الأمن الغذائي في البلدان النامية في عصر العولمة

الأمن الغذائي في البلدان النامية في عصر العولمة
إعداد: د. كليب سعد كليب
استاذ جامعي وباحث في الشؤون الاقتصادية

تمهيـد

بعد ربع قرن من النمو الاقتصادي المتواصل في مختلف أقطار العالم بعد الحرب العالمية الثانية عرفت البشرية خلال عقد السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين سلسلة من الأزمات الاقتصادية الحادة كان أبرزها: أزمة الغذاء العالمي (1970)، أزمة النظام النقدي وأسعار الصرف (1971)، أزمة الطاقة (1973)، أزمة الانكماش التضخمي، وأزمة التنمية في السبعينيات بالإضافة إلى أزمة المديونية العالمية (1982) التي أحدثت اضطرابات سياسية واسعة في العديد من البلدان خصوصًا في أميركا اللاتينية.

ولقد أعقب هذه الأزمات رزمة من التحولات الكبرى على المستوى العالمي كان أبرزها انتهاء الثنائية القطبية بانهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي وتكريس الهيمنة الأحادية للغرب.

وسط هذا المُناخ ساد الحديث عن لغة العولمة بأبعادها المالية، التكنولوجية، الاقتصادية، الثقافية، السياسية، البيئية، الجغرافية والسوسيولوجية.

وجرى تصوير العولمة والنيوليبرالية الملازمة لها والتي تم نبشها واستحضارها في أواخر السبعينيات - بعد أن كانت الليبرالية قد أخلت الساحة كليًا للفكر الاقتصادي التدخلي منذ ثلاثينيات القرن العشرين – على أنها العلاج الشافي لأزمات العالم العديدة والمتكررة.

ولكن هل شكَّلت العولمة حقًا حلاً للأزمات المذكورة آنفًا ومنها أزمة الغذاء التي كانت فاتحة هذه الأزمات جميعها العام 1970؟ وبمعنى آخر هل حالت العولمة دون تكرار هذه الأزمات أو وجود أزمات جديدة؟

إن نظرة سريعة على مجرى التطورات الاقتصادية في العالم منذ أواسط عقد الثمانينيات من القرن العشرين باعتباره التاريخ المعلن لبدء العولمة المعاصرة([1])  تظهر أن سيل الأزمات لم يتوقَّف بعد ذلك التاريخ: أزمة سوق الأسهم الأميركية العام 1987، أزمة مؤسسات التوفير والإقراض في الولايات المتحدة الأميركية في الفترة من 1989 الى 1991، أزمة الأسهم والأصول في اليابان أو ما عُرف بـ "العقد الضائع" (عقد التسعينيات من القرن العشرين)، أزمة المكسيك العام 1994، أزمة انهيار الأسواق المالية الآسيوية العام 1997 والتي عُرفت أيضًا بأزمة صندوق النقد الدولي، الأزمة الروسية العام 1998، أزمة انهيار سوق الناسداك في نيويورك العام 2001، الأزمة الأرجنتينية العام 2001/2002، وصولاً الى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الحالية (2008) والتي هي الأكبر والأوسع والأشد خطورة في التاريخ الاقتصادي الحديث.

ومن اللافت هنا أن معدلات النمو الاقتصادي في جميع البلدان الصناعية المتقدِّمة (باستثناء كوريا الجنوبية) كانت في حقبة العولمة أقل بكثير عما كانت عليه في الربع قرن "المجيد" الذي أعقب الحرب العالمية الثانية. أما البلدان النامية – التي باتت تضم غالبية بلدان رابطة الدول المستقلة التي كانت تنتمي الى كتلة البلدان الاشتراكية بالاضافة الى بلدان العالم الثالث(2) – فبعضها حقَّق معدلات نمو اقتصادي مدهشة أعلى بكثير مما حققته البلدان الصناعية المتقدمة نفسها وراحت تقترب من مستويات المعيشة المحقَّقة في هذه الأخيرة (بلدان الاقتصادات الناشئة)، بينما حدثت ارتدادات مأسوية في بلدان نامية أخرى. ففي عقد التسعينيات من القرن العشرين تراجعت التنمية في عدد لم يسبق له مثيل من البلدان حيث صار الناس في 46 بلدًا (العام 2000) أشد فقرًا عما كانوا عليه العام 1990. وصار عدد الجياع في السنة نفسها (2000) في 25 بلدًا أكبر مما كان عليه قبل 10 سنوات(3)

فما كان وقع العولمة على مسألة الغذاء والأمن الغذائي في البلدان النامية؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا البحث الذي سوف يتضمن عددًا من النقاط هي:

  • في النقطة الأولى سنتناول مفهوم الأمن الغذائي وما لحقه من تطور.
  • أما في النقطة الثانية فسوف تنطرَّق بإيجاز الى حالة الغذاء في العالم في العقود الثلاثة الأخيرة.
  • في النقطة الثالثة سوف نتناول دور العوامل التقليدية المؤثرة في الأمن الغذائي.
  • أما النقطة الرابعة فسوف نخصِّصها للحديث عن دور السياسات الزراعية المعتمدة في الدول الصناعية المتقدمة في اختلال الأمن الغذائي في الدول النامية.
  • في النقطة الخامسة سوف نشرح بإيجاز دور بعض العوامل الناتجة عن العولمة وتأثيرها على الأمن الغذائي للدول النامية.
  • أما في النقطة السادسة والأخيرة فسوف نتناول دور بعض أدوات العولمة (الإعلام والشركات المتعدية الجنسية) في هذا المجال.

 

أولاً: في مفهوم الأمن الغذائي

هناك عدة تعريفات للأمن الغذائي، إلا أن التعريف الأكثر تداولاً هو "قدرة المجتمع على توفير احتياجات التغذية الأساسية لأفراد الشعب، وضمان حد أدنى من تلك الاحتياجات بانتظام".(4)

وقد تدرّج هذا المفهوم مع الزمن وارتبط بعدد من المفاهيم المتعلقة بقضية الأمن الغذائي. ففي عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، أدى الاهتمام الكبير الذي أولته الدول المستقلة حديثًا لقضية الغذاء إلى تداخل مفهوم الأمن الغذائي مع مفهوم الاكتفاء الذاتي الكامل (قدرة المجتمع على تحقيق الاعتماد الكامل على النفس والموارد والإمكانات الذاتية في إنتاج كل احتياجاته الغذائية محليًا). وفي هذا المعنى يكون الأمن الغذائي ذاتيًا دونما حاجة إلى آخرين.

ومع الوقت تبيّن أن الاكتفاء الذاتي الكامل غير ممكن، أي لا يمكن إنتاج الاحتياجات الأساسية كلها أو حتى الجزء الأكبر منها محليًا. وفي هذه الحال يكون توفير هذه الاحتياجات بانتاج جزء منها محليًا واستيراد باقي الاحتياجات من خلال توفير حصيلة كافية من عائد الصادرات الزراعية تستخدم في استيرادها، وبهذا المعنى يصبح الأمن الغذائي أكثر مرونة ويأخذ طابع "الأمن الغذائي بالتعاون مع الآخرين".

في السنوات الأخيرة، ونتيجة تزايد القلق العالمي من المخاطر التي يمكن أن تترتّب على استخدام الكيماويات في الزراعة الحديثة، ظهر مفهوم "أمان الغذاء" وقد عرفته منظمة الصحة العالمية بأنه "جميع الظروف والمعايير الضرورية خلال عمليات إنتاج وتصنيع، وتخزين، وتوزيع، وإعداد الغذاء، اللازمة لضمان أن يكون الغذاء آمنًا، وموثوقًا به، وصحيًا، وملائمًا للاستهلاك الآدمي"(5).

وفي السياق نفسه ظهر مفهوم "الزراعة العضوية أو البديلة" كأسلوب جديد يحقِّق الغذاء الآمن صحيًا. وفي إطار القلق على مستقبل الموارد الطبيعية الزراعية وقدرتها على الوفاء باحتياجات الأجيال القادمة من السكان ظهر مفهوم "استدامة أو تواصل التنمية الزراعية" كسبيل لتحقيق الأمن الغذائي.

إلاّ ان ما يجب التنبه له أن مشكلة الأمن الغذائي يتعيَّن فهمها في إطار من التفكير الشامل وليس فحسب في ضوء توازن ميكانيكي بين الغذاء والسكان، فنقص الغذاء لا يرتبط فقط بإنتاج الطعام والتوسع الزراعي، بل، يرتبط كذلك بالأداء الوظيفي للاقتصاد ككل وبالسياسات الحكومية ودور المؤسسات السياسية والمنظمات غير الحكومية.

إن نقص الغذاء يتأثَّر بعمل الاقتصاد والمجتمع وأدائهما في صورتهما الكاملة، وليس فقط بإنتاج الغذاء والأنشطة الزراعية. ومن المهم أن نعي مظاهر التكافل والاعتماد المتبادل بين المجالين الاقتصادي والاجتماعي اللذين يحكمان إمكان حدوث جوع في عالمنا المعاصر. فالغذاء لا يجري توزيعه عن طريق الصدقات، إنما يجب اكتساب القدرة على تحصيله. وما يجب أن نرتكز عليه ليس جملة العرض من الغذاء في إطار الاقتصاد بل "الاستحقاق" أو النصيب الذي يتمتَّع به كل شخص، فالناس يعانون الجوع عندما يعجزون عن تأكيد استحقاقهم لملكية كافية من الغذاء(6).

ويتحدَّد استحقاق الأسرة من الغذاء بنتيجة ثلاثة مؤثرات متباينة ومتمايزة أولها: سلة الأرصدة المملوكة من الموارد وأبرزها الأرض وطاقة العمل، وثانيها: مصدر التكنولوجيا، إذ تحدد التكنولوجيا المتاحة إمكانات الإنتاج التي تتأثر بالمعرفة المتاحة، وبالتالي بقدرة الناس على تنظيم تلك المعارف والإفادة منها عمليًا، وثالثها: يتمثل بشروط التبادل أي بالقدرة على بيع وشراء السلع وتحديدًا الأسعار النسبية للمنتجات المختلفة (مثال المنتجات الحرفية مقابل السلع الغذائية).

ومع إدراكنا للأهمية المحورية، بل الفريدة – في الحقيقة – لقوة العمل كهبة طبيعية للغالبية العظمى من الناس يصبح ضروريًا أن نركز معظم اهتمامنا على تشغيل أسواق العمل لجهة خلق فرص عمل جديدة بشكل متواصل وإبقاء البطالة في حدودها الدنيا.

