مفكرة 2014

الأزمات والتطورات في العلاقات الدولية خلال العام 2014
إعداد: د. أحمد علو


عالم بلا «روح»...
روى نائب الرئيس الأميركي جو بايدن لصحيفة «نيويوركر» في عددها الصادر في أول آب 2011، أنه قال للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائهما في موسكو في العام 2011، إنه «ينظر في عينيه فلا يجد له روحًا». وقد ردّ عليه بوتين قائلًا: «إننا نفهم بعضنا بعضًا»...

 

حركة العلاقات الدولية خلال العام المنصرم
يشهد العالم منذ مطلع القرن الحالي حالة اضطراب وتشابك في تفاعلاته الدولية، سواء كانت تعاونية أو صراعية، ويتمظهر هذا الاضطراب في حالة العجز عن الاتفاق على تطبيق القواعد الحالية للنظام الدولي في ما خص الكثير من الصراعات القائمة على مساحة العالم، والتي تهدد باستمرارها وحدة وسلامة وسيادة كثير من الدول.
كذلك يعيش النظام العالمي اليوم أزمة بسبب احتدام الصراع حول إعادة تمركز القوة بين الدول الكبرى في عدد من البؤر المشتعلة، والذي بات يهدد سيادة بعض الدول وكياناتها وبخاصة في منطقتي الشرق الأوسط وشرقي اوروبا. وقد أسهم هذا الصراع في بروز ظاهرة الارهاب بشكل عام والإرهاب التكفيري بشكل خاص كنتيجة لفشل بعض الأنظمة السياسية القائمة، أو كوسيلة لتفكيك بعض الدول، أو كمقدمة لتفتيتها وتحويلها إلى دول فاشلة تمهد لبناء كيانات جديدة وطائفية في نظام عالمي غير واضح المعالم.

 

الأزمات والأوضاع في لبنان والعالم
أبرز عناوين الصراع والنزاعات دوليًا خلال العام 2014 كانت: الطاقة والموارد، الأسواق، الأمن والسلاح، الهيمنة الاقتصادية، النفوذ السياسي، التدخل في سيادات الدول تحت حجج نشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وتنامي ظاهرة الإرهاب.
اقليميًا يتركز الصراع في المنطقة حول دور القوى الصاعدة فيها مثل إيران والسعودية وتركيا ومصر، بالإضافة إلى الكيان الإسرائيلي والحركات السلفية الجهادية التكفيرية والإرهابية.

 

لبنان
شهد لبنان خلال العام 2014 المزيد من تداعيات أزمات المنطقة السياسية والعسكرية وبخاصة الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، حيث تفاقمت الحوادث واستمر تسلل المسلحين واللاجئين مما زاد من معاناة اللبنانيين، وأدّى إلى اضطراب الأمن بسبب الأعمال الإرهابية في الداخل وعلى الحدود.
في مطلع العام (15 شباط) تم تشكيل حكومة لبنانية جديدة برئاسة الرئيس تمام سلام، ولكن انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان في 25 أيار وعدم التوصل إلى انتخاب رئيس جديد، زادا في منسوب التوتر السياسي الداخلي. أما مجلس النواب فأصدر قانونًا في نهاية العام بالتمديد لنفسه سنتين و7 أشهر بسبب الظروف الأمنية التي تمر بها البلاد وصعوبة اجراء انتخابات.
مع مطلع 2014 قررت المملكة العربية السعودية منح لبنان هبة مالية كبيرة لشراء السلاح للجيش ودعمه في معركته ضد الارهاب والدفاع عن البلاد، كما قررت إيران منح الجيش هبة من السلاح والذخائر للغاية عينها، ومن المتوقع أن يبدأ وصول المساعدات الموعودة مطلع الـ2015.

