إعرف عدوّك

الإرهاب الصهيوني حولا نموذجًا
إعداد: د. ياسين سويد
لواء ركن متقاعد

من اغتيال الكونت فولك برنادوت في 17 أيلول من العام 1948، مرورًا باغتيال العديد من المناضلين الفلسطينيين في أرجاء متفرّقة من العالم، وكذلك تدمير القرى العربية بعد طرد أصحابها منها، مثل إقرت وكفربرعم المسيحيتين، على الحدود الفلسطينية اللبنانية (5 ت2 و15 ك2 1949)، وصولًا إلى عمليات القتل الجماعي في بيت جالا وقبية وكفرقاسم ودير ياسين وقرى صفصاف وصلحه وعيلبون وكفرعانة، وحولا في الجليل الأعلى، شواهد تنطق بفظاعة الإرهاب الصهيوني. لكن لا أحد يحاسب هذا الشرّير المتمرّد على قوانين الإنسانية كلها، بما فيها قوانين الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن.
 

من البدايات
للجليل الأعلى قصة تعود إلى العام 1861، يوم اقترح الجنرال الفرنسي دي بوفور دوتبول قائد «الحملة الفرنسية على سوريا»، في تقرير له بتاريخ 15 شباط 1861، إنشاء «دولة لبنانية» تكون حدودها الجنوبية «الحدود الحالية لمناطق الحولة وبلاد بشاره». وقد أدخل «الحولة» في «الكيان اللبناني المقترح»، الأمر الذي أثار في ما بعد «المنظّمة الصهيونية العالمية»، فشرعت منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بالسعي إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بل انّها وضعت «لهذا الوطن» حدودًا تضم، في الشمال الجليل الأعلى، بما فيه منطقة «الحولة» بالذات.
في الثالث من شباط 1919 رفعت المنظمة الصهيونية العالمية، بدعم من وزارة الخارجية البريطانية، مذكّرة رسمية إلى المجلس الأعلى لمؤتمر الصلح المنعقد في فرساي بفرنسا، ومن ضمن ما طالبت به هذه المذكرة، إقامة حدود لفلسطين (إسرائيل المستقبل)، «تبدأ في الشمال عند نقطة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في جوار مدينة صيدا، وتتبع مفارق المياه عند تلال سلسلة جبال لبنان حتى تصل إلى جسر القرعون، فتتجه منه إلى البيرة فالخط الفاصل بين وادي القرعون ووادي التيم، ثم تسير جنوبًا على الخط الفارق بين المنحدرات الشرقية والغربية لجبل الشيخ (حرمون) من جوار بيت جن...».
ما إن باشرت بريطانيا بممارسة انتدابها على فلسطين حتى بدأت، بتأثير من الضغط الصهيوني عليها، تخطّط لتنفيذ وعد بلفور الصادر في العام 1917، والقاضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ومارست الصهيونية من جانبها ضغطًا كبيرًا على فرنسا، الدولة المنتدبة على لبنان وسوريا، كي تتمكّن من إقناعها بالتنازل عن الحدود المرسومة حسب اتفاقية سايكس - بيكو(1) لمصلحة فلسطين، وحرّكت الرأي العام اليهودي ضدها. وقفت بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية إلى جانب المطالب الصهيونية، بينما أصرّت فرنسا على موقفها المبدئي وتمسّكها باتفاقية سايكس - بيكو. قام الجنرال البريطاني أللنبي بتعديل الحدود لمصلحة الصهيونية، وذلك بأن أدخل أراضي الحولة ضمن حدود فلسطين عندما دخل بجيوشه سوريا ولبنان، وأبرق إلى حكومته مؤيدًا المطالب الصهيونية. كما سعت شخصيات أميركية صهيونية المسعى نفسه، إلّا أنّ الجنرال غورو، قائد القوات الفرنسية في سوريا ولبنان آنذاك، رفض الإذعان لهذه المطالب رفضًا باتًا.
في كانون الثاني 1920 شُكّلت في فرنسا حكومة اشتراكية جديدة، وقد اعتمدت هذه الحكومة في سياستها حيال الشرق الأوسط خطًا متشددًا، بحيث ازدادت تمسّكًا بالحدود المرسومة وفق اتفاقية سايكس – بيكو، فأوفدت الحركة الصهيونية أحد قادتها (ناحوم سوكولوف) لمقابلة رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك، لكنه لم ينل منه أي تنازلات إقليمية.

