وجهة نظر

الأمم المتحدة.. وميزان «ديجيتال»
إعداد: جورج علم

مطعم الأمم المتحدة «ديجيتال». تدخل، تتذوّق، تحمل صحنًا من الكرتون المقوّى بورق الألمينيوم، تختار ما تشتهي من الطعام، تنتظم في الصف، تنتظر دورك، وعندما يحين، تضع الصحن على كفّة ميزان «ديجيتال» الذي «يمرّك» فورًا على الشاشة عدد الغرامات، والمبلغ الذي يتوجب عليك دفعه، ثم تتوجه إلى القاعة الفسيحة لتختار المكان الذي ترتاح إليه، تجلس إلى الطاولة.. ويرمقك من بعيد تمثال «الحريّة»...

 

الدور.. والتحديات
يبدأ «الكرنفال الأممي السنوي» اعتبارًا من أول أربعاء يلي 15 أيلول من كلّ عام، حيث تبدأ أعمال الدورة العاديّة للجمعيّة العامة للأمم المتحدة، في نيويورك، وتستمر حتى الأربعاء الذي يسبق تاريخ 15 كانون الأول. «كرنفال عالمي» يجذب ملوكًا، ورؤساء دول، وأمراء، ورؤساء وفود من رياح الأرض الأربع، يتوافدون للمشاركة في مهرجان خطابي، يستمع خلاله «الصغار» إلى ما يمليه «الكبار» من توجهات، وإملاءات، بالإضافة إلى «ورشات عمل»، واجتماعات ثنائيّة تمليها المصالح المشتركة.
يطلّ من على شرفات هذا الصخب الدولي السنوي، سؤال محوري: هل أن الأمم المتحدة ما زالت حاجة لضمان السلام والاستقرار، ومنع قيام حروب مدمّرة؟ وأي تأثير فعلي بقي لها بعد مرور 70 سنة على تأسيسها؟
يجيب عن هذا السؤال الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، الراحل الدكتور بطرس بطرس غالي في إحدى محاضراته بالقول: «كانت دائمًا حاجة الكبار لمنع الإحتكاك في ما بينهم، أو للتفاهم على اقتسام إدارة شؤون الصغار؟!»؛ يفهم من ذلك أن المؤسسة الجامعة كانت مجرد ترف سلطوي تنظّمه، وتمليه لعبة مصالح الدول الكبرى النافذة، ويتم تخريجه بقرارات ملزمة صادرة عن مجلس الأمن تتصف بالكثير من المهابة السلطويّة. لم يتوسّع غالي في التوصيف، وهو الذي ذاق الأمرّين خلال فترة ولايته، كونه كان متعاطفًا مع القضايا المحقّة، وفي طليعتها قضيّة فلسطين، خلافًا للتوجهات الأميركيّة- الغربيّة المتعاطفة مع إسرائيل. إلاّ أن «الغارديان» البريطانيّة، وفي تحقيق موسّع لها، تحدثت عن تحديات خمسة تواجه المنظمة الدوليّة:

 

• المعايير المزدوجة:
في 2 آب 1990، اجتاحت القوات العراقيّة دولة الكويت، وصدرت سلسلة قرارات عن مجلس الأمن، أهمها القرار660 الذي دعا العراقييّن إلى الانسحاب فورًا، ثم القرار 678، الذي حدّد 15 كانون الثاني 1991 كموعد نهائي للانسحاب قبل استخدام القوّة. في حين أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش اجتاح العراق في 19 آذار 2003 من دون أي تفويض دولي رسمي، لا بل دعا دولًا إلى مؤازرته، ولم تستجب سوى بريطانيا، وأستراليا. وقد حاول العودة مرارًا إلى مجلس الأمن مطالبًا بإصدار قرار يغطّي هجومه، إلاّ أنه فشل، واضطر إلى الانسحاب في 15 كانون الأول 2011، تحت وطأة الضغوط التي مارسها الرأي العام الأميركي.
المعايير المزدوجة دفعت بصدام حسين إلى حبل المشنقة، أما جورج بوش فما زال يمارس هواية الغولف في مزرعته.

