من مكتباتنا

الأب يوحنا نصر معرّبًا لافونتين
إعداد: إلهام نصر تابت

خلنا ما نطقت به الحكمة إبن اللحظة المعاشة

صغارًا، كنَّا بشوق ننتظر زياراته غير الكثيرة. وحين نتسابق لأخذ البركة من يده،  كان يأخذ بيد كلٍ منَّا، ويطبع عليها قبلة. ثم يسحب منجيرته من تحت عباءته السوداء ويباشر العزف، غير آبه لاعتراض جدتي على تصرّفه «الليبرالي»، فكيف يقبِّل الكاهن أيادي الأولاد بدل أن يسمح لهم بتقبيل يده؟
بالنسبة إلينا جميعًا (أولاد إخوته وأخواته) كان أبونا حنا زائرًا سحريًا؛ شخصٌ يختلف عن كل الأقارب الآخرين وعن كل الكهنة والرهبان الذين نعرفهم. منجيرته أيقظت بوادر إحساسنا بالموسيقى الجميلة ونحن أطفال، لتتولّى الأمر في ما بعد مكتبته الموسيقية المدهشة المتضمِّنة روائع الموسيقى الكلاسيكية وأغاني فيروز.
إلى منجيرته وموسيقاه، كان «أبونا حنا» يحمل شيئًا سحريًا آخر: الكاميرا التي تولَت تأريخ أجمل اللحظات والتقطت صور الطفولة وشيطناتها.
السهرات معه كانت بهجة استثنائية لنا نحن الأولاد. كان «أبونا حنا» يتلبَّس شخصية الراوي أحيانًا متحفًا مخيلتنا بالقصص الظريفة. وكان أحيانًا أخرى يقرأ من دفتر صغير خواطر ومدونات كتبها، وبطرافة يأخذنا إلى التأمل في أسرار الوجود، لينسحب على غفلة منّا عائدًا إلى ديره وصلواته.
بالأمس عندما ارسل لي الأب يوحنا نصر كتابه الصادر حديثًا «أمثال جان دو لافونتين – مختارات»، شعرت بالماضي يعود بقوّة ويحشد صوره الجميلة: المنجيرة والكاميرا والدفاتر الصغيرة والقصص.
بمتعة وحنين قرأت الكتاب، شعرت بأنه نوع من جسر يعيد وصل الحاضر بالماضي. ماضي البشرية وحاضرها لا ماضي شخص أو أشخاص بالتحديد. أليست هذه واحدة من وظائف الحكمة التي تشكّل أمثال لافونتين إحدى تجلّياتها؟
تتبدّل أحوال البشر والمجتمعات، ويظل الظلم ظلمًا، والعدل عدلاً والمكر مكرًا ... في كل الأزمنة والأمكنة.
يستعيد الأب يوحنا نصر في كتابه الحكمة التي وردت على ألسنة الحيوانات في أمثال لافونتين معرّبة بأسلوب خاص جدًا ومنتقاة بعناية كبيرة. حتى أنني في بعض الأحيان كنت أعود إلى النص الأصلي بالفرنسية لأتأكد: هل الملاحظة التي ساقها المؤلف باللغة العربية هي واحدة من إضافاته الطريفة، أم أنها من النص الأصلي؟
لقد اختار المعرّب أمثالًا بعينها حتى خلنا أن ما نطقت به ثعالب لافونتين وأسوده وعصافيره في القرن السابع عشر هو إبن اللحظة التي نعيشها.
أحيانًا تكون الترجمة كما التعريب فعل كتابة أخرى للنص، وهذا ما فعله الأب المربّي بإتقان كبير، في كتابه الذي ضم إلى أمثال لافونتين إستشهادات بأخرى من الكبار: المتنبي، إبن عربشاه، أحمد شوقي، خليل مطران، الأب نقولا أبو هنا...


بطاقة

الأب يوحنا نصر راهب لبناني مرسل، من مواليد العيشية،1932.
بعد ترهّبه درس اللغة الإنكليزية عن طريق المراسلة مع جامعة ميشيغن فبرع فيها، وشارك في مسابقة أجرتها الجامعة الأميركية في بيروت - ضمن برنامج خاص بجامعة ميشيغن- وحلّ الأول بين المتبارين. بفضل نجاحه الباهر في لغة شكسبير وهمنغواي حصل على منحة خاصة من جامعة ميشيغن للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية.
سافر العام 1964 ليعود إلى لبنان حاملًا شهادة في فن التوثيق والعلوم المكتبيّة.
سيم كاهنًا العام 1965 في جامعة الروح القدس - الكسليك، التي حاز منها إجازة تعليمية في الفلسفة، إضافة إلى الإجازة التعليمية في اللغة الإنكليزية التي نالها من جامعة ميشيغن.
تولى المسؤولية عن مكتبة جامعة الروح القدس - الكسليك منذ العام 1962 حتى العام 1982، وأنجز تصنيف محتوياتها وتنظيمها واضعًا بطاقات تعريف لكتبها.
مارس التدريس في مدارس رسمية في الجنوب بين العامين 1965 و1995.
شغل عدة وظائف كهنوتية فكان رئيس دير وخادم رعيّة، وكان في الوقت عينه فلّاحًا ومزارعًا في أرزاق الدير وقيّمًا على أملاكه.
المنجيرة رفيقته الدائمة وقد اشتهر بتصنيع النايات المتقنة، والتي اهدى العشرات منها إلى عازفين وهواة.