الإنهيارات العامة في عصر الفوضى المنظمة

الإنهيارات العامة في عصر الفوضى المنظمة
إعداد: سركيس ابو زيد
أستاذ جامعي‘ المدير السابق لكليّة الإعلام والتوثيق، الجامعة اللبنانية.

من هو "صاحب" الدّولة الفعلي؟ ومن هو الذي يبذر بالضّبط حبوب الفوضى التي تبدو فوضى متروكة في أحيان كثيرة، بينما تبدو فوضى ملجومة ومدروسة في أحايين كثيرة أخرى؟ ألا يجدر بنا الرّبط بين سلسلة من الإنهيارات العامة التي نشهدها مع الألفية الثالثة بتلمّس واضح لفوضويّة ما، مقصودة أو منظّمة قد لا يمكن بالضبط تحديدها بشكل علمي لأنها تكون أحياناً خارجية /أميركية وتكون أيضاً داخلية لها علاقة مباشرة بالداخل المتحوّل الذي يعاني من الفوضى ويشكّل أداتها الفعلية وممارسها؟
لا تدلّ القراءة الفعلية لملامح عصر العولمة المشوبة بالتنظيمية الفائقة وبالفوضى المنظّمة في آن، إلى إمكانية التثبّت من قطبيّة هذه العولمة المتحكّمة بالسلطة. والسبب هو سقوط جدليّات العرض والطلب التي فرضت نفسها على تاريخ العلاقات بين الأفراد والشعوب والدول.

كان منطق العرض ­ الإنتاج هو السلطة في ما سبق، يحدّد الطلب ويبتكره ويوجهه نحو أهداف معينة، ويعتبر فاعلاً في تحديد التطوّرات التقنية عبر هذا التحديد، وهو ما أفضى إلى مقولات التدويل وحتى العولمة قبل بلورتهما.
لقد تغيّر المنطق الآن بفضل هذه التقنيات القوية إياها، وتداخلت سلطات العرض بسلطات الطلب بين الدول والشركات التي تتجاوز مقدّرات الدول وتقوى عليها. بهذا تحّولت الثقافات والمعلومات من سلع إلى خدمات، وتوارى منتج المعلومة المنظّم للمسائل مثلما توارى من قبل منتج الكهرباء في شبكة توزيع الضوء، وسقطت قيمة طاقة التوليد بين أن تكون مائيّة أو شمسيّة أو على الفحم أو الوقود السائل أو نووية.
هكذا، يشابه غياب المنتج، غياب سلطان رأس المال وانهيار الحدود بين الدول، وهو ما منح مقولات وسائل الاعلام وتقنيّاتها هذه القدرات في الانتشار، والتي كانت في أساس العولمة الفكرية المنظومّية، والفوضى القيمية في مظاهرها وأدواتها ونتائجها. فأنت لا تعرف في الواقع أين تبدأ الأمور وأين تنتهي، ولا تعرف تبرير ما يحصل ومضامينه ومقاصده وأهدافه، وتتراجع العلاقات التواصلية المباشرة فندخل عالماً من الإتصال الفجّ القاسي والدموي الذي يؤسّس فعلاً لحال من الضياع المنظّم المدروس الذي يعيد التأسيس وفقاً لمصالحه وأهوائه. وتعتبر إعادة التأسيس مسألة مستمرة في المستقبل، أو هكذا تطرح في دوائر القرار العالمي. لقد تداخلت الأشياء والأفكار فالتبست واختلطت وبانت وكأنها تخرج من لاتناهيها في المنظومية إلى لا تناه في الفوضى.

 

ماهي الفوضى المنظّمة؟
السؤال الأول هو عن المعنى المقصود بالفوضى المنظّمة!
الفوضى المنظّمة أو الخلاّقة أو المبتكرة، الى ما هنالك من الصفات التي ترد عند ذكر كلمة فوضى، تعني في أبسط تعريف لها، الفوضوية التي تبشّرنا بها أميركا والتي وردت لأكثر من مرّة على لسان مسؤوليها وكان آخرهم وزيرة الخارجية كونداليزا رايس. المفارقة الكبرى هي كيف تعني الفوضى الخلق والإبتكار، بل كيف تتضمّن معانيهما، وهل يحقّ لنا علمياً أن نلصق بالفوضى أيّة صفة إيجابية؟ تعيدنا الصفات الإيجابية التي تلصقها الإدارة الأميركية بمصطلح الفوضى المنتظر تعميمها أكثر في الشرق الأوسط إلى خلق نوع من الجدّة والطمأنينة لدى سامعيها وهي لإيحاءات لا تغرينا أو تقنعنا كثيراً، بل تعيدنا إلى الفكر اليوناني القديم، وخصوصاً إلى أرسطو الذي ربط ما بين الخلق والترميم واعتبر أننّا غير قادرين فعلاً على الخلق والإبتكار إلاّ عندما نعيد تركيب الأفكار والأشياء المهشّمة وقبل التخلّص منها أو في أثنائه. ألا يعني هذا الأمر ترك الفوضى والحروب والنزاعات تحوّل عالماً ما الى قطع متشظّية لا يمكن إلاّ أن تفرض إعادة ابتكارها في أثناء إعادة تأليفها وتآلفها وتناغمها، وكأننا أمام لعبة البازل (Puzzle) المعروفة التي تجعل كلّ أمر قابل للتفكيك السهل والسريع والمتطلّب إعادة تركيبة شيئاً من الذكاء والإبتكار؟ البازل  قد تكون أبسط لعبة للأطفال يمكنها أن ترشدنا الى المعنى الفعلي لما نسمّيه الفوضى المنظّمة!
غالباً ما يأتي الكلام الأميركي عن الفوضى المنظّمة في معرض الكلام عن الشرق الأوسط المكبّر، النسخة المعدّلة وشديدة التطابق في مضمونها مع فكرة بيريز التي وضعت بعنوان الشرق الأوسط الجديد. إنها طريق السيطرة أو تسهيلها عن طريق التفكيك وإعادة التركيب لمنطقة شاسعة الأطراف تمتد من المغرب الى ما بعد أفغانستان.
 ويعني مصطلح الفوضى في الأساس (Anarchie) اللاسلطة أي انتفاء السلطة ومؤسساتها وغيابها. ويعني الجزء الأوّل من المصطلح (An) النفي أو الإنتفاء، بينما يقصد بالجزء الثاني منه (archie) السلطة. وعندما اعترف الفيلسوف الفرنسي "برودون" برغبته في تأسيس الفوضى حيال تعقيدات العصر، قال في مؤلفه الشهير "ما هي الملكية؟" (1960): "أنا فوضوي". وقد فسّر معناها بأنها الهمجية والتسيّب واللانظام أو اللاقانون وترك الأمور تجري على غاربها، تقودها الأهواء والنزوات والغرائز. أليست تلك هي الحالة الوحشية التي تعود بالإنسان، بالمعنى النظري، إلى الحيوان أو إلى    النقطة التي منها انطلق في الأساس وفقاً لداروين مثلاً وفي عودة الى النقطة الأولى تقديساً للدائرية في التفكير والتغيير والتحويل؟ أليست الفوضى انتفاء لأيّ رباط أو علاقة أو تبرير، وهو ما يؤدي الى تقديس القوة وإشاعة العنف؟
وألا تسهل في حالات من هذا النوع من الفوضى إمكانيات فرض الأفكار والخرائط والخطط الجاهزة، على اعتبار أنّ البشر أمام مشاهد العنف والبطش والضياع يصبحون أكثر طواعية وأشدّ بساطة لربطهم بسلاسل القانون، أيّ قانون، ولو كان من جهنّم، ومؤسسات القمع، مهما كانت أشكالها وممارساتها ومراميها؟  يمكن لكاتب فرد أو فيلسوف أن يكون فوضوياً، ولكن المجتمعات اليوم تبدو أنّها تؤول الى الفوضى المدروسة والهادفة والتي لشدّة ما تصطحبه من حروب وقسوة، تجعل التغيير السياسي والإقتصادي والثقافي من المسائل الممكنة.
ويتضمّن المصطلح العربي "الفوضيّ" بالياء، المعنى نفسه، لأن المجموعة الفوضيّة هي الجماعة التي يتساوى أفرادها ولا يكون لهم رئيس.

