قضايا إقليمية

الأزمة المعنوية في الجيش الإسرائيلي: تجلياتها وتداعياتها
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

يزداد القلق في إسرائيل ومعها الوكالة اليهودية، والدوائر الاستراتيجية ذات الصلة، من التغيرات الديموغرافية – الثقافية المتسارعة الحاصلة في داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي، ولا سيما بسبب الارتفاع الحاد في نسبة المتدينين عمومًا، وبشكل خاص بسبب ارتفاع نسبة الأصوليين المتطرفين «الحريديم». وينبع هذا القلق من اعتبار أن هذا الارتفاع سيهدد المجتمع العلماني، وسينعكس مباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي من حيث النمو وقدرة الإنتاج، وعلى السياستين الخارجية والأمنية للدولة. ويعود ذلك إلى طبيعة «الحريديم» الذين لديهم نمط حياة وتفكير مختلفين كليًا، ويعيشون في مجتمعات مغلقة تشهد تحولات ثقافية داخلية تقدس «أرض إسرائيل الكاملة» وتدعو إلى عدم الانسحاب من أي جزء منها. وهي تفضل ذلك على «وحدة الشعب» الاسرائيلي، وتطرح تساؤلات حول تعاملها مع الأوامر في سياق الانسحاب والإخلاء الصادرة عن مؤسسات الدولة. ويذكر أنه حدثت حالات خاصة خلال تنفيذ خطة الانفصال عن قطاع غزة في صيف العام 2005، رفض فيها جنود من التيار الصهيوني – الديني تنفيذ أوامر عسكرية بإخلاء مستوطنات انصياعًا لفتاوى أصدرها حاخامون في هذا التيار.
في هذا السياق تبرز قضية إعفاء الغالبية العظمى من طلاب المدارس الدينية (اليشيفوت) الحريدية من الخدمة العسكرية، وكانت إسرائيل قد أقرت ذلك منذ إنشائها. وكان رئيس الحاخامين آنذاك اسحق هرتزوغ – وهو والد هرتزوغ رئيس الدولة الأسبق - قد كتب رسالة إلى رئيس الوزراء جاء فيها «إن اليشيفوت تحتاج إلى عناية خاصة لأنها البقية الباقية من مؤسسات التوراة بعد مذبحة النازيين لليهود. إن روح الشعب اليهودي ذاتها متوقفة على بقاء هؤلاء الطلاب. فإذا انشغلوا ولو بتعبئة بسيطة فإن الاضطراب سيقع بينهم». وكان أول تأجيل لهؤلاء العام 1948 أثناء الحرب العربية الإسرائيلية. والعام 1949 أصدر بن غوريون قرارًا بصفته وزيرًا للدفاع إلى جانب كونه رئيسًا للوزراء- بتمديد الإعفاء من الخدمة العسكرية. ثم أصدر قرارًا آخر (1951) جاء فيه «قررت أن أعفي طلاب اليشيفوت من الخدمة العسكرية الإلزامية، وهذا القرار ينطبق فقط على الطلاب المستمرين في دراسة التوراة في اليشيفوت»، وهو مازال نافذ المفعول إلى اليوم، على الرغم من كل المحاولات لإلغائه أو تغييره. من جانب آخر فإن زعماء «الحريديم» ورؤساء «اليشيفوت» من جهتهم يحتجون بأن دراستهم الدينية، هي أهم من الخدمة في الجيش، بل هم يقولون إن ما يصيب اليهود من اشياء مفيدة لهم، إنما هو بسبب هذه الدراسة، وكذلك الذي يصيب سكان اسرائيل. وإن مساندة الدارسين تعني مساندة الرب الذي جعل اسرائيل تنتصر بحروبها، وهذا يأتي من نظرة الرب لليهود بعين الرحمة كما يقولون. ويعتقدون ايضًا بأن دراستهم الدينية هي أفضل من الصلاة والصدقة والأعمال الخيرية الأخرى، وأنه بسبب هذه الدراسة