دراسات وابحاث

الإستقلال في العالم المعاصر
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

المفهوم الشمولي يأخذ بالإنحسار أمام تمدد العولمة

يبدو أن مفهوم الاستقلال في عالمنا المعاصر أصبح نسبيًا، إلى حد بعيد؛ فعلى وقع المتغيرات المتنوعة التي يشهدها عالم اليوم، بات من الصعوبة بمكان أن تتحصّن دولة ما - مهما كبرت أو صغرت - خلف أسوار حدودها الجغرافية أو السياسية أو الإيديولوجية أو الثقافية أو الإقتصادية، فالاستقلال بمفهومه الشمولي يأخذ بالإنحسار أمام تمدد العولمة بقواها العابرة الحدود والقارات، وبدون جيوش.


مفهوم الإستقلال السياسي
يمكن النظر إلى الإستقلال بمعناه السياسي على أنه:
1- تحرر البلاد المستعمَرة من نير الاستعمار، كأن يقال: «هذه البلاد كانت مستعمرة للإمبراطورية البريطانية ثم تحررت منها ونالت استقلالها».
2 - عدم خضوع البلاد لأي استعمار، كأن يقال: «إن هذه البلاد لم تخضع في يومٍ ما لسلطة الاستعمار، فهي مستقلة منذ القِدَم وحتى الآن».
ويبدو أن مفهوم كلمة استقلال لم يدخل عالم مجتمعنا إلاّ بعد سقوط الدولة العثمانية وخضوع معظم البلدان العربية للإنتداب ومن ثم عمل الشعوب للتحرر من سلطة هذا الإنتداب والتخلص منه.
لقد أدى الواقع السياسي ونشوء حركات التحرر، إلى إحداث هزّات عنيفة في بنية المجتمعات العربية، كما وسّع آفاق العقل العربي وعمّق إدراك العرب حقيقة الصراعات العسكرية والسياسية في بلادهم.
والمعنى اللغوي الجديد لكلمة استقلال، قد أخذ من المصطلح العلمي السياسي بعد أن شاع وذاع في الأوساط الاجتماعية العربية الثقافية وغير الثقافية، نتيجة التلاقح الفكري والترجمات والتلاقي بين ابناء هذه المنطقة والغرب.
ورد في بعض المراجع أن الاستقلال السياسي (Polititical Independence) ينطوي على تمتّع الدولة بالسيادة، أي بما لها من سلطان تواجه به الأفراد داخل إقليمها وتواجه به الدول الأخرى في الخارج.
ويعني «الاستقلال» حرّية الشخص الطبيعية، أي عدم تدخّل الغير في شؤونه الخاصّة أو إشرافه أو نفوذه المباشر أو غير المباشر.
كما ورد في أحد المعاجم للمصطلحات القانونية أن الاستقلال هو لفظة مؤلفة من البادئة السلبية «in» ومن «dependence» بما يعني غياب التبعية».
فعندما يتعلّق الأمر بدولةٍ ما تستعمل الكلمة كمرادف للسيادة، وحق الدولة في أن تمارس بنفسها مجموع صلاحياتها الداخلية والخارجية بدون تبعية لدولة أخرى أو لسلطة دُولية، مع وجوب مراعاتها القانون الدولي واحترام التزاماته وتضمينها في قوانينها الداخلية.

 

من الإستعمار إلى الإستقلال
لا بدّ من إيضاح مفهوم الاستعمار كواقع أدت مقاومته الى ولادة مفهوم الاستقلال لدى بعض دول العالم وشعوبه.
ويقسم الاستعمار تاريخيًا إلى قسمين:


• الاستعمار القديم:
وهو التسلّط المباشر، ويتحقق عن طريق الغزو العسكري واستخدام «القوة الصلبة» (hard power), وقد عَرَفَهُ العالم القديم متمثِّلًا في نزعات التوسّع لدى الإمبراطوريات الكبرى أمثال البابلية والآشورية والفارسية والرومانية والعربية، كما عَرَفَهُ العالم الحديث عندما استعمرت إسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا وهولندا بلدانًا متعدّدة بدوافع اقتصادية وأخرى دينية.


