من التاريخ

الإغارة الكبرى في كابانا توان
إعداد: الرائد باسم شعبان

هكذا نفّذ المغاوير المهمة الاستثنائية!

 

بعـد هزيمـة الجـيش الأميركي أمــام الجيش الإمبراطــوري اليـاباني فــي معركـــة باتــان Battle of Bataan في الفيليبين في 9 نيسان 1942، وقع آلاف الجنود الأميركيــين في الأســر. نقل اليابانيون أسراهم في مسيــرة، وُصِفَـــت بمسيرة الموت، إلى معتقل كابانا توان Cabanatuan prison camp على جزيرة لوزون Island of Luzon، ومن ثم نقلوا معظمهم إلى معتقلات أخرى، باستثناء 511 من الأميركيين والحلفاء والمدنيين الذين أبقوهم في ظروف اعتقال قاسية لأكثر من 33 شهرًا.


مخاطر وتحديات
أواخر العام 1944، تحديدًا في 20 تشرين الأول، نجح الأميركيون في الإبرار على شواطئ الفيليبين، وفي 9 كانون الثاني 1945 وصلت طلائع القوات الأميركية إلى شواطئ جزيرة لوزون. في موازاة التقدّم الأميركي، رصد المخبرون الفيليبينيون مؤشرات تدلّ على نيّة اليابانيين نقل الأسرى إلى معسكرات أخرى، أو تصفيتهم.
ولعلّ ما زاد من مخاوف تصفية الأسرى إقدام اليابانيين على إعدام أسرى معتقل جزيرة بالاوان Palawan (في الفيليبين أيضًا)، في 14 كانون الأول 1944، وتسرّب معلومات عن سوء المعاملة التي يتعرَّض لها الأسرى، بخاصة نقص التغذية والمرض، ما أدى إلى وقوع وفيات شبه يومية في صفوفهم.
أخذ قائد الجيش الأميركي السادس اللواء والتر كروغر زمام المبادرة، وكان التحدي كبيرًا ومحفوفًا بمخاطر عالية. فالمعتقل يقع في عمق الأراضي التي يحتلها العدو على مسافة تقارب الـ30 ميلًا وتعجّ بالوجود العسكري الياباني. ومن ناحية أخرى كان من الضروري تحقيق عامل المفاجأة لحرمان السجّانين الوقت الكافي لإعدام السجناء. وتمثّل التحدي الأخير في كيفية إخراج السجناء، الذين كانوا يعانون الضعف والوهن، نتيجة سوء التغذية، فباتوا كالهياكل العظمية، وبالكاد قادرين على السير.
أمام هذه التحدّيات طلب كروغر من كتيبة المغاوير السادسة التحضير لتنفيذ إغارة. وكانت هذه الكتيبة التي يقودها المقدم هنري موتشي، كتيبة المغاوير الوحيدة المنتشرة في منطقة المحيط الهادئ. المهمة التي تسلّمها موتشي تطلَّبت منه تحضير قوة خاصة قادرة على: التسلّل حوالى 30 ميلًا خلف خطوط العدو، مهاجمة معتقل كابانا توان، تحرير الأسرى، والعودة بهم سالمين إلى الخطوط الأميركية، قبل أن يشنّ اليابانيون الهجوم المعاكس.
وفق تقارير المخبرين، كانت توجد وحدات متعدّدة من القوات اليابانية في المنطقة المحيطة بالمعتقل، والتي استخدمتها القوات اليابانية المنتقلة من منطقة إلى أخرى للإستراحة. إضافة إلى ذلك، كانت كتيبة تتمركز بصورة دائمة على بعد لا يتجاوز الميل الواحد، وفرقة على بعد لا يتجاوز الـ4 أميال من المعتقل.


