أمهات مبدعات

الابداع بين ضفتي الامومة والفكر
إعداد: جان دارك ابي ياغي


إملي نصرالله وكلوديا شمعون أبي نادر ومي منسّى يتحدّثن عن تجربتهن

لعل الأمومة أجمل إبداعات الحياة، والإبداع أجمل تجلّيات الفكر.
فبين إبداع الحياة وإبداع الفكر، مسيرة مَشَتْها نساء كثيرات.
«الجيش» توجّهت بثلاثة أسئلة الى
ثلاث أمهات أديبات لبنانيات حول هذه المسيرة.
1- أنت كأم شهدت ولادتين: ولادة ولدك، عطيّة السماء لك،
وولادة أعمالك الإبداعية، بنات أفكارك، فكيف تنظرين الى هاتين الولادتين،
أيهما ترومين أن تخلّدك؟ ولماذا؟
2- ما كان دور بنات أفكارك في تنشئة فلذات أكبادك؟
هل كانت عائقة، أم ميسّرة؟ وهل كانت لأبنائك بمنزلة «أخ لم تلدهُ أمّك»؟
3- ما هي وصيّتك لولدك كأم وكأديبة، ولا سيما في السهر على «إخوته» بالفكر؟
إملي نصرالله، كلوديا شمعون أبي نادر ومي منسّى، يجبن في ما يأتي عن الأسئلة.

إملي نصرلله:  لست أدري إن كنت أختلف عن أي أم


1- أعتبر كلاًّ من الولادتين هبة الحياة التي لا تُثمّن؛ إنما لا تجوز المقارنة بين ولادة الطفل، والتي عندها تتساوى كل الأمهات بالعطاء وبالتميُّز الذي جعل من الأم، وهي الإنسانة العادية، واسطةً لاستمرار الحياة والبقاء؛ وبين ولادة عمل أدبي، هو ثمرة تتفرّد به الكاتبة، ويخصّها وحدها، إذ هو حصيلة طموحها، وسعيها الى جانب موهبة طبيعية.
أما الطمع بالخلود فله حديث مختلف، إذ أن بذرته، وإن لبثت في خلفيات اللاوعي، وتقود الخطى نحو الإرتقاء، فإنها تظلُّ مبهمة، ويتقدّم عليها الوجود العملي، يدفع الأم لتؤدّي واجبها بمتعة وحنان، مثلما يقود الكاتبة كي تواصل إبداعها بشغف ولذّة.
2- لست أدري إذا كنتُ أختلف عن أيّة أم بالنسبة الى تنشئة أولادها؛ فقد اجتهدت دائماً لأكون معهم الأم وحسب، وأعطيهم أفضل ما في كياني: حبّي وعاطفتي. أما الكاتبة، فظلّت تسرق منهم الوقت سرقة، لتمارس هواية رافقتها منذ تفتُّح الوعي: الكتابة.
أحياناً، كان أولادي يذكّرونني بلحظات تقصير معهم، حين كان يخطفني منهم الهوى الآخر؛ لكني حرصتُ على ألاّ يكون لذلك أثرٌ سلبي. والحمد لله أنّهم وعوا ذلك ولو بعدما نضجوا، وباتوا يعرفون قيمة الجهد الذي تبذله المرأة - الأم - حين تحاول المحافظة على التوازن بين عملها وتربية أولادها.
3- بالطبع، أحاول أن أنقلَ الى ولدي خلاصةَ ما لقّنتني الحياة من دروس، الحلو والسهل، كما المرّ والمتحدّي، لأن أمّاً ثانية تتسلّمه بعدما يَشِبُّ ويغادر حضني، وأقصد أمّنا جميعاً: الحياة؛ والتي تبدو في بعض الأوقات قاسية. إلاّ أن لقسوتها تلك، غايةً، لو نحن أدركناها وفهمناها، لما كنّا بحاجة الى تكرار: الدرس والأخطاء.
وليس لديّ ما أُضيفه الى ما تعلّمه ولدي بالمثال من أمه ومن أبيه، لأن خير الدروس التي ننقلها الى أولادنا، هو أن يعيشوا بصدق النوايا والأعمال؛ فلا يكذبوا على أنفسهم أولاً، وقبل أن يكونوا صادقين مع الآخرين.
وثمة درس آخر أريد أن يمارسه إبني في حياته، من خلال تعامله مع الآخر، واعتباره إنساناً مثله، مهما اختلف عنه بمواصفاته من عرق ولون أو دين ولغة وهوية.
أما الدرس الأول والأهمّ من كل شيء، فهو المحبة، وتكون رفيقة دروبه وسلوكه في تعامله مع الناس كما مع سائر المخلوقات.

