تسلح وتكنولوجيا

الإستطلاع الراداري والإبصاري نحو الأرض
إعداد: الرائد الطيار عماد الحاج شحادة

عيون تجسسية وآذان استخبارية في الفضاء

في شهر آب من العام 1960, أدى قمر “التجسس” الصناعي الفضائي الأميركي “كي اتش -­ 1 كورونا” أولى مهامه الإستطلاعية فوق أراضي الإتحاد السوفياتي. التقط القمر صوراً فوتوغرافية ذات تحليل عال وأعاد إرسالها نحو الأرض بواسطة مركبة إسترداد خاصة تم التقاطها جواً من إرتفاع حوالى 15000 قدم.
اعتمدت الولايات المتحدة هذه الطريقة لمدة اثنتي عشر عاماً على التوالي, واستعملت لهذه الغاية أقماراً صناعية متطورة من هذا الطراز حملت تسميات “كي اتش-­ 1 كورونا” الى “كي اتش-­ 9 كورونا”.
أنشئ مكتب الإستطلاع الأميركي NRO ) ) في العام 1960 بهدف تصميم وبناء وتشغيل جميع أقمار الإستطلاع الفضائي الأميركية. وقد أحيط إنشاؤه في حينه بالكتمان الشديد ولم يعلن عنه رسمياً حتى العام 1992. ويخضع هذا المكتب اليوم لإشراف سلاح الجو الأميركي المباشر.

 

النماذج المعتمدة

تعمل الأقمار الصناعية المعدة للتصوير الفوتوغرافي نحو الأرض, والتي تعرف أيضاً بـ”النظم الفوقية” في مدارات فضائية منخفضة, كي تبقى على أقرب مسافة ممكنة من البقع والمساحات الأرضية المنوي إستطلاعها.
تقوم المنظومة الأميركية المعتمدة على الإستمرار بمراقبة أهداف ثابتة لأيام وشهور متواصلة, حتى يتم رصد أي تبديل في نشاطاتها أو في جهوزيتها العسكرية.
تقدم الإستطلاع الفضائي بإتجاه الأرض كثيراً منذ إطلاق القمر الصناعي الأول “كي اتش-­ 1 كورونا” في العام 1960. وبدءاً من العام 1967, أصبحت الأقمار الصناعية تعتمد, مع إطلاق الأنموذج “كي اتش-­ 11 كورونا”, وسائل متطورة ووسائل إبصارية ­ كهربائية تمكنها من بث صور تلفزيونية فورية ومباشرة عبر أقمار ترحيل الى محطات أرضية, إلا أن عيبها الأول تمثل في عدم قدرتها على الإبصار عبر الغيوم والضباب. وسرعان ما تم التغلب على هذه المسألة عبر تطوير رادار فضائي يعمل بتقنية النبض الراداري في كافة المناخات الطقسية, وقادر على الإبصار عبر الغيوم والضباب والسديم وعلى سبر أغوار الظلام والتقاط الصور للبقع الأرضية المستهدفة. في مستهل العام 1982, وإثر تجربة إختبار ناجح لانموذج القمر الصناعي الراداري “انديفو”, بوشر في العام 1983 بتطوير قمر التصوير الراداري لاكروس/فيفا, وجرى في العام 1988 إطلاق المركبة الفضائية لوكهيد مارتن (دنفر) للمرة الأولى نحو الفضاء بواسطة المكوك الفضائي أتلانتس, كما أطلق مكتب الإستطلاع الفضائي الأميركي NRO ) ) عدة مركبات منها في مدارات فضائية حول الأرض, مستعملاً صواريخ معززة. وفي آب من العام 2000 تم إطلاق آخر طراز من القمر الصناعي الأميركي “لاكروس أونيكس” بنجاح الى مداره حول الأرض.
