افاق التكنولوجيا

الأشعة T تتيح الرؤية خلف الحواجز والجدران وتعد باستعمالات أمنية وطبية مذهلة
إعداد: رويدا السمرا

تكشف المتفجرات والأسلحة وتتعرف الى البكتيريا والسرطان

تكشف عن المتفجرات في الرمل، كما تكشف عن أنواع غير ظاهرة من سرطان الجلد. إنها الأشعة "T" التي تعد باستعمالات أمنية وطبية مذهلة. كل ذلك من دون أي تأثيرات جانبية أو خطر على الإنسان!

 

تقنيات ومواصفات

في الطيف الكهرمغناطيسي، نقطة تواتر بقيت مجهولة لمدة طويلة. إنها مجموعة التردد «تيراهيرتز»* الواقعة بين الموجات الميكروية، والأشعة تحت الحمراء. ونُطلق على أشعة هذه المجموعة إسم الأشعة T. السيطرة على هذا النوع من الأشعة والتحكّم بها يعدان بقلب الموازين في مجالات متعددة، مثل الأمن والطب وحتى علم الفلك. والجدير بالذكر، أن وجود هذا النوع، معروف منذ بداية القرن العشرين. ولكن، يقول أحد العلماء الفيزيائيين في معهد أبحاث الأشعة "Tس في نيويورك - الولايات المتحدة: «لم نكن نملك التقنية اللازمة لإنتاج هذا النوع من الإشعاع بالشكل الفاعل. وقد أصبح ذلك ممكناً منذ عقود قليلة فقط. أما اليوم فقد أخذت الأمور بُعداً أوسع في هذا المجال. فالباحثون والصناعيون يواصلون على مرّ الشهور اكتشاف تطبيقات جديدة للأشعة "T". وهكذا، فإن هذه الأشعة تظهر مع الوقت مواصفات مميزة تجعلها بكل بساطة المنافس الأكبر للأشعة السينية.

 

الليزر بذبذبات متناهية القِصَر

تصلح الأشعة T في مجال الأمن مثلاً، للكشف عن وجود متفجرات أو أسلحة غير معدنية، أو حتى مواد كيميائية أو بكتيرية مثل الجمرة الخبيثة. كما تستعمل في مجال التصوير الطبي بالأشعة، للكشف عن أنواع من سرطان الجلد، وكذلك في صناعة الأدوية، وحتى في مجال علم الفلك.

والأشعة T غير مرئية بالعين المجردة، وتتراوح ذبذباتها من 1.0 «تيراهيرتز» الى ثلاثين «تيراهيرتز». ويعود تاريخ أول أجهزة قادرة على إحداث هذه الذبذبات وقراءتها (عبر أجهزة لاقطة)، الى أواخر الستينات: «في ذلك الوقت، وضعت بعض المختبرات لا سيما الأميركية منها، تصوراً لأجهزة تعتمد على استعمال أشعة الليزر، وتتمكن من إنتاج واستقبال شعاع يتواجد بين مجموعة «تيراهيرتز». ولكن صعوبة الأمر كانت في ثقل وزن هذه الأجهزة المخصصة غالباً للاستعمال في علم الفلك وأيضاً، في كلفتها الباهظة الثمن»، حسبما يقول باتريك مونيه المسؤول عن الأبحاث في المركز الفيزيائي في فرنسا. والواقع أن طول أشعة الليزر، التي كانت تستعمل في ذلك الحين، لانتاج الأشعة "Tس، كان يصل الى أكثر من عشرة أمتار ! ولكن وفي التسعينات، تسارعت الأمور بفضل الأعمال التي قامت بها مختبرات بيل في نيوجرسي - الولايات المتحة، وانتهت الى إيجاد وسيلة فاعلة لإنتاج هذه الأشعة. وتعتمد هذه الوسيلة على أشعة ما يسمى بـ«ليزر التسلسل الكمي»، وهو نوع من أشعة الليزر يتغير طول موجته، بحسب سماكة المواد شبه الموصلة التي تشكّله. وهكذا وفي نهاية التسعينات أصبحت فرصة إنتاج الأشعة T، متاحة تماماً أمام المختبرات كافة، بفضل تطوّر أشعة الليزر بالذبذبات المتناهية القِصر.

