نحن والقانون

الأحكام القانونية لديون المتوفى وحقوق دائنيه
إعداد: د. نادر عبد العزيز شافي
محام بالإستئناف


من أصعب المشاكل التي تعترض الدائنين، مشكلة وفاة المدين، وإشكالية الطرق الممكنة لتحصيل ديونهم
بعد الوفاة.
فما هي الاحكام القانونية في هذا المجال؟


إنتهاء الشخصية القانونية للمتوفى وانتقال تركته للورثة
عندما يتوفى الإنسان تنتهي شخصيته القانونية، وبالتالي تنتهي ملكيته لأمواله وممتلكاته، وتنتقل إلى ورثته، بحيث يخلف شخص الوارث شخص المورث في ماله خلافة عامة إجبارية، أي خلافة يتحقق فيها الإرث دائمًا في كامل التركة أو في حصة منها بقوة القانون، من دون أي تأثير لإرادة المورث أو إرادة الوارث في ذلك. والتركة هي مجموع ما يتركه الإنسان بعد أن يتوفاه الله، من مال أو حقوق مالية، ما يعني أن التركة هي الذمة المالية بعناصرها الايجابية والسلبية.
ويعتبر الإرث سببًا لاكتساب الورثة ملكية جميع أموال المورث، بحيث تنتقل اليهم جميع الحقوق المالية التي كانت له، سواء كانت حقوقًا شخصية مادية أو معنوية أو حقوقًا عينية. ويعتبر الوارث مالكًا قبل التسجيل في السجل العقاري، كما أن عدم تسجيل اكتساب ملكية العقار الموروث في السجل العقاري لا يحول دون انتقال الحق الموروث، بحيث تنتقل أموال التركة إلى ذمة الوارث فور وفاة المورث من دون الحاجة إلى أي إجراء آخر ليتم هذا الانتقال. ولكن الوارث لا يمكنه التصرف بالعقارات المكتسبة بطريقة الوراثة، إلا بعد التسجيل سندًا للمادتين 204 و229 من قانون الملكية العقارية.

 

إستقلالية شخصية الوارث عن شخصية المورث المتوفى تجاه الدائنين
وفق القانون اللبناني، تستقل الشخصية القانونية للوارث عن الشخصية القانونية للمورث، قبل وفاته وبعدها. ويتفق ذلك مع قاعدة «لا إرث قبل وفاء الدين» أو «لا تركة إلا بعد سداد الدين». وهذا على عكس ما هي عليه الحال في القانون الفرنسي الذي يأخذ بمبدأ مستمد من القانون الروماني مفاده أن شخصية الوارث تعتبر امتدادً لشخصية المورث، فتكون للوارث حقوق المورث كما أنه يلزم بديونه، أي تختلط ذمة المورث، بعناصرها الايجابية والسلبية بذمة الوارث.
وتنحصر مسؤولية الوارث في القانون اللبناني عن ديون المورث في حدود ما تلقاه من اموال التركة (المادة 76 موجبات وعقود). فطالما أن شخصية الوارث لا تعتبر امتدادًا لشخصية المورث، فإن ضمان دائني المورث يظل محصورًا في أموال التركة، وتكون مسؤولية الوارث عن ديون المورث في حدود هذه الاموال. فإذا كانت أموال التركة غير كافية للوفاء بحقوق دائني المورث، فإنه ليس لهؤلاء التنفيذ على أموال الوارث الخاصة. ومن المبادىء المستقرة في القانون اللبناني أنه لا يجوز للدائنين التنفيذ على أموال المورث الخاصة ولو كانت التركة غير كافية للوفاء بديون مورثهم استنادًا إلى مبدأ استقلالية شخصية الورثة عن شخصية المورث.

 

حقوق دائني المتوفى
إهتم القانون اللبناني بحماية حقوق دائني المورث من مزاحمة دائني الوارث أو من تصرف الوارث، فأقر بصحة تملك هذا الاخير عقارات التركة المدينة وبصحة تصرفه في عقارات هذه التركة، ضمن عدد من القيود:

 

1- سقوط أجل الديون بوفاة المدين:
إن وفاة المديون تجعل كل ما عليه من الموجبات ذات الأجل مستحقة الإيفاء ما عدا الديون المضمونة بتأمينات عينية (المادة 114 موجبات وعقود).

 

2- سريان العقود بوجه ورثة المدين المتوفي:
تشمل العقود الذين نالوا على وجه عام حقوق المتعاقدين وتكون مفاعيلها في الأساس لهم أو عليهم إما حالًا (كالدائنين) وإما بعد وفاة المتعاقدين أو أحدهم (كالورثة والموصى لهم بمجموع التركة أو بجزء منها على وجه عام) (المادة 114 موجبات وعقود).

 

3- وجود تأمين لمصلحة الدائن قبل وفاة المدين:
إن الدائن الذي حصل قبل الوفاة، وخلال حياة المورث، على تأمين عيني (عقاري) يكون قد حفظ حقه. فالتأمين الاجباري الذي يقيد لمصلحة الدائن قبل الوفاة يعطيه حق الأفضلية وحق التتبع، ويكون هذا الدائن بمنأى عن أي خطر يهّدد حقه، فحق الأفضلية يخوله التقدم في استيفاء دينه أو حقه من المقابل النقدي للعقار المُحمَّل بالتأمين على الدائنين التالين له في المرتبة وبقية الدائنين العاديين للتركة. وحق التتبع يخول الدائن تتبع العقار المُحمَّل بالتأمين إذا حصل التصرف فيه إلى أية يد إنتقلت اليه بعد قيد التأمين سندًا للمادتين 120 و138/4 من قانون الملكية العقارية. ويكون لهذا الدائن أيضًا جميع الحقوق التي تعود للدائن العادي إذا لم يكفِ العقار المُحمَّل بالتأمين لسداد دينه فيتساوى مع الدائنين العاديين الآخرين بنسبة ما بقي من دينه، إذا تم التنفيذ على مال آخر في التركة.

