رحلة في الإنسان

الإلتهابات هل تكون سبباً للأمراض النفسية؟
إعداد: غريس فرح

العلاقة بينهما تحت مجهر الأبحاث من جديد

 

في ما مضى، حُمّلت الكائنات غير المرئية أوزار الأمراض النفسية، والتي عرفت حينها ب«الجنون»، نسبة إلى الجن الذي كان يُعتقد أنه يسكن أصحابها. ومع بزوع فجر العلوم النفسية في بداية العشرينيات، صوّبت أصابع الإتهام باتجاه التربية الخاطئة. بعدها بدأت الظنون تحوم حول الجينات الوراثية، والأمراض التي قد تنجم عن أخطاء في تسلسلها. وعلى الرغم من تعرّف العلم على علاقة الجراثيم والڤيروسات بمعظم الأمراض الشائعة، إلاّ أن محاولتهم ربطها بالأمراض النفسية والعصبية بقيت غير مكتملة، لنقص الدلائل. مع ذلك يشير الكثيرون إلى دلائل بالغة الأهمية تؤكد هذه العلاقة ودورها في نشوء هذه الأمراض.
ما هي هذه الدلائل، وكيف اهتدى العلم إلى وجودها؟

 

أين يكمن السبب؟
كان الإتجاه إلى ربط المرض العقلي بالعدوى الجرثومية أو الڤيروسية، قد بدأ منذ اكتشاف علاقة مرض السيفليس بالاضطرابات الذهانية التي تظهر بعد سنوات من استفحاله. ولكن، بعد اكتشاف البنيسيلين، وبداية استخدامه في علاج مرضى السيفليس، كانت نظريات فرويد قد انتشرت كالنار في الهشيم، الأمر الذي تسبّب بنسيان البحث في الحقل الجرثومي، والتركيز على التحليل الفرويدي.
تغيّر الإتجاه بشكل جذري منذ التعرّف إلى علاقة الأمراض النفسية والعصبية بالاضطراب الهرموني الدماغي البيولوجي المنشأ، وبالتالي نجاح علاجها بالأدوية الكيميائية. وعلى هذا الأساس بدأ البحث عن سبب الخلل في ترابط النبض العصبي الدماغي، وعلاقته بأخطاء التسلسل الجيني.
بالنسبة إلى العامل الوراثي الذي كان قد حُمِّل الجزء الأكبر من المسؤولية لعقود خلت، فإن غالبية الدراسات التي أوردتها الصحف العلمية، وفي مقدمها مجلة العلوم الأميركية، كانت قد أعلنت بوضوح أن العامل الوراثي لا يعتبر لوحده مفتاح لغز الأمراض النفسية. أما سبب هذا الإقتناع، فكان عدم وضوح نتائج الأبحاث التي أجريت على التوائم، وعدم توصّلها إلى دلائل قاطعة في ما يختص بعلاقة الوراثة بالمرض النفسي. وعلى هذا الأساس، تتالت الأبحاث بمساعدة التقنيات المخبرية الحديثة، الأمر الذي مكّن العلماء من رؤية آثار الجراثيم والڤيروسات في قلب الخلايا. ومع تواصل الدراسات، وتتابع الإكتشافات توجّهت الأنظار إلى مسارات جديدة، علماً أنها لا تعتبر ثابتة حتى الآن.

 

كيف بدأت هذه الإكتشافات؟
كما أوردت مجلة Psychology today الأميركية، فإن العقد الماضي شهد إستخدام تقنية علمية عرفت بإسم تقنية تفاعل الجزيئيات المتسلسل (PCR polymerase Chain Reaction) وهي تقنية تستخدم من أجل تكبير جزيئيات بالغة الصغر في التسلسل الجيني، وبفضلها، اكتشف إختصاصيو علم الأحياء المجهري آثاراً غير متلاشية تركتها الجراثيم والڤيروسات في بعض هذه الجزيئيات، الأمر الذي تسبّب، بحسب اعتقاد الباحثين، بخلل في الجينات الوراثية. وحسب ما أوردته المجلة، فإن العلماء توصّلوا في وقت لاحق إلى مقارنة الجزيئيات المعنية بالبحث، ومتابعة وجود مخلّفات الأحياء المجهرية في سائل النخاغ الشوكي العائد لبعض المرضى النفسيين. وكانت تقنية التصوير بالرنين المغنطيسي، قد مكّنت الباحثين من رؤية أبعاد الدماغ ومتابعة نشاطه، وهو ما سهّل ضبط آثار غزو الجراثيم للدماغ بالجرم المشهود. مع ذلك، فإن الإختصاصيين ترددوا في إعلان الكلمة الفصل عن الموضوع، بسبب التضليل الذي تتبعه الأحياء المجهرية في أثناء غزوها أجسامنا وأدمغتنا.

