- En
- Fr
- عربي
صناعات حرفية
في أودية بيت شباب، القرية التي لقّبها الشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين بـ «حبوب الرمانة المفتّحة» ووصفها الأديب الراحل أمين الريحاني بـ «ضيعة الضيعات»، صدحت أصوات الأجراس في أولى ترنيماتها قبل أن تنتشر أصداؤها في أرجاء لبنان والعالم. منذ نشأة صناعة الأجراس في لبنان، تتفاخر القرية المَتنيّة بتفرّد أبنائها من آل نفّاع في امتهان الحرفة الفريدة التي يتمسك بها نفّاع يوسف نفّاع، آخر المعلمين الذين توارثوها أبًا عن جد. فهل من مستقبل لهذه الحرفة التي تُعَدُّ إرثًا عريقًا أم إنّها ستندثر أسوةً بعديدٍ من الحرف التقليدية الأخرى؟
حوالى العام 1700، وبعد أن واجه اللبنانيون صعوبات كبيرة في مجال الاستيراد والتجارة، بما فيها استيراد الأجراس من أوروبا، بدأت صناعة الأجراس في منطقة بيت شباب التي كانت آنذاك مركزًا مزدهرًا للصناعة والتجارة، مثل صناعة الحرير والفخار والأقمشة. وعن البدايات، يُحكى أنّ صناعيين روس كانوا يعملون على تركيب جرس في محيط القرية، واستعانوا بالمعلم يوسف غبريل لمساعدتهم لوجستيًا، فجذبته هذه الصناعة وأراد التعمّق في أسرارها وامتهانها، وسافر إلى روسيا وفرنسا حيث تعلّم أصولها، وعندما عاد إلى بلدته وبدأ بصناعة الأجراس صار الناس يرددون عبارة «نفع يوسف»، فعُرف باسم يوسف نفّاع. ومنذ ذلك الحين، انتقلت هذه الحرفة بالوراثة أبًا عن جد من جيلٍ إلى جيل.
استمرت صناعة الأجراس على حالها حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، إذ تقلّص عدد ممتهني هذه الحرفة من عشر عائلات إلى خمس أو أربع، بسبب وفاة بعض الحرفيين خلال الحرب واضطرار آخرين للهجرة. وبعد الحرب العالمية الثانية، انخفض عدد العائلات المصنّعة للأجراس إلى ثلاث فقط. وظلّ توارث المهنة حتى العام 2000 عندما أصبح المعلّم يوسف حبيب نفّاع (والد المعلم نفّاع) الحرفي الوحيد المتبقي، وأورثها لابنه من بعده.
عمل دقيق ومتعب
أخذتنا رغبتنا في التعرّف على صناعة الأجراس إلى مشغل المعلّم نفّاع نفّاع في بيت شباب، حيث أخبرنا بشغفٍ عن المراحل التي يمر بها تصنيع الجرس. يقول المعلّم يوسف: «تنطلق صناعة الأجراس مما يُسمى الحوارة وهي نوع من التراب موجود في البلدة وفي القرى المجاورة، وأهمّ ميزاته أنّه يحتمل حرارة عالية جدًا. بعد استخراجه من الأرض، نغربل التراب ثمّ نعجنه مع الماء وشعر الماعز والتبن حتى تتماسك الخلطة جيدًا ما يمنع حدوث التشققات، وعندما ننتهي من العجينة نبدأ ببناء القوالب».
يستخدم المعلّم نفّاع في بناء الجرس قالبَين، داخلي وخارجي. يُبنى أولًا القالب الداخلي لإعطاء الجرس الشكل المطلوب ويتم إزالة الزوائد من عجينة الحوارة حتى تتماسك. بعدها يُرفع القالب على مراحل حتى يتّخذ شكل ما يُسمى بالـ«هِندازة» (وهو شكل الجرس من الداخل)، والذي يختلف بحسب وزن الجرس المراد صنعه. أما القالب الخارجي، فيتم بناؤه وفق قياسات هندسية دقيقة، وتُضاف إليه طبقة ثانية حين تشتد صلابته، ثم يُصقل بحوارة ناعمة حتى يتماسك مثل القالب الداخلي. ويُترك فراغ بين القالبين لضمان الحصول على جرس مصقول ومبني بشكلٍ جيد.