من المؤكد أنّ "برودون" كان أول من استخدم مصطلح الفوضى تعبيراً عن الحدّ الأقصى للتقدّم الإنساني السياسي، وخصوصاً مع غرق الدول بالفائض من السلطات. وعلى الرّغم من أنّ مجمل المظاهر التغيريّة التي جاءت تفسّر الفوضى، كانت تتجلّى في الحركات الطلابية التي ولدت في بيركلي(1924) وترعرعت في برلين(1926) ووصلت إلى أوجها في باريس(أيار 1968) عندما رفرف العلم الطلابي الأسود مسقطاً الرئيس الفرنسي ديغول، وغطّت الشعارات الفوضوية جدران المدن الجامعية والشوارع في أوروبا كلّها، فإنّ "برودون" نفسه أقرّ (في كتابه العدالة في الثورة والكنيسة) بأنّ القانون وحده كاف للحفاظ على النظام العام وعلى الحرّيات. والفوضى في رأيه الناضج ليست غياب النظام أو الغوغائية أو عدم المسؤولية بل "الحالة التي يصلها مجتمع ما وقد تطوّر حتى استغنائه عن أيّ نظام خارجي مفروض بالقوة. إنها الحالة التي تحلّ فيها الأخلاق مكان السجون ومؤسسات القمع الأخرى". أليس هذا ما هو حاصل اليوم؟ إنّها الوصاية الدولية كنموذج معاصر يقتفي شعائر الحرية والديمقراطية ورخاء الشعوب لتطبيق هذه المقولة التي أبدع فيها ميكيافللي في كتابه "الأمير".
ولا يتخذ الكلام عن الفوضى المنظّمة معناه إلاّ بمعاينة تلك الأحداث الفوضوية التي تقضّ مضاجع دول العالم في شوارع مجموعات من البلدان الواقعة داخل مثلّث مرسوم بين فلسطين والعراق وأفغانستان وما بينها من الدول المتأهّبة للفوضى المنظّمة إيّاها التي سبق أن عرفتها المدن الأوروبية، وجعلت تنبؤات الفوضويين تستدعي التفكير والكتابة، وخصوصاً عندما حذّرنا الفوضويون من طغيان الدولة كمفهوم وممارسة في وقت كانت تظهر فيه الدولة على أنها تأسيس للحرية أو انتصار لها.