 

ثانيًا: حالة الغذاء في العالم في العقود الثلاثة الأخيرة

هل هناك أزمة غذاء عالمي؟

لقد توقَّع مالتوس قبل قرنين ونيِّف من الزمن – منذ نشر مقالته المشهورة عن السكان العام 1798 – أن إنتاج الغذاء سيخسر السباق وأن كوارث مروعة ستحدث نتيجة اختلال التوازن في التناسب بين الغذاء والزيادة الطبيعية للسكان.

لقد زاد عدد سكان العالم قرابة ستة أمثال عما كان عليه في زمن مالتوس وعلى الرغم من ذلك فإن نصيب الفرد من إنتاج الغذاء واستهلاكه أعلى بكثير عما كان عليه أيام مالتوس. وقد ترافق ذلك مع زيادة غير مسبوقة في مستويات المعيشة.

لقد كان للتطورات العلمية الباهرة التي حصلت في النصف الثاني من القرن العشرين الأثر الأكبر في هذا المضمار. إذ أدت الاكتشافات التقنية في الزراعة واستخدام المخصّبات والأدوية المقاومة للآفات الزراعية وتحسين أنظمة الري وزيادة المساحات المروية الى مضاعفة انتاج الحبوب العام 2000 عما كان عليه العام 1960 وهو العام الذي اعتبر زمن الانطلاق للثورة الزراعية الخضراء كما أمكن في تلك الفترة نفسها مضاعفة انتاج الهكتار من القمح من 2 طن الى 6 أطنان في بريطانيا بينما احتاج الأمر إلى زيادته من 0,5 طن إلى 2 طن إلى 1000 عام كاملة في وقت سابق(7).

كما أدت الابتكارات الحاصلة في مجالات نقل الجينات والهندسة الوراثية الى ابتكار أنواع جديدة من المحاصيل ذات انتاجية مرتفعة وخصائص غذائية عالية ومقاومة للآفات والجفاف الأمر الذي جعل خفض معدلات سوء التغذية والقضاء على المجاعات أمرًا ممكنًا على المستوى العالمي.

ومن الملاحظ على أساس الانتاج العالمي للغذاء أن نسبة 94% من الزيادة الحاصلة في إنتاج الحبوب في ما بين العامين 1970 و1990 نتجت عن التوسع الرأسي في الزراعة بينما 6% فقط نتجت عن التوسع الأفقي أي في المساحة(8).

إذن فعلى الرغم من محدودية موارد الأرض الزراعية، وضآلة المساحات الجديدة التي أمكن إضافتها في الربع الاخير من القرن العشرين، استطاع العالم من خلال تكثيف استخدام موردي الأرض والمياه والاستخدام الواسع للتكنولوجيا تحقيق زيادات كثيرة في الانتاج الزراعي الكلي والانتاج الكلي للغذاء. فالعام 1993 بلغت الزيادة في الانتاج الكلي للغذاء نحو 63% بالمقارنة بفترة الأساس 69/1971، الا أن الزيادة السكانية التهمت الجانب الأكبر من هذه الزيادة في الانتاج الكلي للغذاء(9).

إن متابعة أرقام انتاج الغذاء العالمي خلال العقود الثلاثة الأخيرة تمكننا من استخلاص المؤشرات الآتية:

أولاً: إن النمو الكبير الذي تحقَّق في انتاج الغذاء في العقود الثلاثة الأخيرة جاء من خلال الارتقاء بانتاجية وحدة المساحة المزروعة، أي من خلال استخدام مدخلات إنتاج أفضل.

ثانياً: إن النمو في الانتاج العالمي للغذاء واكبه نمو مماثل تقريبًا في عدد السكان، لذا فقد أتى التحسن في نصيب الفرد من هذه الزيادة محدودًا.

ثالثاً: في ضوء محدودية الموارد الطبيعية من أرض وماء، واستمرار الزيادة السكانية فقد تركز اعتماد العالم على عنصر التكنولوجيا للوفاء باحتياجات السكان وتحسين مستوى معيشتهم(10).

علاوة على ذلك فإن الزيادة العالمية في الانتاج الكلي للغذاء لم تتوزَّع توزيعًا عادلاً. ففي بلدان منظمة التعاون والانماء الاقتصادي العالية الدخل ارتفع الدخل الفردي ومعه انتاج الغذاء خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين ارتفاعًا بطيئًا إنما منتظمًا. في حين أن بلدانًا نامية عديدة في شرق أوروبا (وخصوصًا في رابطة الدول المستقلة) وآسيا وأجزاء عديدة من أفريقيا جنوب الصحراء، وبعض بلدان أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي شهدت ركودًا اقتصاديًا واسعًا. بينما حقق بعض البلدان النامية الكثيفة السكان مثل الصين والهند نموًا متسارعًا وهو ما دفع بمعدلات الدخل الفردي وانتاج الغذاء العالمية وتلك العائدة للبلدان النامية الى الارتفاع.

ففي شرق آسيا تدنَّى عدد السكان الذين يعيشون على أقل من دولار أميركي واحد يوميًا الى النصف تقريباً في العقد الأخير من القرن العشرين(11). كما انخفضت معدلات سوء التغذية في جنوب آسيا من 40% في مطلع السبعينيات الى 23% العام 1997، وفي بعض مناطق آسيا والدول العربية وأميركا اللاتينية تم القضاء على الكثير من مظاهر سوء التغذية والمجاعة المزمنة بفضل زيادة انتاج الغذاء وتخفيض أسعاره في حين أدى التأخر في استخدام الجرارات والمخصبات وأنواع جيدة من البذور في دول أفريقيا جنوب الصحراء بالاضافة الى عامل المناخ الى زيادة المصابين بنقص التغذية بـ 27 مليون إنسان بين العامين 1980 و2000(12).

على صعيد العالم ارتفع متوسط نصيب الفرد من الاستهلاك الغذائي ارتفاعًا مذهلاً خلال السنوات الخمس وعشرين الأخيرة. أما متوسط نصيب الفرد في البلدان النامية من الاستهلاك الغذائي الذي كان يبلغ 2131 وحدةً حرارية لكل شخص العام 1970 وهو ما يقلُّ عن الحد الأدنى للاحتياجات، وقدره 2300 وحدة حرارية، فقد بلغ العام 1998 2572 وحدة حرارية لكل شخص وهو ما يزيد قليلاً عن الحد الأدنى. ولكن في أفريقيا جنوب الصحراء حيث زاد متوسط نصيب الفرد من 2225 وحدةً حرارية إلى 2237 فقد زاد عدد من يعانون نقص التغذية بأكثر من الضعف، بحيث بلغ 215 مليونًا العام 1990 بعد ما كان 103 ملايين العام 1970.

وفي إشارة أخرى بلغ متوسط نصيب الفرد من استهلاك البروتين 115 غرامًا يوميًا في فرنسا العام 1995 ولكنه لم يتجاوز 32 غرامًا في موزامبيق في السنة نفسها ويظهر الجدول الرقم (1) معدل استهلاك اللحوم في بلدان مختارة.

 

جـدول رقم (1)

معدل اسـتهلاك اللحـوم في بلدان مختارة 1995

نصيب الفرد بالكيلوغرامات
 سنوياً

أقل بلدان

نصيب الفرد بالكيلوغرامات
 سنويا
أعلى 5 بلدان
الولايات المتحدة الأميركية 119 بنغلادش 3
نيوزيلندا 119 غينيا 4
قبرص 108 ملاوي 4
أستراليا 107 الهند 4
النمسا 105 بوروندي 4

 

المصدر: منظمة الأغذية والزراعة 1998.

 

ثالثًا: دور العوامل التقليدية المؤثرة في الأمن الغذائي

الأمن الغذائي بمعناه المرادف للاكتفاء الذاتي الكامل كان ضرورة لكل مجتمع ولم يبدأ في الاختلال إلاّ في العصر الحديث. وعندما زاد الخوف من حدوث مزيد من الاختلال بتنامي الاحتياجات الغذائية للمجتمعات، خصوصًا النامية، تزايد الاهتمام بمطلب الاكتفاء الذاتي.

فقد أدى الاهتمام الكبير الذي أولاه الكثير من الدول بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصًا الدول المستقلة حديثًا بمسألة التنمية الزراعية إلى بقاء ميزان الغذاء والسكان متوازنًا طوال الفترة (1950 – 1985)، بل كان إنتاج الغذاء العالمي يفوق في زيادته معدلات النمو السكاني. فعلى سبيل المثال كان متوسط زيادة إنتاج الحبوب 2.7% سنويًا، بينما كان معدل النمو السكاني خلال تلك الفترة 1.9% وهو يعتبر معدلاً عالميًا مرتفعًا(13).

إلا أن إنتاج الحبوب راح يشهد بعد العام 1985 تغيرًا في زيادته، وقد أدى العجز في الإنتاج إلى السحب من المخزون لسد هذا العجز، وعلى الرغم من هذا انخفض نصيب الفرد من الاستهلاك العالمي بنسبة 3%، وقد ترتَّب على ذلك ارتفاع أسعار القمح في السوق العالمية، ومواجهة الدول المستوردة للقمح ذات الدخول المنخفضة لصعوبات عديدة(14).

وتشير إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة للفترة ما بين العامين 1974 و1997 الى استمرار تفوق معدل انتاج الغذاء (على الرغم من تراجع أرقام هذا المعدل في التسعينيات) على معدل نمو السكان على المستوى العالمي(15).