تبقى الخطوات الأهم في عملية صناعة الأجراس في اللمسات التي توضع على القوالب للحصول على الجرس بشكله النهائي، فيتم تسخين القوالب على بؤرة ترابية لإزالة الرطوبة منها، إذ يجب أن تكون ساخنة عند صب المواد الأولية.
تجدر الإشارة إلى أنّ الجرس يتشكّل من البرونز الذي يتألف من نحاس أحمر (بنسبة 60%) وقصدير (بنسبة 40%). تُشترى هذه المواد خامًا من إنكلترا أو السويد، ويجب تذويبها في فرن تفوق حرارته الـ1200 درجة. وبحسب المعلّم نفّاع فإنّ عملية التذويب تستغرق حوالى ثماني ساعات، يتم خلالها إشعال النار بالقرب من القوالب، ثمّ يُفتح المزراب الذي يصل ما بين الفرن والقوالب لأنّ البرونز يجفّ بعد أربع دقائق فقط من إخراجه من النار. أخيرًا، تُهدّ القوالب ليبقى الجرس المصبوب والمصقول، ويُستكمل العمل على «معاليق» تُبنى على مراحل أيضًا ويصبح الجرس بشكله النهائي جاهزًا للتركيب.
حين يتفوّق التلميذ على معلّمه
خلال جولتنا في المشغل، يُصر المعلّم نفّاع على تجربة عدد من الأجراس التي يقوم بتصنيعها حاليًا وقد شارفت على الانتهاء، وإذ سألناه عن سرّ تميّز أصوات الأجراس المصنوعة في بيت شباب وفق ما هو معروف، أكّد لنا أنّه تعلّم من والده ألّا يفرّط بجودة المواد التي يستخدمها في صناعة الجرس كي لا يمسّ بجودة الصوت ومتانة الجرس. المعلّم الذي تتلمذ على يد والده وحافظ على إرثه، تفوّق على معلّمه، وبرع نفّاع في ابتكار تصاميم فريدة، وطوّر الصناعة لتشمل الأجراس الإلكترونية أيضًا.
كفاح من أجل البقاء
يؤكد المعلم نفّاع أنّ الأجراس اللبنانية تُصدَّر إلى مختلف دول العالم بما فيها تلك التي تمتلك مصانع لصناعة الأجراس، وذلك نظرًا لجودتها وجمال رنّتها، ومع ذلك يبقى السؤال المطروح: هل من مستقبل لهذه الصناعة؟ يقول المعلّم نفّاع: «الأجيال الصاعدة لا تبدي استعدادًا جديًا أو شغفًا لتعلّم المهنة خصوصًا أنّ الأهل لا يشجّعون الأبناء على امتهان الصناعات والمهن الحِرفية. كما أنّ صناعة الأجراس تحتاج إلى إتقان هندسي، وتُعتبر متعِبة وخطِرة، بالإضافة إلى أنّ مردودها غير كافٍ لجمع المال إذ يؤمّن لقمة العيش فقط». ويضيف أنّ الأمل الوحيد لاستمرار الصناعة هو في ابنَيه شربل ويوسف وهما حاليًا يعملان معه في أوقات فراغهما، ويلاحظ المعلّم نفّاع أنّ شربل يبرع في المهنة ولكنّه ما زال في السابعة عشرة فقط، «على أمل أن يستمر في المهنة من بعدي ويبقى مستقبل صناعة الأجراس واعدًا».
يخاف الحِرفيون من زوال هذه المِهن من بعدهم، فكثير منها اندثر مع وفاة المهنيين العاملين فيها. فهل تستمر صناعة الأجراس في المستقبل وتحافظ بيت شباب على مكانتها، فتصدح أصوات أجراسها في لبنان والعالم؟