تأملات
يولد الإنسان عند تقاطع عدة خيوط ينسجها القدر وتتدخل فيها الطبيعة بقوة، بدءًا بالصدفة القدرية التي جمعت أمه بأبيه، ذلك اللقاء الذي يشكل نقطة البداية في مرحلة تكوين المولود بالمعنى البيولوجي للكلمة.
أما البعد الإيديولوجي لهذا المولود فإنه يتحدد مسبقًا وفق إيديولوجية أبيه وجده وجد أبيه وجد جده إلخ...
هذا الإنتماء الإيديولوجي المعروف بالدين يتم توارثه من جيلٍ إلى جيل، ولكن يحصل أحياناً أن يتغير دين الأحفاد عن دين الأجداد، عندما يغير أحدهم دينه أو معتقده بسبب ظروف سياسية أو أمنية أو إجتماعية غالباً ما تكون قاهرة، هنا يتبدل المعتقد بين جيل وجيل ليتكرس أكثر فأكثر في وعي الأحفاد وأبناء الأحفاد إلخ...
في جميع الأحوال، فإن الدين الذي يعتنقه المولود ويستمر باعتناقه عندما يكبر ليتمسك به أكثر فأكثر، هو ليس خياره الذي اقتنع به فاعتنقه بعد قراءات كثيرة وبحث عميق، بل هو مجرد إرث عقائدي فرضه عليه التسلسل البيولوجي. وهو إذا كان دين أبيه أو جده، فليس بالضرورة أن يكون دين أجداده القدامى الذين ربما بدَّل أحدهم معتقده ذات يوم من أيام الأمس البعيد.
إذا أردنا الخروج من هذه الجدلية لنذهب إلى ما هو أعمق وأسمى من التوارث الديني، نرى أن سلالات الأجداد تمتد في التاريخ إلى ما هو أقدم من الأديان، فإذا كانت المسيحية أو الإسلام أو اليهودية تعود إلى آلاف السنين، فإن سلالات أجداد البشر تعود حتماً إلى ما هو أقدم من ذلك بكثير، لأنها ترجع إلى سيدنا آدم نفسه وزوجته حواء اللذين انطلقت من ذريتهما ولادات جميع البشر.
ما سبق يؤكد أن البعد الإنساني للحياة هو أعمق من البعد الديني في مسيرة الإنسان، وهو أقدم منه وهو أصل الوجود، في حين أن الدين أتى من اجل نقاء هذا البعد الإنساني وتطهيره من خطايا الحياة وتشوهاتها وإعادته إلى السموّ الإلهي الذي نفخ فيه وخلقه من التراب. وبما أن الله هو خالق الإنسان ومرسل الأنبياء فإن المسألة كلها تعود إليه.
إن الغاية من كل هذا التفلسف هي إبراز سخْف التعصب والتطرف لأي دين أو مذهب أو شريعة أو قوم أو طائفة أو قبيلة أو فئة أو ملة أو عشيرة أو جماعة إلخ... لأننا جميعًا ننتمي لله.
ليس التعصب إلا شعورًا مزيفًا بالإنتماء الضيق، تفرح به العقول السخيفة التافهة الجاهلة لسمو الإنسان وقيمته.
ما الفرق بين الطائفية والقبلية؟ إذا كنا نعترف أن المجتمع الحضاري ينبذ القبلية في الحياة الإجتماعية، فكيف نتمسك بطائفيتنا في أعماق نفوسنا وندّعي الحضارة في الوقت عينه.
إن كل من يشعر في قرارة نفسه أنه متعصب لدينه أو مذهبه هو قبليٌ في تفكيره ولا يحق له أن يدعي الحضارة، وعليه أن يعترف بذلك لنفسه على الأقل.
وإن كل من يشعر أن إبن طائفته أو مذهبه هو أقرب إليه من إبن الطائفة الأخرى أو المذهب الآخر هو واهم، لأنه بذلك يعتبر أن الخير كله قد وُضع في أبناء طائفته وأن الشر كله قد وُضع في الآخرين، وما ذلك الاّ عقمٌ في التفكير بل تخلّف يعيشه كل من يعتقد ذلك حتى لو ملأت جدران منزله الشهادات!
وإن كل من يعتقد أن الله قد خصّه وخصّ طائفته بالرعاية والمباركة، وانه حصر مباركته بهذه الطائفة وحجبها عن باقي الطوائف، انما يسيء فهم الله ورحاب رحمته ويحتقر انبياءه ورسله، وعليه ان يصحِّح ذلك الفهم الخاطئ الراسخ في اعماقه كي لا يغضب منه الله ويحرمه من ملكوته!
الحقيقة هي أن النور الإلهي لا بد أن يدرك جميع الكائنات في مختلف الظلمات لأنه بكل بساطة هو من خلقها وخطَّ لها أقدارها، فلا يعقل أن يتخلى عنها على الإطلاق.
إن جميعنا ينتمي لله وإن الله يريد أن يرى خلقه في أعلى درجة من التآخي والتعاضد، تماماً كما يسعى الأب لرؤية أبنائه متكاتفين متحابِّين.
بناءً عليه، فإن التقرب إلى الله يتحقق بالإنخراط في ثقافة التآخي والتعاضد بين البشر وليس على قاعدة التعصب والتطرف، ففي التآخي فعلُ ايمانٍ بالله، وفي التباعد والتناحر فعلُ كفرٍ بوصاياه. وإن هذا الاختلاف بين الأديان ليس إلا تنوعًا في طريقة عبادة الله ويجب ألّا يخرج عن هذا الحد وألّا يتحول إلى تعصبٍ أو كرهٍ أو حقدٍ فيسقط إذّاك مفهوم العبادة بأكمله.
يبقى السؤال: إذا كان الله قد خلق الناس جميعًا فهل يحبهم جميعًا ويباركهم بالقدر نفسه؟ الجواب طبعاً لا، فهو حتمًا يفرق بينهم ولكن ليس وفق دياناتهم بل وفق أخلاقهم وحسْب. فلماذا يباركنا الله بناءً على إنتماءٍ ديني ورثناه وليس لنا فضل في اعتناقه، أليس الأجدر ان يباركنا بناءً على خُلُقٍ يجسِّدُه كلٌ منا في سلوكه وتفاعله مع الآخرين؟ التزامًا منا وصاياه والتى هي نفسها في مختلف الاديان؟ نعم حتمًا، ذلك هو الحقّ وهنا بيت القصيد... فالأخلاق هي الطريق إلى الله، الطريق الوحيد والممر الالزامي، واني شخصيًا على قناعة تامة أن رحمةَ الله ستلاقي ذلك الانسان الذي يسلك هذا الطريق، بصرف النظر عن منطلقه العقائدي أو عن الدين الذي انتمى إليه أو الأبوين اللذين ولد مهما...
تعالوا إلى الأخلاق واخرجوا من التعصب السخيف، ولا تخرجوا من أديانكم ومذاهبكم ولكن إعبدوا الله فقط ولا تعبدوا رجال الدين أو السياسة...