تكريم

الأمانة في ذاكرتنا وقلوبنا
إعداد: د. إلهام نصر تابت

تُمسك الكتيب المشغول بعناية ليحفظ ذكراهم. تُقلّب الصفحات على مهل خشية أن يفوتك تأمّل وجه من وجوههم. تشعر أنّ الصفحات ليست مجرد أوراق تحمل صورًا وكلمات. إنّها حكايات مكتوبة بالدم الغالي، منقوشة كالوشم في وجدان المؤسسة. إنّها إرث الشرف والتضحية والوفاء، إرث حي ينبض في العروق فيعزز اللحمة في المؤسسة، ويشرق مزيدًا من الإصرار والعزم في صفوفها، مرسّخًا ارتباطها بشعبها وأرضها.

 

٨٢ شهيدًا لمديرية المخابرات ارتفعوا من ساحة الشرف إلى سماء الشهادة، ٨٢ بطلًا توجتهم شجاعتهم بالعزة والكرامة. بعضهم أتى من عكار وبعلبك وزحلة، وبعضهم الآخر من النبطية وجبيل ومرجعيون وبيروت... في كنف المؤسسة باتوا رجالًا من لبنان، عرقهم ودمهم له، لعزته وأمنه واستقراره.

 

في البال

تتأمل الصور، تحضر إلى البال قصة ذلك الضابط البطل الذي استشهد في مواجهة الإرهابيين في مطلع العام ٢٠١٣، وقصة ذلك الرتيب الذي استشهد في المواجهة نفسها، وتتذكر بسهولةٍ الرتيب الذي استشهد منذ أشهر في مواجهة مع أحد كبار تجار المخدرات في الشراونة. لقد استشهد لأنّ مناقبيته العسكرية لم تسمح له بإطلاق النار على تاجر المخدرات الذي احتمى بولده، ومثل هذا الشهيد كثيرون استشهدوا لأنّهم أبوا أن يعرّضوا أرواح المدنيين للخطر. هؤلاء الذين استشهدوا في الأمس القريب كما رفاقهم الذين سبقوهم إلى الشهادة منذ عقود طويلة، ذكرهم حي في المؤسسة، ليس عبر السجلات والاحتفالات فقط، وإنما بالتواصل الدائم للقيادة مع عائلاتهم واحتضانها لأهلهم وزوجاتهم وأولادهم.

وذكرهم حي أيضًا بحفظ الرفاق لأمانة الشهادة المشرقة دومًا في بالهم. فلو سألت أيًا من العسكريين الشجعان الذين خاضوا معارك ضارية في نهر البارد أو جرود عرسال وسواها، عن أصعب لحظة عاشوها في تلك المعارك، لأتاك الجواب فوريًا وحاسمًا: «لحظة استشهد رفيقي». أمام عظمة الشهادة تُمحى كل الأهوال التي يواجهها عسكري في أرض المعركة. «مات وأنا أحمله» يقول رقيب، ويمسح دمعة ساخنة، وكأنّ الخسارة ابنة اللحظة الراهنة. الحزن لا تمحوه السنوات، حزن الرفاق على شهيدهم يتحوّل إلى طاقة تشحن هممهم وتزيدهم إصرارًا وعزمًا على أداء الواجب المقدس مهما كانت كلفته. وها هو عسكري آخر يروي: «حملناه ومشينا تحت الرصاص، كان يرجونا أن نتركه لنتابع المعركة ونقضي على الإرهابيين... وصلنا به إلى سيارة الإسعاف، لكنّه استشهد قبل وصوله إلى المستشفى... تابعنا التقدّم، دمرنا مركز الإرهابيين، ورفعنا العلم عاليًا. لن أنساه في حياتي، لن أنسى شجاعته وتضحياته».