يحتوي أنموذج “لاكروس” على هوائي رادار طبقي كبير, وعلى نسق من الألواح الشمسية الطويلـة جداً لتأمين الطاقة الكهربائية الكافية للمرسـل الراداري ولإنتاج صور إبصارية ­ كهربائية عالية التحليل.
من ناحية أخرى وبموازاة إطلاق أقمار التصوير الصناعيـة, جرى إطـلاق أقمـار صناعية أخرى تتمـتع بميزة التقـاط الإشارات الإستخبارية وإعتراض سـبل الرسائل وإختلاس السمـع بالوسائـل الإلكترونية. أولى هذه الأقمار سمي "GRAB", وقد اتخذ شكل كرة القدم الأميركيـة, وهو أطـلق في الواقـع قبل إطلاق القمر الصناعي الفوتوغرافي الأول “كي إتش ­ 1 كورونا”, والتقط إشارات بثـتها مئات الرادارات السوفياتية وأعــاد إرسالهـا الى محطـات أرضـية أميركيـة ليتـم تسجيلها على أشرطة ممغنـطة ويعاد تحليلها من قبل وكالة الأمن القومي NSA ) ).
إن هوائـيات وأجهزة التقاط الإشارات الإستخبارية SIGINT ) ) بإمكانها إعتراض الإشارات الرادوية والرادارية, والهواتف الخليوية, والإشارات البعدية لإختبار الصواريخ التي تبثها القوات العسكرية على الأرض, وبإمكانها رصد تحديد هوية وموقع أجهزة الإرسال العدوة أو التقاط إشارات تحركات المركبات الأرضية أو أية نشاطات معادية. فعنـدما استبدل الإتحاد السوفـياتي خطـوط الإتصـالات المدفونـة تحــت التربة بأبـراج معيدة للموجات البالغة الصغر Tower) Micro Wave repeater ) للمكالمات الهاتفية وإرسال المعلومات الى مسافات طويلــة, اكتشــف مكتــب الإستطـلاع القومي NRO ) ) ووكالــة الأمن القومي NSA ) ) الأميركيان, إن المكان الأمثل لوضع قمر صناعي للإشـارات الإستخباريـة SIGINT ) ) يكــون في مدار متزامن مع دوران الأرض GEO - synchronous ) ) (على إرتفاع 22300 ميل ويدور تمامــاً على ذات سرعة الأرض), والسبب وراء هذا أن بث الموجات البالغة الصـغر يمـكن التقاطـه في الفضاء السحيــق كإشـارات شديــدة الوضوح, في حين أن الأقمار الصناعية التي تطـوف في مـدارات أرضية منخفـضة تضطر الى التحرك بسرعـات عالية ضمـن أحزمـة إشعاعات الموجات البالغة الصغر.