يكون من الممكن للدارسين وعوائلهم ولليهود الآخرين أن يدخلوا الجنة. ويدعي «الحريديم» بأن الدراسة الدينية هي التي تمنع العدو من الإعتداء والإنتصار على إسرائيل، وأن طلاب الدراسة الدينية لا يختلفون كثيرًا عن الدبابات والصواريخ. ويقولون إن كل من يدرس هذه الدراسة ليس عليه مسؤولية اجتماعية، وليس عليه أن يعمل من أجل الحصول على الرزق. ومما يزيد الطين بلة أن طلاب «اليشيفوت» غير الصهيونية هؤلاء، يربون على فكرة أن دولة إسرائيل، هي دولة غير شرعية، وأنها كبقية الدول الأجنبية بالنسبة إلى اليهودي ليس لها قدسية على الإطلاق. وعندما سئل هؤلاء الطلاب عن سبب عدم الخدمة في الجيش أجاب 60% منهم بأنهم لا يخدمون لأنهم لا يعترفون بالدولة. مع ذلك هناك «يشيفوت» تنتمي إلى الصهيونية الدينية يخدم طلابها في الجيش تسمى «توراه أوملاخاه» (التوراة والعمل)، وهي تخلط الدراسة الدينية مع التدريب على المهن والحرف.
على هذه الخلفية صدر أخيرًا في إسرائيل كتاب في منتهى الاهمية بعنوان «بين القلنسوة والبيرية – الدين، السياسة والجيش في إسرائيل»، وتناول موضوعات مهمة من ابرزها موضوع تزايد الأسس والتجليات الدينية داخل الجيش الإسرائيلي، إذ أنه في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي بدأت تتراجع لدى أبناء الطبقة الوسطى – العليا الأشكنازية حوافز التجند في الجيش. ويصف الكتاب، هذه الحالة بأنها «أزمة معنوية» أحدثت في الجيش الإسرائيلي نقصًا في القوى البشرية في بُعدين: في البعد الأول، حدث نقص في القوى البشرية النوعية من حيث احتياجات تفعيل الجيش والارتقاء بمستوياته القتالية، وذلك في الوقت الذي انتقل فيه الجيش إلى الاعتماد أكثر فاكثر على التكنولوجيا المتطورة والأسلحة الذكية التي تستوجب وجود جنود بمستوى تعليمي وتكنولوجي عالٍ. وفي البعد الثاني، نشأ نقص في الجنود الذين لديهم الحافز والدافع للانخراط في الخدمة العسكرية من منطلقات قيمية ومعيارية وايديولوجية. ومن أجل سد النقص في البعد الأول لجأ الجيش إلى حل تقديم المكافآت المالية للجنود، من خلال دفع رواتب محسنة أو إعطاء منح دراسية لمواضيع تكنولوجية معينة. أما على مستوى البعد الثاني، فقد لجأ الجيش إلى حل يتمثل في زيادة الاعتماد على مجموعات اجتماعية أخرى إلى جانب أبناء الطبقة الوسطى – العليا الأشكنازية، وهي مجموعات الشبان المتدينين القوميين المؤمنيـن بالصهيونيــة.
ويشير الكتاب إلى أنه منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، وفي موازاة «الأزمة المعنوية» التي أثارت قلق قيادة شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي، بدأ يبرز ارتفاع ملموس في حوافز الالتحاق بالخدمة العسكرية لدى أبناء التيار الصهيوني – الديني. وتم التعبير عن هذا الدافع المتزايد لدى أبناء الصهيونية – الدينية في جميع «مؤشرات المعنويات»، التي بدأ يبرز انخفاضها لدى المجندين العلمانيين. وهذه المؤشرات هي:
1. المعنويات العالية للتجند في الجيش.
2. المعنويات العالية للتطوع في الوحدات القتالية النخبوية.
