أديان ومعتقدات

الأيزيدية من أقدم المعتقدات الشرقية وأتباعها يناضلون للبقاء
إعداد: العميد الركن المتقاعد الدكتور دريد زهر الدين

كَثُـرَ الحديث في الآونة الأخيرة عن الأيزيديين الذين يتميّزون بعمق التقيّة والإيمان الذي رسّخ فيهم الصبر والجلد، لتحمّل ذاك الكم من الاضطهاد الذي تعرّضوا له، إن في حروب العراق الحديثة أم خلال الحملات القديمة الشرسة التي سعت إلى إبادتهم ومحو عقيدتهم. ومنها مثلًا، سقوط بابل على يد الجيوش الأخمينية بقيادة قورش الكبير (539 ق م)، وحملة الأمير العثماني محمد الرواندوزي (1838) الذي جمع مئة ألف رأس أيزيدي وقام بالآذان فوقها. والعجب في هذه الأمة، أنّها استطاعت، رغم النكبات المتلاحقة، المحافظة على نسيجها الاجتماعي وحماية مؤسساتها الدينية.

 

الأيزيدية معتقد عرقي ديني إثني من أصل كردي وجذور هندوأوروبية. في أصول تسميته ما هو مأخوذ من اللفظ الفارسي «أيزيد» ويعني الملاك أو المعبود، والأيزيديون هم «عبدة الله». كما يُشار إلى أنّ كلمة أيزيدية مشتقّة من «يزاتا» الفارسية القديمة والتي تعني المقدّس، و«يزدان» تعني الله. وينسب الأيزيديون نفسهم إلى يزد أو يزدان لاعتقادهم بوجود إله بهذا الاسم، وكلمة «أزادي» في اللغة الكردية تعني الشعب الذي يؤمن بإله من دون نبي.
الأيزيدية من الديانات الأصيلة للألف الثالث قبل الميلاد، وهي من أقدم المعتقدات الشرقية التي تدرّجت من العبادات الطبيعية إلى الوحدانية، لكن ضمن معتقدات خاصة بها. قد تكون من بقايا ديانة كردية وُجدت في منطقة الحضارات الشرقية العظمى، إلى جانب الديانات الكردية القديمة، كما يُقال إنّها قد تكون انبثقت من الديانة البابلية أو تحدّرت من ديانات فارسية، لكن ثمّة باحثين إسلاميين يرون أنّها ديانة مشتقة ومنحرفة عن الإسلام.
لا يؤمن الأيزيديون بوجود الشياطين والأرواح الشريرة المؤثرة في تصرفات البشر، إذ إنّ الإنسان بنظرهم مسؤول عما يفعل. وهم موحِّدون، لكن لا يؤمنون بالأنبياء وليس لهم نبي. يعتقدون أنّ لا صلة بين الخالق والمخلوق، والروح بالنسبة إليهم أزلية لا تموت بل تنتقل بمعتقد التناسخ. دينهم معقّد لا يخلو من التناقض. يستثنون عامة الناس عمليًا من المعرفة والشعائر الدينية، ويقيَّدون فقط بالقيام بواجب طاعة عشائر النخب الدينية. في طقوسهم ما هو مقرّب من الأديان، كالصوم والصلاة والحج عند المسلمين رغم الاختلاف في المضمون. قبلتهم هي الشمس، وحجّهم إلى وادي لالش شمال غرب الموصل في العراق. يحجّون إليه مرة واحدة على الأقل في السنة ولمدة سبعة أيام. تعتبر «عين زمزم» من الأماكن المقدّسة لهم، كذلك وادي لالش وفيه أقدم معابدهم.
ثمة محرمات محظورة بشدةٍ على الأيزيدي، كتناول بعض البقول والنباتات واللحوم مثل الفاصوليا والفول والملفوف والخس والقرع ولحم الخنزير والغزال والديك والسمك، بالإضافة إلى تجنّبهم اللون الأزرق. يتشابهون مع الزرادشتية في تقديس الشمس والقمر والنار، ومع اليهودية في الختان وتحريم بعض المأكولات. يكنّون الاحترام للدين المسيحي، حتى إنّهم يقبّلون أيدي القسس. يتوافقون معهم في الإيقاعات الموسيقية في أثناء الصلاة ويتناولون معهم العشاء الرباني، ويعتقدون بأنّ الخمرة هي دم المسيح الحقيقي، وعند شربها لا يسمحون بسقوط قطرة واحدة منها على الأرض أو أن تمسّ لحية شاربها.