 

فما هو مبدأ إنتاج الأشعة T؟

تُطلق أشعة الليزر هذه، ذبذبات قصير جداً (من عيار الفيمتوثانية femtoseconde**)، على دفعات من مئات الفيمتوثواني، لتضرب جهاز إرسال، صُنع في أساسه من مادة شبه موصلة. ويصدر عن الجهاز بالتالي، شعاع على شكل طيف من الموجات الكهرمغناطيسية. وباستطاعة هذه الموجات أن تخترق عدداً كبيراً جداً من المواد، بدءاً من الملابس، مروراً بالورق وانتهاءً بالباطون. ولا يعترض هذه الموجات (أو بمعنى آخر يمتصها أو يعكسها)، سوى جزئيات الماء وأيضاً، الجزئيات التي تتألف منها غالبية المواد المعدنية. ويعود السبب في ذلك الى أن تردد امتصاص الجزئيات المائية والمعدنية، يشمل في الواقع كل مجموعة «تيراهيرتز». لكن الأمر يبقى مع ذلك أفضل بكثير مما هو عليه بالمقارنة مع الأشعة X أو الأشعة السينية، التي تخترق بسهولة المواد القليلة الكثافة كالأقمشة والأنسجة اللحمية، لكنها تتوقف أمام كل المواد الصلبة أو الكثيفة، مثل العظام مثلاً، كما يظهر على الصورة بالأشعة X.

 

الكشف عن المتفجرات

لا يعود للأشعة X، أي فائدة من دون إمكانية استقبالها عبر أجهزة لاقطة، لقراءتها بعد مرورها من خلال الغرض المراد تشخيصه. ويقول أحد الباحثين في هذا المجال: «للحصول على معلومات حول شكل أو تركيبة المادة التي تتعرض للأشعة T، نستعمل جهازاً لالتقاط الأشعة، يكون شبيهاً في تركيبته، بالجهاز الذي يبعثها، وتكون وظيفته تحصيل الأشعة التي اخترقت أو انعكست على الغرض الخاضع للتشخيص. وهكذا وبالمقارنة بين نوعي الأشعة قبل وبعد مرورها بالمادة المراد تشخيصها، يصبح من السهل جداً، معرفة الخصائص الجوهرية لتلك المادة. ويعطي أحد الاختصاصيين، مثلاً عن مبدأ التصوير بالأشعة T: إذا تعرض غاز ما، للأشعة T، فإنه يمتص نوعاً معيناً من التردد، يتناسب مع تركيبته الجزيئية الخاصة به. ويترك هذا الامتصاص «فراغاً» في طيف الاشعاع الذي يخرج من جهاز بث الأشعة. ويشكل ذلك بالتالي، «توقيعاً كيميائياً»، يسمح باستنتاج طبيعة الغاز الذي خضع للأشعة T. وهكذا وبالطريقة ذاتها، تتمكن الأشعة T من إعادة تسجيل شكل المواد الصلبة التي تنعكس عليها، كأي غرض معدني مثلاً أو حتى أي شخص من الأشخاص، وذلك من خلال ما يحتويه جسمه من الماء.

الخصائص التي تتميز بها الأشعة T، تثير اليوم حماسة الكثير من الاختصاصيين في العالم من مختلف المجالات الأمنية والطبية. ويقول أحد هؤلاء: «للأشعة T تطبيقات لا تنتهي في مجال الكشف عن المتفجرات. لقد توصلنا خلال السنتين الماضيتين، الى تحديد التوقيع الكيميائي في المختبر، لعدة مواد تفجير مختلفة، وأيضاً الكشف عن عناصر بيولوجية وكيميائية».

وفي هذا المجال، تمكّن البروفسور تشانغ وفريقه في معهد رانسلر للبحث في الأشعة T، من الكشف في العام 2002، عن وجود بكتيريا الجمرة الخبيثة التي زرعت الرعب في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. وهكذا، بنتيجة كل هذه التطورات الواعدة في مجال استعمال الأشعة T، قررت وكالة البحث في وزارة الدفاع الأميركية «داربا» (Darpa)،  تخصيص ثمانية عشر مليون دولار لتمويل المرحلة الأولى التي بدأت في شباط 2004، من برنامج الأبحاث الموسع الذي يهدف الى تطوير تطبيقات الأشعة «تيراهيرتز» في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب. وتستخدم الأشعة T في الكشف عن الأسلحة المخبأة تحت الملابس أو في علب مغلّفة، كالبنادق أو الخناجر أو أي سلاح آخر، حتى ولو كان غير معدني. وقد طورت شركة «تيرافيو» (Tera View) البريطانية في هذا المجال، جهاز أشعة كاشف، محمولاً ومكثفاً يدعى "TPIس (Terahertz Pulsed Imaging)، يتمكن من تحديد كل المواد التي يتعذر الكشف عنها بواسطة الوسائل العادية، مثل البلاستيك، السيراميك أو حتى الورق...

 

الأشعة T غير مؤذية!