عوامل وأسباب عديدة أدت إلى اختلال الأمن الغذائي العالمي وخصوصًا في الدول النامية خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين وهي:

 

1- تسارع النمو السكاني وعملية التحضر

لقد قدّر عدد سكان العالم قبل عشرة آلاف سنة (أي العام 8000 قبل الميلاد بحوالى خمسة ملايين نسمة، والعام 1650 ميلادي تم تقديرهم بحوالى 545 مليون نسمة، أي أنه خلال الفترة الممتدة من العام 8000 قبل الميلاد إلى العام 1650 ميلادي كان عدد السكان يتضاعف كل 1500 سنة. إلا أن الزيادة السكانية تسارعت بعد قيام الثورة الصناعية فتضاعف عدد السكان خلال مئتي سنة بين العامين 1650 و1850 حين وصل عددهم إلى مليار نسمة.
ثم تضاعف عدد سكان العالم مرة ثانية خلال ثمانين سنة عندما وصل هذا العدد الى 2 مليار نسمة العام 1930، ثم تضاعف مرة ثالثة خلال 45 سنة حيث وصل إلى 4 مليارات نسمة العام 1975. والعام 1993 بلغ عدد سكان العالم 5.57 مليار نسمة أي ما يوازي عشرة أضعاف ما كان عليه العام 1650م(16) قبل أن يبلغ حاليًا حوالى 6.3 مليار نسمة.
وبمعنى آخر فإن سكان العالم عاشوا ملايين السنين حتى بلغ تعدادهم المليار نسمة (العام 1850)، ثم بعد 123 سنة أكملوا المليار الثاني، وأكملوا الثالث بعد 33 سنة، والرابع بعد 14 سنة، والخامس بعد 13 سنة، والسادس بعد 11 سنة.
ولقد زاد عدد سكان العالم حوالى 923 مليون نسمة بين العامين 1980 و1990، وهذه الزيادة تقرب من حجم إجمالي السكان في زمن مالتوس(17).
وعلى الرغم من أن المؤشرات الأخيرة تدلُّ على أن معدَّلات النمو السكاني بدأت بالانخفاض بعض الشيء إلاّ أن الزيادة السكانية باتت معضلة عالمية كبيرة خصوصًا بالنسبة إلى الدول النامية لأنها تستأثر بغالبية الزيادة في السكان التي يشهدها العالم.
يجدر بالإشارة أن سكان العالم لا يتوزَّعون على سطح الأرض توزيعًا عادلاً إذ يعيش نحو نصف سكان العالم فوق 5% فقط من مساحة اليابسة بينما لا يعيش على 57% من مساحة اليابسة أكثر من 5% من مجموع سكان العالم، ويعيش 21% من سكان العالم في الدول المتقدمة و79% منهم في الدول النامية.
وقد ارتفعت نسبة سكان المدن من 2% من سكان العالم العام 1800 إلى 37% العام 1970، إلى حوالى 50% في وقتنا الحاضر. وتختلف نسبة سكان المدن في العالم المتقدِّم عنه في العالم النامي في الوقت الحاضر إذ تبلغ حوالى 75% في البلاد المتقدمة بينما لا تزيد عن 35% في البلاد النامية(18) ومن المتوقع أن تصل هذه الأخيرة إلى 57% العام 2025 أي 4 مليارات نسمة(19).
ولا شك في أن للنمو السريع لسكان العالم بشكل عام وسكان المدن بشكل خاص آثاره الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية على بلدان العالم كافة وبشكل خاص على البلدان النامية وعلى الأمن الغذائي فيها.

 

2- تدهور الموارد

لا تقتصر مشكلة الموارد على عدم التكافؤ مع معدلات النمو السكاني فحسب بل بالتدهور الذي يشهده بعض الموارد الأساسية. فالأراضي الزراعية تتراجع مساحتها بسبب عملية التعرية والزحف العمراني كما أن مساحات أخرى تتراجع خصوبتها بسبب الإفراط في استغلالها.

والتصحُّر الذي يعتبر المرحلة الأخيرة من مراحل تدهور الأرض، بات يهدّد في الوقت الحاضر حوالى ثلث مساحة اليابسة (48 مليون كلم2) كما يهدد أرزاق ما لا يقل عن 850 مليون نسمة معظمهم في أفريقيا وآسيا.

هذا فضلاً عن مشكلة المياه العذبة التي ظهرت حدَّتها في السنوات الأخيرة في بعض مناطق العالم ومن بينها العالم العربي، ومشكلة مصادر الطاقة الحفرية (البترول، الغاز الطبيعي والفحم)، إذ سيؤدي الإفراط في إنتاج هذه المصادر واستهلاكها إلى إتلاف كارثي للبيئة العالمية.

وفي وقتنا الحاضر باتت مشكلة الغذاء إحدى المشكلات الحادة التي تواجه العالم إذ راح معدل إنتاج الغذاء يتراجع في السنوات الأخيرة على الرغم من استخدام أفضل الأساليب العلمية والابتكارات التكنولوجية التي كانت قد رفعت معدلات إنتاج الغذاء بعد الحرب العالمية الثانية إلى معدلات قياسية.

إن ما يشهده الكوكب الأرضي من تدهور في حجم ونوعية الموارد بات يشكل مشكلة كونية سوف تتفاقم مع الوقت وستكون آثارها بالغة الخطورة خاصة على الدول النامية.

 

3- إنهاك البيئة

معظم التغييرات البيئية التي حدثت في القرن العشرين أتت نتيجة الجهود الإنسانية التي استهدفت الحصول على مستويات أفضل من الغذاء، والسكن والراحة والترفيه. والتهديدات البيئية التي يواجهها الناس في أنحاء شتى من العالم ينبع من تدهور النظم الايكولوجية المحلية إلى جانب تدهور النظام العالمي.

وقد ساهمت كل من الدول المتقدمة والدول النامية في عملية إنهاك البيئة وتدميرها، إلا أن مساهمة الدول المتقدمة التي تمتلك حوالى 85% من الناتج القومي العالمي في إنهاك البيئة العالمية أكبر بكثير، وقدرتها على مواجهة مشاكلها البيئية تتزايد باطراد سنويًا. إلا أن ما ورد في تقرير التنمية البشرية UNDP للعام 1996 بالغ التعبير فقد جاء في التقرير: "إن البلدان النامية تواجه مشاكل متزايدة تتمثل في شح المياه، وإزالة الغابات والتصحُّر، والتلوث والكوارث الطبيعية. ففي البلدان النامية لا يتجاوز الآن نصيب الفرد من إمدادات المياه ثلث ما كان العام 1970 ويفقد كل عام ما يراوح بين ثمانية ملايين وعشرة ملايين هكتار من أراضي الغابات. وفي إفريقيا جنوب الصحراء وحدها تحوَّلت مساحة 65 مليون هكتار من الأراضي المنتجة إلى صحراء خلال الخمسين سنة الماضية. ويمثل تلوث الهواء مشكلة خطيرة إذ يتأثر حوالى 700 مليون نسمة، معظمهم نساء وأطفال في المناطق الريفية الفقيرة، بالدخان المنزلي الناجم عن استعمال وقود الكتلة الحيوية. وطالت الكوارث الطبيعية بين العامين 1967 و1993 ثلاثة مليارات نسمة في البلدان النامية وتسبَّبت بوفاة أكثر من سبعة ملايين نسمة مع مليوني حالة إصابة.

أما في البلدان الصناعية فإن أحد التهديدات البيئية الرئيسة هو تلوث الهواء. ويؤدي تدهور غابات أوروبا نتيجة هذا التلوث إلى خسائر اقتصادية تبلغ قيمتها 35 مليار دولار سنويًا، وتبلغ القيمة المقدّرة للإنتاج الزراعي الذي يفقد سنويًا نتيجة تلوث الهواء نحو 1.5 مليار دولار في السويد و1.8 مليار دولار في إيطاليا و2.7 مليار دولار في بولندا و4.7 مليار دولار في ألمانيا.

ويهاجر بعض أشكال التدهور البيئي عبر الحدود، فتيارات الهواء الملوث تعبر الحدود الوطنية، فتتحوَّل انبعاثات ثاني أوكسيد الكبريت في بلد ما إلى أمطار حمضية تسقط في بلد آخر.

ويعاني حوالى 60% من غابات أوروبا التجارية مستويات ضارَّة من ترسُّبات الكبريت. ولإنتاج غازات الاحتباس الحراري (ما يسمى بظاهرة الدفيئة) أثر عالمي أيضًا. ونصيب دولة ما من الأضرار البيئية لا يتناسب غالبًا مع مسؤوليتها في وجود هذه الأضرار. فمع أن الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق كانا المسؤولين عن حوالى ثلث الانبعاثات العالمية من تلك الغازات، فإن الضرر الأكبر كان يلحق في بعض الأحيان ببلدان أفقر. فبنغلادش التي لا تنتج سوى 0.3% من انبعاث تلك الغازات على صعيد العالم ستكون مهدّدة بتقلص مساحة أراضيها بنسبة 17% (تغمرها المياه) مع حدوث ارتفاع قدره متر واحد في منسوب البحر كنتيجة جزئية لظاهرة الاحترار العالمي (ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية).

كما أن التنوع البيولوجي مهدّد الآن أكثر مما كان في أي وقت مضى. فقد قدّر أن ما يصل إلى 15% من الأنواع الموجودة في الكرة الأرضية، يمكن، بمعدلات الخسارة الحالية، أن تختفي عن سطح الأرض خلال السنوات الخمس والعشرين القادمة"(20).

لقد كانت البيئة في خدمة الإنسان على مر العصور، ولكنها أصبحت اليوم تئن وتشكو من وطأة الإنسان. فقد أدى السباق بين السكان والموارد إلى الإخلال بالتوازن البيئي.

لقد كان للعوامل المذكورة آنفًا: تسارع زيادة السكان، تدهور الموارد وإنهاك البيئة، دور أساسي في نقصان الأمن الغذائي أو فقدانه في بعض البلدان كما يمكن أن يكون لعوامل أخرى دور في هذا المجال كالسياسات الحكومية وطبيعة النظام الاقتصادي والعادات الاستهلاكية... وغير ذلك.

 

رابعًا: دور السياسات الزراعية المعتمدة في الدول الصناعية في اختلال الأمن الغذائي في الدول النامية

من اللافت أن تلك الزيادة في انتاج الغذاء العالمي حدثت على الرغم من الهبوط الحاد للأسعار العالمية للغذاء من حيث القيمة الحقيقية على امتداد الفترة الممتدة بين العامين 1950 و1997.     

          

                                    جـدول رقم (2)

أسعار الغذاء بسعر العام 1990

للدولار الأميركي من الأعوام 1950 – 1952 إلى 1995 – 1997

الغذاء

1950 – 1952

1995 – 1997

% تغير

القمح

427.6

159.3

62.7-

الأرز

798.7

282.3

64.2-

الذرة 372

119.1

68-

 

لمصدر: البنك الدولي: أسواق توقعات الأسعار للسلع الأولية الرئيسية مجلد 2.