• الاستعمار الجديد:
وهو التسلّط غير المباشر، وأحد أشكال السيطرة الاستعمارية التي لا تعتمد على التحكّم السياسي المباشر أو الوجود العسكري الواضح، ولكنه يقوم على السيطرة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واستخدام مفهوم «القوة اللينة» (soft power).
وقد ورد في أحد المعاجم أن الاستعمار الحديث هو فرض السيطرة الأجنبية من سياسية واقتصادية وثقافية على دولةٍ ما، مع الاعتراف باستقلالها وسيادتها، أي من دون اعتماد أساليب الاستعمار التقليدية، وأهمها الاحتلال العسكري، ويعتبر نظام المحميات والدول تحت الوصاية من أشكال الاستعمار الحديث.
ويستخدم الاستعمار الحديث في تحقيق أغراضه وسائل خاصة لتحاشي المعارضة الشعبية الصريحة أو معارضة الرأي العام العالمي, ومنها عقد الإتفاقيات الثنائية غير المتكافئة، وتكبيل الدولة النامية بسلسلة من المساعدات والديون, عبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وفتح الأسواق وتطبيق مفاهيم النيوليبرالية إلخ..
لقد ارتبط التنظير لاستقلال الدولة بالفكر السياسي الحديث والمعاصر في أوروبا، وإن كان من حيث الممارسة قديمًا قِدم الفكر السياسي. غير أن الفكر السياسي الحديث والمعاصر أولى أهمية بالغة لمفهوم استقلال الدولة وسيادتها على إقليمها لما في احترام استقلال الدول من أثر إيجابي على السلم والاستقرار الدولي والإنساني، وبخاصة بعد معاهدة وستفاليا في أوروبا (1648) والتي أرست مفهوم الأمة – الدولة وارتكزت على مبدأين هما: سيادة الدولة على إقليمها، وعدم تدخل الدول الأخرى في سلطان الدولة الداخلي.

 

إشكالية الإستقلال في عالم اليوم
ماذا يعني مفهوم استقلال الدولة؟ وهل يمكن الحديث عن استقلال كلي للدولة اليوم؟ أم أن هذا النوع من الاستقلال متعذر في ظل النظام العالمي المعاصر القائم على تداخل المصالح وتشابكها والتمايز بين دول كبرى تملك قرارها السياسي وتتمتّع بسيادتها وتتحكّم في السياسات الدولية, وبين دول صغيرة وضعيفة لا تملك قرارها أو سيادتها؟ وما الذي يجعل بعض الدول غير مالكة سيادتها بشكل كامل، وغير مستقلة بمقاييس الاستقلال كما هو متعارف عليه في الفكر السياسي الدولي؟

 

مفهوم استقلال الدولة في القانون الدولي
يعتبر استقلال الدولة واحدًا من الشروط الضرورية للاعتراف بشرعيتها، بل هو شرط في تعريف الدولة، إذ يُعرفها بعضُ رجال القانون الدولي بأنها «وحدة قانونية دائمة تتضمن وجود هيئة إجتماعية لها حق ممارسة سلطة قانونية معينة على أمة مستقرة فوق إقليم محدد». وتباشر الدولة حقوق السيادة بإرادتها المنفردة، وعن طريق استخدام القوة المادية التي تحتكرها. وثمة تعريف آخر يعتبر الدولة «مجموعة كبيرة من الناس تقطن بشكل دائم, إقليمًا معينًا، وتتمتع بالشخصية المعنوية والنظام والاستقلال».
إن ممارسة الدولة قرارها السياسي داخليًا وخارجيًا وفق إرادتها الحرة، يعبّر عنه حينًا بلفظ الإستقلال, وأحيانًا بلفظ السيادة, أو بمعنى آخر عدم خضوع الدولة لأي سلطة داخلية كانت أو خارجية.
فعلى المستوى الداخلي يعني استقلال الدولة امتلاكها السلطة المطلقة على جميع الأفراد والجماعات والمناطق الداخلة تحت حكمها، وهي تستمد شرعيتها من التعاقد بين الحكام والمحكومين, أو البيعة الشرعية. وهذه الشرعية هي التي تخول الدولة تشريع القوانين والنظم وجعل الناس يلتزمونها صونًا لمصالِحهم من جهة ولهيبةِ الدولة من جهة أخرى, كما تمنحها سلطة تدبير شؤون البلاد سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وتعليميًا وقضائيًا, إنطلاقًا من خصوصيةِ البلاد وما تقتضيه المصلحة العامة.
أما على المستوى الخارجي فمبدأ استقلال الدولة وسيادتها يعني استقلالها فعليًا وقانونيًا في ممارسة قرارها الدولي بعيدًا من سيطرة أي دولة أخرى أو توجيهها. كما يعني هذا المبدأ اعتراف الدول الأخرى بها، وحقها في التمثيل الدبلوماسي، وفي عضوية المنظمات الدولية، وحريتها في اتخاذ القرارات الدولية على الصعيد الخارجي وعلى صعيد العلاقات الدولية، من دون قيد أو شرط أو إكراه أو ضغط ما خلا الالتزامات التي يقرها القانون الدولي والمعاهدات الدولية الثنائية والإقليمية في نطاق الندية والاحترام المتبادل.
 إذن, إن استقلال أي دولة يقتضي تحررها من كل أشكال الضغط والإكراه والتحكم الداخلي والخارجي، وهذا التحرر يستلزم امتلاك الدولة عنصر القوة الكافية لفرض سلطتها وإنفاذ قراراتها ومواقفها, لأن المجال السياسي الدولي وإن كان يقوم على التعايش والتعاون والتشارك في مصالح معينة، فإنه يقوم أيضًا على التنافس والصراع والاختلاف والتفاوت في المصالح وموازين القوى، وهذا يتطلّب من كل دولة امتلاك القوة اللازمة والمناسبة لممارسة الاستقلال الفعلي.
ولكن هل يمكن الإدعاء أن جميع دول العالم متكافئة في استقلالها ومتساوية في ممارسة سيادتها الداخلية والخارجية؟

