قضايا اجتماعية

الإرهاق مشكلة العصر
إعداد: ناديا متى فخري

الإرهاق.. حالة يتعرض لها كل إنسان وترافقه في تفاعلاته مع ظروف حياته, وهي كالقلق, أصبحت من سمات هذا العصر ومن مرادفات إسمه ونعوته.. “نحن في عصر القلق, والإرهاق مصدر فشلنا”.. هذه الكلمات تردُ على ألسنة الناس ونسمعها مكررة في كل يوم.. وعلم النفس الحديث, يُعنى بهذه الظاهرة وبطرق علاجها وبوسائل التخفيف من إمكانية حدوثها في حياة الفرد والمجتمع. وحتى وقت قريب إكتفى الطب النفسي باعتبار “الإرهاق”, مصدراً أو سبباً للإضطرابات النفسية, إلا أن الكثيرين من أهل الإختصاص في السنوات الأخيرة, بدأوا ينظرون الى “الإرهاق”, كحالة مرضية محددة تختلف في أسبابها وفي مظاهرها عن الحالات المرضية النفسية الأخرى.

 

نظريات متناقضة

إن الحيـاة الإنسانية تعتمد في ما تعتمـد عليـه من الأسـس الهامـة للبقاء, على الإحتفـاظ بحالة من التوازن ومـن التوافـق بين المحيط الداخلـي للفرد والمحيط الخارجي الذي يعيشـه. ولا شك أن لكل إنسان مقدرة محدودة ومجالاً محدوداً لهذا التوافق, فبعض الناس يستطيعون التعامل والتوافق مع محيطهم الخارجي في حدود واسعة من حيث تحمل الضغط والتكيّف مع المستجدات, وبعضهم لا يحتملون أي تبديـل أو تجربة طارئـة تطالبهـم بصرف طاقة تفوق طاقتهـم على التحمّل؛ وقد كـان العالم الفيزيولوجي كانون (Cannon), أول من فسّر حالة الإرهاق, على أساس فيزيولوجي, واستعمل مصطلح الإرهاق أو الشـدة (Stress) للدلالة على الأحوال الداخليـة أو الخارجية التي تؤثـر في عملية تنظـيم الإستقرار أو الإتزان الداخلي. هذا, وقد أعطـى كانون أهمية للعامل النفسي والدور الذي يلعبـه في تنظيم الإستقـرار, مؤكـداً أن له نفـس ردود فعـل المواقـف التي يتعـرض لها الإنسان في حيـاتـه اليومية, ولها أن تؤدي إما الى إيـذاء وتهديد كفـاءة الفرد في تعامله مع واقعه الآني, أو العكس تماماً.
وفي المقابـل, جاء العالـم هانس سيلي (Hans Selye) بأهم النظريـات التي يرتكز عليها موضوع الإرهاق وأثره على الفرد المتعرّض له, فقد لاحظ سيلي بأن الناس يستجيبون لمجموعة من العوامل التي تعرّضهم للإرهاق, منها ما هو صحي, أو نفسي أو ظرفي, ومع أن لكل من هذه العوامل أعراضها المميزة والخاصة, إلا أنها تعكس النتيجة ذاتها في مقدرة الفرد على تكيّفه مع واقعه. الى ذلك, يرى سيلي أن مقاومة الفرد تتوقف على مدى مقدرته على التحمل والتكيف مع مصدر الشدة الواقعة عليه, وهذا يفسّر لماذا يجهد فرد ما عند التعرض لعامل من عوامل الإرهاق, دون غيره, حتى ولو كانت العوامل التي تعرّض لها الآخر أكثر شدة.
إن حالة الإرهاق, تفترض وجود درجة من التحمل والتكيّف, فإذا كان مصدر الشدة لا يتطلب من التحمّل أكثر مما للفرد من إمكانيات, فإن انفعاله بسببه لا يسبب له إرهاقاً, أما إذا تجاوز العامل من حيث شدّته الدرجة المعينة لتحمل الفرد, فإن الإنفعال بسببه يستنفذ طاقة التحمّل لديه, وهنا لا بد أن يضطرب الفرد ويسقـط في هاوية الإرهاق المحبطة.. وبالنظر لأن الناس يختلفون الواحد عن الآخر في درجات تحملهم, وفي مقومات شخصياتهم, فإن ردود فعل الإرهاق عندهم تأتي من حيث شدّتها ونوعيتها متوافقة مع هذه الفروق.
هناك من يعتقد بأن بعض الناس لديهم من المناعة والقوة النفسية والمقدرة العقلية ما يمكنهم من الصمود أمام أي ظرف طارئ, غير أن هذا ليس صحيحاً, فمع أن هنالك من الناس من يستطيع تحمّل ما يعجز عنه معظم الناس, إلا أن الضغط المتواصل على طاقة التحمّل عند الفرد, لا بدّ لها أن تحدث من الإرهاق ما يجعل الفرد في حالة انهيار تام عاجلاً أم آجلاً.