 

سوريا
استمرت الأحداث في سورية للعام الرابع على التوالي بين السلطة المدعومة من قوى إقليمية ودولية من جهة، وبين المسلحين من مختلف «التنظيمات المعارضة» المدعومة أيضًا من جهات اقليمية ودولية أخرى، والارهابيين من دول مختلفة من جهة ثانية. تركزت الاحداث في الشمال والشمال الشرقي والجنوب والغرب، في حرب بدت متعددة الأبعاد والأسباب. وكانت الارجحية لمصلحة الدولة التي استعادت عدة مناطق سيطر عليها المسلحون في الأعوام الماضية. تخلّل هذا العام أيضًا إعلان الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) وضم قسم من الأراضي السورية الشمالية الشرقية إلى هذه الدولة المزعومة. كذلك أعيد انتخاب الرئيس بشار الأسد رئيسا للجمهورية في مطلع حزيران من العام 2014. وقد تواترت هذا العام حركة الاتصالات الدولية بين الدول الكبرى والإقليمية لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية من دمشق إلى طهران وموسكو ومن واشنطن إلى باريس والرياض وجنيف ولكن هذه الاتصالات لم تصل إلى حل حاسم بعد بسبب تشابك المصالح وتناقض السياسات الدولية والإقليمية ورؤية كل منها لطريقة الحل.

 

العراق
أدت نتائج الانتخابات النيابية العراقية التي جرت في 30 نيسان 2014 إلى أرجحية لمصلحة رئيس الوزراء نوري المالكي، ولكن اعلان الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) في نهاية حزيران 2014 واشتباكها مع السلطة وسيطرتها على اراضٍ واسعة من شمال العراق وغربه وبعض منابع النفط، وقيامها بحركة تطهير طائفي ومذهبي وابادة بشعة، دفعت القوى السياسية العراقية إلى انتخاب حيدر العبادي رئيسًا للوزراء. العبادي دعا إلى مزيد من الحوار والوحدة بين مكونات الشعب العراقي وإعادة تطوير الجيش العراقي وتجهيزه وتدريبه للوقوف بوجه هذه الحركة التي اعلنت معظم الدول أنها ارهابية، وتداعت لإقامة تحالف دولي لمحاربتها بزعامة الولايات المتحدة الاميركية. وقد باشرت قوات هذا التحالف بالفعل شن غارات جوية على مراكز داعش في العراق وسوريا، ما أدى فقط إلى الحد من تمددها وليس إلى القضاء عليها وذلك لأسباب تتعلق ببنية النظام الدولي والاختلاف في توجهات ومصالح وتدخلات بعض القوى المؤثرة في النظام الإقليمي والدولي حول سرعة الحسم وطرقه ونتائجه.

 

تركيا
في إطار بحثها عن دور أساسي في الحراك القائم في الشرق الأوسط، تابعت تركيا دعم بعض الاطراف المعارضة في سوريا والعراق، وشهدت تحركات شعبية ومظاهرات مناهضة لهذه السياسة. وبدا واضحًا أن هذه السياسة التركية في الاقليم لا تتوافق مع سياسات بعض دوله كالمملكة العربية السعودية ومصر وإيران، (بالاضافة إلى سوريا والعراق)، لا بل تتصادم معها.

 