 

كيف يتم هذا التضليل؟
في دراسة أجراها الدكتور إيان ليبكني، أحد إختصاصيي علم الأعصاب وعلم الأحياء المجهري في جامعة كاليفورنيا، فإن الجراثيم التي تصل إلى الدماغ، تتبع عموماً طرقاً مختلفة. فجرثومة Treponema Pollidum التي تسبّب مرض السيفليس، تأخذ على سبيل المثال طريقاً مباشراً، فهي تدخل الجسم عن طريق العملية الجنسية، أو عبر الأم الحامل الى الجنين، وتتوجّه من خلال الجهاز الليمفاوي إلى الدماغ. وحين تتمركز وتبدأ بالتكاثر، تتسبّب بالتهاب بعض الخلايا العصبية، وتجرّد البعض الآخر من مادة «النخاعين» «Myelin»، الأمر الذي يبطئ أو يوقف النبض العصبي أو التواصل بين الخلايا، ويولّد بعد أعوام العوارض الذهانية.
بالنسبة الى ڤيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV) والذي يتسبّب خلال إحدى مراحله المتطّورة، بالقلق والذهان والميل إلى الإنتحار، فهو يتسلّل إلى الدماغ عبر استراتيجية التخفي. فبدلاً من مهاجمة الخلايا العصبية مباشرة، كما تفعل جرثومة السيفليس، يتسبّب بالتهاب الأجسام الداعمة لجهاز المناعة، أو المدافعة عن الجسم والمعروفة بإسم «الأجسام المضادة». وعندما يتمكّن الڤيروس المذكور من التوجّه خلسة إلى الدماغ إثر تعلقه بإحداها، يلجأ لدى وصوله إلى تصنيع بروتينات غرويّة تعرف باسم «سيتوكين» (Cytokines)، مهمتها الالتصاق بالخلايا العصبية وإتلافها. وعُرف أن الڤيروس المسمى Clamydia Pneumoniae يتبع الطريقة نفسها في التسلّل إلى الدماغ وتصنيع مادة السيتوكين من أجل التسبّب بمرض الزهايمر.

 

تضليل الجسم لمهاجمة نفسه
تمكّن الباحثون من رصد عمل جرثومة الستريبتوكوس (Streptococcal Bacteria)، والتي تتسبّب بالتهاب اللوزتين والجهاز التنفسي.
فعندما تهاجم هذه الجرثومة الجسم، تحفّز جهاز الإنذار لتستدعي جيوش الأجسام المضادة. وعندما تبدأ المعركة، تختبئ في جهاز المناعة ذاته، كالذئب في ثوب الحمل. ولتتجنب الهجوم، تتخفى بشكل بروتينات تقلّد عمل بروتينات الجسم. ولأسباب لم يفهمها العلماء حتى الآن، فإن أجسام بعض الأشخاص المعنيين بهذا الوضع تهاجم نفسها، وتصوّب أسلحتها باتجاه الكتلة العصبية الموجودة في أسفل الدماغ، والتي مهمتها ترجمة المعلومات المنقولة عبر الحواس.
والمعروف أن هذه العملية المعروفة بالتدمير الذاتي، تطاول الأطفال أكثر من البالغين لعدم نضج جهازهم المناعي، وهو ما يعرّض بعضهم لاضطرابات ذهنية وسلوكية، في مقدّمها الخوف والقلق واضطراب الوسواس القهري.

 