 

• غلبة موازين القوى:
إبّان الحرب الباردة، وفي زمن التجاذب الحادّ ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كانت القرارات التي تصدر عن مجلس الأمن أكثر توازنًا وصدقيّة، كونها تعكس توافقًا بين واشنطن وموسكو على معالجة قضايا وفق مسار شفّاف لا لبس فيه. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وقيام سياسة «القطب الواحد»، أصبحت الشرعيّة الدوليّة تتحرك وفق مقتضيات مصالح هذا القطب.

 

• التكتلات الجديدة:
ربما شعرت الدول الصناعية الكبرى بأن الأمم المتحدة لم تعد المنبر الموثوق الذي يحمي مصالحها، ويعبّر عن تطلعاتها بسبب هيمنة القوى العظمى عليها، أو بسبب «ميوعة» قراراتها، عندما يتعلق الأمر بقضايا بعيدة عن مصالح هذه القوى، لذلك لجأت إلى التكتلات الكبرى، منها على سبيل الذكر لا الحصر: الاتحاد الأوروبي، الدول الصناعية العشر، مجموعة العشرين، ومجموعة دول الـ«بريكس» (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا)، والتي تشكل مساحتها ربع مساحة اليابسة، ويزيد عدد سكانها عن 40 في المئة من سكان الأرض، واقتصادها أقوى من اقتصاد أغنى دول العالم.
إن هذه التكتلات، وغيرها – كمجلس التعاون الخليجي – تعكس رغبة في رعاية أمنها، ومصالحها، من دون الحاجة إلى الأمم المتحدة، ومجلس الأمن.

 

• الانهيارات الاقتصاديّة:
شكّلت الأزمة الاقتصاديّة العالميّة تحوّلًا بارزًا في «مفهوم الشراكة الدوليّة»، إن على مستوى الإداء، أو النظرة إلى احترام المعايير القانونيّة التي كانت سائدة. تحدّثت «نيويورك تايمز» ذات مرّة عن «الاستعمار الجديد المقنّع»، ورأت «أنّ الدول الكبرى لم يعد يهمها البحث عن أسواق استهلاكيّة، بقدر ما يهمها البحث عن أسواق استغلاليّة»، وتوقعت «انهيار أسعار النفط» قبل حصوله بعامين. وأشارت إلى أن «الأمم المتحدة لم تعد البوصلة التي تحدد الإتجاه الصحيح، لأن الاستعمار الجديد يقوم على التدخل في خصوصية اقتصاد أي دولة ناميّة، بهدف تطبيعه وتطويعه ليصبح ملائمًا لخدمة مصالح هذا الاستعمار».

 

• حرب كونية غير معلنة:
إن ما يجري في الفضاء الخارجي، لا علاقة للأمم المتحدة به، وهو خارج عن مفهومها، ودوائر اهتماماتها، وحتى صلاحياتها.
إنّ التحول في استغلال الفضاء الخارجي، بدأ يتفلّت من بوتقة الاكتشاف، والمعرفة، نحو الاستثمار. والتنافس على امتلاك التكنولوجيا الثقيلة المتطورة، بدأ يتحوّل إلى صراع جديّ – كما وصفه تقرير صادر عن إحدى مراكز الدراسات البريطانية الجامعيّة في العام 2011. ويفيد التقرير بأن «الصراع بين الاقتصادات المقتدرة، قد تخطى نطاق الأرض ليشمل السماء، وغزو الكواكب، والمجرّات، وسبر المجهول الذي قد يقود إلى مفاجآت مذهلة غير متوقعة تغيّر مفاهيم التوازنات التي يقوم عليها الكوكب البشري (الأرض). وإذا كانت الأمم المتحدة قد استحدثت بعد حربين عالميتين مدمرتين لنشر السلام، وتفادي الحروب والمواجهات، فأي أمم متحدة يفترض أن تقوم، لضمان استمرار السلام في الفضاء الخارجي، حيث المركبات المأهولة، وغير المأهولة تكاد تتصادم من شدّة التزاحم؟!».