ليس بين الأفكار الفوضوية كلّها سوى رفض الدولة القائمة كعامل مشترك بالنسبة للمستقبل القريب عند الشعوب المتحضّرة. ويعني رفض الدولة عدم النظام بسبب من غياب السلطة المنظِّمة، ولكنّ انعدام النظام الذي تورثه التفجيرات وغيرها من أعمال الشغب والتحريض لتفكيك الدول، يمكن أن تكون له أسباب أخرى غير تغييب السلطة المنظّمة، بل إنه يأتي أحياناً كثيرة، كما ألمحنا، نتيجة السلطات الممارسة نفسها التي تدفع بها التباساتها وتعثّرها إلى ادعاءات تولّد أو تزيد من انعدام النظام، الأمر الذي يجعلها تميل ولو بالتفكير إلى قوة قسرية غالباً ما تعجّل برحيلها وتضاعف من الإنتظام العام أو الفوضى المنظّمة.
تكون النظريات الفوضويّة اختياريّة أو مفروضة، وتكون جماعيّة تقودها جماعة، أو فرديّة، وهي تجلّت بأبهى حللها في الشيوعية. وغالباً ما يلتمّس الفوضويون في تحقيق أفكارهم طريق الإصلاح، عن طريق الحوار أو عن طريق الدماء والثورة، ومهما كانت النتائج. ويعتبر العنف والتمرّد والمقاومة من ضرورات التغيير حيث يبدو في التنظيم العفوي والتلقائي أن التطوّر في المستقبل القريب سيجعل الدولة تختفي، ولا يتّم إلغاء كل الأنظمة والقوانين إلاّ بعد رفضها بشكل كامل من الأفراد والجماهير، وفي حمّى الفوضى، حيث يصار الى تأسيس الأنظمة معطوفة على عفوية هؤلاء وتلقائيتهم وإعيائهم. وهذه سمة الديمقراطية التي تدفعها أميركا اليوم نحو السطح وتلوّح بها للشعوب الشرقية. إننا بالضبط أمام فلسفة انهيار السيادة الدولية. والمعروف أنّ الدول كانت قد دفعت أثماناً باهظة من أبنائها وأراضيها ثمناً لرفع الحدود الطبيعية في ما بينها في أعقاب الحرب العالمية، وهي اليوم بدأت تدفع أثمانأ اكبر وأقوى وأغلى بالنسبة لها بهدف إسقاط هذه الحدود المصطنعة التي ترفعها أميركا ، كما رفعت قبلها دولة الرايخ الثالث في المانيا الشعار نفسه. الفرق أنّ هذا الإنهيار جاء يمهّد له وتعززه وسائل الإعلام في عصر فظيع من حيث تقدّم الغرائز وتراجع العقل وأداتهما تلك الوسائل المذكورة المغرية.

 

1- ­ إنهيار سيادة الدّول
تترسّخ ملامح مركزية إدارة الفوضى في الولايات المتحدة الأميركية دون إثبات واضح لهذه المقولة إلاّ في الفكر العالمي الملحّ في تحديدها بالقطبية الأميركية. وبهذا يُنظر إلى هذا المركز بوصفه المجتمع العالمي الأول في التاريخ. ومنبع الإيديولوجية العالمية الواحدة المحتملة وقوامها حرية الفرد وسيادة الشعب. وهناك، في المقابل، دعوات أميركية تقول "بانتفاء المركزية وحلول شمسيّة المعلوماتية مكان القوة التقليدية أو الإرثية، وتؤكد هذه الأفكار على سقوط استراتيجيات القوة لتقوم مكانها ديناميات الجماعة العالمية في خلق الأفكار، وإدارة إلاعلام، وحسن هندسة التعاون في الميادين الإتصالية" .
وما البرهان القاطع على انتفاء سيادة الدول سوى هذا النص الأميركي، وهو بعنوان "إعذرني يا محمّد".
"على أيّ كوكب أنت تعيش؟ إنك تتكلم عن المشاركة في العولمة كأنّ ذلك يتضمّن خياراً متاحاً لك. فالعولمة ليست خياراً، وإنما حقيقة واقعة. توجد اليوم سوق عولمة واحدة، والطريقة الوحيدة الممكن أن تنمو فيها هي اللجوء إلى أسواق السندات والأسهم للحصول على الاستثمارات وبيع ما تنتجه مصانعك في أسواق العولمة التجارية. كما أن أهمّ حقيقة حول العولمة هي أن لا أحد يسيطر أيها الأبله. أسواق العولمة تشبه الإنترنت... لا يوجد أحد في مركز السيطرة، لا أميركا ولا القوى الكبرى ولا أنا".
"ويعتبر سوق العولمة اليوم عبارة عن قطيع إلكتروني من متاجرين مجهولين بالعملات والأسهم والسندات وكل ما خطر لهم، يجلسون وراء أجهزة الكومبيوتر... وهم لا يعترفون بالظروف الخاصة لأيّة دولة... وإنما بقواعدهم فقط، وهي منسّقة إلى حد بعيد. إنّهم يحددون نسبة الإدّخار، التي يفترض أن تحققها دولتك، ومستوى الفوائد ونسبة عجز الموازنة للناتج المحلي الإجمالي، ومستوى عجز ميزان المدفوعات التجاري. ويرعى هذا القطيع الأعمال في 180 دولة في العالم، لذا لا وقت كافياً عنده لأن ينظر إلى مواقفك وأحكامك ومخاوفك بالتفصيل. إنه يتوصّل إلى أحكامه بصورة خاطفة جداً عما كنت تعيش، استناداً إلى قواعده ولغته ونظمه ليس إلاّ".

 

