قضايا اقليمية

الأولويات الإستراتيجيـــة فـي سياسة اليمين الإسرائيلي
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

 يعتمد العدو الإسرائيلي استراتيجية تقطيع الصراع وعزل المراحل للاستفراد بكل جبهة وتصفية الحساب معها قبل الانتقال الى جبهة اخرى

لقد شكّل تولي آرييل شارون، زعيم الليكود، قمة السلطة في إسرائيل، من خلال أجواء شعبوية هستيرية متطرفة، مظهراً بارزاً من مظاهر الحسم بين ما يسمى معسكر اليمين ومعسكر اليسار لصالح المعسكر الأول بطبيعة الحال.

 وما من شك في أن هذا الحسم لم يأت مفاجئاً ولا طارئاً على الحياة السياسية الإسرائيلية، بل أتى من ضمن مسار طويل من الصراع والتنافس بلغ ذروته في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق اسحق رابين على أيدي أحد المتطرفين الشوفينيين المتلبسين بلبوس الدين، وبعد المرور بمحطات تاريخية بارزة أهمها العام 1977 عندما انهارت شعبية حزب العمل بصورة دراماتيكية، وذلك في أعقاب تداعيات حرب يوم الغفران عام 1973 والتقصير الكبير الذي أطاح برئيسة الحكومة غولدا مئير والحاشية السياسية والعسكرية المرافقة لها. وعلى هذه الخلفية حصلت تبدلات عميقة في فهم وتطبيق كنه استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي وانتقالها من الشرق أوسطية اللاقومية الى الصهيونية المتجددة ذات الأفكار الشمولية المعتمدة، من ضمن أمور أخرى، على المزاعم والأساطير الدينية اليهودية. وهذه الأخيرة كانت باستمرار، في خلفية الأطماع والاعتداءات الصهيونية ضد الشعوب العربية والإسلامية وخصوصاً الشعب الفلسطيني، الذي وجد نفسه ينتقل من مشروع تضليل الى مشروع خداع تحت عناوين السلام والتسويات السلمية المتهافتة التي لا هدف لها سوى استهلاك الوقت وتكريس أوضاعه المزرية من المهانة والتشرد لحساب مصلحة جمهور المستوطنين المستوردين من كافة أقطار الدنيا.

 

 قد يقول قائل إن مزاج المجتمع الإسرائيلي يعاني من حالة تذبذب بين اليمين واليسار، وشاهده على ذلك انتصار نتنياهو على بيريس إثر مصرع رابين ثم انتصار باراك على نتنياهو في انتخابات عام 1999 ثم سقوط باراك (اليساري!!) وتولي شارون (اليميني) زمام السلطة. ولكن مثل هذه التقلبات الحادة بين انتصار وانكسار، حملت في الواقع علامات فارقة شخصية. أي إن باراك انتصر على نتنياهو وليس على اليمين، وذلك لأسباب موضوعية منها تجميده للعملية السياسية وتهربه من الاستحقاقات التي طالبته بها الولايات المتحدة ودخوله في صراعات على الزعامة مع أصدقائه وزملائه في حزب الليكود. وكذلك هي الحال بالنسبة لباراك الذي دخل في مواجهات شخصية بالغة الحدة مع منافسيه على الزعامة في حزب العمل ومحاولاته الاستئثار بالقرار السياسي الاستراتيجي بحسب رؤيته لواقع الأحوال داخل إسرائيل وفي المنطقة. ولا يخفى أن مثل هذه الصراعات أخذت مداها ضمن حيثيات قانون الانتخاب المباشر لرئيس الحكومة والمطبق منذ العام 1996. والجدير بالذكر أن ذلك القانون، الذي ألغي لاحقاً، قد ساعد على إنتاج نجوم سياسة نموا وترعرعوا خارج رحم الحزبين الكبيرين، وخارج نفوذ أجهزة هذين الحزبين داخل الكنيست، لا سيما وأن التمثيل البرلماني قد تحول الى سياسات هوية يعبر من خلالها الروس والمغاربة والعلمانيون والمتدينون، كل بطريقته الخاصة، عن هويته واستراتيجيته للوصول الى مصادر القوة السياسية والاقتصادية.