 

الجيل الأول

أطلق الجيل الأول من أقمار الإشارات الإستخبارية SIGINT)) الجديدة التي تدعى “ريوليت” Rhyolite)) في العام 1970. وضعت هذه الأقمار في مدار متزامن أرضياً GEO - synchronous)) فوق خط الإستواء قرب أندونيسيا, وكان هذا موقعاً جيداً لإلتقاط الإشارات الصادرة عن الإتحاد السوفياتي والصين. أعاد القمر بث هذه الإشارات كما هي بدون تشفير الى محطة “باين غاب” Pine GAP)) الأرضية في “أليس سبرنغز” Alice Springs)) في أوستراليا ليصار الى فك رموزها وترحيلها بواسطة الأقمار الصناعية أو نقلها جواً الى وكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة. ألحقت أقمار “ريوليت” Rhyolite)) بأقمار مشابهة أخرى من طراز “جمب سيت”  Jump seat)) التي أطلقت في مدارات أهليليجية في الفترة الزمنية ما بين 1971 و1985 لتغطية أقصى المناطق الشمالية للإتحاد السوفياتي. أضيف عبر السنوات محطات أرضية أخرى في ألمانيا, إنكلترا واليابان وأطلقت أقمار صناعية للإشارات الإستخبارية  SIGINT)) أكبر وأكثر قدرة مستهدفة مختلفة أنواع البث والإرسال, وحملت أسماء مثل “شاليه/ فورتكس” Chalet/ Vortex)) , “ماغنوم/ اوريون” Magnum/ Orion)) , “ميركوري” (فورتكس متقدم) و”انترودر”  Mercury) (Advanced Vortex ) and (Intruder) ).
القمر الصناعي للإشارات الإستخبارية ترامبت, والذي بلغت كلفته مليار دولار أميركي والمزود بهوائي بطول 100 متر, تم إطلاقه في الأعوام 1994 و1995 و1997, وأطلق القمر “ترامبت منتور” Trumpet Mentor)) (أوريون متقدم) في العام 1998.
أما القمر الصناعي الإستطلاعي المحسن “كي أتش ­ 11 كورونا” (البعض يطلق عليه اسم كي اتش-­ 12) الإبصاري ­ الكهربائي, فأطلق للمرة الأولى في مدار منخفض نحو الأرض في تشرين الثاني من العام 1992, وتبعه إطلاق قمرين مماثلين على الأقل في كانون الأول 1995 وكانون الأول 1996. يتخذ هذا القمر شكل الرصاصة, وهو مزود بمحرك صاروخي كبير عند طرفه للمناورة وبنسق من لوحات شمسية تتراصف عمودياً مع جسم المركبة الفضائية الرئيسي. يزن 18 طناً, من ضمنها 7-­ 8 أطنان من الوقود, ويحمل مرآة دوارة على طرفه الأقصى تعكس الصور نحو مرآة تلسكوبية إبصارية أولية بقطر 150 بوصة. باستطاعة هذا القمر ومجساته, التي تعمل بالأشعة ما دون الحمراء, إنتاج صورة رقمية حادة مع قدرة تحليلية تصل الى 1.0 متر لأهداف أرضية على بعد مئات الأميال. كما يحمل الطراز “كي أتش-­ 11 كورونا” لاقطات للإشارات الإستخبارية.
إن موجودات الولايات المتحدة الأميركية من أقمار الإستطلاع الفضائي تقدر اليوم بثلاث أقمار “كي اتش-­ 11” (12) كورونا وقمرين من طراز “لاكروس” وخمسة أقمار للإشارات الإستخبارية. أما بالنسبة لخططها المستقبلية حول أقمار الإستطلاع الفضائي للجيل الثاني, فهي تتضمن أقماراً إبصارية ­ كهربائية وأقماراً رادارية يتوقع أن تحرز تقدماً هائلاً في مجالات الإستخبار التصويري لإستخدامها أساساً من قبل الطائرات التكتية. وتتولى شركات متخصصة كبرى مثل شركة “بوينغ” لنظم الأقمار الصناعية و”سيل بيتش” تطوير مثل هذه الأقمار بالإشتراك مع شركات أخرى من بينها “هيوز الكترونيكس كوربورايشن”, “رايتون”, “ايستمان كوداك” و”هاريس كوربوراشن”. وينوي سلاح الجو الأميركي إطلاق مشروع تطوير لنظام راداري فضائي خلال السنة المالية 2003, فقد خصص له مبلغ 91 مليون دولار أميركي (كنفقات أبحاث وتطوير). يهدف هذا النظام الى توفير قدرات رصد للأهداف الأرضية المتحركة وتقص راداري من الفضاء الخارجي, مماثلة لتلك القدرات التي تؤمنها اليوم النظم الرادارية للإستطلاع والهجوم الجوي المركبة مع طائرات “الأواكس”. إن المجسات الرادارية التي سيتم تركيزها في الفضاء بإمكانها البقاء وقتاً كافياً فوق مناطق الهدف كي تتعقب الأهداف المتحركة على مدار الساعة.
إن طائرات الإستطلاع الجوي التي يقودها طيارون (مثل الطائرة E-8) مكلفة بشرياً, وتعمل بشكل متقطع لدواعي الصيانة والخدمات. ويرى القادة في سلاح الجو الأميركي أنه عندما يتم توظيف المبالغ الأساسية لتنفيذ أعمال تطوير ونشر هذه الأقمار, فإن قدرات الإستطلاع الفضائي تصبح أشد فعالية وأقل كلفة من الإستطلاع الجوي.