القضية الفلسطينية
لم تصل المفاوضات ما بين السلطة الفلسطينية والكيان الاسرائيلي إلى حلول للقضية حول اقامة دولة فلسطينية مستقلة، واستمر الصراع بسبب اقامة المزيد من المستوطنات في الضفة والقدس، وازداد التوتر والصدامات الدامية حول المسجد الأقصى وفي بعض أنحاء الضفة الغربية، حصار قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس والذي شن الجيش الاسرائيلي عليه حربًا خلال شهري تموز وآب استمر ما يزيد على 50 يومًا سقط فيها الآف القتلى والجرحى من الفلسطينيين، وحلّ دمار كبير بالبنى التحتية، وترافق ذلك مع المزيد من الانتهاك للقانون الدولي والإنساني. وقد امكن التوصل بعد جهد إلى وقف لإطلاق النار وهدنة بمساعي بعض الدول الاقليمية ومجلس الأمن. بعدها تألفت حكومة وحدة وطنية جمعت السلطة الفلسطينية في الضفة وحركة حماس في قطاع غزة.
ومع نهاية العام 2014 بدأت أصوات بعض الدول الغربية ترتفع اعترافًا بالدولة الفلسطينية المستقلة، كذلك رفعت جامعة الدول العربية طلبًا إلى الأمم المتحدة للإعتراف بهذه الدولة التي ترفضها دولة الكيان الاسرائيلي، مما يرفع من وتيرة الصراع إلى حدود الإنفجار الشامل داخل فلسطين المحتلة وربما في الجوار. وهذا الوضع يتزامن مع أزمات سياسية واقتصادية داخلية في الكيان الاسرائيلي وضغوط دولية مختلفة أدت في نهاية العام إلى انفراط عقد الإئتلاف الحكومي الحاكم وحلّ الكنيست والدعوة إلى انتخابات جديدة في آذار العام 2015.
كذلك استمر الكيان الإسرائيلي في تدخلاته المباشرة وغير المباشرة وانتهاكه لسيادة بعض الدول المجاورة كسوريا ولبنان واعتدائه عليهما.

 

مصر
اطاح الجيش والشعب المصري بنظام حكم الاخوان المسلمين خلال العام 2013. وبعد فترة انتقالية برئاسة رئيس المحكمة الدستورية العليا عدلي منصور تم انتخاب المشير عبد الفتاح السيسي قائد الجيش ووزير الدفاع، رئيسا للجمهورية منتصف العام 2014. السيسي بدأ سياسة طموحة لاعادة مصر إلى دورها الريادي المتوازن في العالم العربي والاقليم وعلى الساحة العالمية، وما زال الجيش المصري يتابع مقاومة فلول الاخوان المسلحين والإرهابيين الذين يقومون بعمليات إرهابية ضد الجيش والشرطة المصرية وبخاصة في شبه جزيرة سيناء.

 

ليبيا
لم يستقر الوضع السياسي والأمني في ليبيا بعد ثلاث سنوات على الاطاحة بنظام القذافي فالصراع الدموي مستمر فوق مساحة الارض الليبية والذي تشارك فيه التيارات السياسية المختلفة والجيش والفصائل والحركات المسلحة الاسلامية وبعض المنظمات الإرهابية. ولم يتوصل الليبيون بعد إلى اقامة سلطة واحدة قادرة على اعادة توحيد البلاد ووضع حد للفوضى فيها، وذلك بسبب التدخلات الاقليمية والخارجية التي يسعى بعضها الى تقسيم ليبيا إلى دول صغيرة على خطوط الموارد النفطية والغازيّة فيها، أو على خطوط التصدعات الإتنية والقبلية أو على خطوط النفوذ والمصالح الاقليمية والدولية.

 

اليمن
يُستغل اليمن بموقعه الجيوستراتيجي المهم على مضيق باب المندب وتعقيدات تركيبته الجيوبوليتيكية، كمسرح للصراع الاقليمي بين ايران من جهة والمملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج العربي من جهة اخرى. كما أن ما بينهما من تداخل وتقاطع محلي واقليمي ليس بعيدًا عما يجري في سوريا والعراق ولبنان من حروب مباشرة أو بالوكالة وتحت مسميات متعددة، على خلفية الصراع الدولي في لعبة الشطرنج الكبرى للسيطرة على المنطقة وتجميع نقاط القوة. وما شهده اليمن ويشهده اليوم من نزاعات وحروب وصراع على السلطة ودعوات للوحدة أو للانفضال، هو فصل من فصول هذه المسرحية الكبرى التي تدعى لعبة الأمم وصراع المصالح.