 

4- قيد تأمين لمصلحة الدائن بعد وفاة المدين:
للدائنين وللموصى لهم أن يحفظوا حقوقهم في فرز التركات بموجب قيد إجباري يدون في أثناء الستة اشهر التي تلي افتتاح التركة.
وبذلك، يتم تأمين حماية حقوق دائني المورث من مزاحمة دائني الوارث لهم في استيفاء ديونهم من التركة بوسيلة التأمين الاجباري الذي يعقد على عقاراتها ضمانًا لفرزها عن أموال الوارث. فالتأمين الإجباري هو التأمين الذي يسجل حكمًا، سواء أكان برضى صاحب العقار أم بغير رضاه، وفي الأحوال المعينة في القانون.
أما الدائنون الذين أهملوا ضمان حقوقهم ولم يتقدموا بأي طلب خلال المهلة المذكورة فلا يستفيدون من ذلك، وبالتالي فإن الدائنين المستفدين من قيد التأمين يحتجون به بمواجهة دائني الوارث الشخصيين، وبمواجهة دائني المورث الذين اهملوا ضمان حقوقهم.

 

5- حماية الدائن من تصرف الوارث بأموال التركة بعد وفاة المدين:
المبدأ القانوني أنه يحق للوارث، بعد تسجيل ملكيته للعقار الموروث، أن يتصرف به وأن يسجل هذا التصرف في السجل العقاري. ويكون تصرفه صحيحًا وقانونيًا باعتباره تصرفًا صادرًا عن مالك، رغم أن التركة مدينة، أي تتعلق بها حقوق دائني المورث. ونكون بذلك أمام مصالح متعارضة: مصلحة الوارث ومصلحة المتصرف إليه ومصلحة دائن المورث.
فإذا كان دائن المورث قد ضمن حقه بأن أجرى التأمين الاجباري في السجل العقاري، فإن حقه يظل مضمونًا ويستطيع تتبعه واقتضاءه، شرط أن يكون تاريخ قيد التأمين الاجباري سابقًا لتاريخ تسجيل تصرف الوارث في السجل العقاري. كما أن المشتري من المورث بموجب عقد عادي لم يسجل قبل الوفاة يعتبر بمثابة دائن للمورث، ويفضل على المشتري من الوارث شرط قيد التأمين الاجباري قبل تاريخ تسجيل تصرف الوارث. وكذلك الامر بالنسبة للموصى له بعقار في التركة والذي لم يسجل الوصية.

 

6- حقوق الدائن العادي بعد وفاة المدين:
يحق للدائن الذي أهمل قيد التأمين الاجباري ضمن مهلة الستة أشهر، أن يلجأ إلى طريق التنفيذ العادي بوجه الورثة، والحجز على أموال التركة التي لا تزال على إسم المدين المتوفى، واقتضاء حقه من الثمن الناتج عن البيع بالمزاد العلني.
وإذا كان الوارث قد تصرف بأموال التركة كلها أو بعضها، بحيث لم تعد كافية لسداد الدين، فإن الدائن المهمل يمكنه أن يعود على الوارث بأمواله الشخصية، بحيث يتزاحم مع دائني الوارث، هذا إذا لم يتمكن من الطعن بتصرف الوارث. إلا أن الدائن لا يستطيع أن يطالب الوارث بأكثر مما عاد لهذا الاخير من التركة (المادة 76/2 موجبات وعقود). فحقوق دائن المورث تظل متعلقة بالتركة، وإن كان يمكنه أن يطالب الوارث بالتعويض، إذا كان سيء النية، واستطاع (الدائن) إثبات سوء نيته.
الأصل هو أن دائن المورث لا يمكنه ملاحقة الورثة على أموالهم الخاصة؛ إذ أن المطالبة يجب أن تقتصر على الحصة التي تعود لهم من التركة.
ويقع على عاتق الدائن اثبات وجود التركة وتعيين أعيانها وعناصرها. فاذا كان هذا الامر متيسرًا بالنسبة للعقارات بالنظر لوضوح وحجية قيود السجل العقاري، إلا أنه يبدو متعذرًا بالنسبة للمنقولات استنادًا إلى الحجة التي أقرتها المـادة 306/أ.م.م. بأن الحيازة في المنقول تعد سندًا للملكية.
وبالتالي، فإن إثبات دخول اموال التركة في ذمة الورثة قبل وفاء الدين يقع على عاتق الدائن الذي عليه أن يقيم الدليل على ذلك بدعوى أصلية عبر اللجوء إلى الوسيلة المتوسطة التي تمهد سبيل التنفيذ بحق ارتهان الدائن المذكورة في المـادة 275 من قانون الموجبات والعقود، وهي حق التفريق بين أموال المورث وأموال الوارث.
واذا ثبت أن الورثة تصرفوا بأموال التركة قبل وفاء الدين وخالفوا قاعدة «لا إرث قبل وفاء الدين»، فإنه يمكن التنفيذ على اموالهم الشخصية بمقدار ما دخل عليها من اموال التركة.
وإذا لم يكن للمدين المتوفى أية أموال أو تركة، فلا يُلزم أحد بدفع ديونه التي تصبح غير قابلة للتحصيل، ولا يحق للدائن مطالبة ورثته أو غيرهم بتلك الديون إلا في حالة الكفالة أو التضامن، فيكون الشخص ملزمًا دفع تلك الديون بوصفه كفيلًا أو مديونًا متضامنًا، وليس بوصفه وارثًا.