 

الدكتورة كلوديا أبي نادر:  أفضل ما عندي
1- رزقني الله بفتاتَين بترا وباميلا، وهما محور عمري، وفرحة حياتي. علماً أن الأمومة لا تعني الإنجاب وحسب، بل هي أيضاً أسلوب عيش وطريقة تعاطي مع الآخرين. فالأمومة تشمل العطف والحنان والتفهّم والتضحية، وبالأخص نكران الذات في بعض الأحيان بهدف مساعدة مَن لا عون لهم وإسعادهم.
أمّا الولادة الفكرية فهي ماهيّة وجودي وقبلة طموحاتي، ما من مسافة بيني وبينها، تماهينا كليّاً. دائماً يُرَدَّد على مسامعي: «ألا تتعبين، ألا ترتاحين؟» كيف يمكن للإنسان أن يرتاح من نفسه؟ فالمحاضرات والندوات والمؤتمرات والبرامج التلفزيونية، لا تتعارض مع عملي كأستاذة جامعية وككاتبة. فالفكر لا يتجزّأ، بل يتّخذ أوجهاً عديدة ومتنوّعة.
شخصياً، لا أرى الخلود إلا من خلال الإنسان، لا شك أن الكتابة تُخلّد إسم الكاتب. حلمي أن أُزرع في قلب كل من عَرفني، لأنني، وبلا شك، سأُزهر حينذاك في الأجيال الآتية. وكلما نبض قلب بي، أعاد إحيائي ونفى موت جسدي.
2- الأمومة لا تُختصر بالأمور المادية، أو العطف والحنان فحسب؛ صحيح أن عملي واهتماماتي الثقافية، ومسؤوليتي كرئيسة «مجلس الفكر»، أمور سرقت ساعات كان بودّي تمضيتها مع بناتي. إلاّ أنني أؤمن أن الحب لا يعني التلاصق الجسدي؛ فالأولاد يتشرّبون نفسيّة الأهل وعقليتهم، من خلال التربية. فبناتي تربيّن في بيئة قدّست الحرية والإستقلالية والإعتماد على النفس. طوال تسع سنوات، بعد زواجي، تابعت دراستي وحصلت على عدة شهادات، بجانب التدريس والواجبات الإجتماعية، وفي ظروف قاسية، سببها الحرب في لبنان. معاً، زوجي حنّينا أبي نادر وأنا، حافظنا على العائلة، ووظّفنا الوقت، كي لا تُهدر سنواتنا. والحب الحقيقي، بالنسبة اليّ، هو توفير كل ما يُسعد من نُحب، ويساعده على تحقيق ذاته، بفرح وثقة في النفس.
فالحياة ليست سهلة، ولا ترحم الضعفاء والمستسلمين والمتخاذلين - هي الحياة تدعم الذي يجابه، ويصمد، ويعرف معنى الطموح والإنجاز. ما من فشل في الحياة، بل سوء تصرّف، وعدم تخطيط، وقلة مثابرة، وادّعاء قاتل. ضريبة النجاح عالية، صحيح، إلاّ أن النتيجة تُنسي الإنسان التعب والسهر والتضحيات. جميع هذه الأمور لها مكان ما في تفكير بترا وباميلا. لم أعتمد الوعظ يوماً لأنه منفِّر، إلاّ أن الإرشاد واجب، والتوجيه ضرورة. أعلم أن إبنتي فخورتان بي، وكذلك زوجي، ولذلك لا أتعب، فمكافأتي في رضى ربي، ووالديّ، رحمهما الله ورضى عائلتي، وهل من جائزة أبلغ، وأعمق، وأجمل؟ ما هو أكيد، إني فخورة بعائلتي، وبعملي، وبمسيرتي الثقافية والفكرية.
3- كأم، أقول لبترا وباميلا: كونا ذاتكما. حاولتُ إعطاءكما أفضل ما عندي، بكل ما أوتيتُ من حبّ وقدرة على النضال. لا أطلب منكما تقليدي، وهذا ليس من طبعكما؛ كلُّ إنسان ملزم نحت شخصيته من خلال التجارب والمعاناة والنجاحات؛ ووحدها الصدقية تعرف الإستمرارية. أيا بترا وباميلا كلُّ مجدٍ باطل، إن بُنيَ على فراغ. إعملا على صقل أهم مكامن إنسانيتكما، فهي الأبقى؛ وليكن الفرح مشعل دربكما، والصدق منارة توقكما. جميلٌ هو الطموح، أما الأجمل فهي القناعة.
أيا بترا وباميلا، وحدها الثقافة تغذّي العقل وتجوهر الروح.