أ - ­ سلطة الدولة في القرن الواحد والعشرين
يقود هذا الخطاب إلى الترويج لحرية نقل المعرفة والمعلومات إثباتاً لغياب المركزية الأميركية، لكن هذه النظرة لا تنفي خضوع دول العالم لنسق المعايير السياسية والاقتصادية التابعة بدورها لمركز ما. وهذا يعني "أنّ ديمقراطية انتشار المعلومات ما زالت أسيرة الفلسفة الفوضوية الظاهرة أو المرحلة الخيالية".
وقد يصحّ وصف هذه المرحلة بالخيالية، لأنّ منطق الحروب العسكرية لم يتراجع، حتى ولو كانت هذه الحروب في أقصى تجليّاتها تفرز معارك وهمية خيالية وإعلامية. صحيح أن هويّة الحروب تغيّرت، لكن جنود الولايات المتحدة باتوا "قراصنة المعلومات في العالم، يفرضون سقوطاً ذريعاً لمفاهيم السلطات الخام في المجتمعات المتطوّرة، ويستبدلون بها قدرات الوصول إلى بنوك المعلومات وشبكات الإتصال في العالم ومراقبتها".  وإذا ما أصبحت السلطة مسألة رقمية تقتضي إدارة المعلومات وربطها بمقرّات القيادات العسكرية الموجودة في عواصم الدول الكبرى، فإنّ نتائج الحروب لم تتغير كثيراً إلا في مضاعفة الإنهيارات والإمعان في التخريب. لماذا؟
لأنّ أصحاب القرار يمارسون الحروب عن بُعد، وبلغةٍ انكليزية واحدة تقريباً، لا يرون فيها سوى الصور الوهميّة لمواقع الخصوم على الشاشات، وهم يشابهون في ذلك أطفال العالم الذين يتمرّسون على القتل والإنهيار في ألعابهم الإلكترونية، وكأنّهم يعاودون ممارسة طرائق الطفولة وألعابها في شنّ حروبهم الحديثة، فتغدو الشاشة ملعباً عالمياً للإنهيار العالمي.
هكذا يتكامل الأطفال والبالغون وفق تبادلية دائرية بين الشاشات التي ترصد العالم ساحة معارك فعلية، والشاشات الإلكترونية التي تختصر هذه المعارك في صور وألعاب، يلعب الصغار لعبة الكبار ويلعب الكبار، بدورهم، حروبهم وكأنّهم عادوا صغاراً، وتتكامل، تالياً، حلقة الانهيار بين الواقع والخيال.
على أساس من هذه الأفكار والوقائع نقرأ نصوصاً حافلة بالتهويل، مثل: يا حكومات العالم الصناعي العملاقة المنسوجة من لحم وفولاذ، إنّني أصل من الـ Cyber-space المسكن الفكري الجديد. لن نقول لكم: أهلاً وسهلاً في ما بيننا، ولا سيادة لكم بين ظهرانينا... إنّ مقولاتكم حول القوانين والملكية والتعبير واللغة والهوية وحركتكم ومحيطكم لا تنطبق علينا. إنّها قائمة على المادة وليس من مادة هنا.. هكذا ما عادت الدولة نبع السلطة والهوية والشرعية. كنّا نطوي، بالأمس، الأرض لصالح رأس المال، لكننا نحوّلها اليوم إلى مركز تجاري عالمي ضخم، تخترقه وتستعبده الإلكترونيات وسلطات الإعلام. إنّه "هونغ كونغية" الكرة الأرضية.
ولأنّ هذا المركز الكوني موزّع على شاشات العالم، فهو غير خاضع لأنظمة السوق التقليدية، لأنّها هي السوق الشاسعة التي تستوعب الدول بلا حدود أو تحديد. وقد نجد شركات عالمية عابرة للقارات تقوى على الدول (بالمعنى الاقتصادي) وترسّخ التخصّصية (Privatisation)، حاجة ماسة لنموّ الدول أو استمرارها فتسم بها العصر الحالي.


 
ب ­- "التقاتل على المواقع" Land Claim أو حجز الأراضي
تبدو الصورة الخاصة بعلاقات الدول والمؤسسات الكبرى والأفراد في مرحلة تسمّى بلغة المعلومات Land Claim أي حجز الأراضي أو المواقع الإلكترونية أو فتح الصفحات الإلكترونية، وهي صورة يستعيد بها العالم هجوم البشر على القارة الأميركية بعد اكتشافها من قبل كريستوف كولمبوس، حيث كان يكفي لأيّ كان أن "يضع يده" على قطعة من الأرض ويحتلّها لتصبح ملكاً له وميداناً لتحقيق سلطاته وأفكاره.
أليس التسابق الحاصل اليوم بين البشر لحجز المواقع على صفحات الإنترنت تاريخاً يعيد نفسه؟ يكفي أن يبتكر الانسان المعاصر فكرة أو مشروعاً ما، ليحجز له موقعاً يمنحه إسماً، ومنه وبه يتصل ويحيا وفي ذهنه تطويع الكرة الأرضية بمعناها الإنترنتي.
ألسنا في "مشاعية المعرفة"  والسلطة على السواء؟
إنّنا، باختصار، على طريق لم تتحدد به مسارات العولمة نهائياً بعد، ولربّما كانت دول العالم على طريق "عقد عالمي سيفرض نفسه قوةً كبرى في القرن الواحد والعشرين، وسيلعب أدواراً بعيدة كل البعد عمّا لعبته الرأسمالية والإشتراكية وما انبثق عنهما في القرن التاسع عشر والربع الأخير من القرن العشرين... إنّنا حكماً على أبواب عالم جديد".

 

ج ­- إنهيار بعض المصطلحات الإستراتيجية
يلاحظ انهيار عدد كبير من المصطلحات والمفاهيم الاستراتيجية التي كانت تربط دول العالم بحلول عصر العولمة، ويبدو العالم وكأنه يخرج من ظواهر التبعيّة ومشتقّاتها وما رافقها من أفكار وحروب وصراعات قسّمته إلى شرق وغرب، وشمال وجنوب أو غني وفقير ومرسِل ومتلقّ.
إنّنا أمام ظاهرة عدم التبعية مع السقوط "الخيالي" للسلطات، إذ لم يعد رخاء بعض الدول المتقدمة قائماً على الفقر المدقع للدول النامية، إنْ لم نقل المتخلّفة. فقد خرج فكر السيطرة المباشرة وانقياد الدول عن تحريك التاريخ، وانهارت معه صياغة التكتّلات التي كانت تأتي بكمّ هائل من الأسئلة حول العالم الثالث أو الثاني. تراجعت هذه التسميات في أدبياتها الكثيرة، وأدّت، تالياً، "إلى المساهمة بسقوط إمبراطوريات كبرى أو دكتاتوريات في أوروبا الشرقية والوسطى عبر إمكانيات التقاط محطات التلفزة بواسطة الأقمار الصناعية أو تقنيات الإتصال الحديثة". 
هذه الانهيارات في عصر العولمة لم تمنع الدول والمجموعات في البلاد العربيّة، مثلاً، من الإقرار بأنّ تقنيات العولمة هي التي تحدّد عصريتها وقوتها أو تقليديّتها وتخلّفها، وهي تبدو أمام خيارين لا ثالث توفيقياً بينهما: إمّا السيطرة عليها ودخول أفلاكها، أو القطيعة معها والانغلاق عنها، ويبدو الخيار الأول راجحاً، لأنّ شعباً ما لن يقوى على المستقبل إلا إذا دانت له القدرات على استقبال المعلومات وإرسالها، فنقرأ:
"ما الخسارة العربية إنْ أصبحت الثقافة أفقيّة بعدما كانت عموديّة لا تحيد؟ وهل يفترض أن تبقى المعرفة محكومة بالمرور من الواحد إلى الجميع؟ وهل يخسر العرب إن انتقلوا من عصر الإنتشار الضيّق (Narrocasting) إلى عصر الإرسال الواسع (Broadcasting) حيث يستطيع كل فرد أن يطال المعلومات التي يرغب بها؟" .
لا تلغي هذه الأسئلة، الممثلة للتيار "الإنترنتيّ" من الشباب، التيار المناهض الذي يقف من الإنترنت والرقمية مواقف مشابهة لما وقفه أجدادنا من العربة والطائرة والهاتف والراديو والتلفزيون والموسيقى والصورة والنحت ومجمل المفاهيم التي كانت ترمز إلى الحداثة أو الى الغرب بشكل عام.
المفارقة الجديدة، هنا، هي أنّ المناهضة لا تقتصر على شعوب العالم الثالث وحسب، بل نشهدها تنتشر على قدم وساق في أوروبا واليابان، ومعها كلها عدد كبير من البلدان النامية التي تعيش العولمة وتهاجم الغرب في الوقت نفسه، (وهو ما سنورده في نهاية هذا الفصل.)

