قضايا عسكرية

الأميركيون والروس يعودون إلى معاهدة الأجواء المفتوحة ولكن... ماذا عن الآتي؟
إعداد: شارل أبي نادر
عميد متقاعد

في ظل ما تشهده اليوم الساحة الدولية من تشنّج واشتباك ديبلوماسي، يقترب شيئًا فشيئًا من حافة الاشتباك العسكري، يدور الحديث وبشكلٍ جدّي عن مصير معاهدة الأجواء المفتوحة وفعاليتها. تتيح هذه المعاهدة للدول الأعضاء فيها تبادل تنفيذ المهمات الجوية، بهدف الوقوف على التزام الأطراف قيود التسلّح...
في ما يأتي أضواء على هذه المعاهدة ومراحل تنفيذها والإشكاليات التي اعترضت مسار تطبيقها.

 

التأسيس والمضمون
اقترح الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) في العام 1989 إنشاء نظام السماء المفتوحة الذي يقوم على التزام المشاركين فتح مجالهم الجوي طوعًا، والسماح للأطراف الأخرى بالطيران فوق أراضيهم ومراقبة النشاطات العسكرية، وذلك بهدف تعزيز الثقة والشفافية، وتسهيل التحقّق من التزام اتفاقيات نزع الأسلحة أو تخفيضها. وفي نهاية العام 1989، أصدر المشاركون في حلف شمال الأطلسي وثيقة تتضمّن العناصـر الأساسيـة للنظـام المقتـرح، وتـمّ عرضهـا علـى حلـف وارسو.
في 24 آذار من العام 1990، وقّعت المعاهدة عدة دول أساسية في الحلفَين المذكورَين، وانضمّت إليها في ما بعد (1992) دول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ثم دخلت حيّز التنفيذ مطلع الـ2002 بعد أن وصل عدد الدول الموقّعة عليها إلى 34 دولة هي: الولايات المتحدة الأميركية، روسيا البيضاء، بلجيكا، البوسنة والهرسك، بلغاريا، كندا، كرواتيا وجمهورية التشيك، الدنمارك، إستونيا، فنلندا، فرنسا، جورجيا، ألمانيا، اليونان، المجر، إيسلندا، إيطاليا، لاتفيا، ليتوانيا، قيرغيزستان، لوكسمبورغ، هولندا، النروج، بولندا، البرتغال، رومانيا، روسيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، إسبانيا، السويد، تركيا، أوكرانيا، والمملكة المتحدة.
بموجب هذه المعاهدة، تستطيع أي دولة عضو فيها القيام برحلات مراقبة جوية قصيرة الأجل في أجواء دولة أخرى، ضمن معايير وأنظمة وإجراءات محددة، تتعلق بعدد الرحلات المسموحة بطريقةٍ متبادلة بين الدولة المراقَبة والدولة المراقِبة، مع تحديد أنواع طائرات المراقَبة وقدراتها، على أن تكون غير مجهّزة بأسلحةٍ، كما يتمّ تحديد نقاط الدخول والخروج من الدولة المستهدفة أو المنوي مراقبتها.
تحدد المعاهدة أيضًا آلية تنظيمية تتضمّن طريقة طلب الموافقة على رحلة المراقبة وتاريخها مع شرح خطة الرحلة والنقاط المنوي مراقبتها، وأنواع المستشعرات التي يمكن استخدامها، بما في ذلك الكاميرات الضوئية وكاميرات الفيديو المزوّدة شاشاتٍ وأجهزة مسح خطوط الأشعة تحت الحمراء والرادار.
تُلزِم المعاهدة أيضًا الطرف المراقِب تقديم تقرير «نهاية المهمة»، وللدولة المراقَبة خيار شراء البيانات والمعطيات التي تجمعها الدولة المراقِبة، بخاصةٍ إذا كانت الأخيرة من الدول التي تمتلك تقنياتٍ وأجهزةٍ متطورة، الأمر الذي قد تستفيد منه الدولة الأولى.
أنشأت المعاهدة لجنة استشارية مهمتها معالجة الغموض والخلاف على التفسير عندما يحصل تناقض في تقارير التحقّق والمراقبة النهائية، ولهذه اللجنة صلاحية النظر في طلبات الانضمام إلى المعاهدة، كما أنّها تمتلك أيضًا صلاحية رعاية التدابير التقنية والإدارية.

 

المسار المتأرجح
• المرحلة الأولى:

حتى بداية العام 2013 تاريخ أول رحلة مراقبة روسية فوق الأراضي الأميركية، كان تنفيذ المعاهدة متّسمًا بالهدوء والمرونة. وقد عُقد مؤتمر لمراجعتها في شباط 2005، انتهى إلى تأكيد أهميتها وفعاليتها وضرورة تطوير إجراءات الثقة والشفافية بين الدول الأعضاء. وتميّزت رحلات المراقبة فوق البوسنة والهرسك (رحلة البنلوكس 2008) التي نفّذها مراقبون من كندا والنروج وجمهورية التشيك بالفعالية، إذ قدّمت للمجتمع الدولي معلومات حساسة عن الانتهاكات ومسار الأزمة الصربية.
في العام 2010 عُقد مؤتمر ثانٍ لمراجعة المعاهدة، وافقت خلاله الدول الأعضاء على مزيدٍ من التعاون بشأن الشفافية والضغط لتوسيع عضوية الدول المشتركة، فضلًا عن الانتقال إلى تقنية الكاميرات الرقمية وأجهزة الاستشعار الأكثر تطورًا.
 