 

تخطيط الحدود
في منتصف العام 1920 اتفقت الدولتان الحليفتان، بريطانيا وفرنسا، على تخطيط الحدود بين سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، ورسم الجنرال غورو الحدود الحالية للبنان في آب من العام نفسه، بعد الاتفاق مع الحكومة البريطانية. فجاء هذا الاتفاق ليسلخ عن المنطقة الزرقاء قطاع الجليل الأعلى بكامله ويضمّه إلى المنطقة السمراء، أي إلى فلسطين. وبذلك حقّق الصهيونيون جزءًا من أطماعهم بأرض لبنان، من دون أن يحققوا كل أطماعهم فيها. وقد عبّر الصهاينة عن سخطهم على هذا الاتفاق في المؤتمر الثاني عشر الذي عقدته منظمتهم في العام 1921، حيث أظهروا عدم رضاهم عن حل مسألة الحدود الشمالية مع دولة «لبنان الكبير» المنشأة حديثًا، زاعمين أنّ حل المسألة لم يكن لمصلحة الصهيونية أبدًا، وجاء في القرار الذي اتخذه مؤتمرهم ذلك الحين، ما يأتي:
«... ويجد المؤتمر نفسه ملزمًا بالإعراب عن أسفه على أن مسألة الحدود الشمالية لأرض إسرائيل لم تجد سبيلها إلى حلّ مُرْضٍ حتى الآن، على الرغم من جميع المساعي التي بذلتها اللجنة التنفيذية... ويأمل المؤتمر أن تستجيب الحكومة الفرنسية لمصالح الشعب اليهودي وتفي بها».
لقد كان الحد الشمالي لفلسطين، وفق اتفاقية سايكس - بيكو، يمر بالزيب شمال عكا حتى الطابغة شمال طبريا، وفي تشرين الثاني 1918، رسمت اللجنة الاستشارية الصهيونية لفلسطين الحدود الشمالية للدولة اليهودية فجعلتها تمتد من الليطاني إلى بانياس. جاء هربرت صموئيل أول مفوض سام في فلسطين، وكان أحد زعماء الصهيونية في بريطانيا، فاقترح أن تصل الحدود الشمالية لفلسطين إلى الضفة الشمالية لليطاني. كان موقف بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية مؤيدًا لهذه المطالب الصهيونية، إلّا أن فرنسا وقفت بحزم في وجهها، وكان إعلانها لدولة لبنان الكبير في العام 1920 ضربة قاسية لمطامع الصهيونية في جنوب لبنان ومياه الليطاني، وإن تكن قد تمكنت من اجتزاء الجليل الأعلى بكامله، وهو جزء من بلاد بشارة أو جبل عامل. وعندما وُقّع اتفاق الحدود بين بريطانيا وفرنسا في كانون الأول 1920، ورسم الحد الشمالي لفلسطين الذي يمتد من رأس الناقورة غربًا حتى المالكية فالمطلّة شرقًا، لم يُرضِ ذلك الحركة الصهيونية، وصبّت جام غضبها على فرنسا. كذلك، حين صدر قرار التقسيم في العام 1947، أُدخل الجليل الأعلى ضمن حدود الدولة العربية الفلسطينية التي أقرّها هذا القرار، فشكّل ذلك عازلًا بين إسرائيل ولبنان، إلّا أن إسرائيل لم تلبث أن استولت على الجليل الأعلى دافعة بحدودها نحو الشمال حتى أصبحت ملاصقة لحدود لبنان.

 

