانوا أمراء متنافسين على السلطة والقيادة والنزوعات الذاتية من دون التزام الثقافة المصرية وكتاباتها.
كانت غزوة تحوتمس الثالث في أوائل القرن الخامس عشر قبل الميلاد وهزيمة الكنعانيين وأحلافهم أمامه في موقعة «مجدو» في فلسطين أبرز تعبير عن نزعة الحرية والاستقلال التي كانت في أذهان الكنعانيين. فهم قابلوا الجيش المصري الموحّد القيادة بجيوش بلغ تعداد قادتها 330 قائدًا يركبون عربات مصنوعة بالذهب والفضة. ما يعني ازدهارًا اقتصاديًا مع تنافس في مجال الحرية. وهذا ما عرفه المؤرخون بـ«اللعنة الكنعانية».
وإن يكن من زمن مناسب لافتراض انتشار الأبجدية ورسوخ استعمالها في الكتابات العالمية، فهو هذا الزمن الذي تلا خروج «الهكسوس» الكنعانيين من مصر وانتشارهم حتى كيليكيا في الشمال ابتعادًا عن المصريين وغزواتهم، ثم في الشمال الأوروبي إلى البلاد الإغريقية، حيث اشتهر بينهم دناوس وفتياته وقدموس وسلالته القيادية.
لقد حصر جميع الذين عالجوا تاريخية ابتكار الأبجدية اهتمامهم بالمقارنات التقنية من دون الالتفات إلى الحالة النفسية التي تتطلّبهما العملية مع الحالة الاجتماعية التي تتطلّب الكتابة للتواصل...
سقطت الأكادية من التداول بسبب ابتعادها عن مرجعيتها التصويرية الأقدم في اللغة السومرية وكتابتها، وغدت مرجعيتها معرفة كتبتها بمصطلحاتها المدرسية فحسب. كما سقطت الهيروغليفية لكونها ترتبط بالأشياء التي تعبّر عنها مع إشراك العارفين بمصطلحاتها وحدهم في قراءة نصوصها. أما الأبجدية التي ابتكرها اللبنانيون وعمّموها مع انتشارهم فهي ترتبط بالإنسان الناطق بكلماتها، ولا تتطلّب غير ألفاظها لفهم المراد منها، أي أنها تصوير ما لا صورة له وهو الحرف، ثم إشراك القارئ مع الكاتب بفهم النص وتشكيله وفق المألوف لديه.
لقد كانت النقلة النوعية في الأبجدية تحررًا من التقاليد والموروثات خلال المسمارية، ومن الصور والموضوعات خلال الهيروغليفية، إلى الذاتية الإنسانية الحرة من أي إرتباط.
لقد رأى الكثيرون في صور الحروف الأبجدية اقتباسًا عن الهيروغليفية، ولكن الصور الأبجدية لم تكن مأخوذة لموضوعيتها المادية، وإنما كان يتم تجريدها من مدلولها المادي عند نقلها إلى الذاتية واستخدامها كرمز للحرف الأول من اسمها المألوف لدى الناطق باللفظة المتضمنة له. وهكذا عندما نقرأ الحروف الفينيقية تحت أسماء وصور: ألف، بيت، جمل، دلتا، عين، لن، لامد، لا يكون لها أي التزام بمدلولات الصور التي تستحضرها هذه الحروف عند نطقها. ولهذا نطلق على الأبجدية صفة «ذاتية» برمزية ترتبط بالنطق الإنساني في أي من اللغات أو الكتابات، ولدى جميع الناس من دون تمييز طبقي أو سلطوي. فهي عملية تحرير مطلق لمعارف الإنسان وحصرها في الذهن فحسب.
أما الإختلاف الذي نجده بين النصوص عند كتابة حروفها فهو ذاته تعبير عن هذه الحرية في التطوير والواقعية المألوفة.
يسجل لنا المؤرخ هيرودوت رواية عن نشر قدموس ورفاقه من الجغرافيين الكتابة مع أمور أخرى في بلاد الإغريق. ويذكر أنه شاهد نموذجًا من هذه الكتابة على قدور كان أهداها أحد سلالة قدموس للمعبد، وهي لم تكن تختلف عما كان في زمنه (59:5). كما يذكر في الرواية أن قدموس طوّر كتابة الحروف لتتناسب مع اللغة اليونانية بعد أن تعلم هذه اللغة هو ورفاقه.
لقد بقيت أسماء الحروف وصورها متداولة في اللغات التي اقتبستها منذ يونانية قدموس حتى لاتينية القرن العشرين. وهذا ما يشهد على أصالتها ويعني لنا أنها وصلت مكتملة مع قدموس إلى بلاد الإغريق ثم إلى العالم أجمع بعد ذلك، أي في رحلة غدا لها ثلاثة آلاف وخمسمائة عام حتى الآن. والأنموذج الأكمل على اكتمالها نقرأه في نص «شفطبعل» ملك جبيل الذي نشره الفرنسي دونان (جبيل العام 1945)، وهو أقدم من عهد أحيرام وكتابة تابوته. ولنا أن نفترض أن مصطلحات حروفه هي التي نقلها قدموس معه من فينيقيا إلى بلاد الإغريق، وذلك في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد أي خلال فورة الحرية التي نشأت مع خروج الهكسوس من مصر، واسمهم «هيغ شيت» أي ملوك الفينيقيين اتباع النبي شيت.
وإن تكن العربية أضافت ستة حروف (روادف) إلى الحروف الفينيقية، فهي شاءت التوسع بالتركيز الدقيق على اللفظ من خلال النزعة الذاتية ذاتها التي للكنعانية التي تلتقي معها في إرث لغوي مشترك مرّ في مجرى واحد خلال تطوره واستيعابه الألفاظ المناسبة من لغة أخرى.
كانت عطية الأبجدية اللبنانية للحضارة الإنسانية أبلغ مثال على ما يمكن أن يقدمه لبنان للتاريخ العالمي ومتطلبات شعوبه العملية. ولم تكن فرضية خطوط الطول والعرض التي قال بها مارينوس الصوري سوى توكيد للنزوع العالمي الدائم في أذهان اللبنانيين وفي كل الأزمنة...