 

من الطبيعي أن تتقلب أسعار الغذاء على المدى القصير، مثال الزيادة الطفيفة التي حصلت على الأسعار في منتصف تسعينيات القرن العشرين، إلاّ ان هذه الزيادة كانت طفيفة مقارنة بالانخفاض الكبير في الأسعار الذي استمر منذ العام 1970. ونشير هنا إلى أن الأسعار العالمية للقمح والحبوب انخفضت العام 1999 مرة ثانية بنسبة 20% و14% لكل منهما بالتتابع(21) قبل أن تعود وترتفع بعد ذلك التاريخ.

إن انخفاض الأسعار كان يقتضي هبوطًا في الحوافز الاقتصادية لإنتاج المزيد من الغذاء في مناطق كثيرة لإنتاج الغذاء التجاري في العالم، بما في ذلك أميركا الشمالية.

فكيف يمكن تفسير استمرار تزايد المنتج العالمي من الغذاء على الرغم من هبوط أسعاره ؟

تؤكد إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أن أكبر الزيادات من نصيب الفرد من الغذاء حصلت في أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم (الصين والهند وبقية آسيا).

لا غرابة بداية في أن تكون أضخم زيادة في إنتاج الغذاء مصدرها الصين والهند وغيرهما من بلدان شرق آسيا الا أن أسواق الغذاء في تلك البلدان كانت محليَّة ومنعزلة عن الأسواق العالمية وعن الاتجاه الهابط للأسعار العالمية للغذاء.

أما بالنسبة إلى مصادر الإنتاج التجارية للغذاء فهي حكمًا تتأثر بالأسواق والأسعار حيث يؤدي نقص الطلب وهبوط الأسعار إلى كبح إنتاج العالم للغذاء، إلاّ أن توقع حصول زيادة في الطلب يؤدي إلى تحقيق زيادة في إنتاج الغذاء للفرد بوتيرة أعلى من نصيبه.

فما هي أسباب استمرار تزايد الغذاء على الرغم من الاتجاه الهابط لأسعاره العالمية إذاً؟

من الواضح أنه لا توجد أزمة كبرى في إنتاج الغذاء العالمي في وقتنا الحاضر. ومن الطبيعي أن يتغيَّر معدل التوسع في إنتاج الغذاء ويتفاوت من زمن لآخر لكن الاتجاه العام اتجاه صاعد في المستقبل المنظور أيضًا.

إنما الأزمة ليست على مستوى الإنتاج بمقدار ما هي على مستوى التوزيع والاستهلاك، فما هو مخصص للتجارة الدولية والأسواق العالمية من الغذاء المنتج مصدره عدد محدود من الدول تأتي في مقدمها (الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، كندا، الأرجنتين وأوستراليا). والدول التي تؤمن كفايتها من الغذاء ليست كثيرة العدد أيضًا. ومعظم الدول التي تتكوَّن منها هاتان المجموعتان تنتمي إلى الدول المتقدِّمة.

أما الدول النامية فهي بمعظمها دول مستوردة للغذاء، وتشكل فاتورة الغذاء بالنسبة إلى بعض هذه الدول استنزافًا لموجوداتها من العملات الصعبة.

وتشكِّل الظروف الاقتصادية والمالية الصعبة لبعض هذه البلدان واحدًا من الأسباب التي تؤدي لانخفاض أسعار منتجات الغذاء في السوق العالمية.

ولعل أحد المظاهر المميّزة للزراعة العالمية هو الاختلاف في السياسات الزراعية بين الدول المنخفضة الدخل والدول العالية الدخل. فدول المجموعة الأولى تتجه إلى تحميل الزراعة أعباء ضريبية (مثل تحديد أسعار منتجاتها) ومن ثم الإبقاء على أسعار المنتجات الزراعية أقل من الأسعار العالمية وذلك لأسباب عديدة، منها الحاجة إلى استخدام قسم من عائدات الزراعة في القطاعات الأخرى، خصوصًا الصناعة، وتوفير الغذاء لمواطنيها بأسعار منخفضة، وهذا مطلب شعبي في ضوء انخفاض مستويات المداخيل وارتفاع نسبة ما ينفقه الفرد من دخله على الغذاء، بينما لا تعتمد الدول ذات المداخيل العالية سياسة "تحميل الزراعة" بل سياسة "دعم الزراعة" بغية تشجيع المزارعين وتوفير مستوى معيشة لهم مماثل لأقرانهم في القطاعات الأخرى، وتمكِّنهم من استخدام منجزات التكنولوجيا الحديثة، والاستثمار في الزراعة، ومن ثم زيادة الإنتاجية والإنتاج الكلي عندها تصبح أسعار المنتجات الزراعية المتاحة للمواطنين أعلى من أسعار السوق العالمي، ومع ذلك تبقى مقبولة نظرًا إلى ارتفاع مستوى الدخل وانخفاض نسبة ما ينفقه الفرد من دخله على الغذاء. ويأخذ هذا الدعم صورًا متعدِّدة منها التعرفة الجمركية، والقيود الكمية على الصادرات والواردات، ووضع شروط صحية وفنية للسلع كوسيلة لتقييد الواردات أو بعض منها، دعم أسعار عناصر الإنتاج، إعفاءات ضريبية، دعم الصادرات وغير ذلك(22).

وحين يعمد عدد أكبر من الدول إلى سياسة دعم الزراعة يؤدي ذلك إلى انخفاض أسعار السلع الزراعية في السوق العالمي، بينما إذا تم تخفيض هذا الدعم تكون النتيجة زيادة أسعار صادرات الدول المتقدمة من السلع الزراعية.

وهكذا يؤدي دعم الدول المتقدِّمة لزراعتها إلى آثار سلبية على الدول النامية المستوردة للمنتجات الغذائية نتيجة تأثير هذه المنتجات الرخيصة السعر على التنمية الزراعية ولو أنه يوفر في قيمة فاتورة الغذاء، بينما يؤدي تخفيض هذا الدعم إلى زيادة قيمة فاتورة الغذاء التي تدفعها الدول المستوردة ولكن يشجعها على بذل جهد أكبر في التنمية الزراعية.

يجدر بالإشارة أن قيمة الدعم الذي تقدِّمه حكومات البلدان المتطوِّرة لإنتاجها الزراعي بلغ في السنوات الأخيرة 350 مليار دولار في السنة أي ما يقرب من مليار دولار في اليوم الواحد في حين أن قيمة المساعدة التي تقدمها البلدان المتطوِّرة للزراعة في البلدان النامية تتجاوز قليلاً مبلغ مليار دولار في السنة(23).

المستفيدون من هذا الدعم من مواطني البلدان المتطوِّرة هم من كبار المزارعين وشركات التجارة الزراعية وملاكو الأرض من ذوي النفوذ السياسي والحظوة المالية الكبيرة.

وتترجم المستويات العالية لهذا الدعم إلى زيادة الإنتاج وانخفاض الاستيراد وارتفاع التصدير. وبفضل هذا الدعم تواصل البلدان الصناعية المتطورة فرض سيطرتها على التجارة الزراعية في العالم حيث استحوذت منذ العام 1980 وحتى نهاية التسعينيات من القرن العشرين على ثلثي الصادرات الزراعية عالمياً(24).

بالمقابل يؤدي هذا الدعم إلى تفاقم الفقر في البلدان النامية. وتتأذى المجتمعات الريفية في هذه البلدان حيث تقضي الصادرات الزراعية المدعومة للبلدان الصناعية على القدرة التنافسية لمنتجاتها في الأسواق العالمية والمحلية فتخفض الأسعار المدفوعة إلى المزراعين وأجور العمال الزراعية ويفرض على المنتجين المحليين الراغبين في الوصول الى أسواق البلدان الصناعية تسلق بعض من أعلى قمم الرسوم الجمركية في التجارة العالمية. وتشير تقديرات حديثة العهد أن التكلفة الحقيقية التي تتحمَّلها البلدان النامية نتيجة للدعم الزراعي في البلدان الغنية تصل إلى 72 مليار دولار في السنة.

يقدّم الإتحاد الأوروبي كمثال مبلغ 43 مليار يورو كدعم لبعض المنتجات الزراعية. ويأتي إنتاج السكر في طليعة المنتجات المدعومة (1 مليار دولار) حيث يتلقى المزارعون والمصنعون إعانات تقدر بأربعة أضعاف ثمن السكر في السوق العالمية، فيتم إنتاج فائض قدره 4 ملايين طن يتم إغراق الأسواق العالمية به. وهذا ما يؤدي إلى تخفيض السعر العالمي للسكر بحوالى ثلث قيمته. ونتيجة لذلك يُمنى مصدِّرون آخرون في البلدان النامية بخسائر في العملات الأجنبية تقدر بـ 494 مليون دولار للبرازيل و151 مليون دولار لجنوب أفريقيا و60 مليون دولار لتايلاند – مع الإشارة إلى أن هذه البلدان تضم أكثر من 60 مليون نسمة يعيش الواحد منهم على أقل من دولارين في اليوم(25).

وتعطي سياسة دعم القطن والأرز في الولايات المتحدة الأميركية مثالاً آخر، إذ قدَّمت وزراة الزراعة في الولايات المتحدة الأميركية لمزارعي الطن الأميركيين البالغ عددهم 25 ألف مزارع العام 2002 دعمًا ماليًا بلغ 3,9 مليار دولار (ارتفع هذا الدعم الى 4.7 مليار دولار أميركي العام 2005) أي ما يزيد على مجمل الإنتاج الأميركي من القطن. هذا ما أدى إلى تخفيض سعر القطن في السوق العالمية بحوالى 25% وأتاح لمنتجي القطن الأميركيين استمرار سيطرتهم على الأسواق العالمية حيث أن حصتهم تبلغ زهاء ثلث مجموع صادرات القطن في العالم(26).

وهذا ما ألحق أفدح الأضرار بمزارعي القطن في مصر التي تنتج واحدًا من أرقى أصناف القطن في العالم بالإضافة إلى دول عديدة مثل باكستان ومالي وبوركينا فاسو وغيرها من الدول المنتجة للقطن في العالم.

كما تم تصدير الأرز المنتج في الولايات المتحدة الأميركية العام 2002 و2003 بتكلفة 415 دولار للطن الواحد بسعر قدره 274 دولار فقط. وقد ألحق هذا السعر الإغراقي الأذى بالمصدِّرين المنافسين في دول نامية عديدة مثل تايلند وفيتنام وغانا وغيرها(27).