 

إستقلال الدولة بين النسبية والإطلاق
يظهر الواقع الدولي وواقع العلاقات الدولية المعاصر والقديم على حد سواء، أن الدول ليست متساوية في فرض إرادتها السياسية أو في التمتع بسيادتها داخليًا وخارجيًا.
ويمكن في هذا السياق الحديث عن ثلاثة أشكال من الدول:


• دول تتمتع باستقلال شبه كامل: وهي الدول الكبرى المنتصرة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، والدول الصناعية ذات الموارد الغنية, والقدرات النووية. فهذه الدول تمارس استقلالها وفق إرادة حرة تقوم على السبق في المبادرة والتدخل في السياسات الدولية بما يخدم مصالحها، ولديها القدرة على معارضة أي مبادرة سياسية لدول أخرى وتكييفها أو مراقبتها وتطويقها. وهذه هي مثلاً حال الدول صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الامن الدول.
• دول لا تتمتع باستقلالها بشكل تام: وهي الدول الواقعة تحت سيطرة الاحتلال أو الغزو أو القواعد العسكرية , كما هو الحال في العراق وفلسطين وأفغانستان، بحيث لا يمكن الحديث عن استقلال دولة لا يزال الاحتلال رازحًا فوق أراضيها ويتحكم في سياساتها الداخلية والخارجية، وحتى مع وجود حكومة وسلطة محليتين.
• دول تتمتع باستقلالها بشكل نسبي: إن الدول النامية أو دول العالم الثالث, وإن كانت قد حققت استقلالها عن الاستعمار الغربي في القرن الماضي فإنها خضعت لقوانين النظام الدولي القائم, والذي تشكلت قواعده في القرن الماضي, من توزيع القوى الدولية وبقاء هيمنة الدول المستعمرة على هذه الدول تحت غطاء المصالح السياسية والاقتصادية المشتركة.
كما أن الحكومات التي تولت مقاليد الحكم في معظم هذه الدول كانت تعمل بتوجهات الدول الكبرى, كذلك تم تحجيم هذه الاستقلالات بمجموعة من العهود والمواثيق الدولية التي خرجت من رحم الدول الكبرى وهيئاتِها العالمية والتي وجدت أساسًا لتأمين مصالحها وبما يحفظ استمرار هيمنتها العالمية وسيطرتها...

 