 

2 -­ أطر"نهاية العالم" بين الألفيتين
أ - ­ الأطر الأسطوريّة والدينيّة
تأتي الأفكار والآراء والاتجاهات المرتبطة بالفوضى مثقلةً بالأوهام والهواجس والأساطير التي كانت وما زالت تروّج لنهاية العالم والتاريخ والإنسان. وتشاء الظروف أن تترافق هذه كلُّها في زمن تحبو  فيه البشرية في الألفية الثالثة، الأمر الذي طبع الفكر المعاصر بالمغالاة في نبش كل ما يتعلّق بالتداعيات الكبرى، إلى درجة بات فيه القول بأننا على حافة النهاية، "وأن نهاية العالم المحكوم بالشيطان قادمة لا محالة" وكأنّه صحيح وواقعي.
وتتكرّر الأقوال المشابهة مثل "الدينونة الكبرى" و"يوم الدينونة" و"تؤلّف ولا تؤلفان" و"عودة المسيح" و"دنوّ الساعة" و"اليوم الآخر" الذي "سيطبق على العالم كالطامة الكبرى"، والذي حُدّدت له تواريخ أقصاها العام .2090 وتُعتبر هذه الأفكار الحافلة بالتهويل والانهيار قديمةً جداً.

 

ب -­ الأطر الحديثة
ليست يقظة هذه الأفكار والأساطير واستعادتها في زمن الحروب والفوضى، إلاّ  لأنّ ظواهر طبيعية وبشرية باتت شبيهة بما ذكرته الكتب القديمة والكتب المقدسة.
وبدت القوة معولمة على ارتباطها بالفكر "الألفي" أميركية الملامح ومصدر انهيارات متجددة، وفي هذا قمة التلاقي بين الفكر السياسي العالمي والأساطير الخرافية. وإلاّ كيف نفسر قول الرئيس الأميركي: "حينما أتطلّع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلاقات المثبتة بـ"هرمجدون" أجد نفسي متسائلاً عمّا إذا كنّا نحن مَن سنرى نهاية العالم واقعاً. إنها قطعاً تنطبق على "زماننا الذي نعيش فيه" .
لا تعود العولمة من محصلات الدول في لحظة من لحظات تضخّم قوتها وفيضها على العالم وحسب، بل إنّ حضوراً كبيراً للفكر الصهيوني في السياسة والاعلام في أميركا يبدو واضحاً ومروّجاً للقيامة وحاصداً للفوضى المنظّمة في منطقة بتوليّة غنية، محذّراً من "أن العالم يتحرّك بسرعة كبيرة نحو "هرمجدون"، وأن جيل الشباب الحالي سيكون آخر جيل في التاريخ".
ولا يخرج التدفق العالمي على القدس بين الألفيتين عن الترويج لإعلان هذه القيامة التي يتزعّمها المسيحيون الجدد. في الجامعات ووسائل الاعلام في الولايات المتحدة الأميركية، ويتسلحون في ترويجهم لها بالهزّات الأرضية المتكاثرة والأمراض الجديدة والأخطار النووية وغيرها.
يُضاف إلى هؤلاء، المجموعات المعمدانية والمنهجيون ومجموعات بيت دافيد المقتنعين بأنّ فرسان القيامة الأربعة هم على وشك أن يمتطوا أحصنتهم في العام المقبل (2002)... ويقسّم هؤلاء إلى نوعين: الانتحاريون الذين يعملون على تسريع حدوث القيامة من خلال تفجير الجوامع (الأقصى وجامع عمر في القدس...) والدعوة إلى هوس التدمير وإحياء المجموعات الأصولية اليهودية مثل "أمناء الهيكل" الذين يسعون إلى بناء هيكل ثالث في القدس.
تتمثّل هذه الأفكار في الانهيار في المواد الاعلاميّة المتنوعة والأدبيات المختلفة التي تطبع هذا القرن، ولا ينجو منها حتى العلم المحض والمظاهر التقنيّة الدقيقة.

