ثقافة وفنون

الأخطل الصغير بشارة الخوري شاعر الهوى والشباب
إعداد: وفيق عزيز

الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) ، شاعر حلّق في دنيا الشعر، ومثّل بين شعراء عصره الطليعة الوجدانية والإجتماعية. واعتبره البعض شاعراً في طليعة شعراء عصر النهضة الأدبية الحديثة وأبرز روّداها ورجالاتها الذين وضعوا أسسها، وأرسوا بنيانها، ورفعوا مداميكها. والأخطل الصغير “هو واحد من أقدر الكتّاب الذين أعادوا للكلمة العربية نقاءها وصفاءها، وردّوا إليها منزلتها ومكانتها، بعدما مرّت عليها عهود طويلة مظلمة من ليالي الإنتداب والإستعمار الشديدة السواد”.

 

البيئة واللقب

الشاعرية فطرية لدى الإنسان، والأخطل الصغير مفطور على الشعر، فهل كان للبيئة التي نشأ فيها تأثير على شاعريته؟ المدقق الباحث في حياة وأدب شاعرنا، يدرك أنه بالنسبة الى الأخطل الصغير كانت الموهبة هي الأساس، ولكن المطر الثقافي والمطر الإجتماعي غذّيا هذا الينبوع كي لا ينضب. والمهم أولاً أن يكون هناك موهبة، ثم يأتي الخوض في المجتمع والثقافة. فالأخطل كان رفيق الكتاب، وفي الوقت نفسه، خائض في المجتمع، كان حقيقة صوت الشعب الفقير، وفي الحرب العالمية الأولى كان صوت الحرية والتحرر، وفي الوقت نفسه كانت له ترانيم في الهوى والشباب.

وُلد الكأس والغرام على عهد          أبي الكأس والغرام بشارة

واستنامت له عذارى القوافي          نومة البكر يوم عرس البكارة

وتعرّى الجمال بين يديه                وارتمى عنده وخلّى عذارة...

ولقد اعتبر أدونيس ونزار قباني وأنسي الحاج وغيرهم، الأخطل الصغير الجسر الذهبي الذي مرّوا عليه كي يأمنوا حاضرهم. ولم يكن للبيئة تأثير على الأخطل، لأنها لم تكن تهتم بالثقافة، فكان شاعرنا نبتة نبتت منفردة.

في أحد أيام جريدة “أخبار اليوم” المصرية للأخوين مصطفى وعلي أمين، زار مصطفى أمين الأخطل الصغير في منزله الكائن آنذاك في منطقة الدورة، بغية إجراء حديث صحافي معه، وعندما رأى المناظر الطبيعية الخلاّبة قال مصطفى أمين: “الآن عرفنا من أين تستوحي قصائدك”. فأجابه الأخطل: “ولكن يا أستاذ مصطفى صحيح هذه المناظر جميلة، إنما أجمل قصائدي نظمتها أثناء النوم، أو وأنا واقف على شرفة مكتبي في ساحة الشهداء في بيروت”.

والأخطل الصغير هو الذي اختار هذا اللقب، لأنه رأى نفسه شبيه الأخطل الكبير، إن لجهة الموقف من العالم العربي وإن لجهة الديانة. فكما كان الأخطل الكبير عربياً مقرباً من أمير المؤمنين الأموي، كان الأخطل الصغير عربياً ومقرباً من القادة العرب. عام 1916 كان الأخطل الصغير يملك جريدة البرق التي أسسها العام 1908، وأثناء جلوسه في مكتبه في أحد الأيام تسلّم ورقة صغيرة من صديقه الكاتب محمد كرو علي يقول فيها: “أترك كل شيء وأحرق ما لديك من أوراق ووثائق”، وقد كان القادة السياسيون العرب يجتمعون في مكاتب البرق؛ ففعل الأخطل وهرب الى ريفون ونزل عند صديقه الأباتي بستاني، واختبأ هناك باسم حنا فياض، ومن هناك بدأ يراسل أصدقاءه تحت اسم الأخطل الصغير. وقد كتب المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك في “أوراق لبنانية” أن جامعة الدول العربية وُلدت في مكاتب جريدة البرق قبل عشرات السنين من ولادتها رسمياً.

 

شاعر الغزل

رغم أن الأخطل الصغير قد حلّق في معظم الفنون الشعرية الإجتماعية والوطنية التي خاض عبابها، فإنه مدين بشهرته الى الغزل، حيث كانت معظم غزلياته التي تؤلف نحو تسع وسبعين قصيدة تتسم بعاطفة فيّاضة، وخيال رقيق، وإحساس مرهف، حتى لقّب بـ”شاعر الهوى والشباب”. ويقول الشاعر صالح جودت في قصيـدته التي ألقاها في حفلة تكريم الأخطل واصفاً مكانته الشعرية، خصـوصاً في عالمي الغـزل والخـمرة بأنه هو والغرام والكأس توائم.