البكتيريا والأجنة في الأرحام
أشارت معلومات نقلتها مجلة إنكلترا الطبية الحديثة (New England Journal Medicine) إلى أن بذور الأمراض النفسية قد تزرع في الأدمغة في أثناء وجود الأجنة في الأرحام. والدليل كما ذكرت الصحيفة أن موجات الإنفلونزا التي شهدتها إنكلترا منذ عقود، وأصابت مجموعات من النساء الحوامل، تبعتها بعد سنوات موجات من الأمراض النفسية التي طاولت الأحداث، وفي مقدمها مرضى «إنفصام الشخصية». كذلك أكدت الصحيفة على ارتفاع معدل الإصابة بانفصام الشخصية في صفوف الأحداث المولودين في الأحياء المكتظة بالسكان وتحديداً في فصل الشتاء، حيث تكثر الأمراض التنفسية.
من هذا المنطلق، كوّن العلماء اعتقاداً بأن الڤيروس الذي يتسبّب بالإنفلونزا لدى الحوامل، قد يستقر في أدمغة الأجنة في مرحلة معينة من تطورهم، ويتسبّب باضطراب تكوين خلاياهم العصبية، وهو خلل تظهر مفاعيله في مرحلة البلوغ، أي في بداية الشباب.
واللافت أن الدراسة التي قامت بها منذ أعوام، إختصاصية الأعصاب لورا مانولديز في جامعة يايل الأميركية، أشارت إلى عدد من الوسائل المتّهمة بنقل الڤيروسات والجراثيم المسببة للإضطرابات النفسية، وهو ما أكدّته الصحيفة البريطانية «Lancet» التي أشارت بأصابع الإتهام إلى غرف الولادة، والأدوات الجراحية، إضافة إلى السكن في المدن المكتظة ومزارع الحيوانات.
وبالإشارة إلى الحيوانات، ألمحت الدراسة الى أن مرض كروتز فيلد جاكوب الذي يعتقد أنه ينتقل من البقر إلى البشر، هو منتشر أكثر مما نظن، إلاّ أن البعض يسيئون تشخيصه في بداية مراحلة ويخلطون بينه وبين مرض الزهايمر، إلاّ أن الفحوصات المخبرية الدقيقة هي كفيلة بوضع حد للشكوك حول وجود الجرثومة المشار إليها، وإخضاع المعنيين بها للعلاج.

 

ماذا يقترح الباحثون؟
حتى الآن، نرى أن العلم يعد بالقضاء على مسبّبات الالتهابات أو وضعها تحت السيطرة، علماً أن مفاعيل غزوها أجسامنا تكون قد ترسّخت لدى البعض بأشكال لا يمكن حصرها.
إن الألم الذي يعانيه الأهل لدى إصابة أحد أولادهم بمرض نفسي، لا يعادله ألم آخر، خصوصاً وأن هذا النوع من الأمراض لا يعتبر حتى الآن مقبولاً من المجتمع.
ولكن إذا ما علمنا وتأكدنا أن المرض النفسي هو جرثومي أو ڤيروسي المنشأ، فإننا سنتقبله بدون خجل أو شعور بالذنب. وهنا تشير الدراسات الى أن ليس كل طفل يصاب بالتهاب في الحنجرة، أو كل جنين تتعرض أمه للإنفلونزا، يصاب بمرض نفسي. لذا لا داعي للخوف لأن لكل جسم مقدرته على المقاومة والتصدي، وهنا تلعب الوراثة دورها كما الوقاية. ويشدد المعنيون على الوقاية لأهميتها في حماية جهاز المناعة من جحافل الجراثيم والڤيروسات، وينصحون باتباع التوصيات الآتية:
- تناول الوجبات الصحية في أوقات منتظمة، ويوصى بمراقبة نظافة الطعام وخصوصاً اللحوم.
- غسل اليدين بانتظام وخصوصاً قبل تناول الطعام. ويوصى باستخدام الصابون العادي غير المضاد للجراثيم. فالأخير يزيد من تكاثرها كونه يحفز نمو أجيال من الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية.
- تجنب الإختلاط بالمرضى، وفي حال الإضطرار الى ذلك، يوصى بوضع أقنعة واقية.
- عدم إغفال التلقيح السنوي ضد الڤيروسات.
- في حال وجود ظروف صحية ملائمة لظهور الإلتهابات، يستحسن بحث الأمر مع الطبيب المختص. كذلك يوصى بمراقبة عوارض الالتهاب لدى حصولها وهي عادة ما تتمثل بنوبات البرد وارتفاع درجات حرارة الجسم، وتشنج العضلات.
- تجنّب العلاقات الجنسية المشكوك في سلامتها.
- الحرص على النوم باكراً، وعدم إهمال إضطرابات النوم في حال حصولها. فقد يكون ذلك مؤشراً لوجود اضطرابات نفسية.
- تجنّب الضغوط ومحاولة التكيّف مع مفاعيلها.
- في حال الإضطرار الى تناول مضادات حيوية، يوصى بمراعاة إرشادات الطبيب، وعدم التوقف عن تناول الدواء قبل انتهاء الجرعة المحددة.
- تجنّب الحيوانات المنزلية لأنها تنقل الجراثيم والڤيروسات، وفي حال وجودها، يوصى بعرضها دورياً على الطبيب البيطري.