 

إمكانات إستراتيجية

إن الإستطلاع الفضائي بواسطة الأقمار الصناعية, أصبح يمثل اليوم إمكانات إستراتيجية هامة بالنسبة للعديد من الدول المتقدمة الأخرى مثل إسرائيل, وفرنسا وألمانيا, نوجز عنها كما يلي:
 

- أقمار التجسس الإسرائيلية:
أطلقت إسرائيل قمراً إستطلاعياً فضائياً جديداً في 28 أيار 2002, يعرف باسم “أوفيل- ­5”, سلفه القمر “أوفيل-­ 3”, إحترق العام الماضي لدى دخوله الغلاف الجوي للأرض بعد أن استنفذ حياته.
صمم “أوفيل-­ 5” ليعمل على مدار أرضي منخفض وعلى إرتفاعات تتراوح بين 370 و600 كلم.
يتميز هذا القمر بكونه صغير الحجم ومنخفض الوزن مع كونه يحمل مجسات ذات تحليل عال. يبلغ وزنه عند الإنطلاق حوالى 300 كلغ. ارتفاعه 2.3 متر وقطره 1.2 متر. إن وزنـه المنخفـض يتيح له فرصة البقاء فوق الهدف والتقاط صور سريعة. وقد حددت حياته بحوالى أربع سنوات.
أطلقـت إسرائيل أول قمر تجسس “فضائي” “أوفيل-­ 1” في العام 1988.
 

- أقمار الإستطلاع الأوروبية:
فرنسا هي في مرحلة تطوير قمرها الصناعي “هيليوس- 2” لرفع مستوى قدراتها الإستطلاعية الفضائية. يشارك في هذا البرنامج كل من بلجيكا وإسبانيا ومن المتوقع أن تنضم إليهما لاحقاً إيطاليا. ستتولى المحطات الأرضية التابعة لهذه الدول إستقبال الصور الإبصارية التي يلتقطها هذا القمر. ويتوقع أن يتم إطلاق القمر “هليوس 2” Helios II)) في العام 2004 وفي العام 2008.
أطلقت فرنسا قمريها الأولين “هليوس 1 أ” وهليوس 1 ب” في 1995 و1999, على التوالي. لكل قمر دورة حياتية من أربع سنوات وقد ساهمت كل من إيطاليا وإسبانيا في مشاريع الصنع.
إن شركة “استريوم” الفضائية الأوروبية هي المتعاقد الأساسي لبناء الأقمار الفضائية “هليوس 1” و”هليوس 2” وتتولى شركة “الكاتل” الفضائية تأمين الأجهزة والمجسات البصرية. لقد ساهم القمر الصناعي الفضائي “هليوس 1” بتعيين الأهداف للضربات الجوية الأميركية فوق أفغانستان أثناء حملة “الحرية المستمرة”, وبالرغم من أن تحليل “الهليوس 1” للصور الملتقطة لم يكن بمستوى جودة الصور الملتقطة من الأقمار الصناعية الإستطلاعية الأميركية, إلا أنها كانت كافية لتحديد أهداف رئيسية والمطارات.
أما ألمانيا فتتهيأ لإمتلاك أول قمر إستطلاعي لها “سار ­ لوب”. سيحمل هذا القمر راداراً صناعياً صنع الكاتل قادراً على تأمـين صور ذات تحليل عال ليلاً ونهاراً وفي مختـلف الأحوال الجوية, وسيتم إطلاق مجمـوعة من خمسة أقمار ما بين أعوام 2004 و2007. إن هذا القـمر الصغيـر نسبياً الذي ستبنيه شركة “أوربيتال هاي تكنولوجي بريمن”, سيزن حوالى 770 كيلو غرام ويبلغ مقاسه ما بين المتـرين و4 أمتار. سيعمل على إرتفاع حوالى 500 كلم ودورة حياته 10 سنوات.
وتـنوي كل من فرنسا وألمانيا توقيع مذكرة تفاهم لتبادل الصور الملتقطة من “هليوس 2” و”سار ­ لوب” تتـيح للـبلدين معاً في المستقـبل بلوغ مرحلـة الإستطلاع الرداري والإبصاري في المستقبل.