 

ج- ­ الأطر العلميّة
قد نجد مَن يعزو نهاية العالم إلى أسباب علمية، مرتبطة بالكشف عن الوجوه السلبية للعلوم، فيرى أن العالَم مهدّد في أجناسه بالانقراض التام، لأن الانسان دمّر الطبيعة وذاته في الوقت نفسه، وأدخل نفسه في جدلية "اليوم الأخير" ومخاطرها.ويندرج في هذا الإطار، مظاهر كبرى من المخاطر مثل التلوث الذي يلفّ الكرة الأرضية، طبقة الأوزون، وجنون البقر، والأسلحة الجرثومية والكيماوية والخوف من الحروب النووية، والليزر، ومرض الإيدز وغيرها الكثير. والملاحظ أن كل ما يرتبط بالنهايات والانهيارات يقدّم في مواد إعلامية مثقلة بالتشويق والأهداف التجارية، فتبدو الصحافة متقّدمة في خلق هذه الهواجس في عصر العولمة. وإذا كان ثمة مشكلة عالمية علمية، ففي بداية "فقدان الذاكرة التاريخية النابع من قدرات التكنولوجيا، إذ لم يكن هذا القرن هو الأكثر فتكاً وانهياراً رغم جرائمه الكبرى".
ولا يعني فقدان الذاكرة سوى ضمور الإنسان واستبدال سلطاته بسلطات معلوماتية هائلة مودعة في جهاز كومبيوتر خفيّ وشاشة متشظية على عدد مستعمليها وذات فعالية فائقة في أنظمتها الذكية الإصطناعية، تبشّر بعصر الذكاء الذرّي.

 

­ تداعيات الإنسان الرقمي المعاصر
أ - ­ الذكاء الذرّي
أفضت هذه الأطر من الإبتكار ­ الإنهيار إلى فكر بشري قادر على التحرّر من "عبودية" الجسد، فتتمكن الآلات من برمجة وضع تصاميمها وإعادة بنائها في منافسة للعقل، والتفّوق على قوته في مرحلة ثانية.
ويعني هذا وضع آلات فائقة الذكاء قادرة على إنتاج ذاتها بذاتها إلى ما لا نهاية وفق ظاهرة التصغير أو علم "النانوتكنولوجيا"(23) ويبنى هذا العلم على التعاطي بمهارة بالجزئيات، وفق علوم هي مزيج من الكيمياء والفيزياء والهندسة، قادرة على إيجاد آلات تصنّع آلات أصغر حجماً منها، وكلّها بإدارة سلطة السلطات، ونعني بها الكومبيوتر. إنّه إدارة علم الذرّات والسلطة العالمية التي تروّج للذكاء الذري، ومعه نشهد خطى سريعة نحو الآلات التي تعيد إنتاج ذاتها إلى ما لا نهاية(24). وهذا يفترض إيجاد أجهزة كومبيوتر تصبح في أبعاد الميكورن، أي واحد من ألف من الميلليمتر.
يخضع هذا التوجه المعروف بالانكماش حتى درجة التلاشي مع إمكانية مضاعفة قدراته وسهولة استعماله، إلى ابتكار رقاقات الكومبيوتر التي تخضع بدورها لقانون مور الذي ينصّ على أنّ الرقاقات هذه ستبقى تتضاعف كل ثمانية أشهر، وهو العمر المتعارف عليه في أحجام أجيالها، ثم تنخفض كلفتها مع انخفاض حجمها. وهكذا تبقى الأجيال تتلاشى وتنقرض إلى ما يفوق التصور. ويتوقع الخبراء أن يصبح الحاسوب أصغر حجماً، وأرخص ثمناً إلى الحدّ الذي يجعل الرقاقة الواحدة مماثلة لحجم الخلية الانسانية التي ستتمكن البشرية من زرعها في الأجسام أو الأدمغة والتحكّم بها.
ما هو مستقبل الإنسان في ضوء هذه الابتكارات؟ وهل نحن على أبواب متغيرّات وتحّولات كبرى في قدراته؟
لا تغيّرات، بل على العكس من ذلك! لماذا؟
لأنّه من الصعب التكهّن كيف ستكون أدمغة إنساننا الآتي، وهل سيختلف كثيراً عنّا. فهناك دراسات ترى أنّ الأطفال الذين يرون أفلام اليوم أو البرامج القصيرة التي تعبر عن اللحظة "والمقابلات القصيرة جداً"، والإستغراق في الألعاب الإلكترونية، كل ذلك سيخلق منهم أصحاب قدرات علمية أكبر من قدراتنا تسمح لهم بفضل التدرّب على تنمية مبكّرة لطاقة قوية ما شهدناها من قبل، وتسمح لهم، بالطبع، باستيعاب تعقيدات المواقف المتعددة.
"وإذ يتحاور السياسيون حول التراث والتاريخ، يظهر جيل جديد متحرّر من الأفكار المسبقة كلِّها في المشهد الرقمي. هؤلاء الصبية ليسوا مجبرين على التجاور الجسدي لتوفير ظروف صداقاتهم بما يجعلهم متعاضدين، بل يلعبون ويشعرون بتقاربهم وتفوّقهم وذكائهم الخارق... وهم يعتبرون أنّ التكنولوجيا الرقمية تشّكل قوةً طبيعية صارخة تشدّ الناس نحو تناغم عالميّ أو ذكاء عالمي أوسع".
وإذا ما اعتبر هذا الذكاء المتدفق نوعاً من الهرطقة العلميّة، لأنّه مسألة طبيعية لا يمكن تصنيعها، ولأنّ المخ لا يحاكى أو يُقلَّد بالنسبة للبيولوجيين، أو إذا اعترض اللغويون على إمكانيات محاكاة السلوك اللغوي الزاخر بملكات ذهنية ونفسية يصعب تفسيرها، أو إذا حكم علماء النفس بعدم جواز فصل المعرفة واللغة عن المشاعر، كما يحكم علماء الحاسوب على الذكاء بأنه آلة تكرارية تعيد ما سبق وتمّت تغذيتها به، ولا يمكّنها من استحداث معلومات جديدة. نقول على الرغم من هذه الاعتراضات كلها، يتابع مهندسو الذكاء قناعاتهم الراسخة التأكيد بأنّ هناك نموذجاً محدّداً ولغة حاسوبية لكل نشاط معرفي، إستناداً إلى وظيفية الدماغ البشري. ويستندون، في ذلك، إلى أمثلة حسية تدل على الذكاء الإصطناعي كالنّظم الآلية القادرة على تشخيص الأمراض، وآلية لعبة الشطرنج التي هزمت فطاحل اللاعبين المحترفين، ونظم تحديد الثروات الجيولوجية، ومحاولات الترجمة والنقل الآلية بين الانكليزية ولغات أخرى، وعدد كبير من النظم والنظريات الرياضية التي تجعل الشخصية البشرية في حالة انهيار وضمور قبل أن تتكلم أو تعلم، تسبقها الآلة لإثبات ما عجزت عنه الوسائل التقليديّة الملتمسة .