مي منسى:  يمضي الزمن وتبقى الأم
- يمضي الزمن وتبقى الأم أماً لا يقيلها عن مملكة الأمومة شيء ولا حتى في حالات مأسوية يتنكّر فيها الأولاد الى الأهل. واقع الأمومة هبة من الله، يكبر الولد ويبقى حبل السرّة بينها وبينه عالقاً، يطول مع مسافات العمر ولا ينقطع. معجزة الخلق هذه تحتاج الى إثنين لفعلها. فلولا الرجل لما كنتُ أماً. رجال يرحلون عن البيت الزوجي ويخونون عهده، ويبقى لقب الأم محفوراً على جبينها، فخورة إن نجح الولد وازدهر، مدافعة عنه بألم إن شطّ عن الدرب الصحيحة. الإبداع يبقى في ما تحقّقه المرأة بنفسها، بهذا المعول الذي تنقب به تربتها لتجني من اللاشيء نبعة ماء. هي كتبي تخلّدني. هو الكلام عليها في المنابر العالمية والمحلية الذي يعطيها وسام التقدير. تموت المرأة بعد أن تكون جنت أمومة وأعمالاً ويبقى الخلود لما زرعته بفكرها ومعرفتها.
2- بقدر ما تتمتّع به الأم من طموح يشق أمامها دروب المعرفة على غير صعيد، تربوياً كان أو ثقافياً وحتماً أخلاقياً، يكون مردوده على الطفل والرجل في ما بعد، قمحاً لا زؤاناً يتغلغل فيه ولا أعشاباً سامة. البيت الذي يؤثث في فضائه مكتبة قبل المقاعد والسجاد والتحف الثمينة، تبدأ من كتب الأطفال المصوّرة وتدريجاً الى كتب الرحّالة والمستشرقين، وصولاً الى الفلاسفة الذين أغنوا الفكر الإنساني ببحوثهم، لا بد من أن يترعرع فيه الولد في أمان. وكأن العلم الذي ينكش في تربة المرء يقيه التعثّر في خطواته شاباً ورجلاً ذا مسؤوليات.
إبني وليد مشى في هذه الدرب التي شُقّت له صغيراً، ينهل من الموسيقى والكتب ما يطيب روحه ومن الكتب السماوية أسئلة تتطلّب جَلَداً وإلهاماً ربانياً للإجابة عنها بشكل يُرضي فضوله الطامح دوماً الى الملموس واللاملموس. اليوم هو الأب الذي يأتيني بفتاتَيه حين أوقّع رواياتي. ولقد كتبت قصتين مصوّرتين من وحي سارة ولورا وكأني بدور الجدة هذا أستعيد دوري كأم. بعد سن معينة تغدو الأم لولدها أختاً وحليفة، يناديني أمام معارفه باسمي، فأشعر بكبر هذه العلاقة التي ما زالت تتطوّر وتطيب باحترام وحنان والتبادل الفكري. أطلب منه نصائح ويطلب مني أن أضع أحياناً معرفتي في بعض قضايا عمله.
3- في الحقيقة وصيتي لإبني - الوحيدة حتى الآن - تعلّقت بأمر واحد وحازم: إن أصبت بالخرف يا بني هذا الداء المريع «الألزهايمر» حاول بسرعة أن تجنّب أمك أن تكون مضحكة أمام الناس. خذني الى المكان المخصّص لفاقدي الذاكرة وانسني هناك لا أريدك أن تسرف لحظة من حياتك على شيء ما عاد منه فائدة. أما «أخوته» كما تسمّين أعمالي، فالزمن سيسهر عليها إن استحقّت خلوداً أو ترمى في مهملاته إن هي أصبحت مع الوقت عديمة الفائدة. الأولاد الذين سهروا على إرث أهلهم هم الآتون من سلالات عريقة في التأليف والنحت والموسيقى والرسم والإكتشافات...