 

العوامل المسببة للإرهاق

إن العوامل التي يمكن أن تسبب حالة الإرهـاق لا حصـر لها, وقـد تقع في مجال أي تجربة جسمية أو نفسية أو عقليـة أو ظرفيـة, ولمصادر الإرهاق أن تحدث أثراً آنياً, كما لها أن تحـدث أثرها إن تجمّعت تدريجياً ووصلت الى الحـد الذي لا يستطـيع الفرد التكـيف معه أو تحمله... ومن جانب آخر, لا يقتضي لتـجربة مسبـبة للإرهاق أن تكون في غير صالـح الفرد دائماً, فبعض التجارب التي قد تؤدي الى الإرهاق قد يكون سببها إيجابياً أحياناً كالنجاح في مجال أو آخر, أو السلام من حادث خطير, وغير ذلك من التجارب السارّة بحد ذاتها, وهكذا فإن أسباب الإرهاق لا يمكن أن تعرف أو تحدد فقط بمفهومها وطبيعتها الموضوعية, وإنما أيضاً بدلالاتها الذاتية بالنسبة للفرد الذي يتعرّض لها وتترك فيه أثراً لا تتركه في غيره... وعلى ذلك فإن من المتعذّر على الباحث أن يعطي سلّماً تدريجياً لأنواع مصادر الإرهاق يمكن الإعتماد عليه لتقرير درجة الإرهاق عند جميع الناس من دون تفرقة: وفي هذا يتضح لنا أن تقدير الأسباب يعتمد بدرجة أساسية على شخصية الفرد وعلى حصيلته النفسية والفيزيولوجية وتجاربه الحياتية, كما يعتمد على توقعاته للمواقف ونتائجها وعلى مدى مقدرته على التكيّف معها والسيطرة عليها, واكثر الناس تعرّضاً للإرهاق أكثرهم تأثراً وحساسية.
البعض يتعرّض للإرهاق في مجال التجارب العائلية, والبعض في مجال العمل, وآخرون يجدونه في مجال الدراسة, أو عند التعرّض الى حوادث مرعبة تهدد اطمئنانهم. وكثيراً ما يكون الإرهاق نتيجة التعرض للأصوات المرتفعة (الضجيج), أو الأرق المتواصل.. أو تحمّل مسؤولية تتطلب طاقة مضاعفة من الفرد... أو من صراعات نفسية خفية ومكبوتة في نفسه, وهنا تكون الأعراض الناجمة عن الإرهاق أشد خطورة, لأنها قد تظهر بشكل أو بآخر بصورة من الصور المرضية النفسية أو السلوكية غير المقبولة اجتماعياً وإنسانياً ودينياً, كالرغبة في الإنتحار, أو التعدي, أو إدمان الكحول والمخدرات, أو المقامرة, وغير ذلك من مظاهر إنسانية سلوكية مرفوضة, ويؤدي استغلالها غير الواعي الى التغرّب عن الواقع, والإتجاه نحو حياة هامشية.. وهذا يحتم معالجة حالات الإرهاق في أدوارها الأولى وبشكل فعّال, ليس لتخفيف معاناة الفرد من الإرهاق النفسي والجسدي وحسب, وإنما أيضاً تلافياً لوقوعه في حالات سلوكية معقدة وخطيرة..
في ضوء هذه الاعتبارات وتلافياً لانشقاق الحياة الإنسانية ­ الإجتماعية, لا بدّ من توفّر علاج لحالات الإرهاق الحادة التي تهدد الإنسان في إنسانيته والمجتمع في استمراريته, على أن يكون العلاج قائماً على مساعدة كل إنسان ليتمكن من التكيّف تكيفاً ناجحاً مع كل حالة يعيشها وكل ظرف يتحدى إمكانياته؛ من أجل الفوز بحياة إنسانية أفضل ومجتمع أفضل.