 

السعودية
تؤدي المملكة العربية السعودية دورًا بارزًا في الاقليم إنطلاقًا من مكانتها الدينية من ناحية، وطموحها ومواردها الكبيرة وامكاناتها الاقتصادية وموقعها الجيوستراتيجي المهم في المنطقة والعالم من ناحية أخرى. وقد سعت المملكة إلى تشكيل «حائط صدّ» جيوستراتيجي بعناوين مختلفة في بعض دول المنطقة، وذلك لحماية مصالحها او الحفاظ على دورها.

 

إيران
في المنظور الجيوستراتيجي العالمي، تحتل قضية هيمنة ايران على الخليج العربي اليوم موقعًا محوريًا في تفاعلات العالم السياسية والإقتصادية على خلفية الثروات الكبيرة والموارد التي يحتويها من الطاقة، وضرورة تأمين سلامة طرق الإمداد التي تمر عبرها هذه الموارد (مضيق هرمز). هذه الأهمية الجيوستراتيجية جعلت من المنطقة مسرحًا لحراك دامٍ وساحة صراع وتنافس دولي حاد.
وايران سعت وتسعى إلى بناء قوتها وفضائها الإقليمي التحالفي بمعزل عن ارادات بعض الدول الكبرى التي لا تحبذ وجود دولة إقليمية قوية تشكل تهديدًا جيوستراتيجيًا لوجودها ونفوذها ومصالحها في المنطقة، وبخاصة بعد الانسحاب الاميركي من العراق نهاية العام 2011. ويضاف إلى ذلك دعم ايران لقوى ما عرف بمحور الممانعة والمقاومة العربية والإسلامية بوجه مخططات الدول الغربية وتدخلاتها في ما سمي الربيع العربي، من فلسطين إلى مصر فالسودان ومن البحرين إلى اليمن ومن العراق إلى سوريا فلبنان.

 

أزمة الملف النووي الإيراني
تتابعت المفاوضات الدولية بشأن الملف النووي، وآخر ما انتهت اليه الاجتماعات كان إحراز بعض التقدم ما أدى إلى تخفيف بعض العقوبات على ايران من قبل مجموعة الدول «5+1» في محادثات فيينا في تشرين الثاني 2014، والاتفاق على الاستمرار في المفاوضات حتى الوصول إلى اتفاق نهائي بحلول اول تموز من العام 2015، وهذا ما يقلق بعض الدول الإقليمية.

 

أفغانستان
مع نهاية العام 2014 وبعد انتخاب رئيس جديد لأفغانستان من المفترض انسحاب القوات الغربية عن هذه البلاد بعد 13 سنة من الاحتلال والحروب، وهذا ما يفتح المجال أمام تجدد الصراع الداخلي فيها بين السلطة والحركات الاسلامية المتطرفة (طالبان) التي لم تتوقف عن السعي لقلب النظام واقامة دولتها الإسلامية الخاصة، ويدور صراع خفي ما بين الولايات المتحدة وروسيا حول تمركز القوات الاميركية المنسحبة من افغانستان إلى قواعد مجاورة في اوزبكستان لتبقى قريبة من المسرح الافغاني والإيراني من جهة وكذلك للبقاء في المجال الحيوي لروسيا الاتحادية والصين في جمهوريات آسيا الوسطى التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي السابق من جهة أخرى. كل ذلك يزيد من حدة التوتر فوق هذا المسرح المرشح لمزيد من التنافر في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة والصين.

 

تنامي الصراع الدولي على النفوذ والهيمنة والموارد
لم تنهِ الحرب المعلنة على الارهاب والمستمرة منذ العام 2001 بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها عمل المنظمات الارهابية في افغانستان ولا عثرت على أسلحة الدمار الشامل أو أقامت الحرية والعدالة في العراق بعد غزوه في العام 2003، بل ان ما حدث ويحدث كان وما زال مأساة انسانية نجم عنها تفتت العراق وتذابح بين اهله تحت شعارات شتى، منها السياسي والديني والمذهبي والإتني، وغيرها من المصطلحات التي استحضرت لتأجيج الصراع داخل البيت الواحد. والخلاصة أن اعمال الارهاب زادت واستفحل خطرها أكثر وانتشرت كالوباء حتى باتت تغطي مساحة المنطقة كلها وتهدد بخطرها معظم دول الإقليم الشرق أوسطي والعالم. ويرى بعض المحللين أن عددًا من المنظمات والحركات الاسلامية المتطرفة ما هو إلا وسائل وتكتيكات وأسلحة تستخدمها الدول الكبرى والإقليمية لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية في المنطقة، وللوصول إلى الأهداف الجيوبوليتيكية أو الجيوستراتيجية الكبرى.