يُقال إنّ للأيزيدية كتابين مقدّسين، الأول «مصحف دش» (الكتاب الأسود) المنسوب الى المتصوّف الروحاني الشيخ عدي بن مسافر، والذي، وفق اعتقادهم، تجسّد «طاووس ملك» المقرّب من الخالق على هيئته، مالكًا الكثير من أسرار الكون التي يعرفها. والكتاب الثاني هو «مصحف الجلوة» المنسوب إلى حسن شمس الدين.
يتكلّم الأيزيديون اللغة الكردية باللهجة الكرمانجية، وهي اللغة الرسمية لطقوسهم وشعائرهم الدينية، ويقال إنّ لغتهم الأصلية القديمة قد انمحت جرّاء حملات التكريد والتعريب. لهم تنظيم ديني إداري وراثي قديم، تدعّم بسننٍ وآداب ظهرت مزيجًا من عادات وتقاليد من تعايشوا معهم. ينغلق الأيزيديون على ذاتهم، ويتكتمون عن دينهم إذ يرفضون أن ينضمّ إليه مريدون جدد، فالأيزيدي يكون أيزيديًا بالولادة فقط، وعدم توافر معلومات عنهم مردّه إلى عدم تحدثهم عن معتقداتهم للغرباء، فضلًا عمّا تعرّضوا له من حملات إبادة على مرّ التاريخ. ورغم ذلك، ظلّوا متمسكين بدينهم كونهم يعتقدون أنّه سبيل خلاصهم.
للأيزيدية تعاليم وأدعية وصلوات وشعائر غير مكتوبة، إنّما تُنقل فقط عن طريق التلقين الشفوي، منها وجوب تعميد المولود الأيزيدي في منطقة لالش المقدّسة، وتحديدًا في مياه نبع «عين البيضاء». ومن الشعائر أيضًا دفن الموتى بالكفن تحت التراب على أن يكون المتوفّى مواجهًا للشمس الساطعة. أما القبر فغير ظاهر أو مُبالَغ في بنائه. ختان الابن الذكر واجب مفروض قطعًا، والزوج المثالي هو الرجل ذو الشعر الشائب الأبيض. الزواج من خارج الدين محرّم كما الزواج من زوجة الأخ المتوفى.
صنع الأيزيديون تماثيل على شكل طاووس تشبيهًا لـ«طاووس ملك»، يطوفون به القرى التي انتشروا فيها وامتدت في سبع مناطق بين العراق وسوريا وتركيا وأرمينيا، فكان لكل قرية انتشار تمثال خاص بها، كطاووس سنجار وطاووس حلب وموسكو وإيزي وتبريز... بيد أنّ حملات الإبادة والتهجير والاضطهاد المتكرر الذي لحق بالطائفة، لم يبقِ إلّا طاووسًا واحدًا رمزيًا تمّ حفظه في قرية باغدار (الموصل)، ويطوف به «قوّالون» بين قرى الانتشار الأيزيدي لجمع الصدقات وحثّ الناس على التمسّك بالعقيدة. يرافق «القوّال» في تراتيله الدينية ناقر على الطبل وعازف على الشبابة (آلة شبيهة بالناي). وإذا ما انتهى الطواف في قرية ما، فُصِل التمثال إلى قطع ووضع في «هبَكة» (كيس خاص) لينتقلوا به إلى قرية أخرى.
أتباع ديانة كانوا أم معتقد، هم مضطهدون رغم توحيدهم لخالقٍ واحد أحد، ينهضون بالتقيّة وإن لم يتقوقعوا في ظلّ دين إبراهيمي. هم بشر لديهم طقوس خاصة ولهم حقوق وأعراض، اقتلاعهم من أرض أجدادهم عادة مستمرّة. أوليس في هذا العالم أصحاب معتقدات أخرى، يؤمنون ويتّقون ويستمرون؟