رحلة في الإنسان

الأسرار العائلية متى تجمع ومتى تفرّق؟
إعداد: غريس فرح

لكل عائلة أسرار تحرص على إخفائها عن الغرباء. وعادة ما تتفاوت إنعكاسات هذه الأسرار في نفوس أفراد العائلة, بتفاوت الثقافة والتربية ومستوى الإدراك والإنتماء الإجتماعي. بهذا يختلف الشعور بالعيب والحرام والعار, باختلاف مقدرة الناس على استيعاب الحالة المعيبة بنظر الغير, ومعالجتها بعيداً عن التعقيدات ومركبات النقص.
مع ذلك, تبقى للأسرار العائلية سلبياتها وأصداؤها المؤثرة, وتظل رواسبها تحرج كاتميها وتتلاعب بأطر شخصياتهم وأنماط تفكيرهم وسلوكهم الإجتماعي. والأهم هو الخوف الذي ينتاب هؤلاء لدى إضطرارهم الى الكشف عن خبايا عائلاتهم في اللحظات الإنتقالية الحاسمة والتي تتطلب صراحة قصوى, كإعلان الخطوبة والزواج وتسلّم وظيفة.
فكيف تتفاعل خصوصيات العائلات في أجوائها المغلقة؟ وما هي الطرق الإيجابية لإفشاء هذه الخصوصيات في الأوقات المناسبة بدون إلحاق الضرر بأصحابها وبسمعة العائلة ككل؟


خبايا النفوس البشرية وتأثيراتها
يقول أحد الأطباء النفسيين, إن العقود الطوال التي قضاها في علاج الناس وإرشادهم, علّمته أن خبايا النفوس البشرية تتحول مع الوقت الى قوى غريبة تؤثر سلباً وإيجاباً على الأجواء العائلية وعلى علاقة الأفراد ومدى تأقلمهم مع الواقع.
فهي مثلاً توحد الصفوف في وجه الدخلاء وناشري الأخبار والأقاويل, كما تنمي الشعور بالإنتماء والقربى. وقد تخلق لدى البعض أحياناً شعوراً بالنقص, الأمر الذي يوتر الأجواء ويتسبب بالخلافات بين الإخوة, كما بين الأهل والأبناء.
من هنا تمحورت الأبحاث مؤخراً حول طرق التعاطي مع رواسب الأسرار التي تغطي حالات عدة, كالخيانة الزوجية, وإدمان الكحول والمخدرات, إضافة الى الإنحرافات المسلكية, وبعض الأمراض التي تعتبر مخجلة بنظر المجتع, كالأمراض النفسية والعقلية, ومرض السيدا.
والواقع كما يؤكد الإختصاصيون, أن ردات الفعل السلبية الناجمة عن التصدي لهذه الحالات وسواها, والمتمثلة بالتكتم والخجل والإنزواء, هي ردات فعل طبيعية زوّدتنا بها جيناتنا الوراثية لدوافع عدة, منها الفطرية التي تنمي فينا مقدرة التمييز بين الخطأ والصواب, ومنها المكتسبة التي تمكننا من حماية أنفسنا والمقربين إلينا من عقاب المجتمع والقانون.
من هنا, تعتبر الرهبة تجاه النواقص والعيوب رهبة طبيعية وصحية, شرط ألا تتحول الى سجن يحتجز أصحابها, ويمنعهم من تصحيح الخطأ بالتستر عليه, أو حلّ المشكلة القائمة بالحؤول دون عرضها على أصحاب الشأن.

 