 

روسيا واوكرانيا والغرب ولعبة الشطرنج الكبرى
يقول المحلل الجيوبوليتيكي السير هارولد ماكيندر: «من يحكم اوروبا الشرقية يسيطر على قلب العالم، ومن يحكم منطقة القلب يسيطر على جزيرة العالم، ومن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم كله».
وانطلاقًا من هذا القول يمكن فهم الصراع القائم في اوكرانيا. وقد تفاقمت الأزمة الأوكرانية خلال العام 2014 وبلغت ذروتها في اندلاع الصراع المسلح والحرب الأهلية في البلاد ما أدى إلى انفصال شبه جزيرة القرم وانضمامها إلى روسيا الاتحادية (21 آذار). أثارت هذه الخطوة ارتدادات أوروبية وأميركية واعقبها فرض عقوبات اقتصادية وتجارية وعسكرية على روسيا التي استمرت في دعم الشعب الاوكراني من أصل روسي وبخاصة في المناطق الشرقية من اوكرانيا.

ترى روسيا أن الغرب وبعض دول الناتو إنما يلعبون في الفناء الأمامي لبيتها كرد على السياسة الروسية في الشرق الاوسط وأوروبا، وكجزء من محاولة تطويق روسيا ثم احتوائها في عالم تقوده الولايات المتحدة والغرب بسياسة لا تعير اهتمامًا أو تعطي قيمة، للدول الكبرى الصاعدة على المسرح الدولي.
كما يرى بعض المحللين الاستراتيجيين أن التناقضات بين روسيا والغرب وصلت إلى ذورتها في أوكرانيا، وكان ذلك نتيجة تراكمات متعددة من الخلافات السياسية منها الحرب الروسية الجورجية، والنزاع السوري، والدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية وغيرها، وهذا ما دفع موسكو لإعادة ترتيب أوراقها، وتنفيذ برامج طموحة لتحديث جيشها وتطوير صواريخها وطائراتها ومباشرة طلعاتها الجوية فوق المحيطات ومناوراتها البحرية في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي والشرق الأقصى، وإعادة تشكيل تحالفاتها الاستراتيجية مع الصين ودول معاهدة الأمن الجماعي في آسيا الوسطى وبعض دول الشرق الأوسط.
في المقابل يقول الخبير في العلاقات الروسية - الأميركية أندريه أونتيكوف إن الحرب الباردة القديمة لم تتوقف، وإنما مرت بمرحلة من الجمود، بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي وهيمنة الولايات المتحدة عالميًا.
وهو يضيف أن «روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كانت منفتحة على الغرب وأعلنت انتهاء الحرب الباردة، وتوقعت في المقابل أن تكون شريكًا ندًا ومقبولًا لدى الغرب، ولكن سرعان ما تبين لها أن الغرب كان ينوي احتواءها. وهي دولة قوية تمتلك ثروات هائلة ولاعب أساسي على الساحة الدولية، بالتالي لم تعد تقبل بسياسة القطب الواحد، وباستحواذ الولايات المتحدة على القرار الدولي.