يجدر بالإشارة أن التصدير بأسعار إغراقية ليس حكرًا على الدول الصناعية المتطوِّرة فقد تمارسه دول الاقتصادات الناشئة كالصين، كما مارسه في الماضي الاتحاد السوفياتي السابق بدرجة كبيرة بداعي الدعاية الإيديولوجية وبهدف الحصول على العملات الصعبة.

 

خامساً: دور بعض العوامل الناتجة عن العولمة في اختلال الأمن الغذائي في الدول النامية.

عوامل عديدة نتجت عن العولمة أثَّرت بشكل مباشر أو غير مباشر في اختلال الأمن الغذائي في الدول النامية أبرزها:

أ- إنكفاء الفكر الاقتصادي التدخلي وسياسات التنمية

كان الفكر الاقتصادي التدخلي قد ساد على مستوى العالم ككل منذ الثلاثينيات وحتى عقد السبعينيات من القرن العشرين وإن اختلفت درجة التدخل بين تدخل شامل كما في الدول الشيوعية أو شبه شامل كما في التجارب التنموية ذات المضامين القومية أو الاشتراكية في العالم الثالث أو تدخل جزئي كما في الديمقراطيات الغربية. إلا أن الأزمات الاقتصادية التي حصلت في مطلع السبعينيات من القرن العشرين وأهمها الأزمة الاقتصادية المركبة التي أطلق عليها الإقتصاديون تسمية الانكماش التضخمي Stagflation أطلقت العنان للبحث عن نظريات إقتصادية جديدة فكانت نشأة النيوليبرالية (الليبرالية الجديدة) المستندة إلى طروحات إقتصادات العرض Supply Economics المناهضة لنظرية إقتصاديات الطلب Demand Economics الكينزية.

واعتبرت النظرية الجديدة (النيوليبرالية) أن المشكلة في الدول الصناعية مردها إلى أن القدرة الإنتاجية لهذه الدول غير مستعملة استعمالاً كاملاً بسبب ضمور دور القطاع الخاص وطغيان القطاع العام الذي بات يشكل عائقًا كبيرًا أمام تطور القطاع الخاص ونموه. لذا فإن العلاج المطلوب، وفقًا للنظرية النيوليبرالية، لمشكلة الإنكماش التضخمي تكمن في تخفيض الحجم الاقتصادي للقطاع العام (أي نسبة القطاع العام إلى مجموع الإقتصاد) وتخفيف حدة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وتحريره من القيود في عمليات الإنتاج والتوزيع والتبادل والإستهلاك.

وفي ظل العولمة والنيوليبرالية الملازمة لها وما رافقهما من تحرير لأسواق المال والسلع تراجعت سياسات التنمية وأصبحت المنتجات الغذائية للبلدان النامية أكثر تعرضًا للمنافسة إن في الأسواق المحلية أو الأسواق العالمية.

 

ب- توقف المعونات الأجنبية

ترجع البدايات الفعلية لاهتمام الدول المتقدمة بتقديم العون للدول النامية في مجال التنمية الزراعية إلى العام 1943 مع إنشاء منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة لهيئة الأمم المتحدة.

وخلال العقود الخمسة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية ظهر العديد من المؤسسات الدولية والإقليمية واتفاقات التعاون الثنائية بين الدول استهدفت مساعدة الدول النامية على حل مشاكلها الزراعية وزيادة الإنتاج الزراعي فيها.

تركز التعاون الدولي، والإقليمي والثنائي في أربعة مجالات رئيسة: التمويل، التعاون الفني، التعاون في البحث وتوليد ونقل التكنولوجيا، والتدريب. ولقد أدَّت المعونات الأجنبية خصوصًا في فترة احتدام الصراع الدولي بين المعسكرين الغربي والشيوعي دورًا ملحوظًا في إنجازات التنمية التي تحققت في الدول النامية. إنما ما يؤسف له أن معظم هذه المعونات قد توقف مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الكتلة الشيوعية.

 

ج- تغيُّر في دور المنظمات الدولية

مع انطلاقة العولمة حدث تبدل أساس في دور المنظمات والمؤسسات الدولية ووظائفها. فصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنماء والتعمير اللذان اضطلعا بدور مقبول في دعم سياسات التنمية في البلدان النامية منذ نشأتهما العام 1944 وحتى عقد السبعينيات من القرن العشرين أخذا بعد ذلك التاريخ بالترويج لسياسة الخصخصة وإعادة هيكلة الإقتصادات التي كان للقطاع العام فيها دورٌ أساسيٌ في الاقتصاد.

وكانت اتفاقية غات GATT التي تضمَّنت أحكامًا خاصة بإقامة التوازن بين حماية الإنتاج المحلي وزيادة معدلات التجارة الدولية قد مكّنت الدول الموقعة على الاتفاقية من تخفيض رسوم التعرفة الجمركية، بصفة خاصة، على المنتجات المصنّعة من متوسط تجاوز 40% إلى نحو 5% في مطلع التسعينيات. إلاّ أن اتفاقية الغات قد استثنت الزراعة بصفة عامة من أحكام تخفيض رسوم التعرفة الجمركية طول فترة وجودها(28).

إلاّ أنه حين تم استبدال اتفاقية الغات بالمنظمة العالمية للتجارة wto (1995) فقد تم شمول الزراعة بأحكام القرارات الآيلة إلى تخفيض ا لرسوم الجمركية على المنتجات الزراعية.

وبمعنى آخر فإن المنتجات الزراعية في زمن العولمة وفي ظل المنظمة العالمية للتجارة wto وفي عصر النيوليبرالية التي نشأت ملازمة للعولمة (1979) لم تعد تحظى بأي شكل من أشكال الحماية القانونية بل أصبحت تخضع شأنها شأن المنتجات الصناعية وغيرها لقوانين تحرير الأسواق وتحريم إقامة الحواجز والعقبات في وجه انتقال السلع والخدمات والرساميل التي فرضتها العولمة.

 

د- إحجام الاستثمار الأجنبي عن الاستثمار في الزراعة في البلدان النامية

خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين (عقدا الاستقلال والتنمية) تردد معظم البلدان النامية في طلب القروض أو الاستعانة بالاستثمار الأجنبي المباشر بسبب ارتفاع معدلات النمو نسبيًا في هذه البلدان ونتيجة الخوف من الوقوع مجدَّدًا في قبضة الاستعمار الأجنبي على الرغم من العروض السخية التي قدمتها البلدان الصناعية المتقدمة في هذا المجال.

وبسبب تراجع معدلات النمو وارتفاع معدلات التضخم ازداد طلب البلدان النامية للحصول على القروض والاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين إلاّ أن الدول المانحة لم تعد سخيَّة في عرضها للقروض المصدرة والرساميل الموجهة إلى الدول النامية للأسباب الأتية:

  • إنتهاء الصراع الدولي بين الجبارين.
  • تفضيل الإستثمار الأجنبي المباشر على التوجُّه نحو بلدان صناعية أخرى وليس نحو البلدان النامية حين أصبح أكثر من 75% من حركة الرساميل تتمُّ في ما بين الدول الصناعية.
  • إحجام الرساميل الأجنبية المباشرة المتجهة نحو البلدان النامية عن التوظيف في الأصول الثابتة وخصوصًا في الأرض وتوجهها نحو قطاع الخدمات وبخاصة في البلدان التي تمتلك بنية معرفية مهمة (مثال بلدان: شرق آسيا وجنوب شرقها).
  •  

هـ - التحرير اللامتكافئ للتجارة الخارجية

يمثل التحرير غير المتكافئ للتجارة الخارجية أحد الأسباب المهمة التي جعلت الدول الصناعية تستأثر بحصة الأسد من منافع العولمة. فالبلدان النامية تتحمَّل أعباء تطبيق نظم تجارية أكثر انفتاحًا، بينما تستبعدها السياسات الحمائية لدول الشمال من فرص دخول أسواقها، ومما لا شك فيه أنه كان للمؤسسات والهيئات الدولية وبخاصة صندوق النقد الدولي دور في هذا المضمار حيث كان يضغط على الدول النامية لتحرير أسواقها التجارية والمالية خصوصًا حين كانت ترغب في الحصول على قروض من الصندوق المذكور.

ومن الملاحظ أن تحرير أسواق المال الذي فرضته العولمة هو سبب الأزمات المالية التي أصابت في الفترة الواقعة بين العامين 1997 و2001 اقتصاديات كل من تايلاند واندونيسيا وماليزيا وكوريا وروسيا والبرازيل وتركيا والأرجنتين على سبيل المثال لا الحصر.

من ناحية أخرى ترك تحرير أسواق الدول النامية أمام منتجات الدول الصناعية آثارًا سلبية على الجهود التنموية في غالبية هذه الدول.

وما زاد من مأساة الدول النامية أن الدول الصناعية الكبرى ما تزال بالرغم من مرور ما يزيد على العشرين عامًا على عمر مشروع العولمة، تقفل أبوابها أمام المنتجات الزراعية والسلع النسيجية القادمة من دول الجنوب، وذلك إما من خلال فرضها حصصًا جائرة على صادرات الجنوب أو من خلال فرضها رسومًا جمركية عالية على هذه الصادرات أو من خلال تطبيق قوانين مواصفات الجودة عليها. وبكلام آخر فالدول الصناعية المتقدمة التي تضغط يوميًا لفتح أسواق الدول النامية واستمرارها أمام منتجاتها المختلفة تفرض على منتجات السلع القادمة من دول الجنوب رسومًا جمركية تبلغ في المتوسط أضعاف الرسوم التي تستوفيها من تجارتها البينية.

وفي بعض الأحيان تم استخدام قضية الزراعة في البلدان النامية كورقة ضغط وأحيانًا مساومة بين الدول الصناعية الكبرى مثال الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية على دول الاتحاد الأوروبي لفتح أسواقها أمام المنتجات الزراعية التي أدخلت المصانع الأميركية المتخصصة تغييرات جذرية على جينات بذورها تعظيمًا لأرباح المزارعين بحجة أن عدم استجابة دول الاتحاد لهذا المطلب سيتسبَّب بتعزيز الفقر في دول القارة الأفريقية.

وبهذا فإن تحرير أسواق رساميل دول الشمال وصادراتها إلى دول الجنوب أوجد الآليات المتسبِّبة بإشاعة الفقر والجوع في الجنوب، ففي باكستان كمثال ارتفعت المديونية الخارجية في الفترة الواقعة ما بين العامين 1990 و2000 من 38.4% إلى حوالى 50% من الناتج المحلي الإجمالي. وتضاعف فيها عدد الفقراء إذ ارتفع عددهم من 17 مليونًا إلى 34 مليونًا. وحال العديد من البلدان النامية ومنها الدول العربية لم تكن بأفضل حال من باكستان.