 

لحظات مؤثرة أمام النصب

أمام النصب التذكاري الذي أقامته مديرية المخابرات لشهدائها واحتفلت بإزاحة الستار عنه في حضور قائد الجيش العماد جوزاف عون ومدير المخابرات العميد الركن أنطوان القهوجي وعدد من الضباط وذوي الشهداء، توهجت حكايات كثيرة عن أبطال استبسلوا في أداء واجبهم. حكايات أطلت من عيون أم أرهقتها السنون، وها هي تحمل عبء الألم والعمر وتلبي الدعوة للاحتفال بذكرى ابنها ورفاقه متّشحة بالفخر والعزة، فكل عسكري في الجيش هو ابنها. هذا ما خبرته منذ لحظة استشهاد ولدها، وما أكّده لقاؤها بقائد الجيش خلال الاحتفال، حيث كانت بينهما لحظات مفعمة بالمشاعر النبيلة. وها هم الصغار الذين حُرموا عطف أبيهم الشهيد يلوّنون الساحة بالأمل وهم يرتدون بزة الشرف والتضحية والوفاء ويتقدّمون لتحية العماد عون واثقين أنّ المؤسسة هي الأب الذي لن يتخلى عنهم أبدًا. إلى جانبهم شباب كانوا أيضًا صغارًا يوم أدركوا أنّ والدهم لن يعود... باتوا اليوم رجالًا يكبر بهم القلب والوطن. يربط هؤلاء جميعًا بالجيش رابط الدم الغالي الذي يستمر في النمو مدى الحياة، فيتحوّل إرثًا عزيزًا تحفظه المؤسسة كما يحفظه ذوو الشهداء، وترتفع في البناء الصلب مداميك إضافية.

 

وعدنا لهم

تختصر دقيقة الصمت التي سبقت إزاحة العماد عون والعميد الركن القهوجي الستار عن النصب التذكاري مشاعر كثيرة تحضر في لحظة استذكار الشهداء، فإذ يقترن الحزن بالعنفوان، والشوق بالفخر، يُخيم الجلال ويغمر الجميع ويصبح الكل واحدًا، أمام عظمة افتداء الوطن وأهله بالروح. وهذا ما عبّر عنه قائد الجيش في الكلمة التي ألقاها بعد أن وضع إكليلًا من الزهر على النصب. فقد استذكر مقولة جبران التي تدعو كلًا منا لأن يسأل نفسه ماذا قدّم لوطنه لا أن يتساءل عما قدّمه له الوطن، ليثمّن تضحيات شهداء الجيش ومن بينهم شهداء مديرية المخابرات الذين قدّموا للوطن أغلى ما يملكون، أرواحهم ودماءهم، مشيرًا إلى أنّهم يكونون في الصفوف الأولى كلما دعاهم الواجب.

لا تبكه... فالشهيد يحيا يوم مماته، مقولة أخرى انطلق منها العماد عون مؤكدًا أنّ الشهيد بالنسبة لنا هو حي، «نتذكره كل يوم، شهادته وبطولته ستظل راسخة في سجل التاريخ، وفي ذاكرتنا وقلوبنا». وأكد أنّ الشهداء آمنوا بالقضية الأسمى، قضية الوطن، ضحوا لتبقى رايتنا مرفوعة، ولتظل المؤسسة قادرة على الصمود. وإذ أشار إلى ألم الخسارة ومرارة الفراق، أكد أنّ الشهداء «يلهموننا لنتابع مسيرة الحفاظ على الوطن»، وأضاف: «لا يمكننا التخلي عن الوطن، لن نسمح بانهياره. نحن نخوض معركة السلم ضد الفوضى والصمود ضد الانهيار لنحافظ على كرامة من سبقونا واستشهدوا ليحافظوا علينا. وعدنا لهم أن نحفظ الأمانة فنحفظ كرامتهم وأهلهم».

وشدد قائد الجيش على أنّ التاريخ يكتبه الأبطال بدماء الشهداء الذين نفتخر بهم ونعتبرهم وسامًا على صدورنا، لافتًا إلى أنّ هذا النصب التذكاري هو عربون شكر لهم على تضحياتهم الغالية، ومؤكدًا مرة جديدة أنّهم «لا يموتون، فهم أحياء في ذاكرتنا وقلوبنا».