3. المعنويات العالية لمواصلة الخدمة العسكرية حتى نهايتها.
4. المعنويات العالية للوصول إلى رتبة ضابط.
5. المعنويات العالية خلال العمليات القتالية.
6. المعنويات العالية للانتقال إلى الخدمة العسكرية الدائمة بعد إنهاء فترة الخدمة الإلزامية.
وجاء في الكتاب أن التعبير عن المعنويات العالية لدى أبناء الصهيونية – الدينية أدى إلى بروزهم المتزايد في كل واحدة من مراحل خدمتهم العسكرية، وأدى أيضًا إلى بروز هذه الظاهرة في الإعلام. وعلى خلفية الانخفاض المتواصل في معنويات العلمانيين، برزت المعنويات الأيديولوجية لدى شبان «القلنسوات المزركشة». ووفق الكتاب ايضًا فإنه «بموجب أيديولوجية التيار الصهيوني – الديني، فإن الخدمة في الجيش الإسرائيلي ليست واجبًا مدنيًا وحسب وإنما هي فريضة دينية أيضًا». وعلى ضوء ذلك، فقد ازداد عدد المعاهد الدينية التي تمهد للخدمة العسكرية من 6 معاهد يتعلم فيها 700 طالب فقط العام 1997، إلى 34 معهدًا يتعلم فيها 1600 طالب سنويًا العام 2008.
ومنذ التسعينيات من القرن الماضي بات هناك ما بين 3 إلى 5 جنود من الصهيونية الدينية ينهون سنويًا مسار التدريبات في كل من أهم فرق النخبة، ومن ابرزها «سرية هيئة الأركان الهامة» (سييرت مطكال)، وهي أهم وحدة كوماندوس في الجيش، وفي وحدة «شالداغ»، التي تنحصر مهمتها في تنفيذ عمليات استطلاع في أراضي «العدو». وبين هؤلاء، رئيس حزب «البيت اليهودي»، نفتالي بينيت. كذلك أصبح اللواء «غولاني»، في هذه الفترة، معقل أبناء الصهيونية – الدينية. وهناك فرق في هذا اللواء توجد فيها غالبية من الجنود الذين ينتمون لهذا التيار. علاوة على ذلك، قال ضابط وصفته صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية بأنّه عالي المستوى في الجيش الإسرائيلي، إن ضعف الشعور بالتهديد الذي ينعكس في المجتمع الإسرائيلي هو واحد من الأسباب الوجيهة التي كانت وراء هذا الهبوط الحاد في الإقبال على الالتحاق بالخدمة العسكرية، على حد زعمه. ولفتت المصادر العسكريّة في تل أبيب، بحسب الصحيفة، إلى أن المعطيات الرسميّة للعام 2008 بينت أن نسبة المنخرطين في الجيش وصلت إلى نسبة أقّل من 70 بالمئة، حيث أعرب 67 بالمئة فقط عن رغبتهم في الانضمام إلى الوحدات القتاليّة في الجيش الإسرائيليّ.
ووصفت الصحيفة هذا الهبوط الحاد في نسبة المتجندين للوحدات القتاليّة بشكل خاص، بأنّه انخفاض إلى الحضيض وغير مسبوق، لافتةً إلى أنه في دورة التجنيد الخاصة بشهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، اعرب 70.3% من المجنّدين عن استعدادهم للالتحاق بالوحدات القتالـية وذلك مقابل 79% في الفترة الموازية لها من السنة السابقة، مـؤكّدة وجـود انخفـاض بنسبـة 10 بالمائة في الأعوام الثلاثة الفائتة. كذلـك، قالت الصحيفـة العبريّة إنّه إلى جانب المعطيات التي تشيـر إلى «الأزمة المعنوية» وانخفاض حوافز الخدمة في الوحدات القتالية، هناك أيضًا انخفاض في الرغبة في التجند لوحدات المشاة، إذ انخفضت النسبة من 48 بالمئة إلى 43 بالمئة.