التوسع شمالًا
من خلال هذه القراءة التاريخية التي سبقت إنشاء الكيان اللبناني في العام 1920، ثم إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين في العام 1948، يتبيّن لنا، بوضوح حجم الأطماع الصهيونية المزمنة في جنوب لبنان. وهذا ما يجعلنا نقرأ، بوضوح أكثر، الاستراتيجية الصهيونية القائمة على التوسع شمالًا، والمبنيّة على أسلوب عمل أضحى في الفكر الصهيوني، عقيدة راسخة، وهي: الإرهاب بهدف الاحتلال والتوسع. وهذا ما فعله الصهاينة في حربهم في فلسطين (1948)، ثم في جنوب لبنان.
في استعادة سريعة لأحداث الحرب العربية - الفلسطينية الأولى (1948)، نقرأ ما نشرته جريدة «الحياة» الصادرة في تلك الفترة من بلاغات صادرة عن الجيش اللبناني:
1- في العدد الصادر بتاريخ 22 تشرين الأول 1948: تسلّلت قوات صهيونية ليلًا، من مستعمرة المنارة، وشنّت هجومًا على جيش الإنقاذ الذي ردّ المهاجمين، وطاردهم، واستطاع احتلال التلال المحيطة بالمنارة، رغم النجدات التي تلقاها العدو من هذه المستعمرة، وقد كان لتدخل الجيش اللبناني دور كبير في ردّ هجوم العدو.
2- في العدد الصادر بتاريخ 23 من الشهر نفسه: قوات صهيونية معززة بالمصفحات انطلقت من مستعمرة «المنارة» (بتاريخ 22 منه)، مستهدفة بلدة حولا، فصدّتهم قوات جيش الإنقاذ، وساندتها قوات الجيش اللبناني بمدفعيتها، واستمر القتال حتى غروب الشمس.
3- في اليوم التالي نشرت «الحياة» بلاغًا جاء فيه: إنّ الصهاينة هاجموا بليدا طوال يوم 23 تشرين الثاني إلّا أن الجيش اللبناني وجيش الإنقاذ تمكّنا من صدّ هجوم جيش العدو الذي انسحب تاركًا خلفه نحو 160 قتيلًا، مع كميات من الأسلحة والعتاد الحربي.
4- في 30 تشرين الثاني، نشرت جريدة «الحياة» خبرًا مفاده أن العدو يُعِدّ، بعد هجومه على بليدا، لهجوم واسع على الجليل.
وجاء في بلاغ صادر عن الجيش العربي السوري نشرته جريدة «الحياة» بتاريخ 2 تشرين الثاني، أنّ «قوات العدو أكرهت مراقبي الأمم المتحدة على الجلاء عن مراكزهم في ساحة القتال».

 

فظائع
كذلك، جاء في رسالة من مكتب «الحياة»، من ساحة القتال في جنوب لبنان، نشرتها الجريدة في الأول من تشرين الثاني، أنّ العدو الصهيوني «ارتكب الفظائع في القرى، تاركًا بعض السكان يفرّون إلى قرى أخرى، وقد دمّر العدو أكبر عدد ممكن من منازل تلك القرى» وذلك، تنفيذًا لخطة مرسومة، في قرى الجليل الأعلى، غايتها إجلاء السكان من الجليل بالقوة، وإحلال المهاجرين اليهود محلهم». وتعدد «الحياة» الفظائع التي جرت في بعض تلك القرى:
- في قرية صفصاف: جمع اليهود الرجال وقتلوهم جميعًا، بمن فيهم الشيوخ والغلمان، وكانوا نحو 60 رجلًا قتلهم العدو، وظل نحو 40 إلى 50 رجلًا مفقودين. أما النساء والأطفال فمصيرهم مجهول...
- في قرية صلحة: قتل العدو 40 رجلًا، وسبى الفتيات.
- في قرية عيلبون: قتل العدو 20 رجلًا.
وجاء في جريدة «الحياة» بتاريخ 4 تشرين الثاني:
- في قرية كفرعانه: قتل الصهاينة يوم السبت في 30 تشرين الأول، 7 شباب من القرية وأحرقوا جثثهم أمام الأهالي، ثم أخذوا 38 شابًا إلى مكان مجهول حيث أعدموهم، ثمّ أشعلوا النار بالقرية، وطردوا الشيوخ والنساء والأطفال قائلين لهم: «اذهبوا إلى لبنان فهو يطعمكم»، وأطلقوا النار عليهم من الخلف فقتلوا عددًا منهم.

 

حولا:

الإصبع الذي حاول العدو قطعه
تقع حولا في «إصبع الجليل»، هذا الإصبع الذي حاول العدو الصهيوني أن يقطعه من جسم لبنان ليضمّه إليه بعد أن يطرد أهله ويستبدل بهم يهودًا قادمين من أقاصي الأرض، ولكن حولا كانت عصيّة عليه.
إنّ تاريخ حولا زاخر بالمناضلين في سبيل القضايا الوطنية والقومية، وقد كانت مركزًا لجيش الإنقاذ الفلسطيني بقيادة المجاهد فوزي القاوقجي، وانخرط العديد من شبابها في هذا الجيش خلال الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، وخاضوا معارك عديدة. أما بالنسبة إلى العدو الصهيوني فقد كانت حولا هدفًا لم يحِد عنه طوال هذه الحرب.
ففي أيار (1948)، دخل الصهيانة حولا وقتلوا كلًا من الشيخ عبد الخالق مزرعاني، وعبد شبيب شريم، ومحمد ياسين، مما دفع قيادة «جيش الإنقاذ» إلى التمركز في البلدة (في تلة الشيخ عباد)، وقد رحّب أهل البلدة بالمجاهدين العرب ومدّوا لهم يد العون والمساعدة، إلّا أنّ هؤلاء انسحبوا من البلدة، بعد قتال عنيف مع الصهاينة في 27 تشرين الأول.
في 31 تشرين الأول، استغلّ الصهاينة الفرصة فدخلوا البلدة بلباس «جيش الإنقاذ» (الكوفية والعقال) وكانوا جميعهم من عصابتي «الشتيرن» و«الهاغانا». رحّب أهل حولا بالقادمين باعتبارهم قوة عربية أتت لتحلّ محل القوة المنسحبة، ألقى الصهاينة القبض على 85 شابًا وكهلًا، وعدد آخر من النساء والأطفال، وقسموا الرجال إلى ثلاث مجموعات وزّعوها على ثلاثة منازل وعمدوا إلى إعدام المعتقلين بعد أن أكرهوهم على رفع أيديهم على الجدران، ثمّ نسفوا المنازل الثلاثة بمن فيها. وكاد النساء والأطفال يلاقون المصير نفسه الذي لقيه الرجال لولا تدخل مراقبي الأمم المتحدة.
بعد هذه المجزرة، أقدم الصهاينة على نهب الممتلكات والمواشي وتدمير المنازل وإحراقها، وأما من بقيوا من أهل البلدة أحياء، فقد فرّوا إلى الغابات والأحراج والقرى المجاورة.
ذاق أهل حولا مرارة التهجير، بعد ذلك طوال خمسة أشهر، إذ أُودِعوا في «مخيم ضبيه»، وظلوا على هذه الحال حتى انسحاب الصهاينة من البلدة (في 23 آذار 1949) عقب توقيع اتفاقية الهدنة اللبنانية - الإسرائيلية، فعادوا إلى بلدتهم التي وجدوها «قاعًا صفصفًا»(2).
يقول بن غوريون في «يومياته» عن هذه الحرب:
«يعتقد موشيه كرمل (أحد قادة العدو في الجبهة الشمالية)، أنه كان في «جيب» الجليل نحو 60 ألف عربي، من السكان المحليين واللاجئين، هرب نصفهم، وسيهرب المزيد منهم. باتت الحبش وصفصاف وسعسع، وجزء كبير من ترشيحا، خالية تمامًا. هرب القرويون كلهم من القرى التي حاربناها، لكن سيهرب الكثير أيضًا» (بن غوريون، دافيد، يوميات الحرب، 1947- 1949، ص 604). ويقول بن غوريون، في مكان آخر من يومياته: «العرب أنفسهم مسؤولون عن هروبهم. لا ينبغي إعادتهم، لأنهم سيشكّلون طابورًا خامسًا، وسيحملون في أحشائهم الضغينة، اقتصادهم دمّر، وإعادة تأهيلهم ستتطلب مبالغ طائلة تفوق طاقة الدولة (العبرية)، لتتولّ حكومات السعودية والعراق وشرق الأردن ( القليلة السكان) توطين العرب الذين هربوا، وتوطين المسيحيين في لبنان. يستطيع كل بلد من هذه البلاد أن يستوعب اللاجئين جميعهم... في رأيهم أن هناك 235 نقطة ينبغي توطين اليهود فيها» (ص 595-596).
إنّ المشروع الصهيوني، لم يكتمل بعد، وما رسمته المنظمة الصهيونية من حدود لدولتها ما زال قيد البحث، فإسرائيل هي الدولة الوحيدة، في العالم، التي لم تثبَّت حدودها، بعد، في نص رسمي، وأطماعها لم تنتهِ، وهذا ما يجب أن يشغلنا، نحن العرب واللبنانيين، ويثير اهتمامنا.

 

هوامش:
1- يباح لفرنسا، في المنطقة الزرقاء (شقة سوريا الساحلية)، وإنكلترا في المنطقة الحمراء (شقة العراق الساحلية من بغداد حتى خليج فارس) إنشاء ما ترغبان فيه من شكل الحكم، مباشرة أو بالواسطة، أو من المراقبة، بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية (المادة الثانية من اتفاقة سايكس – بيكو في العام 1916).
2- معلومات مستقاة من كتيب أصدرته «رابطة إنماء حولا» عن المجزرة، العام 1988، بعنوان «حولا الشهيدة».