 

جدار برلين
تفيد صحيفة «لوموند» الفرنسيّة، في إحدى تحقيقاتها، بأن «التحوّل الأبرز الذي طرأ على منهجية عمل الأمم المتحدة، تمثل في حدث دولي استثنائي، هو سقوط جدار برلين في 9 تشرين الثاني 1989، وعودة المانيا موحدة بعد مرور أكثر من 28 عامًا على بناء الجدار (13 آب 1961)».
ورأت الصحيفة «أن سقوط الجدار، أطلق ديناميّة جديدة لدى الدول المتمكنة أو المتعافية اقتصاديًا، «لماذا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، يبقى حكرًا على الولايات المتحدة، وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، والصين؟ ولماذا الآخرون وليس نحن؟!» خصوصًا بعد التحولات الكبرى التي أعقبت «انتهاء الحرب العالميّة الثانية، وفرضت متغيّرات لا يمكن للأمم المتحدة التغاضي عنها إلى ما لا نهاية، ذلك أن أميركا اللاتينيّة تتحدث عن غبن، فهي قارّة قائمة بحد ذاتها، ولها اقتصادياتها، وتطلعاتها المشروعة في أن تكون البرازيل – على سبيل المثال لا الحصر - هي من يكمل العقد؟!».
وفي آسيا، تضيف الصحيفة، هناك الصين، ولا أحد يعيب عليها عضويتها في مجلس الأمن، فهي جديرة، وتستحق، ولكن ماذا عن اليابان هذا العملاق الاقتصادي الذي يشبك أنامله الصغيرة الناعمة بملفات دولية شائكة، من دون أن يترك دوّيًا مزعجًا؟! وماذا عن ألمانيا بعد أن توحّدت؟ إنها العمود الاقتصادي الفقري للاتحاد الأوروبي، والرقم الصعب في الاقتصاد العالمي، يتهيّبها الكل، فيصادقها، أو يخشاها. وهناك جنوب إفريقيا الدولة التي ترفع صوتها عاليًا بأن القارة السمراء مغبونة، وغير ممثلة، إنها جزء من الخريطة الكونيّة، ومن الاقتصاد العام. إنها الآن مجرد رقم فقط، أو صوت لا غنى عنه عند الضرورة!
وقد وصلت العدوى إلى جامعة الدول العربيّة، فخرج صوت من مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي يقول: «لماذا لا يكون للعرب مقعد دائم في مجلس الأمن؟!».
إن «التحديث»، وفق الـ«لوموند» بات ضرورة، وحتميّة بعد التحولات السياسيّة والاقتصاديّة الجذرية التي شهدها العديد من دول العالم، ولم يعد يكفي القول بأن الأمم المتحدة إنما هي مجرّد «سجل حصر إرث» خاص بالدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية. إن «زمن الأول تحوّل، ومثل هذا المنطق ربما كان مقبولًا في حقبة تاريخية، لكن أن يبقى نموذجًا يحتذى لكل العقود والأزمنة، فهذا هو الخطأ بعينه»...

 