 

الصين والشرق الأقصى وطريق الحرير
هاجسان يؤرقان الولايات المتحدة الأميركية ويهددان استمرار هيمنتها على العالم، وهذان الهاجسان هما: الصواريخ النووية والغاز الروسي وتأثيره على أوروبا، والنمو الاقتصادي والعسكري الصيني. ولما كانت الحرب النووية ممنوعة (ضمنًا) حتى الآن، فإن نمو الاقتصاد الصيني المتسارع بات يشكل تحديًا امام الاقتصاد الاميركي المتعثر وبخاصة بعد أزمة العام 2008 وتداعياتها الكارثية عليه وعلى الاقتصاد والغربي بشكل عام.
إن تصاعد قوة الصين الاقتصادية ومحاولتها بناء قوة عسكرية موازية باتا خطرًا يهدّد سيطرة الولايات المتحدة في شرق آسيا والمحيط الهادىء (الباسيفيكي). والصين التي باشرت توسعها الاقتصادي في دول الجوار وبدأت انتشارها الاقتصادي في أفريقيا والشرق الأوسط وحتى أميركا الجنوبية (تستثمر فيها نحو 20 % من استثماراتها الخارجية)، قد قاربت في دخلها القومي السنوي دخل الولايات المتحدة وهي ستتجاوزه خلال عقد من الزمن اذا استمرت وتيرة النمو الحالية فيها (أكثر من 7.4 % في العام 2014).
كما تفيد بعض التقارير الاستخبارية الاميركية بأن الانفاق العسكري الصيني الحقيقي قد يتجاوز 200 مليار دولار هذا العام ويشمل بناء طائرات شبحية أو بدون طيار، وحاملات طائرات وسفنًا حربية مزودة صواريخ مضادة للسفن وغواصات نووية تحمل صواريخ بالستية يصل مداها إلى الأراضي الأميركية كلها، بالاضافة إلى برامج تطوير شبكات رادارية وتطوير وسائل حرب الشبكة العنكبوتية ومضاداتها الإلكترونية.
كذلك بدأت الصين رحلاتها المأهولة إلى الفضاء الخارجي وإطلاق الاقمار الاصطناعية، واشترت من روسيا نحو 10 بطاريات صواريخ ارض – جو (س 400 تريومف) ونشرتها على سواحلها الجنوبية والغربية والشرقية باتجاه اليابان وتايوان وغيرها.
اعتمدت الولايات المتحدة استراتيجية التحول نحو الباسفيك منذ فترة، وهي تحاول اقامة شبكة من العلاقات المتينة مع الدول الآسيوية المحيطة بالصين لتشكيل حاجز ردع استراتيجي يوقف المد الصيني باتجاهها، أو باتجاه اصدقائها في المنطقة من تايوان إلى اليابان وكوريا الجنوبية والفليبين واندونيسيا وفييتنام وتايلاند وحتى استراليا وغيرها. ولكن الصين تمارس بمهارة سياسة القوة الناعمة في علاقاتها الدولية مع المحيط وتستخدم دبلوماسية الاغراءات والمساعدات الاقتصادية أو الضغط على دول الجوار بشكل يتناسب مع استراتيجيتها ومصالحها في الإقليم. وهي تقوم بذلك من دون التخلي عن صلابتها في الدفاع عن حقوقها السيادية وبخاصة في تايوان أو في بحري الصين الشرقي والجنوبي حيث تتوافر موارد وافية من الطاقة (نفط وغاز) وبعض الجزر المتنازع عليها، مما أدى إلى توتر مع عدد من الدول المشاطئة لهذين البحرين.

لقد أطلقت الصين مبادرة تهدف إلى تعزيز التعاون والاتصال الإقليمي والدولي تجاريًا وماليًا وتنمية العلاقات الثقافية والحضارية بين الشعوب.
وفي القمة الأخيرة التي عقدتها في شهر تموز من هذا العام دول البريكس، اتفقت هذه الدول وبينها الصين (كمساهم أكبر) على إنشاء بنك دولي للتنمية برأسمال يبلغ 50 مليار دولار مع صندوق احتياط قد يصل إلى أكثر من 100 مليار دولار(مرشح للزيادة)، للمساعدة في تنمية اقتصادات بعض الدول الصديقة وبقروض ميسرة وفوائد قليلة. وقد أتى ذلك ردًا على سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين تهيمن عليهما الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
كما طالبت هذه الدول باعتماد عملة جديدة غير الدولار لتكون اساسًا للتعامل في ما بينها في إشارة منها إلى رفض هيمنة العملة الاميركية على اسواق النقد العالمية وتراجع عن مرجعية اتفاقية «بريتون وودز» في مؤتمر النقد الدولي الذي عقد في الولايات المتحدة لتنظيم قيمة صرف النقد العالمية مقابل الدولار والذهب في العام 1944.