 

 ومن خلال مراقبة المشاريع والممارسات التي قدمتها أو قامت بها حكومات اليمين الصهيوني المتطرف، ولا سيما حكومة شارون الحالية، يمكننا أن نتلمس الثوابت والأولويات الاستراتيجية التالية:

 -1 الإجماع على عدم العودة الى حدود الرابع من حزيران /يونيو 1967، الأمر الذي يتناقض مع المشروع العربي الإستراتيجي للتسوية، والمعلن عنه في قمة بيروت ومبادرة الأمير عبدالله ولي العهد السعودي عام 2002.

 -2 الإصرار على انتزاع وتكريس الإعتراف الفلسطيني والعربي والدولي بالقدس كعاصمة أبدية نهائية وموحدة لإسرائيل دون سواها.

 -3 رفض قيام أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية الكاملة السيادة سواء على جزء أو كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.

 -4 الإبقاء على أكثر من  90% من المستوطنات في الضفة الغربية وضمها الى إسرائيل.

 -5 رفض مبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين المشردين منذ العام  1948 والنازحين عام 1967، والسعي لتوطينهم وتجنيسهم بصورة اعتباطية تعسفية حيث هم في المنفى.

 -6 الاحتفاظ بالتفوّق العسكري الشامل والإستراتيجي على جميع الدول العربية بما فيها تلك التي عقدت اتفاقيات صلح مع إسرائيل، والمعتبرة بالرغم من ذلك، في حسابات الأمن القومي الصهيوني على أنها دول معادية وهي مصر والأردن.

 -7 الإستئثار المستمر بالقدرات النووية والأسلحة غير التقليدية وتطويرها، وعدم القبول بمبدأ نزع سلاح إسرائيل النووي أو بمراقبة المنظمات الدولية المعنية بالأمر على المنشآت الإسرائيلية.

 -8 المحافظة على علاقات استراتيجية مميزة مع الولايات المتحدة الأميركية الحليف الاستراتيجي الأساسي لإسرائيل ومنع قيام مثل هذه العلاقات مع أية دولة عربية أو إسلامية.

 

 ومن أجل الحفاظ على هذه الأولويات والثوابت، يمارس اليمين الشوفيني الصهيوني، سياسة مواجهة صدامية مباشرة مع العرب والفلسطينيين، ربما اعتمدت في بعض الأحيان أساليب الالتفاف والمناورة والتضليل الشكلي، في إطار حملات من العلاقات العامة، ولكنها تحرص وباستمرار على التشبث بالأهداف القومية الأمنية والسياسية وصولاً الى إسرائيل الكبرى التي تضمن لجماهير المستوطنين اليهود الفعليين أو المرشحين، كل عوامل التفوّق الأمني والإقتصادي والديموغرافي.

 

 في مقابل كل هذا لا يوفر اليمين الصهيوني المتطرف أي جهد من أجل تفتيت أي مظهر من مظاهر القوة أو التماسك لدى الجهات العربية المطالبة بحقوقها الشرعية والقانونية والرافضة لمشاريع الهيمنة والاستغلال الصهيونية العالمية، هذا بالإضافة الى جر المنطقة برمتها، ليس بالضرورة الى حرب شاملة، قد تؤدي الى تكبيد المجتمع الإستيطاني اليهودي خسائر مادية وبشرية فادحة، بل الى حروب داخلية بينية من خلال إثارة النعرات والفتن العرقية والطائفية وتحريك لعبة الأقليات القومية والدينية. وهي السياسة التي نادى بها الزعيم الصهيوني دافيد بن غوريون منذ العام  1948 وفي مطلع الخمسينات، ثم بادر الى تحريك مشروعه هذا في لبنان منذ العام 1975، والذي انقلب على رأسه انتصاراً وتحريراً للوطن في شهر أيار / مايو 2000.

 

لقد اعتمد العدو الإسرائيلي منذ اتفاقية كامب ديفيد عام  1978 وحتى اليوم استراتيجية تقطيع الصراع وعزل المراحل من أجل الاستفراد بجبهة دون أخرى وتصفية الحساب معها من أجل الانتقال الى الجبهة التالية.ويساعده في سياسته هذه حالة عامة من النفاق الدولي المتفاقم في ظل هيمنة القطب الواحد في العالم، وهو القطب الأميركي، الذي وللأسف ينصاع لاحتياجات الصهيونية والحسابات الإنتخابية الداخلية، فيكرّس سياسة الكيل بمكيالين وما ينجم عنها من هبوط في الرسالة الأخلاقية للدولة العظمى.