غزل شاعرنا مُستقى من ثقافتين: ثقافة عربية استمدها من مصادر الكتب العربية القديمة التي تحكي عن الهوى والحب والغرام، والثانية هي ثقافة غربية استمدها من مصادر الكتب الغربية وخاصة الفرنسية التي أتيح له الإطلاع عليها، حيث أثرت أفكارها وأساليبها في غزلياته، فاتسمت بطابعها ونسجت على منوالها. المرأة عند الأخطل الصغير جسد بضّ، وخد أملس أسيل، وشعر متماوج طويل كأنه الشلال، وأنفق أقنى جميل، وعينان نجلاوان، وثغر نديّ بشهد الرضاب، وخصر نحيل، وقدّ ممشوق، ونهدان عامران. فالجمال لدى شاعرنا جمال حسّي يُرى بالعين، ويُلمس باليد، ويذاق باللسان، ويُشم بالأنف ويسمع بالأذن...

أتت هند تشكو الى أمها             فسبحان من جمع النيّرين

فقالت لها إن هذا الضحى           أتاني وقبلّني قبلتين

وفرّ فلما رآني الدجى                حباني من شعره خصلتين

وذوّب من لونه سائلاً                وكحّلني منه في المقلتين

ولم يقف شاعرنا عند الجمال الحسي للمرأة فحسب، بل هو يدعو المرأة الى ارتداء ثوب العفة وارتداء رداء الطهر والنقاء والعفاف، والوفاء كل الوفاء لمن تحب.

هكذا فلتكن الغيد الحسان               عفة في رقّة في أدب

ذلك الكنز الذي لا يستهان               أين من ذلك كنز الذهب

وحلى كانت على صدر الزمان            فاستباحتها نساء العرب

 
هويته الشعرية

لكل شاعر هوية شعرية يتميّز بها، نزار قباني ­ شاعر المرأة، لكن الأخطل الصغير برع في جميع أنواع الشعر، مهتماً بالنوعية وبالكمية، لدرجة أن بعض النقاد زعموا أن نفسه قصير، فهو مقلّ في الشعر حتى أنه قال في قصيدة له:

أنا يا ربيع ولا أمنّ قصائدي          لولاك ما انطبعت على فمها فما

صغرت فعدها في اللآلئ حبة       أو فهبها في الأزاهر برعما

برع الأخطل في كل الأنواع، إنما كانت لديه ميزة فهو شاعر الغزل ولكن أكثرية شعره ثورة ووطنيات، واجتماعيات. وفي هذه كانت لغته غزلية ففي قصيدة الجهاد يقول:

قم نقبّل ثغر الجهاد وجيده         أشرق الكون يوم حدّد عيده

وللأخـطل الصغير مواقف شعريـة جريئة. وقفـها بكل فخـر واعتزاز ومنها: كان له صديق هو وديع حـداد، وحـينما توفـي حضـر تأبـينه حشد من رجال السياسة والمنـدوب السامي الفرنسي فوقـف شـاعرنا على المنـبر يرثي صديـقه بقصــيدة قال فيـها: قل للوديع أفي جوارك منزل             بين القبور لأمة وبلادي

القبر إن عقّ البلاد رجالها                  وتبدلت بالأصدقاء أعادي

وهوت الى الدرك السحيق وقادها       في الغي شرذمة من الأوغاد

عندئذ هجم عليه رجال الأمن وأنزلوه بالقوّة عن المنبر، ولكن غضبة الجمهور أنقذته من براثين رجال الأمن وأعادته الى المنبر لإكمال قصيدته.

 
 الشاعر ناثراً

 اشتهر الأخطل الصغير بأنه حرّر اللغة العربية من القواميس والمعاجم، كي تكون بمتناول الجميع، وحرص على أن تكون كلمته بسيطة وضوئية. واعتبر أن ممارسته الصحافة لعبت دوراً مهماً في تنقية شعره. فالإفتتاحيات التي كتبها جعلته يبتعد عن الغلاظة اللغوية.

 في نثـر شاعرنـا شعر، هناك مقالات سياسـية لا تخـلو من الشـعر والشاعـرية. وحول نغمية شعر الأخـطل هناك قصة تقـول أن أحد الصحافيين سأل الموسـيقار الراحـل مـمد عـبد الوهـاب لمن لحّنت من الشعراء؟ فعدد أسماء: أحمد رامي، وأحمد شوقي وغيرهما. ولم يذكر اسم الأخطل فتعجّب الصحافي وقال: لماذا لم تذكر الأخطل الصغير وقد لحنت له أكثر من قصيدة؟ أجابه عبد الوهاب، لم ألحّن للأخطل لأن قصائده جاءتني ملحنة، وأنا أديتها فقط. أما قصيدة “يا ورد مين يشـتريك” فلها قصة أيضاً، فقد زار عبد الوهاب الأخطل وطلب منه قصيدة باللهجة العامية لتتماشى مع متطلبات السوق، فرفض الأخطل بحجة أنه شاعر كلاسيكي. ولكن عبد الوهاب استفزه وقال: “هل أحمد شوقي أحسن منك؟” أجابه الأخطل: ليس أحسن مني، ولكن أنا لا أعرف، وإذا أردت سننظم قصيدة باللهجة العامية المصرية معاً، شرط أن تكون قريبة من اللغة الفصحى، فجلسا قرب بركة في باحة المنزل وأخذوا بنظم القصيدة، وبعد قليل هدر الأخطل وقال:

 شقّت جيوب الغزل             وانبحّ صوت القبل

على الشفاه التي               تشرب من مهجتي...

 وكانت الأغنية الوحيدة التي جمعت اللغتين الفصحى والعامية للأخطل الصغير.