 

ب -­ المجتمع الرقمي
وإذا ما تدفقت الأفكار والفلسفات الحديثة التي "تحاول مصالحة الانسان مع التكنولوجيا بعدما حوّلته إنساناً رقمياً.."، فإنّه إنسان يعيش في مجتمع له صفات جديدة متعددة. إنّه مجتمع ما بعد الصناعة أو ما بعد الحداثة، وهو مجتمع المعلومات أو المجتمع الثالث حيث عصر الكومبيوتر وثورة الإلكترونيات وانفجار المعلومات وثورتها أو ثورة الإتصال وعصر اقتصاد المعرفة.
إنّه المجتمع العالمي حيث انهيار الأرقام وسحقها وهندسة المعرفة والمنزل الذكي )(Smart Home والمدن الآلية )(Computerized Cities والمقاهي الإلكترونية   )spohseeffoC cinortcelE(، وطرق المعلومات السريعة وصناعة الأخلاق (Ethics Industy) .
إنّه مجتمع التكنولوجيا حيث الأرقام والرموز بأنواعها مع الصوت والنص والصورة، مع المكتوب والمنطوق، مع المحسوس وغير المحسوس، مع العقل والأسرار البيولوجية الدفينة، النفسية منها، الوهمية والممكنة. وتنتشر أشياء هذه المعلومات من أدوات المطابخ إلى المفاعلات الذرية. إنّها صناعات الأوهام التي تسعى لإقامة عوالم مصطنعة مركّبة وغير واقعية وتبدو التكنولوجيا فيها مثل الماء والغذاء والهواء.

 

ج ­ -الإنسان الرقمي
الإنسان الرقمي هو المزّود بقدرات وطاقات معلوماتية، يحسن السرعة على جادات المعلومات من دون أن يكون صاحب اختصاص أو كفاءة. ويصبح عدم الكفاءة بالمعنى الجديد، الكفاءة الجديدة الشاملة، حيث الفرد هو مجموعة من الخبرات والطاقات. يحمل هوية وهمية "سائلة" "مائعة" "متحركة"، لكنّها قد لا تأخذ دمغتها إلاّ خلف الشاشة حيث يعمل الناس سوياً وتزول الأقنعة البشرية عملياً عن بُعد.
يتراكض الناس، تحدوهم الرغبة الرقمية، للإشتراك بالإنترنت وتقنيات الإتصال، لأنّ شعوراً ينتابهم بالإحباط والعجز إن لم يشاركوا في نسيج القشرة الدماغية العليا ووظائفها العالمية.
تبدو السلطة في الإنتساب إلى هذا اللحاء البشري مرعبةً، خصوصاً وأنه انتساب يعني في ما يعنيه أن واحدنا موصول بالبشرية كلها صامتاً أو هامساً، يسمع صداه أو صدى الآخر.

 

د -­ مواصفات الإنسان الرقمي
يبدو الإنسان "الرقمي" أو "الإنترنتي" أميركي الملامح، نراه في تجمّعات واضحة من الشباب والشابات في عواصم البلدان النامية. تجمّعات غريبة في لباسها وسلوكها وتسريحات شعورها ولغاتها عن تقاليد المدن (يشعر الناظر إليها وكأنّه في الجادة الخامسة في نيويورك أو في الشانزيلزيه في باريس).
إنّه جيل"الفاست فود" )(Fast Food (الوجبة السريعة) أي جيل، لا الأمركة وحسب، بل جيل "الكوكلة" نسبة إلى مشروب كوكاكولا المضغوط مثل نمط الحياة الأميركية. وهو جيل "الكوكالونيالية" أي استعمار لسان البشرية وذوقها لا قسرياً بل عن طريق غواية الطعم وسحر الاعلان، والـ  "ماكدونالية" نسبةً إلى "ماكدونالد" الذي يصبح رمزاً للأمركة المأكولة بدلاً من أمركة الشراب... بالإضافة إلى "كنتاكي تشيكن"  و"الهاردروك"، والشاشات العملاقة والرقص في الساحات تلويحاً بالأيدي إلى فوق، وشوكولا "مارس" و"الكيت كات"... ورقصات "الروك إند رول". يبدو الإنسان الرقمي مرتدياً الجينز أو "الشورت" وذراعه موشوم بما يشابه وشم ذراع راعي البقر الأميركي في إعلانات "المارلبورو" التي تحتلّ واجهات العالم، وهو وشم مستقى أساساً من الميراث الهندي الشرقي القديم. وغالباً ما يحمل أكياس البطاطا "التشيبس" في الشوارع أو "قناني" الحليب وغيرها "البلاستيكية"... معتبرين أن المعركة تسكع واختلاط على الأرصفة، ورطانة بألسنة عوجاء لا مكان فيها للغة الأم على الإطلاق.
إنّه الإنسان في حالٍ من الدهشة الدائمة، نراه يصرخ ولأتفه الأسباب: WAW، واو، يس، Yes؛ هو جيل النسكافيه (Nescaf) ووجبات الطهي على المايكرويف وكل مشتقات السريع الذوبان. يقضي وقته أمام شاشات التلفزيون ومع برامج الكومبيوتر والإنترنت. وهو مقبل بلهفة لا تصدّق على الجامعات الأميركية "ولو أن تسعين بالمئة من الشباب تمكّن من الدخول إلى الجامعات الأميركية لأعرض بالكامل عن الجامعات الوطنية" .
وتعتبر أميركا بالنسبة لهؤلاء الشباب الفردوس الأرضي حيث الانجذاب الكامل لثورة الاتصالات والإنترنت والخليوي والسيارات الفارهة... فالسيارة مظهر من مظاهر الرقيّ الاجتماعي، وشاهد على القوة والثروة والحرية..." .
والسرعة مقياس الرجولة، و"الكونكورد" هي الحلم. "لو قدّر لسكان المعمورة أن ينتخبوا الحياة التي يريدون، لانتخبت الغالبية العظمى منهم حياة الطبقة الوسطى السائدة في أحياء "سان فرانسيسكو"، ولاختارت أقلية منهم مطّلعة على واقع الحال، مستويات الرعاية الاجتماعية التي كانت سائدة في ألمانيا الغربية في السنوات التي سبقت انهيار جدار برلين، ولكانت التشكيلة المترفة التي تجمع بين "فيلّلا" في البحر الكاريـبي والرفاهية السويدية حلم الأحلام بالنسبة لها..".
الإنسان الإنترنتي هو الإنسان الذي يسأل نفسه: ماذا سيحصل بعد؟ بدلاً من السؤال: ماذا سنفعل؟ لا يختفي الإنسان بالطبع، بل يبقى كائناً حياً منسجماً مع الطبيعة. ولا تعبّر هذه النهايات سوى عن نهايات الحروب والصراعات الدموية، ويتوصّل الإنسان، بفضل قدراته الرقمية، إلى مجتمع تغدو فيه حياته شبيهة بحياة الكلب المستلقي في الشمس طوال النهار... سعيد ما دام قد حصل على غذائه، ولأنه راض تمام الرضى بما هو عليه، فهو لا يخشى أن تفعل الكلاب الأخرى ما هو أفضل منه أو أن تبقى مهنته ككلب مراوحة مكانها... وبنهاية الإنسان نصل إلى نهاية التاريخ، بمعنى يشمل الفن والفلسفة وانهيارات اللغات المكتوبة، إذ لن يكون في المستطاع بعد كتابة شيء جديد حول وضعية الإنسان، والفلسفة تصبح مستحيلة لأنها تردد قديم الجهالة... وإذا أصبح الإنسان، حيواناً مرة أخرى، فإنّ فنونه، هياماته وألعابه ينبغي أن تصبح بدورها "طبيعية". ينبغي أن يكون مقبولاً إثر نهاية التاريخ، أن يقيم البشر أبنيتهم وأشغالهم كما تبني الطيور أعشاشها ]العودة إلى الغريزة[، وكما تنسج العناكب بيوتها، وسيقيمون حفلات على طريقة الضفادع والزيزان، وسيلعبون كصغار الحيوانات، وسيمتنعون عن الحب كحيوانات راشدة".