تنظيم القوّة المكلَّفة بالتنفيذ
كلَّف المقدم موتشي بالمهمة السرية الثالثة بإمرة النقيب روبرت برنس معزَّزة بالفصيلة الثانية من السرية السادسة بإمرة الملازم الأول جون مورفي، و4 مصورين من كتيبة الإشارة 832، ورهطين من نخبة وحدة الاستطلاع (كشافو ألامو Alamo Scouts). في المجموع تألَّفت قوة الإغارة من 8 ضباط و120 عنصرًا. كما شارك فيها بضع مئات من الفيليبينيين بإمرة النقيبين إدوارد جوسون وخوان باجوتا. وقد تلقَّت القوة الأميركية دعمًا لا يُستهان به من المقاتلين الفيلبينيين الذين قدّموا معلومات استخباراتية، وتولّوا تأمين مسالك، والتواصل مع السكان المحليين لضمان ولائهم.
اجتمع المقدم موتشي بالمكلّفين بالتنفيذ، وشرح لهم مضمون المهمة وظروفها ومخاطرها، عارضًا الانسحاب من التنفيذ على من يرغب، لكن الجميع أكّد رغبته في المشاركة.


سير الاقتراب
تحرَّكت القوة فجر 28 كانون الثاني عبر حقـول الأرزّ والأراضي العشبية، وعندما وصلت إلى بلدة Guimba انضم إليها أدلاء محليون، ثم تابعت باتجاه بلدة Lobong الواقعة على بُعد نحو خمسة أميال إلى الجنوب الشرقي، حيث التقت مجموعة النقيب جوسون، ومع حلول الظلام كانت قد أصبحت خلف خطوط اليابانيين.
عند وصول القوة إلى بلدة Balincarin انضمت إليها مجموعة النقيب باجوتا، وتزوَّدت آخر المعلومات الاستخباراتية التي كان قد حصل عليها كشافو ألامو، بخاصة تلك المتعلقة بعدد الحراس ومراكزهم وبالعديد داخل المعتقل. وبالتنسيق مع النقيب باجوتا، باشر النقيب برنس تحضير العدد الكافي من العربات لنقل الأسرى غير القادرين على السير بعد تحريرهم، وتحضير كمية كافية من الطعام لهم.
أجَّل المقدم موتشي بدء الإغارة ليوم كامل، فهو كان يريد الحصول على معلومات أكثر عن المعتقل وحراسه، ومن جهة أخرى، وصلته معلومات أفادت بأن قوة يابانية ضخمة سوف تغادر المنطقة وشيكًا، ففضَّل تفادي مواجهتها. ليل 30 كانون الثاني، نجح المقاتلون الفيليبينيون في قطع الاتصالات الهاتفية مع العاصمة مانيلا تمهيدًا لبدء الهجوم.


الإغارة على المعتقل
قضت الخطة بالهجوم على المعتقل ليلًا، على أن تتولّى المجموعات الفيليبينية مهمة صدّ أي تدخّل للقوات اليابانية من المناطق المحيطة بمدينة كابانا توان، ولذلك تمّ تعزيز قواهم بحضيرة مضاد للدروع لضرب المدرعات اليابانية عند الحاجة. أمّا الهجوم المباشر على المعتقل فتولته قوة المغاوير الأميركية.
خطَّط الأميركيون لضرب المعتقل من جهتين، بحيث تهاجم فصيلة مورفي المدخل الخلفي، بينما تجتاح سرية برنس المدخل الرئيسي للمعتقل. وكان على عناصر هذه السرية الزحف مسافة ميل تقريبًا عبر أرض مكشوفة، للوصول إلى مواقع الانطلاق للمهاجمة. وقد قضت الخطة بأن تُحلّق فوق البقعة، قبيل التنفيذ، طوافة نوع Northrop P-61 Black Widow، بهدف إلهاء الحرس وتشتيت تركيزهم، وهذا ما حصل فعلًا.
في تمام الساعة 19:45 أطلق الملازم الأول مورفي الطلقة الأولى، معلنًا انتهاء تمركزت فصيلته في المواقع المحدَّدة لها خلف المعتقل، وبدء الهجوم. هاجم الأميركيون بضراوة وشراسة مستهدفين حرّاس الأبراج، والعناصر في الأطمات، وكل ياباني وقع أمام أعينهم. بعدها اجتاحوا المعتقل وأبادوا جميع اليابانيين الموجودين فيه، بعدما خرقوا المراكز الدفاعية الداخلية.
بالتزامن مع الهجوم، كانت المجموعات الفيليبينية تقوم بالمهمّات المنوطة بها، فاشتبك رجال باجوتا مع كتيبة يابانية قرب تلعة كابو Cabu. وتمكّن رماة الأسلحة الأتوماتية من صدّ الهجوم المعاكس، بينما تمكنت حضيرة المضاد للدروع الأميركية الملحقة بالفيليبينيين من تدمير دبابتين وشاحنة. أما ناحية النقيب جوسون فلم تشهد أعمالًا قتالية، إذ تكفلّت الطوافة التي حلّقت فوق المعتقـل بضـرب قافلـة يابانيـة، كانت متجهة نحو مواقع قواته.