أثبت جهاز "TPIس عن قدرته على كشف الأغراض غيد المعدنية المطمورة في الرمل. ويُعدّ ذلك إنجازاً مشجعاً، نظراً للصعوبات التي تواجه عمليات الكشف عن الألغام ضد الأشخاص، وهي أجسام لا تتمكن التقنيات العادية من الكشف عنها، بسبب تركيبتها غير المعدنية. وفي المجال ذاته، يمكن أن تكشف الأشعة T عن وجود سكين من السيراميك مثلاً، مخبأة داخل كيس أو في جيب إحدى السترات، الأمر الذي كان يتعذر على الأشعة السينية أن تقوم به. وهناك استعمالات أخرى للأشعة T يمكن تصورها للمستقبل القريب، لا سيما في مجال العمليات الإرهابية، كاحتجاز الرهائن: فالأشعة المذكورة يمكنها ان تخترق الجدران الأكثر سماكة، فتحدد بالتالي مواقع الإرهابيين والمحتجزين على السواء، الموجودين داخل المبنى. وهي عملية يستحيل على أي تقنية أن تقوم بها في الوقت الحاضر.

أما الدافع الأهم لاعتماد الأشعة T، فهو استعمالها غير المؤذي. وهنا أيضاً، تتفوق هذه الأشعة على الأشعة السينية. فهي أشعة غير مؤيّنة، أي أن طاقتها لا تكفي لانتزاع إلكترون (électron) من الذرة، على عكس الأشعة X، التي يتسبب استعمالها، بالاصابة بالعقم أو بالسرطان. هذا، وقد أظهرت الدراسة التي أجريت على عدد من الأشخاص، قدرة الأشعة T على الكشف المبكّر عن سرطان الجلد، الذي يؤدي الى وفاة نحو ألف وخمسمئة شخص سنوياً في فرنسا وحدها.

 

 من السوس الى سرطان الجلد

إن قدرة الأشعة T، على الكشف عن أنواع من سرطان الجلد، لا يُستهان بها، عندما نعلم أن هذه الأنواع لم تكن تظهر حتى الآن سوى بالعين المجردة. أما مبدأ الكشف عن المرض، فيعتمد على إظهار الأشعة لفائض السوائل داخل الأنسجة السرطانية، بلون أغمق من لون الأنسجة الأخرى. أما في مجال طب الأسنان، فإن الأشعة «تيراهيرتز»، تسمح بالكشف عن السوس تحت مينا الأسنان، بوقت أبكر بكثير من اكتشافه بواسطة الأجهزة التقليدية كالأشعة X.

ولكن، إذا كانت بعض استعمالات الأشعة T، قابلة للتطبيق في موعد قريب، مثل مراقبة الأدوية عبر تحليل تركيبتها الكيميائية، أو الكشف مثلاً عن العيوب في الإسفنجة العازلة للمركبة الفضائية، والتي يصعب الكشف عنها بواسطة الأشعة X، فإن استعمالات أخرى كثيرة، تبقى غير موثوق بها حتى الآن، فهناك مثلاً المشروع الذي لا يزال يعمل على تطبيقه، باحثون في جامعة ليدز في بريطانيا. ويقضي المشروع باستخدام الأشعة T لقراءة محتوى كتاب من دون الحاجة الى فتحه! ويعتمد ذلك على أساس، أن الأشعة T تتعامل بطريقة تختلف مع التركيبة الكيميائية للمواد التي تعترضها. وبالتالي، فهي قادرة على التمييز بين صفحات الكتاب البيضاء والصفحات المكتوبة بالحبر. وهكذا، فقد يتمكن هؤلاء الباحثين من إعادة الإطلاع على محتوى مخطوطات قديمة، يمكن أن تتضرر إذا تم فتحها...!

 

أدوات قادرة على القراءة في النجوم

إن قسماً كبيراً من الأشعة الكهرمغناطيسية الآتية من الفضاء الخارجي، يقع ضمن المجموعة من التواتر «تيراهيرتز». وعلى هذا الأساس فإن التوصل الى تركيب أجهزة لاقطة تتمكن من قراءة هذه الأشعة الكونية، من شأنه أن يؤدي الى تطوير أدوات رصد فضائي، تدرس التركيبة الكيميائية لمجرات بعيدة، أو تقيس سرعة تباعد إحدى المجرّات. وقد جرى اعتماد مثل هذه الأدوات، على متن المسبار الفضـائي «روزيتـا» (Rosetta)، الذي أُطـلق في الثاني من آذار سـنة 2004.

* تيراهيرتز: تيرا (Téra)، وهي بادئة باللغة اليونانية، تُستعمل لضرب الوحدة التي تسبقها، بمليون المليون. هيرتز (Hertz)، وهي وحدة التردد، أو الدور في الدقيقة. وهكذا فإن: 1 تيراهيرتز = 1210 هيرتز، أو مليون المليون هيرتز.

**Femto: Femtoseconde : تعني باللغة الدانماركية خمسة عشر. وهي بادئة تُستعمل لتقسيم الوحدة التي تتقدمها على 51. وبالتالي فإن الفيمتوثانية هي جزء من تريليون الثانية، أو جزء من 10-15 الثانية أو جزء من ألف مليون مليون من الثانية.
   

 عن مجلة: Science et Vie - Juillet 2004