 

القيم التي تحكم العلاقات الدولية في نظام عالمي يترنح
يرى بعض المراقبين أن الولايات المتحدة، ومنذ ما يزيد عن العقد من الزمن لم تربح أي مواجهة عسكرية خاضتها بدءًا من أفغانستان.
أما على الصعيد السياسي فقد تعرضت لإخفاقات كثيرة في فرض رؤيتها لحل العديد من القضايا، ولا سيما الملف النووي الإيراني وملغي سوريا وأوكرانيا. وهي فشلت في منع ظهور قوى دولية جديدة مثل الصين والهند وروسيا، وقوى إقليمية مثل إيران وتركيا، وبذلك تغير المشهد الجيوسياسي في العالم بشكل حاد، مع ظهور قوى عظمى جديدة على الساحة الدولية لديها قدرات اقتصادية كبيرة، ولديها تصوراتها الخاصة في كيفية بناء العلاقات الدولية.
لا شك أن عودة روسيا إلى الساحة الدولية، ونمو بعض الاقتصادات في الدول الصاعدة كالصين والهند والبرازيل وظهور تشكيلاتها الاقتصادية («البريكس»، ومنظمة «شنغهاي للتعاون والأمن» وتجمع «مركوسور» في اميركا الجنوبية)، وتفتيشها عن دور يتناسب مع نموها الاقتصادي وانتشارها عبر العالم من خلال علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية، اسهـم ويسـهم في تشكيل معوقات مانعة امام تمدد الامبراطورية الاميركية اقتصاديًا وسياسيـًا وعسكريًا. وقد وضعها ذلك في حالة تنافسية اقتصاديًا على مستوى التأثير في العلاقات الدولية، كما وضعها في حالات صراعـية عسكـرية (مباشرة أو بالواسطة) على امتـداد العـالم من شرقـي آسيا إلى غربها، ومن افريقيا واوروبا الشرقية إلى اميركا الجنوبية، فبدت وكأنها تستعيد فترة الحرب الباردة.

لم تستطع الولايات المتحدة وحلفاؤها حسم الصراع لمصلحتها، ومع غياب الحوار الإيجابي وعدم تقديم تنازلات متبادلة بين القوى العظمى بدا أن النظام العالمي القديم والذي كان يتميز بوجود قدر أكبر من الروابط الإنسانية والأخلاقية في العلاقات الدولية، يترنح اليوم ويعيش حالة انتقالية حادة تخلو من الروح السامية وتفتقر إلى القيم الفلسفية النبيلة والأبعاد الانسانية. ومع أن معالم هذه الحالة لم تتضح بعد، فإن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد القطب الوحيد المهيمن والموجه لهذا النظام، وهذ ما بدأ يتضح في اندلاع الأزمات في عدد من المناطق، أو في الخلاف والموقف المتعنتة حيال العديد من القضايا.
يرجّح تاريخ العلاقات الدولية أنه عند صعود قوى جديدة، لا بد من اندلاع الصراعات مع القوى القائمة بالفعل، كذلك يرى بعض خبراء التاريخ أن الفترات الانتقالية في النظام الدولي تكون شديدة الخطورة على الأمن الدولي والإقليمي معًا.
ومن هنا يمكن فهم اسباب بعض الأزمات والصراعات المنتشرة في بعض دول المنطقة والعالم وارتباطاتها بآلية صراعات القوة وتمركزها أو انتقالها من جهة إلى اخرى.