وفي الختام لقد حولت العولمة العالم بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات العالية وانخفاض تكاليف النقل وحرية التجارة الدولية إلى سوق واحد الأمر الذي أدى إلى منافسة أشد وطأة وأكثر شمولية، ليس في سوق السلع فحسب بل في سوق العمل أيضًا.

وتشير تقديرات العديد من العلماء إلى أن 20% من السكان العاملين سيكفُّون في القرن الحادي والعشرين للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي، فما سيكون مصير الـ80% الباقين من السكان العاملين بمقاييس هذه الأيام؟ وماذا سيكون مصير مئات الملايين من العاملين في الدول النامية والمزارعين منهم بشكل خاص؟

 

و- دور تغير المناخ والمخاطر المناخية الجديدة

لقد كانت المخاطر المتعلِّقة بالمناخ منذ القدم سببًا رئيسًا للمعاناة الإنسانية والفقر وانعدام الفرص. ومن الواضح أن الخطر الناتج عن التهديد المناخي سيتفاقم في المستقبل، وتشهد على ذلك التغيُّرات المناخية التي حصلت في العقدين الأخيرين وما رافقهما من فياضانات وأعاصير وجفاف وهزات أرضية... وغير ذلك. ويؤكد العلماء أن الأخطار المستقبلية الناتجة عن تغير المناخ ستؤدي إلى كارثة حقيقية على صعيد التنمية البشرية خصوصًا في البلدان الأكثر فقرًا في العالم.

وبات من المؤكد أنه، خلافًا لما كان يحصل في الأزمنة القديمة، أصبح للبشر في الحقبة المعاصرة ونمط استهلاكهم للطاقة وما ينتج عن ذلك من زيادة في انبعات الكربون دور أساسي في تفاقم المخاطر الناتجة عن التغيُّر المناخي. ففي العقود الأخيرة ارتفع عدد الذين تأثروا بالكوارث المناخية بشكل مستمر الأمر الذي عزّز القناعة بوجود ارتباطات قوية بين الإحترار العالمي وتغير المناخ.

فقد بلغ عدد الكوارث المناخية التي بلّغ عنها ما بين العامين 2000 و2004 ما معدله 326 كارثة مناخية في كل عام أثرت على 262 مليون شخص سنويًا. ويساوي هذا العدد ضعفي عدد الكوارث التي كان يُبلَّغ عنها في السنة في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين(29).

وإذا كانت الأمم الغنية لم تسلم من الكوارث المناخية مثال ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير في أوروبا العام 2003 والأعاصير الاستوائية التي ضربت اليابان العام 2004 وإعصار كاترينا الذي ضرب الولايات المتحدة الأميركية ودول البحر الكاريبي العام 2005، فإن ما تعرَّضت له الدول النامية في جنوب الكرة الأرضية كان أشد قسوة. فقد شرَّدت الرياح الموسمية والأمطار الغزيرة والأعاصير العامين 2006 و2007 عشرات الملايين من البشر في شرق آسيا وجنوبه. وهدَّد الجفاف حياة عشرات الملايين من البشر في القرن الإفريقي وجنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا. كما أن بلدان أميركا الوسطى والجنوبية قد تعرَّضت لكوارث مناخية قاسية.

ولقد هدَّدت الكوارث المناخية مجتمعات بأكملها، إلا أنه في حين يتمكن الأغنياء وفي هذه المجتمعات تحمُّل نتائج الصدمات المناخية عن طريق التأمين الخاص أو تصفية الأصول أو السحب من المدَّخرات، فلم يكن ثمة خيارات أمام الفقراء بديلاً عن خفض الاستهلاك والتغذية أو بيع الأصول المنتجة (الحيوانات مثلاً)(30) أو إخراج الأطفال من المدارس وهي خيارات تحدُّ من القدرات الإنسانية وتعزز التفاوت بين الناس.

ومع زيادة سرعة تغيُّر المناخ يصبح الإنتاج الزراعي أقل ربحًا، وتنقص المواد الغذائية وتنخفض أجور العاملين في الزراعة. ومن المؤكد أنه سيكون لهذا الانخفاض في مستويات الغذاء والصحة والتعليم نتائج مستقبلية تتمثل في انخفاض الإنتاجية والمداخيل وتراجع المدخرات والاستثمارات.

لا يمكن التنبؤ بمستقبل التغيرات المناخية، إلا أنه يمكن الوصول إلى بعض التخمينات والتطورات عن مناخ المستقبل. إذ أنه من المتوقع أن يستمر ولعقود عديدة بعض الكوارث التي شهدناها خلال العقدين الاخيرين.

وفي هذا المجال لقد توقَّع الفريق الحكومي الدولي المعني بدراسة تغير المناخ استمرار الزيادة في هطول الأمطار على خطوط العرض العليا (أي في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية) وانخفاضه على خطوط العرض الإستوائية. وهذا يعتبر استكمالاً لنمط الجفاف الحالي في بعض المناطق.

ويحتمل أن يكون الاحترار فوق المعدل العالمي في أنحاء جنوب الصحراء الكبرى كافة في أفريقيا وشرق وجنوب آسيا.

كما تشير توقعات الفريق الدولي المشار إليه أعلاه أنه سيكون لأنماط تغير المناخ نتائج مهمة بالنسبة إلى توافر المياه خلال العقود القادمة. فهناك احتمال كبير أن يستمر تراجع الغطاء الجليدي في القطبين وفي هملايا والجبال الاستوائية في افريقيا وأميركا الجنوبية. وسيؤدي ذلك بالإضافة إلى التغيرات في أنماط مجاري الأمطار وارتفاع درجات التبخر إلى انقطاع جريان انهار عديدة ما يؤثر سلبًا على حوالى 40% من سكان العالم(31).

كما ستؤدي ظاهرة الاحترار العالمي إلى اختفاء مساحات واسعة من الأراضي الساحلية في العديد من الدول وهذا ما سيؤدي إلى نقص الغذاء وسوء التغذية وزيادة معدلات الفقر والبطالة.

أخيراً يؤكد بعض التقديرات العالمية أن تغير المناخ سيؤدي إلى خفض معدلات انتاج الزراعة في الدول النامية، بينما على النقيض من ذلك يمكن أن يؤدي تغيُّر المناخ إلى ارتفاع الإنتاج في الدول المتقدمة (دول الشمال). وإذا حدث ذلك ستصبح الدول النامية أكثر اعتمادًا على الواردات الزراعية من الدول المتقدمة.  

 

سادسًا:  تأثير بعض أدوات العولمة على الأمن الغذائي للدول النامية

للعولمة مئات الأدوات التي روّجت لها وحاولت تصويرها بأفضل الصور، وفي طليعتها مؤسسات وهيئات دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنماء والتعمير ومنظمة التجارة العالمية والعديد من مؤسسات الأمم المتحدة. كما يتجنَّد في خدمة العولمة أنظمة سياسية وحكومات وسياسيون من مختلف الأحجام والعيارات بالإضافة إلى مئات المؤسسات المالية والإعلامية وما يزيد عن 500 قمر صناعي تدور حول مدار كوكبنا الأرضي. سوف نلقي الضوء في هذه النقطة على اثنتين من أدوات العولمة (الإعلام والشركات المتعديَّة الجنسية) اللتين تعملان في خدمة العولمة في التأثير على الأمن الغذائي للدول النامية.

 

أ-  دور الإعلام:

لقد وحَّدت العولمة – وهي توحد أسواق التجارة والاستثمار والمال – الأسواق الاستهلاكية. وهذا ينطوي على عمليتين: إحداهما اقتصادية والأخرى اجتماعية، فالتحرير الاقتصادي فتح أسواقًا للسلع الاستهلاكية – بدءًا من الكتب إلى الأغذية إلى الثلاجات إلى أجهزة التلفزيون والهاتف النقال، وغير ذلك، وقد أتاح رفع القيود عن الواردات وخفض التعريفات الجمركية مجموعة أوسع بكثير من السلع ذات النوعية الأفضل قدرات تنافسية أكبر.

ولتوحد السوق الاستهلاكية عالمياً بعدٌ اجتماعي أيضًا، فمع انهيار الحدود الوطنية في التجارة والاتصالات والسفر، يصبح البشر في أنحاء العالم شتى جزءًا من سوق استهلاكية عالمية موحدة تضم المنتجات نفسها والدعاية التجارية نفسها. ويتقاسم المستهلكون فيها معايير الاستهلاك نفسها ويستهلكون من مجموعة الملابس نفسها ومجموعة المنتجات الخاصة بقضاء العطلات نفسها والموسيقى نفسها... وغير ذلك. كما أصبح بإمكان المستهلكين مشاهدة برامج التسوق على شبكة التلفزيون والقيام بعملية التسوق بواسطة الهاتف مستخدمين بطاقات الائتمان الخاصة بذلك.

فلقد أخذ البث الإعلامي الشامل لكل أرجاء المعمورة يؤدي مفعوله. فحيث ما يصل البث الإعلامي وحيثما يعرض السواح مستوى الرفاهية المحققة في البلدان الصناعية تشخص أنظار الشباب باتجاه الماركة التي تعرضها وسائل الإعلام، والماركات تمثل بدورها رزمةً من القيم والمفاهيم.

وتشهد أسواق البلدان النامية انتشارًا غير عادي للماركات العالمية من منتجات الشركات المتعدية الجنسية ومنتجاتها الاستهلاكية التي تحمل أسماء ماركات شهيرة مثل ماكدونالدز، الـKFC، وغيرها، (فقد وسَّعت مطاعم ماكدونالدز مبيعاتها على نطاق العالم بمقدار 19 مليار دولار في الفترة ما بين العامين 1986 -1996 كمثال) كما أن الدعاية التجارية تتوسَّع بسرعة في كل مكان مروِّجة لمنتجات استهلاكية من أغذية وسجائر ومشروبات... وغير ذلك.

وتسعى هذه الشركة إلى جذب طبقات المجتمع كلها وليس الطبقة الوسطى فحسب عبر لفت أنظار الجمهور من خلال صور الدعايات الضخمة واختيار المراكز الاستراتيجية للمحلات وغير ذلك.