 

حاضرنا ومستقبلنا ونبراسنا

وفي السياق نفسه أكد مدير المخابرات في كلمته أنّ «شهداءنا لم يبخلوا يومًا وصولًا للتضحية بأرواحهم من أجل وطنهم، فنالوا من الحياة أسمى ما يُنال، ونلنا نحن من استشهادهم العز والمجد والفخر». وقال: «هم تاريخنا وحاضرنا، يسكنون كل أيامنا، وهم نبراسنا وناموس حياتنا والبوصلة التي نهتدي بها. إنّهم الأكثر حضورًا في ضمائرنا ووجداننا، نجدد عهدنا لهم بأنّنا سنستمر في السير على دربهم لنبني المزيد من المداميك الصلبة».

واعتبر العميد الركن القهوجي أنّ الشهداء هم أصل المسيرة وبدايتها، المسيرة الممتدة من عمق الزمان لا تعرف الكلل ولا الملل. وقال: «أمامكم نؤكد التزامنا حفظ التضحيات الغالية من خلال حماية وطننا، وحماية السلم الأهلي بما يحقق السلام الداخلي الذي لا يكون من صنع الجبناء بل يصنعه من ارتضى التضحية في ساحات الشرف شاهدًا للحقيقة ومستشهدًا لأجلها».

وأضاف قائلًا: «معكم ندشن اليوم هذا النصب تخليدًا لذكرى شهدائنا الأبرار، وتأكيدًا لاستمرار نهج الشرف والتضحية والوفاء، واعترافًا دائمًا لا يزول بأنّ كل ما ننعم به من عزم وقوة وإقدام على القيام بواجباتنا وتنفيذ مهماتنا، ينطلق من هذه المسيرة التي رسمها رفاقنا بدمائهم».

وفي ختام كلمته، عاهد الشهداء وعائلاتهم: «سنواصل الطريق على نهج الشرف والتضحية والوفاء».

قبل أن يغادر الحاضرون من أهالي الشهداء، كانت لهم وقفة مؤثرة مع قائد الجيش الذي شد على أياديهم وتحدّث إلى كل منهم بصفته أبًا وأخًا وابنًا. وبدورهم عبّروا عن امتنانهم للمؤسسة التي ترعاهم وتحفظ ذكرى أحبائهم. وعندما عادوا إلى بيوتهم كانوا يحملون ذكرى عزيزة جسّدها درع تذكاري تسلّمه كل منهم.

تكريم الشهداء في الجيش ليس مجرد تقليد، إنّه احتفاء بعظمة العطاء اللامحدود، وتكريس لمسيرة تضحية لا تتوقف.

 

كلمات في الكتيب

في حضرة الشهادة، تنحني الكلمات خشوعًا أمام عظمة التضحية وأمام الدماء الزكية التي بذلها أبطالنا فداءَ وطنٍ أحبّوه حتى الرمق الأخير. بهذه الدماء، رسموا تاريخ لبنان المشرّف، حموه من الأعداء وحافظوا عليه أمانةً غاليةً للأجيال اللاحقة، منيعًا ومحصنًا ومُصانًا.

شهادة أبطالنا هي وسام شرف على صدورنا. سنبقى أوفياء لتضحياتهم، ولذكراهم وقسَمهم. عاهدناهم على إكمال مسيرة التضحية التي وضعوا أسسها من أجل وطننا وشعبنا. لن نهادن ولن نستسلم أمام التحديات.

عاهدناهم أيضًا على أن عائلاتهم أمانة نحملها بعقولنا وقلوبنا. أهلهم أهلنا وأولادهم أولادنا. هؤلاء الذين يتحمّلون بألمٍ وفخرٍ فراق أبطالهم، هم الذين لم يبخلوا على المؤسسة والوطن في أغلى ما لديهم، ولن يبخلوا في تقديم المزيد من الأبطال مستقبلًا. كل الاحترام والتقدير لهم، لأنّ في دعمهم للجيش واقتناعهم بقدسية مهمّته، قمّة التضحية والنبل والوطنية.