الإرهاب
يتمثّل أبرز هذه المتغيّرات، بولادة «تنين» عالمي إسمه «الإرهاب»، يبتلع الكبير والصغير، ويقضّ مضاجع الأمم، ويربك دولًا وأنظمة، ويفرض تحولات أمنيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة تتفاعل بشكل يومي، وترسم مسارات مقلقة حول المستقبل والمصير.
ظهر هذا «التنين» يوم الثلاثاء 11 أيلول من العام 2001، عندما ضرب الإرهاب برجي نيويورك، وأدى إلى سقوط 2973 ضحيّة، و24 مفقودًا.
قيل، ويقال الكثير حول ما حدث، لكن تكفي الإشارة إلى تحولات حصلت، منها:
• أولًا: لم تعد الأمم المتحدة المرجعيّة. لقد اقتنصت الولايات المتحدة زمام المبادرة، وقدّمت نفسها أمام الرأي العام على أنها الضحيّة والحكم، وصاحبة التدبير والتقرير في رسم مسارات الحرب والسلام، وتنفيذها، للانتقام، والاقتصاص، وتحميل المجتمع الدولي وزر التبعات والنتائج.
• ثانيًا: أعدّت الولايات المتحدة الأميركية رزمة من القوانين لحماية أي تصرف أو عمل تقدم عليه تحت شعار مكافحة الإرهاب، وطلبت من الأمم المتحدة، ومجلس الأمن تخريجها بقوانين وقرارات نافذة، وألزمت الأسرة الدوليّة التقيّد بها تحت طائلة المساءلة، وهي عمليًا برسم الدول الضعيفة، والنامية، الموضوعة تحت الشبهات.
• ثالثًا: المبادرة إلى التنفيذ، واستغلال الوقت بسرعة قياسيّة، وكأن الخطط، والدراسات،  كانت معدّة سلفًا لتحقيق مجموعة من الأهداف التي ما زالت لغاية الآن غير واضحة، وفي معرض التخمين، والتحليل، والاجتهاد. كانت الخطوة الأولى الحرب على أفغانستان، واقتلاع نظام طالبان، ثم الحرب على العراق لاحتواء «أسلحة الدمار الشامل؟!». وكانت النتيجة اقتلاع صدام حسين، وسوقه إلى حبل المشنقة، وإشعال الحروب المذهبيّة، وترك العراق مضرّجًا بدمائه مشلّعًا بين إقليم كردي، وآخر شيعي، وثالث سنّي ما زال في دوّامة المخاض. ثم كان «الربيع العربي» الذي استفاق بسحر ساحر كالمارد الخارج من قمقمه، وراح ينشر الدم القاني في الساحات العربيّة من تونس، و«ثورة الياسمين»، إلى مصر و«ميدان التحرير»، إلى سوريا و«مطالب التغيير»، إلى ليبيا، واليمن، والعديد من الساحات التي تبحث عن سلامها، وأمنها، واستقرارها بين أكوام الجماجم!...
• رابعًا: الإحتفاء بعمادة «التنين»، وإطلاق إسم «داعش» عليه؟!.
غريبة المفارقات! يوم 4 تموز 2014، وتحت أنظار الولايات المتحدة، والدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والجمعية العامة التي تضم أكثر من 193 دولة عضوًا، والرأي العام المهتم والمتابع، قام أبو بكر البغدادي بإعلان «خلافته» في قلب مدينة الموصل العراقيّة، وتنصيب نفسه «خليفة» على «الدولة الإسلاميّة في العراق والشام»، والمختصرة بـ«داعش». وعلى وقع «هذه المسرحيّة المكلفة»، بدأ الاستثمار بالإرهاب، فتحرّكت عواصم الدول الكبرى تحت شعار محاربته، واصطف تحالف دولي عريض، بقيادة الولايات المتحدة، وعضوية أكثر من 60 دولة متمكنة، بهدف القضاء عليه، وانتشرت جيوش، وأساطيل، وأسراب من الطائرات الحربيّة المتطورة، لإنجاز المهمّة، وما زال «داعش» قويًا نابضًا في قلب العراق، وسوريا، فيما تتحرك روافده وأطرافه لتشمل مختلف القارات، والدول، والساحات، تضرب، تهدد، وتتوعد. وحدها صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركيّة توقعت أن تشهد الأشهر المقبلة معركة مهمّة ضد «داعش» في الموصل (العراق)، والرقة (سوريا)، متسائلة من سيملأ الفراغ؟!

 

من سيملأ الفراغ؟
«الكرنفال الأممي السنوي» مستمر بكامل طقوسه، فيما الفوضى تجتاح العالم بعد العطل الكبير الذي أصاب «بوصلة» الأمم المتحدة.. تعددت المرجعيات، وتشابكت المصالح، وعادت الغيوم الداكنة تتلبد في الأجواء، وهي التي كانت تنذر – في ما مضى - باندلاع الحروب الطاحنة... لو نفّذت القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بدقة وشفافية تجاه القضايا المحقّة والعادلة في العالم، لما زاد الطمع، وقويت شوكة الجشع.. ولو أنصف «نادي الكبار»، لترك للأمم المتحدة هامشًا عريضًا للتحرك، بالدقّة والشفافية التي يتمتع بها ميزان «ديجيتال» المستخدم في مطعمها، ربما، عندها، كان العالم أكثر أمنًا وأمانًا واستقرارًا... ولكن من قال «إن عدالة البحار هي الأبقى» كان على حق، حيث السمك الكبير يلتهم الصغير.. إنها لعبة الأمم؟!...