ولقد جلب عقد التسعينيات من القرن العشرين الذي اتسم بتصاعد العولمة وتوحيد السوق الاستهلاكية العالمية تغييرات سريعة في أنماط الاستهلاك، فقد تزايدت ظاهرة تناول الطعام خارج البيت مع انتشار سلاسل الوجبات السريعة في العديد من الدول. وتغيَّرت عادات الطعام لدى الجمهور، وانتشرت ثقافة طعام جديدة على نسق الخدمة الذاتية وحمل الطعام بالأيدي والتهام السندويشات وقوفًا في الشارع وكأن ذلك يعني استيراد ثقافة أكل جديدة وفقًا للقيم الاستهلاكية الغربية.

وتكفي الإشارة هنا إلى أنه في سنتياغو عاصمة التشيلي نحو 60 مطعمًا صينيًا و32 مطعمًا للماكدونالدز يرتادها أناس من مختلف الطبقات الاجتماعية على الرغم من أن الأوضاع المالية لبعضهم لا تحتمل ذلك. والعام 1998 سجَّلت فروع ماكدونالدز في اليابان مبيعات إجمالية بلغت 1696مليونًا ين في يوم واحد (35 محلاً)، وبلغ عدد السندويشات المباعة خلال السنة 674 مليونًا(32).

في الختام قد لا يكون تأثير الإعلام مباشرًا على الأمن الغذائي للبلدان النامية، إلا أن الدور الذي مارسه الإعلام في تسويق منتجات غذائية وغير غذائية مصدرها البلدان الصناعية، وفي تشجيع زراعات تجارية تصديرية مرتبطة بالسوق العالمي، أدَّى إلى تهميش الزراعات المحلية التي كانت لقرون من الزمن هي في أساس النظام الغذائي للبلدان النامية والى استنزاف مدّخرات هذه المجتمعات والدول من العملات الصعبة.

 

ب- دور الشركات المتعدية الجنسية

الشركات المتعدية الجنسية هي واحدة من صانعي العولمة وإحدى أدواتها في آ ن واحد. فلقد جعلت هذه الشركات الاقتصاد العالمي يقوم على سوق عالمية واحدة. والإنتاج في هذه السوق موجَّه بالدرجة الأولى نحو التصدير وليس الاستهلاك المحلي. لذا فالسوق العالمية هي التي تحدِّد على المدى البعيد الحجم الإنتاجي ونمطه وأيضًا مواقع تصنيعه.

وقد ظهر في هذا المجال دور متميّز لعدد من الوحدات الإنتاجية العملاقة (شركات متعدية الجنسية) التي تتحكَّم في تكنولوجيا مختلف الصناعات وتسيطر على الفروع الإنتاجية الأكثر تقدمًا في مختلف القطاعات الإقتصادية.

وتزايدت في السنوات الأخيرة قوة الشركات المتعدية الجنسية وسطوتها إلى حد أن نفوذها بات يفوق نفوذ الحكومات والدول، ويظهر الجدول الرقم (3) قوة بعض الدول والشركات العام 1994.

 

جدول رقم (3)

قوة بعض الدول والشركات بمليارات الدولارات 1994

اسم الدولة

الناتج المحلي الإجمالي

اسم الشركة

إجمالي المبيعات

تركيا

149.8

جنرال موتورز

168.8

جنوب افريقيا

123.3

فورد

137.1

فنزويلا

59 تويوتا

111.1

باكستان 57 شل

109.8

مصر

43.9

بي بي أم

72

نيجيريا

30.4

نستلة

47.8

مجموعة الدول الأقل نمواً في العالم

56.5

سوني

47.6

المصدر: تقرير ا لتنمية البشرية للعام 1996.

 

 

       

وتتزايد باستمرار سيطرة الشركات المتعدية الجنسية على الأسواق العالمية، فقد قدرت قيمة مبيعات فروعها الأجنبية بمبلغ 9.5 تريليون دولار العام 1997(33).

وتعتبر الشركات المتعدية الجنسية العامل الرئيس لتهميش الدول في القرن العشرين. وقد تجلّى دورها في هذا المضمار بالضغوط التي مارستها إما مباشرة أو من خلال المؤسسات والهيئات الدولية لوقف الإعانات الحكومية للقطاعات الاقتصادية في البلدان النامية وخصخصة بعض المؤسسات العامة وتحرير الأسواق المالية والتجارية، وقد أدى ذلك إلى انتشار اللامساواة في توزيع الدخل داخل البلدان النامية وانخفاض مستوى الاستهلاك لدى أكثر من نصف سكان هذه البلدان، وفرض أنماط استهلاكية وفق أنظمة القيم والمفاهيم الغربية. فباتت الشركات المتعدية الجنسية تحل محل الأوطان، وبات الشبان في البلدان النامية يتطلَّعون للانتماء إلى هذه الشركات أكثر من أي انتماء آخر.

تمتلك الشركات المتعدية الجنسية حقول نفط ومصانع ومؤسسات إعلامية وجامعات بالإضافة إلى امتلاكها خيرة الأراضي الزراعية في مختلف القارات والبلدان، ومراكز أبحاث زراعية وشركات أسمدة وأدوية ومراكز لتسويق المنتجات وتصنيعها. وهي بذلك تتحكَّم بأسعار مدخلات الإنتاج الزراعي والمخرجات الزراعية من سلع ومنتجات مختلفة في آن واحد.

كما تمارس هذه الشركات على الزراعة وإنتاج الغذاء في البلدان النامية تأثيرًا غير مباشر أيضًا. فهي من خلال دعمها لتغلغل الرساميل الأجنبية دفعت باتجاه استبدال العديد من المنتجات الغذائية التي يحتاجها السوق المحلي بمنتجات وسلع تجارية تنتج للسوق العالمي. ففي تجربة أندونيسيا مثلاً أجبرت الشركات المتعدية الجنسية، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي الحكومة على تطبيق برامج تقشف في غاية التطرف بدءًا بإلغاء الدعم الحكومي للمواد الغذائية الضرورية وانتهاءً برفع معدلات الفائدة إلى مستويات تجهض كل نمو اقتصادي في البلد.

وإذا أضيفت سياسة هذه الشركات إلى سياسة الإعانات التي تفرضها البلدان الغنية لمزارعيها فإن ذلك يؤدي إلى عزل البلدان النامية عن أسواق الأغذية في البلدان الغنية وتعرض الإنتاج المحلي إلى خطر الإغراق في شكل الواردات الغذائية الرخيصة ما يقلِّل الحوافز لإنتاج الغذاء وهذا ما يقلِّل الاعتماد على الذات ويضر بسبل العيش. ويشير أحد التقديرات إلى أنه إذا ما خفضت البلدان الصناعية من الإعانات وتدابير الحماية المتعلقة بالزراعة بنسبة 30% لا غير فإن ذلك سيحقق ربحًا إضافيًا للبلدان النامية قدره 45 مليار دولار سنويًا.

وإذا كانت واردات الأغذية الرخيصة تؤدي إلى تحقيق مزايا إيجابية في ما يتعلَّق بالدخل في الأجل القصير بالنسبة إلى البلدان الفقيرة التي تعاني نقص الأغذية إلاّ أن العديد من البلدان المنخفضة الدخل التي تعاني نقص الأغذية (88 دولة) ليست في وضع يتيح لها مواصلة استيراد الأغذية. كما أن شراء واردات الأغذية قد لا يشكل الاستخدام الأفضل لمواردها الشحيحة من النقد الأجنبي. فهذه البلدان (الـ88) تنفق نصف عائداتها من النقد الأجنبي على واردات الأغذية.

 

خاتمـة

تغيَّر مفهوم الأمن الغذائي عدة مرات خلال العقود الستة الأخيرة. ففي عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ساد مفهوم الأمن الغذائي الذاتي دونما حاجة الى آخرين. ثم تطوَّر هذا المفهوم الى الأمن الغذائي بالتعاون مع الآخرين واستمر في تطوره وصولاً الى مفهوم الأمن الغذائي المستدام الذي يأخذ بعين الاعتبار حقوق الأجيال القادمة.

إلا أن استراتيجيات التنمية المستقلة التي سلكها معظم الدول النامية قد تعثَّرت في عقد السبعينيات من القرن العشرين بفعل الأزمات الاقتصادية العديدة التي حدثت في تلك الفترة ونتيجة درجة التخلف التقني الذي وجدت هذه البلدان نفسها فيه في زمن ثورتي المعلوماتية والاتصالات.

ولقد أدَّى بعض العوامل التقليدية والمحلية (التزايد السكاني وزيادة التحضر، تدهور الموارد وانهاك البيئة) دورًا أساسيًا في اختلال الأمن الغذائي في الدول النامية في عصر العولمة. غير أن هناك عوامل أخرى خارجية ساهمت في تفاقم هذا الاختلال أبرزها السياسات الزراعية التي اعتمدتها الدول الصناعية بالاضافة الى بعض العوامل الناتجة عن العولمة (إنكفاء الفكر الاقتصادي التدخلي وسياسات التنمية، توقف المعونات الأجنبية، تغير دور المنظمات الدولية ووظيفتها، التحرير اللامتكافئ للتجارة الخارجية، تغير مقاصد الاستثمار الأجنبي والمخاطر المناخية الجديدة الناتجة عن ارتفاع درجة حرارة الأرض.)

كما اضطلع بعض أدوات العولمة (الإعلام والشركات المتعدية الجنسية) بدور أساسي في هذا الاختلال.

لقد لاحظنا أن البلدان النامية كمجموعة حقَّقت زيادات مهمة في الإنتاج الزراعي الكلي والإنتاج الكلي للغذاء في العقود الثلاثة الأخيرة وإن بمعدلات أقل نسبيًا من تلك التي تحقَّقت في العقود الثلاثة التي سبقتها. كما أن نصيب الفرد من الاستهلاك الغذائي قد ازداد في البلدان النامية في العقود الثلاثة الأخيرة إنما بمعدلات متواضعة بسبب استمرار ارتفاع معدلات الزيادة السكانية حيث أن البلدان النامية تستأثر بمعظم زيادة السكان التي تتحقق في العالم.

إنما من الواضح أن هناك تفاوتات مهمة بين البلدان النامية نفسها حيث حققت بلدان شرق وجنوب آسيا معدلات عالية في معدلات النمو الاقتصادي وفي حجم الانتاج الغذائي ومعدل نصيب الفرد من الاستهلاك الغذائي وهذا ما دفع المعدلات العامة للبلدان النامية في إنتاج الغذاء واستهلاكه صعودًا. أما بقية البلدان النامية فبعضها شهد مراوحة في إنتاج الغذاء واستهلاكه فيما عرف البعض الآخر تراجعًا سريعًا في هذين الميدانين.