إنI المؤسسة العسكرية التي تواجه أقسى الظروف والتحديات ستبقى محط آمال الشعب اللبناني وثقته، وستبقى المحافِظة على أمن لبنان واستقراره مهما غلت التضحيات.

شهداء مديرية المخابرات، شهداء مؤسسة الشرف والتضحية والوفاء. لطالما عملتم بصمتٍ وخضتم الأخطار في أثناء مهماتكم التي بقي الكثير منها طيَّ الكتمان والسرية، إلى أن لاقيتم قدركم المجيد. دماؤكم التي روت أرض الوطن في مواجهة العدو الإسرائيلي والإرهاب وتجّار المخدّرات والمندسّين لتقويض السلم الأهلي لم تذهب سدًى، لأنّها أنبتت عزّة وفخرًا وشرفًا يحمله رفاقكم نورًا على هاماتهم التي ستبقى مرفوعة لا تنحني إلا وفاء لذكراكم.

لن نبكيكم، لأنّ بدء حياتكم يوم استشهادكم....

العماد جوزاف عون

قائد الجيش

 

أهالي وعائلات وأبناء الشهداء، الضباط والحضور الكريم

هو شهيد الجيش والوطن... لا أنبل ولا أشرف من هذا اللقب.

فرغم الوجع الذي يكتنفه كل حرفٍ من حروفه، هو يفيض فخرًا واعتزازًا ومنه يشعّ نور الأمن والأمان.

ليس هناك كلمة يمكن لها أن تصف الشهيد، ولكن قد تتجرأ بعض الكلمات. شهداؤنا لم يبخلوا يومًا وصولًا للتضحية بأرواحهم من أجل وطنهم فنالوا من الحياة أسمى ما يُنال، ونلنا نحن من استشهادهم العز والمجد والفخر.

هم تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، يسكنون كل أيامنا لأنهم نبراسنا وناموس حياتنا، والبوصلة التي نهتدي بها كي نعبر الطريق إلى الوطن والاستقرار والسلام المُسيّج بفَيض دمائهم.

نشتاق إليهم... نعم، ولا شيء يُشبه الاشتياق الذي يصبح مقدسًا في حضرة الشهادة.

نحن في حضرتكم يا عوائل الشهداء وبحضور قائد الجيش العماد جوزاف عون الحريص على إبقاء الراية شامخة، فإننا نزداد فخرًا وعزًا لأنكم أصل المسيرة وبدايتها الممتدة في عمق الزمان، لا تعرف الكلل ولا الملل. أمامكم نؤكد التزامنا بحفظ التضحيات الغالية، من خلال حماية وطننا لبنان وصيانة السلم الأهلي بما يحقق السلام الداخلي، الذي لا يكون من صُنع الجبناء، إنما يصنعه من ارتضى التضحية في ساحات الشرف شاهدًا للحقيقة ومستشهدًا لأجلها.

ومعكم نُدشّن اليوم هذا النصب التذكاري تخليدًا لشهداء مديرية المخابرات في الجيش، وتأكيدًا على استمرار نهج الشرف والتضحية والوفاء، واعترافًا دائمًا لا يزول بأن كل ما ننعم به من قوةٍ وعزمٍ وإقدام على القيام بواجباتنا وتنفيذ المهام الموكلة إلينا، ينطلق من هذه المسيرة التي رسمها رفاقنا بدمائهم.

تحية تقدير وعرفان لأرواح شهدائنا الذين سطّروا أسماءهم في سجلات الشرف.

وعهدنا لكم يا عوائل الشهداء أن نواصل الطريق.

عشتم... عاشت مديرية المخابرات... عاش الجيش... عاش لبنان...

العميد الركن

انطوان القهوجي