حدود الإستقلال الناجز
بالنظر إلى طبيعة النظام الدولي المعاصر ومكوناته والفاعلين فيه والمصالح الإستراتيجية التي تحركه, وقيام الأحلاف والاتحادات الدولية, الاقتصادية أو السياسية, وشركات الصناعة العسكرية, والمنظمات الدولية، وفي عصر العولمة والشركات العابرة للحدود والسيادة, والتكنولوجيا الرقمية, وثورة الإعلام و الإتصالات، أصبح من الصعب الحديث عن وجود دولة مستقلة استقلالًا تامًا، قادرة على ممارسة قرارها السياسي بمعزل عن المؤثرات المحيطة بها.
كذلك لا وجود لدولة قادرة على الانكفاء خلف حدودها الجغرافية والإكتفاء بثرواتها والانفراد بقرارها السياسي والتصلب في مواقفها الإيديولوجية... فقد أصبح العالم قائمًا على الاعتمادية المتبادلة, حتى ان مفهوم السيادة بمعناها «الوستفالي»، أصبح موضوع جدل ونقاش على المستوى الدولي. فبعض الدول الكبرى بدأ مع نهاية القرن الماضي يطرح فكرة  «السيادة العرضية» (Contingent Sovereignty)، والتي تقوم على مفهوم جديد للسيادة ويعني «حق تدخل المجتمع الدولي في سلطان إحدى الدول عندما تقوم السلطة الحاكمة فيها بقمع وإبادة شعوبها او قسم منها تحت ذريعة سيادتها على جميع الأفراد داخل إقليمها».
وهكذا وهنت الحدود الجغرافية والسياسية أمام انتشار الشركات العابرة للقارات ومصالحها, وأصبحت حدود السيادة الوطنية لمعظم الدول وجهة نظر قابلة للمناقشة أمام فكرة تدخل القوى الكبرى، بحجة التدخل الإنساني, أو حماية الأقليات الإتنية ومحاربة الحكام الطغاة, أو دعم الثورات ومحاربة الإرهاب... وصولًا إلى فرض أنظمة حكم جديدة تحت تسميات شتى تضمن في النهاية الهيمنة الاقتصادية والسياسية للدول الكبرى.
كما يمكن الحديث عن تأثير ثورة الشبكة العنكبوتية و«الفضاء السيبيري» ودفق وسائل الإعلام في عبور الحدود الجغرافية بين الدول وإتاحة تدفق السلع والبضائع والأفكار، من دون قدرة على التحكم فيها أو توجيهها، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تغيرات جوهرية على المدى الطويل في كيان الدولة والمجتمع، وبالتالي التأثير سلبًا على استقلالهما سياسيًا واقتصاديًا ولغويًا واجتماعيًا وثقافيا وتعليميًا...
أليس في الأزمــة الإقتصاديــة العالميــة الأخيرة (2008) وتداعياتها ودور وسائل الإعلام والإنترنت، ما هدد ويهدد استقرار واستقلال كثير من الدول في مغارب الأرض ومشارقها؟


كيف نحقق الاستقلال؟
يبدو أن الاستقلال بمفهومه الشائع أصبح من الماضي, فما يهدد استقلال الدول اليوم, ليس التعاون والمشاركة الإيجابية في إدارة قضايا العالم المعاصر, وليس تبادل الخدمات والمنافع الإنسانية في إطار المساواة والعدل, وإنما ما يهدد استقلال الدول هو الفقر والديون والتدخل السياسي والعسكري المباشر, أو غير المباشر, والاعتداء على السيادة الإقليمية لدولة أخرى, وانتهاك القوانين والأعراف الدولية التي يرعاها ميثاق الأمم المتحدة.
إن كثيرًا من القوانين الدولية وبخاصة الإقتصادية منها بات يخدم مصالح الكبار ويتعارض مع مصالح الدول الصغيرة والشعوب الفقيرة ويتنافى مع امكاناتها الإقتصادية ويهددها بالضياع أو التبعية. كما يمكن اعتبار تدخّل الدول الغربية أو الدول الإقليمية المتجاورة في دعم حركات المعارضة وحركات الانفصال والطوائف والإتنيات في بعض الدول، وتقويتها إيديولوجيًا وعسكريًا، عاملًا يقوض استقلال الدولة ويضعفه.
وهكذا فإن الحديث عن الاستقلال التام للدولة بمعنى «غياب التبعية» أصبح شبه متعذر نظرًا إلى الإعتبارات السابقة، والتي يشكل بعضها خطرًا مباشرًا ومزعزعًا لاستقلال الدولة. إن تحقيق الاستقلال الناجز لدولة ما يتوقف على الإرادة الحرة والفاعلة لأبناء هذا البلد في تثبيت وجودهم ووحدتهم الوطنية، والمحافظة على تنمية مواردهم وبناء أنظمة الحكم الرشيد، وتربية المواطن على مفهوم المواطنة الصحيح, وتنمية الوعي الديمقراطي والثقافة السياسية لأبنائه, مهما تعددت مكوناتهم الاجتماعية, إذ لا قيمة لبلد لا استقلال له ولا معنى لاستقلال لا يبنى على الإرادة الحرة الواحدة والواعية لأبنائه.

 

المراجع:
• www.maajim.com
• www.kalema.net
• www.kenanaonline.com
• www.ar.wikipedia.org