كما كشفت الوقائع عن وجود تباينات مهمة داخل كل بلد نامٍ تقريبًا، ففي الصين مثلاً التي تقود التطور الاقتصادي في الاقتصادات الناشئة أحدثت العولمة تفاوتات كبيرة جدًا في مستوى معيشة السكان وفقًا للأقاليم وبين من يملكون ومن لا يملكون. أما في الهند التي هي القطب الثاني في الاقتصادات الناشئة والتي حققت معدلات عالية في النمو الاقتصادي وحجم الانتاج الكلي للغذاء فقد أوجدت العولمة فرصًا جيدة للبعض ومشاكل وصعوبات لآخرين. فقد أقدم ثلاثة وعشرون مزارع قطن في ولاية كارناتاكا الشمالية في الهند كانوا مثقلين بالديون للمرابين المحليين على الانتحار بين كانون الأول/ديسمبر 1997 وأيار/مايو 1998 للخروج من المآزق بطريقة مشرفة آملين أن تعمد الحكومة الى تسديد ديونهم للمرابين الأمر الذي يحول دون تحول أولادهم الى عمال ملزمين (أشباه أرقاء بموجب العقود)(34).

وكان هؤلاء قد تحوَّلوا عن زراعة الأرز أو الخضار وتوجهوا الى بعض الزراعات المعدة للتصدير (زراعة الورود وغير ذلك) إلا أن افتقارهم إلى الخبرة والاختصاص وتأخر الأمطار الموسمية أدى الى الخراب الكلي لمحاصيلهم.

يجدر بالاشارة أن التقدم الذي حصل في الهند على صعيد تحسن إنتاج الغذاء وتقليل معدلات الفقر في العقود الثلاثة الأخيرة لم يتحوَّل الى تطور متسارع في تقليل سوء التغذية. فلقد بقي نصف الأطفال الريفيين في الهند أقل من الوزن المطلوب بالنسبة الى عمرهم العام 2008 وهي النسبة نفسها للعام 1992 تقريبًا(35).

ومن المجدي أن تشير أيضًا الى أن النمو الاقتصادي السريع في الصين والهند المترافق مع ازدياد كبير في حجم الغذاء أدى الى تراجع خطير في معدلات المياه الجارية ومخزون المياه الجوفية مع وصول معدل الاستخراج الحالي للمياه الى 140% و150% من الامدادات المائية المتجددة.

وفي الختام هل ستظل أزمة الغذاء أزمة توزيع واستهلاك أكثر مما هي أزمة انتاج؟

وهل ستستمر الثورة العلمية في إبقاء أفكار مالتوس في دائرة التأجيل؟ إنه لأمر مشكوك به في ظل الزيادة الكبيرة الحاصلة في أعداد السكان والاستنزاف الكبير للموارد والتدمير الخطير للنظام البيئي والتوسع غير الصحي في الاستهلاك.

 


(1)يعتبر العديد من الاقتصاديين أن هناك إقتصادًا عالميًا قائمًا منذ حوالى 500 سنة (زمن الاكتشافات الجغرافية الكبرى) غير أن الربع الأخير من القرن العشرين شهد أشكالاً جديدة من التوحد الاقتصادي العالمي (إشارة من الباحث).

(2) تكون بلدان العالم الثاني حسب مفاهيم السبعينيات من القرن العشرين (الدول الشيوعية) قد توزَّعت بين أقلية انضمت إلى العالم الأول وأكثرية انضمت إلى العالم الثالث (إشارة من الباحث)

(3) تقرير التنمية البشرية للعام 2000 – برنامج الأمم المتحدة الانمائي UNDP ص 132.

(4) محمد السيد عبد السلام، الأمن الغذائي للوطن العربي، كتاب عالم المعرفة، العدد 230، شباط 1998، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت،  ص 90.

(5) محمد السيد عبد السلام – مصدر سابق ص: 98

(6) أمارتيا صن، التنمية حرية، كتاب عالم المعرفة، العدد 303، أيار 2004، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ترجمة شوقي جلال، ص 198.

(7) تقرير التنمية البشرية للعام 2001 ص 29 منشور لحساب برناج الأمم المتحدة الانمائي UNDP

(8) أمارتيا صن، مصدر سابق، صفحة 251.

(9)  محمد السيد عبد السلام، مصدر سابق، ص 21

(10) المصدر نفسه، ص 24

(11) تقرير التنمية البشرية للعام 2003، ص 2، منشور لصالح برنامج الأمم المتحدة الانمائي UNDP

(12) تقرير التنمية البشرية للعام 2002 – 2003، مصدر سابق، ص: 31

(13) صبحي عبد الحكيم، من مقدمة كتاب سير روي كالن، عالم يفيض بسكانه، عالم المعرفة، العدد 213، أيلول/سبنمبر 1996، ترجمة ليلى جبالي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، ص 24.

(14) المصدر نفسه، ص 25.

(15)العام 1995 انخفض احتياطي القمح والأرز والذرة وباقي الحبوب الى أدنى مستوى له منذ عقدين من الزمن. فالعام 1996 بلغ مخزون الحبوب في مستودعات العالم حدًا لم يعد يكفي معه إلا لسد حاجة 49 يومًا فقط، كما انخفض احتياطي الذرة الى أدنى حد له منذ العام 1975.(اشارة من الباحث).

(16) محمد السيد عبد السلام، مصدر سابق، ص 16و17.

(17) أمارتياصن، مصدر سابق، ص 252.

(18) صبحي عبد الحكيم، مصدر سابق، ص 22و23.

(19) محمد السيد عبد السلام، مصدر سابق، ص 30.

(20) تم اقتباس هذا النص بتصرف من تقرير التنمية البشرية لعام 1996 UNDP، منشور لحساب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. (إشارة الباحث).

(21) أمارتيا صن، مصدر سابق، ص: 248 

(22) محمد السيد عبد السلام، مصدر سابق، ص 69

(23) تقرير التنمية البشرية للعام 2005، مصدر سابق، ص: 29 – 130، منشور لصالح برنامج الأمم المتحدة الانمائي UNDP

(24) المصدر نفسه، ص 131  

(25) تقرير التنمية البشرية للعام 2005، مصدر سابق، ص 131

(26 المصدر نفسه، ص، 131

(27) المصدر نفسه، ص 132

(28) محمد السيد عبد السالام، مصدر سابق، ص 69.

(29)  تقرير التنمية البشرية للعامين 2007 – 2008، منشور لصالح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، ص 65

(30) تهرع في بعض الأحيان جماعات كبيرة من الناس لبيع أصولها المنتجة في الوقت نفسه وهذا ما يؤدي إلى هبوط كبير في أسعارها (إشارة من الباحث).

(31) تقرير التنمية البشرية للعامين 2007 و2008، مصدر سابق، ص 83، 84، 85، 86.

(32) بيترال بيرغر وسامويل بي هتنغون، عولمات كثيرة، تعريب فاضل جتكر، مكتبة العبيكان، المملكة العربية السعودية 2004، ص110.

(33) تقرير التنمية البشرية للعا م 1999، منشور لصالح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ص31.

(34) بيتر آل بيرغر – سامويل بي هنتنغتون. عولمات كثيرة ص: 171 – 172 – تعريب د. فاضل جتكر – مكتبة العبيكان – المملكة العربية السعودية – 1424 هـ - 2004 م

(35) تقرير التنمية البشرية 2007 -2008 مصدر سابق ص: 21

 

The Food Security of Developing Countries in the Era of Globalization

The last three decades of the twentieth century has witnessed a series of huge economic crises which produced a batch of major changes on the international level, mainly the end of the Cold War that resulted in the collapse of the Socialist Front, the breakdown of the Soviet Union, the unipolar hegemony of the west and a series of civil wars which resulted in the disintegration of many countries in addition to drawing many new human and geographic maps.

In this atmosphere, the idea of globalization predominated with its financial, technological, economic, cultural, political, environmental, geographic and sociological dimensions.
 

And in this concern, Globalization and the collateral Neo-Liberalism - which was revived in the late seventies after liberalism cleared the way completely for the strategy of intervention  since the twentieth century’s thirties – were both described as the effective remedy for the many frequent world crises.

However, did Globalization really establish a solution to the developing countries’ problems and particularly the food security problem?

This is the question that we shall attempt to answer in this research.

This research will also include a number of issues which are the following:  
 

  • In the first issue we will be tackling the concept of food security and its developments.
  • In the second issue we will shortly discuss the role of conventional factors in the lack of food security
  • In the third issue we will be handling the role of economic Globalization in the imbalance of food security.
  • In the forth issue we will be dealing with the effect of some of the Globalization tools (media as an example) on food security in developing countries.
  • In the fifth and final issue we will tackle the role of multinational corporations in this regard.

La sécurité alimentaire dans les pays en voie de développement au sein de la mondialisation

 

Après un quart de siècke de développement économique dans les différentes parties du monde et suite à la seconde guerre mondiale, l’humanité a connu Durant les années 70 et le début des années 80 une série de crises économiques.

Et ensuite, ont succédé à ces crises, des mutations ai niveau international et surtout l’introduction du terme mondialisation dans tous les domaines.

Peut-on dire que la mondialisation a réellement été une solution pour les conflits et les crises et parmi elles, la crise alimentaire en 1970? D’autre part, la mondialisation n’a-t-elle pas été une cause pour ces crises et une creation de nouvelles crises?

Quelle est le lien de la mondialisation avec l’alimentation et la sécurité alimentaire dans les pays en voie de développement?

Ce texte vise surtout à répondre à cette problématique et inclut plusieurs points essentials qui sont:

  • Définition du terme sécurité alimentaire et les evolutions ayant eu lieu dans ce domaine
  • La situation de l’alimentation dans le monde durant les 3 dernières décennies.
  • Le rôle des facteurs traditionnels influençant sur la sécurité alimentaire.
  • Le rôle des politiques agraires en vigueur dans les pays industrialisés ayant pour but de perturber  la sécurité alimentaire dans les pays en voie de développement.
  • Le rôle de quelques facteurs consequents de la mondialisation et son influence sur la sécurité alimentaire dans les pays en voie de développement.
  • Le rôle  des instruments propres à la mondialisation (les medias et les multinationals).