• المرحلة الثانية:
بدأت المرحلة الثانية مع إعلان روسيا تنفيذ رحلتين فوق الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن كانت قد نفّذت عدة رحلات مراقبة فوق أجواء دول أخرى. وفي 21 كانون الثاني 2014، أصدر مجلس علوم الدفاع الأميركي تقريرًا ينصح الجيش الأميركي بتأجيل تحديث طائرات الاستطلاع لمراقبة الأجواء من نوع «أو سي- 135» إذ يمكن استغلال صور الأقمار الاصطناعية كبديلٍ للحصول على المعلومات.
وأكد المسؤولون الأميركيون في السابع عشر من نيسان 2015، أنّ روسيا لم توافق على رحلة مراقبة أميركية مقررة فوق الأراضي الروسية بعد شكوك حول تقنيات أجهزة المراقبة المستعملة.
في 22 شباط من العام 2016، طلبت روسيا الإذن بالطيران فوق الأراضي الأميركية على متن طائرة مزوّدة كاميرات مراقبة عالية التقنية، وتمّت الموافقة على الطلب، لكنّ تقرير وزارة الخارجية الأميركية حول الانضمام إلى اتفاقيات والتزامات الحدّ من الأسلحة ومنع انتشارها ونزعها، أعاد التأكيد على تقرير تناول الامتثال الروسي غير الكامل لمعاهدة الأجواء المفتوحة، مشيرًا إلى التعقيدات غير المفهومة التي تضعها موسكو حول رحلات مراقبة الأجواء فوق أراضيها.
لاحقًا، حثّ رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي إد رويس، ورئيس لجنة الاستخبارات ديفين نونيس، ولجنة الخدمات المسلّحة ماك ثورنبيري، الرئيس أوباما على رفض طلب روسيا تثبيت معدات رقمية على طائرات مراقبة الأجواء بعد اتّهامها بتوسيع قدراتها التجسسية. في المقابل، ردّت روسيا على لسان سيرغي ريزوف رئيس المركز الوطني للحدّ من التهديدات النووية الذي قال إنّ المعدات الجديدة تتوافق تمامًا مع متطلّبات المعاهدة وقيودها.
شهد النصف الأخير من العام 2017 سلسلة من المناورات الدبلوماسية المتبادلة بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي بشأن معاهدة الأجواء المفتوحة. فالولايات المتحدة الأميركية لم توافق على إقامة طواقم روسية في قواعدها في ولايتَي جورجيا وداكوتا الجنوبية، لتنفيذ رحلة مراقبة للأجواء الأميركية مُتّفَق عليها، وبرّرت ذلك بانتهاك روسيا لمعاهدة كالينينغراد المتعلّقة بنشر قدرات نوعية وصواريخ استراتيجية.
ردة الفعل الروسية جاءت بمنع الطائرات الأميركية من إطلاق رحلات مراقبة جوية من ثلاث قواعد عسكرية داخل حدودها، كانت قد أُجريت منها رحلات مماثلة سابقًا. استعاضت الولايات المتحدة عن ذلك بتنفيذ رحلةٍ جوية فوق أوكرانيا بطلبٍ من حكومتها. وفي حين اعتبرت واشنطن أنّ هذه الرحلة هي دفاعية ولمصلحة أوكرانيا، اعتبرتها روسيا تحدّيًا لها، خصوصًا في ظل التوتّر القائم على خلفية الأزمة الأوكرانية.
شهد العام 2018 تشنُّجًا بين الطرفين اللذين تبادلا الاتهامات حول اختراق معاهدة الحدّ من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى. أوقفت الولايات المتحدة، وبحجة عدم امتثال روسيا لالتزاماتها المنصوص عنها في المعاهدة، تمويل معاهدة الأجواء المفتوحة من دون أن تعلن انسحابها منها.
في المقابل، أعلن الاتحاد الروسي أنّ الولايات المتحدة رفضت الموافقة على رحلتين روسيتين للمراقبة فوق الأراضي الأميركية من دون تقديم تفسير لذلك، الأمر الذي ربطه الروس بإشاراتٍ أميركية سابقة عن القدرات التقنية الحساسة «المقلقة» التي تتميّز بها طائرات «توبوليف 214» الروسية المكلَّفة بالمهمة التي رفضها الأميركيون.

 

إلى أين؟
مع بداية العام الحالي (2019)، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية أنّها بصدد إجراء تحليق استطلاعي فوق الأراضي الروسية لتقييم حالة القوات المسلّحة الروسية وأنشطتها. وأوضح المتحدث باسم البنتاغون جايمي ديفيس «إنّه أول تحليق في إطار الأجواء المفتوحة للولايات المتحدة فوق روسيا منذ تشرين الثاني 2017، بعد منع الرحلات الجوية للأطراف كافة طوال العام الماضي». وأضاف أنّ الطرفين توافقا بشأن إجازة رحلات على مدار هذا العام. وقد نفّذت الرحلة لاحقًا طائرة المراقبة «أو سي – 135» وكان على متنها ستة من المراقبين الروس.
بعد هذا المسار الطويل من التأرجح والتناقضات بين الطرفين الأقوى من أطراف معاهدة الأجواء المفتوحة، عادت الدولتان إلى السماح المتبادل برحلات المراقبة، وكان ذلك على ما يبدو نتيجة اعترافٍ ضمني من كِليهما بتجاوز التزاماتها. فهل تحمي هذه العودة المعاهدة؟ أم يعود الاشتباك الاستراتيجي والاتهام المتبادل ليقضي عليها كما قضى على معاهدة خفض الصورايخ المتوسطة والقصيرة المدى؟
 

مراجع:

https://www.aljazeera.net/news/- politics/2019/2/22/
- بمقتضى «الأجواء المفتوحة» طائرة مراقبة أميركية في سماء روسيا
https://sptnkne.ws/kUmY
http://gate.ahram.org.eg/News
www.osce.org/osc
https://www.nti.org/learn/treaties-and-regimes/treaty-on-open-skies/