ردات الفعل!
لإلقاء المزيد من الضوء على هذه المشكلة الإجتماعية والإنسانية الهامة, جال فريق من الإختصاصيين مؤخراً في معظم مشاكل العائلات, وخصوصاً الناجمة عن سوء التعاطي مع الأحداث غير المألوفة, وهنا ابرز ما توصلوا إليه:
- تحلّق فريق حول السر بمعزل عن الآخرين:
ما يؤرق العائلات أحياناً إجتماع باقة من أفرادها أو إثنين منهم حول سر معين. واللافت أن الفريق المستبعد أو غير المطلع على السر, يشعر تلقائياً بوجود أمر ما يدور في الخفاء, فيرتاب, وينتابه الفضول, الأمر الذي قد يدفعه أحياناً الى التصرّف بعيداً عن العقل والمنطق. فيتدخل من دون استئذان أو يلجأ الى اقتحام الخصوصيات الحميمة, كتفتيش الحقائب والأدراج والتنصت على المكالمات الهاتفية.
هذه وسواها من التصرفات غير اللائقة, توتر الأجواء العائلية, وتفكك أواصرها, إذ تزعزع إطمئنان أفرادها القائم على ثقة أحدهم بالآخر.
في حال كهذه, يُنصح الفضوليون والمشككون من أفراد العائلة, وخصوصاً الأهل, بالإبتعاد عن القلق الهدّام والتقرب من المشكوك بأمره من أبنائهم بذكاء مقرون بالحب والعاطفة لإستمالته وكسب ثقته, ودفعه الى عرض مشكلته في حال وجودها طلباً للمساعدة. عندها يصبح التدخل مشروعاً, شرط ألا يتعدى المساعدة الى التوبيخ واللوم, حتى لا يفقد دوره الفعّال, كدعامة أساسية وضرورية لبناء الأسر المتماسكة. والأفضل إقناع الشخص المعني بعرض مشكلته على أصحاب الإختصاص, وذلك في حال تعذّر معالجتها من قبل الأهل.
- كتم الأهل معلومات تسيء الى سمعة العائلة:
كثيراً ما يلجأ الوالدان الى التكتم بشأن أحداث حصلت في الماضي, وأساءت الى سمعة العائلة ككل, كإنحراف أحد أفرادها المقربين, أو إنتحاره لأسباب مجهولة, أو لدخوله الى مصح عقلي. واللافت في الموضوع أن الأولاد الذين يبقون بمنأى عن هذه المعلومات, يحصلون عليها بطرق مباشرة وغير مباشرة من مصادر خارجية غايتها زرع التفرقة وأذية الغير. وهو أمر يصدمهم ويغضبهم ويشعرهم بالنقص, وقد يضعف ثقتهم بوالديهم وبقدرتهم على تأمين الحماية لهم. وهي بمجملها مشاعر قد تتفاعل بأشكال مختلفة وتؤدي أحياناً الى إختيار العزلة والإنطواء أو التمرّد. بهذا تؤثر سلباً على علاقات أفراد العائلة بعضهم بالآخر, وبالغير.
هذه الظاهرة اللافتة, أعطاها الإختصاصيون إهتماماً خاصاً كونها الأكثر شيوعاً في صفوف العائلات التقليدية والمحافظة, والتي يغيب عن إدراك القائمين عليها الكثير من المفاهيم العصرية المنفتحة.
فالعائلة بالمفهوم الحضاري, هي تلك الرزمة المتراصة والمحبوكة بخيوط الحب والعاطفة والصراحة والإنفتاح. لذا يصبح من حق الأبناء الإطلاع على أحداثها, الحاضرة والماضية, المألوفة وغير المألوفة. أما الهدف من ذلك, فهو السماح لهم بالتعايش مع مشاكل الأسرة والعائلة ككل, ليكتسبوا المناعة في وجه الصعاب, وليتمكنوا من الإنخراط في المجتمع بثقة واطمئنان. والطريقة الأفضل للتحدث عن المشكلة بحضور الأولاد, هي طرحها بصورة طبيعية, مع مراعاة انتقاد الخطأ أو الإنحراف في حال حصوله والإشارة الى الأذى الذي ألحقه بالعائلة وبسمعتها. بذلك يتخلص الأهل من عبء الإحتفاظ بالسر بمعزل عن الأبناء, ويجنبونهم الوقوع في أخطاء مماثلة في المستقبل.
- كتمان الأسرار يدمر العلاقات الإجتماعية والعاطفية:
من الشائع, وخصوصاً في المجتمعات الشرقية, إنغلاق العائلات على خصوصياتها الحساسة, ومنع الأولاد من البوح بها خارج جدران المنزل. بهذا تنشأ أجيال محرومة من التعبير عن مشاعرها ومعاناتها, الأمر الذي يولّد في صفوفها مشاكل مختلفة, منها النفسية والمتمثلة بالخجل والإنطواء وانعدام التحصيل العلمي والمهني, ومنها الإجتماعية وأهمها الفشل في بناء العلاقات بأنواعها كافة, وخصوصاً العاطفية.
من هنا يُنصح الذين يعانون من كتم الأسرار العائلية المعيبة, باللجوء الى المعالجين النفسيين أو رجال الدين. كما بإمكانهم الإستعانة بصديق وفي لتفريغ شحنات صدورهم بدون الشعور بذنب إرتكاب الخيانة بحق العائلة.
ويلفت الخبراء الى ضرورة البوح بالأسرار للتخلص من ضغوطاتها. كما يلفتون الى أن التعبير عن المعاناة من الأحداث غير المألوفة, إضافة الى مناقشة مسبباتها وذيولها مع أشخاص بعيدين عن تأثيراتها, يخفف من الشعور بالعيب والعار الناتج عنها, إذ يجردها من الهالة الوهمية التي تعطيها حجماً أكبر من حجمها.
- كيف نبوح بالسر في الوقت المناسب؟
كما سبق وذكر, تعتبر المراحل الإنتقالية وخصوصاً الخطوبة والزواج, مراحل حساسة لأنها تدخل الى العائلة أفراداً جدد غير مهيئين لإستيعاب مشكلاتها, وتربك بالتالي أصحاب العلاقة الذين يحارون كيف يتسترون على الوضع القائم.
لتجنب الشعور بالإحراج, ينصح بعدم إنتظار المرحلة النهائية من العلاقة العاطفية لإعلام القادم الجديد بوجود المشكلة العائلية, بل من الأفضل التلميح عنها بالتدريج منذ بداية العلاقة, للتمكن من كشفها بدون خوف في المرحلة التي تتخذ فيها العلاقة طابع الجدية.
كما ينصح بشرح ملابسات الوضع وذيولـه والمعانـاة العائلية القائـمة من جرائـه, وذلك بهدف تهيئـة المحـب للتأقلـم مع مشاكل العائلة, والمشاركة في حلها.
هذه وسواها من الحلول, تبرز الصراحة كأفضل وسيلة لصيانة الكرامة, وتعزيز الثقة بالنفس وترسيخ الطمأنينة. فمن خلالها يسقط الخوف, وتتلاشى الهموم وتتضاءل الصعاب. وبنتيجتها تذوب الأوهام لتستعيد الأحداث المضخمة في الأذهان احجامها الطبيعية.