The general collapses to the era of constructive anarchy

The researched sees that the continuation of the collapses that accompanied the 3rd millennium anarchy that dominated the different aspects of contemporary life. And as the researcher wonders about “organized anarchy” , while excluding any kind of organizations within anarchy ,he comes out with the following conclusion: with the sovereignty of anarchy ,it will possible to impose the ideas and maps that seem to be strange rejected that the anarchy causes in the structure of society and state . the researcher passes next to elucidate the roots of organized anarchy within itself globalization for the considers it the direct responsible of these successive collapses which lead according to the researcher ,to the collapse of life and the end of the world , while reminding of the legendary frameworks ,religious bases, and the scientific causes that world .the researcher exposes the light on the results of the phase of globalization at the level of communications and data revolution the bases of “nuclear intelligence” , the inventions of ‘the digital man” … while arriving to the modern over developed components, that to hit the current life style and to replace it by the new form. In the middle of all that, constructive anarchy comes as being the tool practices for the destruction, so that the one that holds this tool can seize itself later the construction tool, in order to establish the new states that reply to its interests. Leaving of this perspective, the United-States and the values of its corporation become the expression point and the paradise on earth for the generation attracted by the revolution of the TVs- communications ,internet ,cell one , and luxurious cars. This is while “the man netsurfed “ ,as the researcher defines it ,will not be other than a simple … animal ,that organizes its ceremonies as the frogs a plays as the small animals

Les effondrements généraux à l’époque de l’anarchie constructive.

Le chercheur remarque que la suite des effondrements qui accompagne le 21ème siècle, représente l’anarchie qui a dominé les différents aspects de la vie contemporaine. Le chercheur s’interroge à propos de «l’anarchie organisée», et ceci en excluant n’importe quelle organisation au sein de l’anarchie, il en tire la conclusion suivante : Avec la souveraineté de l’anarchie, il serait possible d’imposer les idées et les cartes qui semblent être rejetées à l’extérieur du cadre de déchirement qu’effectue l’anarchie dans les composants de la société et de l’Etat.

Ensuite, le chercheur tente d’élucider les racines de l’anarchie constructive dans le processus de la mondialisation considérée comme etant le responsable direct de ces effondrements successifs ; ces derniers introduisent à leur tour, selon le chercheur, l’effondrement de la vie et la fin du monde, en se rappelant des cadres légendaires, des bases religieuses, et les causes scientifiques qui s’entrecroisent dans la formule de la fin du monde.

Le chercheur met la lumière sur les résultats de la phase de la mondialisation au niveau de la révolution des télé – communications et de l’informatique, les bases de « l’intelligence nucléaire », les inventions de « l’homme digital » … en arrivant aux composants modernes très développés, et qui œuvrent sans cesse à frapper la forme de la vie courante et la remplacer par la nouvelle forme. Au milieu de tout cela, l’anarchie constructive vient comme étant l’outil pratique pour la destruction, de sorte que celui qui détient cet outil puisse s’emparer ensuite de l’outil de construction, afin d’établir les nouveaux états qui répondent à ses intérêts.

En allant de cette perspective, les Etats – Unis et les valeurs de sa société deviennent le point de mine et le paradis sur terre pour la génération attirée par la révolution des télé – communications, de l'Internet, du cellulaire, et des voitures luxueuses. C'est alors que « l'homme internaute », comme le définit le chercheur, ne serait autre qu'un simple… animal, qui organise ses cérémonies comme le font les petits des animaux…