قضايا إقليمية

الأمن ومضامينه الاستراتيجية في مخططات شارون
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

اذا تأملنا خطوط الطيف المختلفة لمفاهيم الامن الخاصة باسرائيل، لوجدنا ان السياسة الامنية العليا للدولة انما تعبّر بصورة انعكاسية مباشرة عن العقد الاجتماعي السائد في المجتمع وعن ثوابته الايديولوجية واهدافه الكبرى ورؤية النخب الحاكمة المقبولة من غالبية اعضاء المجتمع، للارض والشعب والحدود وهوية كل من العدو والصديق. وحيث ان الاكثرية الساحقة من القيادات السياسية العليا في اسرائيل، هي من العسكريين، فإنه يحصل نوع من التطابق والتماهي التام ما بين العقيدة العسكرية للجيش وبين النظرية الامنية الاستراتيجية، وبتعبير آخر يحصل نوع من التماهي ما بين السياسة التي توجّه الحرب وبين الاستراتيجية العليا التي تتحكم باهداف الحرب.

 

من خلال هذه المقدمة الموجزة نجد ان مخططات رئيس الحكومة الاسرائيلية الحالي آرييل شارون انما تنطلق لتدور حول محورين اساسيين يكمل احدهما الآخر وهما:
اولاً: شل وتعطيل مختلف اشكال المخاطر القائمة او المحتملة، الصغيرة او الكبيرة، التي تواجهها اسرائيل.
ثانياً: العمل على تحقيق الاهداف الصهيونية وفقاً لسلم اولويات متحرك ومرن، ليس بالمعنى الذي وضعه آباء الصهيونية الاوائل بالضبط، ولكن بالمعنى الذي يحتّمه الواقع المعاصر في معطياته البراغماتية القاهرة.


على خطي هذه السكة الواحدة الموحدة، ينطلق اذن قطار المخططات الشارونية الامنية، ملتزماً بمحطات واعتبارات وقيود ثابته ابرزها ما يلي:

- اعتبار الاراضي التي حصلت عليها اسرائيل بموجب قرار التقسيم رقم 181 عام 1947 ومن ثم عبر التوسع ما بعد حرب 1948 ­ 1949، لا توفر الامن الاستراتيجي للدولة الطموحة ولا تلبي ايضاً ما يسمى "الحقوق التاريخية" لليهود في فلسطين. ومن هنا رفضت اسرائيل في الماضي والحاضر ترسيم حدودها مع جيرانها الفلسطينيين بنوع خاص، معتبرة ذلك مساساً وجودياً بأمنها وعقيدتها. وعلى هذا الاساس أعيد الاعتبار لمقولة ان حرب عام 1948 لم تنته بعد وانه لا بد من ترك الجيش الاسرائيلي يستخدم طاقاته الجياشه الهائلة لإحراز النصر.
- رفض الالتزام بتنفيذ اي قرار ومشروع دولي من شأنه المساس بأمن الدولة الموسعة، ورفض توقيع اية اتفاقات او معاهدات دولية او اقليمية يمكن ان تعرّض هذا الامن للخطر.
- الاعتماد في صيانة امن الدولة، قدر المستطاع، على القوى الذاتية اولاً واخيراً، واعتبار العوامل الخارجية مجرد روافد فرعية داعمة. وبناء عليه السعي لبناء المؤسسات الامنية المتطورة وتوفير كامل القدرات العسكرية المطلوبة لذلك.
- تكريس وتعزيز وجود اسرائيل وأمنها الديموغرافي بنقل اقصى ما يمكن من يهود العالم اليها وتهجير الفلسطينيين بتدمير قراهم ومصادرة ارزاقهم وممتلكاتهم وسد ابواب الرزق في وجوههم. وقد شكلت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة لهذه الغاية دائرة خاصة باملاك الغائبين، وهي من اكثر الدوائر الرسمية سرية في اسرائيل حتى الان.
- رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ارض وطنهم، واعتبار هذه العودة خطراً استراتيجياً وجودياً على امن الدولة وهويتها القومية والدينية، والعمل بالتالي لحل مشكلتهم بالتفاوض مع الدول العربية ومؤسسات الامم المتحدة، من اجل توطينهم واستيعابهم في اي مكان من العالم باستثناء فلسطين.
- الدخول، استنسابياً، في مفاوضات مباشرة مع بعض الدول العربية، كل على حدة بما يضمن مصالح اسرائيل الامنية والاقتصادية، ويؤدي بالتالي الى تصدع الصف العربي واستتباعه للمخططات والمشاريع الاسرائيلية والاستعمارية.
- استغلال نفوذ اسرائيل الاقليمي المتنامي في لعبة العلاقات الدولية بما يوفر أمنها واهدافها الاستراتيجية البعيدة المدى في المجالين الاقتصادي والسياسي.
انطلاقاً من هذه الحيثيات بوسعنا أن نستقرئ مخطط شارون الراهن الذي يرمي لتحقيق اهداف مرحلية بطريقة الخطوة خطوة المنسوبة الى وزير الخارجية الاميركي الاسبق كيسينجر، ومن ابرزها الوصول الى حلول جزئية طويلة الأمد على قاعدة ادارة الصراع لا حلِّه.
وفي اية حال نجد ان اهداف شارون الحالية في كل من قطاع غزة والضفة الغربية انما تنحصر في النقاط التالية:
1­ مقايضة مستوطنات غزة التي يوجد شبه اجماع داخلي على اخلائها، بتعزيز السيطرة والضم والالحاق بواسطة تكريس وجود مستوطنات الضفة الغربية.
2­ تحقيق الحد الاقصى الممكن من الامن والاقتصاد والمكاسب الجيوسياسية، من خلال تقليص خطوط التماس والاحتكاك بالفلسطينيين، واعادة تموضع وانتشار قوات الاحتلال الصهيونية.
3­ احراز تعديلات جوهرية على خارطة موازين القوى الديموغرافية من خلال حماية المستوطنين بجدار الفصل العنصري وعزل وتحييد نحو 1.7 مليون فلسطيني واخراجهم من هذا الميزان.
4­ ازاحة موضوع القدس الكبرى الموحدة وموضوع عودة اللاجئين بصورة كلية ونهائية عن اي جدول اعمال لمفاوضات مستقبلية.
5­ توفير الاجواء الملائمة لانطلاقة اقتصادية استثمارية جديدة تستنهض وتحسِّن الاوضاع المعيشية المتدهورة لقسم كبير من المجتمع الاسرائيلي.
في الختام لا بد من التنبيه الى حجم التدليس والتضليل الذي يرمي اليه شارون من خلال استخدامه مصطلح فك الارتباط بدلاً من الانسحاب. فالمصطلح الاول يعكس حالة تبدو مختلفة عن الاحتلال في المصطلح الثاني. وفك الارتباط يعني ان المستعمر لا يعترف بوضعيته الاحتلالية، ويزعم ان الجزء المحتل، الذي اضطر ل"فك الارتباط" معه، انما هو جزء اصيل عائد له، وانه يرتبط به باواصر شتى، تاريخية ودينية وقومية. ولطالما كرر معسكر اليمين الاسرائيلي الديني والقومي منذ عدوان عام 1967، بانه إنما قام بعملية تحرير واسترداد لاراضٍ هي بمثابة قلب التوراة، وتشكل جزءاً لا يتجزأ مما يسمى "ارض اسرائيل الكاملة".

 

رفضت اسرائيل في الماضي والحاضر ترسيم حدودها مع جيرانها معتبرة ذلك مساساً وجودياً بأمنها وعقيدتها

معسكر اليمين الاسرائيلي الديني والقومي يؤكد ان العمليات التهجيرية للشعب الفلسطيني انّما هي عملية استرداد لأراضٍ "توراتية" تشكل جزءاً لا يتجزأ مما يسمى "ارض اسرائيل الكاملة"

اسرائيل ترفض عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ارض وطنهم وتعتبر هذه العودة خطراً استراتيجياً وجودياً على هوية الدولة القومية والدينية