إنقاذ الأسرى وتحريرهم
عند سماعهم إطلاق النار، خشي الأسرى أن يكون الأمر عملية إعدام جماعي لهم، فاختبأوا في كل مكان أمكنهم الوصول إليه. ونتيجة الظروف القاسية التي عاشوها، كانوا يعانون المجاعة، وهذا ما سبب لهم ضعف نظر شديد، حتى أنهم لم يستطيعوا التعرّف إلى بزات المغاوير أو أسلحتهم. عدد منهم فرَّ بمجرَّد رؤية محرّريه، والبعض لم يُصدق ما يحصل معتقدًا أن الأمر ينطوي على خدعةٍ ما، فرفض الفرار في البداية.
خلال أقل من 15 دقيقة أنهى المهاجمون كل مقاومة داخل المعتقل، وبعد 30 دقيقة على بدء الهجوم كان النقيب برنس قد أنجز جولتي تفتيش في المعتقل وجمع الأسرى تمهيدًا لإجلائهم. أسير واحد فقط توفي نتيجة تعرضه لنوبة قلبية، وأسير آخر (بريطاني) اختبأ في المراحيض خلال الهجوم، ولم يعثر عليه المهاجمون، لكن في اليوم التالي عثر عليه المقاتلون الفيليبينيون.
قدَّم السكان المحليّون الطعام والشراب للأسرى المحرَّرين خلال مسيرة العودة، كما وصلت عربات إضافية لنقل العاجزين منهم عن السير، بينما استمر المقاتلون الفيليبينيون بتوفير الحماية الدائرية للمنسحبين. بعد نحو 12 ساعة من الهجوم، حصل أول اتصال راديوي بين الجيش السادس والمنسحبين الذين طلبوا شاحنات لملاقاتهم. بعدها بساعتين دخلت قوة المغاوير الأميركية وبرفقتها الأسرى المحرَّرين خلف الخطوط الأميركية.


تقييم العملية
أنجــزت المهمة الأسطورية، وكانت بحـق من أكثـر عمليات المغاوير خلال الحرب العالمية الثانية جرأة وتعقيدًا. وقد أسفرت عن إنقاذ 510 من أصل 511 أسيرًا. أما الكلفة فكانت باهظة على اليابانيين مع خسارتهم لحوالى 523 جنديًا بين قتيل وجريح، بينما لم تتجاوز الخسائر الأميركية القتيلين والسبعة جرحى.
تمّ تقدير النجاح الذي حقَّقته هذه المهمة، وكوفئ المنفّذون. فقد قال فيها الجنرال ماك آرثر (قائد الجيوش في منطقة المحيط الهادئ): «رائعة وتعكس القدرات الإستثنائية للمشاركين...» ومنح هؤلاء (سواء كانوا أميركيين أو فيليبينيين) أوسمة وميداليات.
نجاح هذه المهمة سلّط الضوء على المستوى العالي من التنسيق بين المغاوير الأميركيين والمقاتلين الفيليبينيين وكشافي ألامو والوحدات القتالية التقليدية الأميركية. ويذكر أن إغارة كابانا توان كانت آخر عملية رئيسية لكتيبة المغاوير السادسة خلال الحرب العالمية الثانية.


المراجع:


- Raid at Cabanatuan From Wikipedia - the free encyclopedia.
- Wikimedia Commons has media related to Raid at Cabanatuan.
- مواقع أخرى على شبكة الإنترنت.