دراسات تاريخية

الاستقلال اللبناني بين مطامع الدول والإرادة الوطنية
إعداد: العقيد أحمد علو

تلعب الجغرافيا دوراً مهماً في صناعة التاريخ، فتاريخ دولة ما، «هو دائماً، وفي الوقت نفسه، جزء من تاريخ الدولة المجاورة» كما يقول واتزل. ولبنان، هذا البلد الصغير الذي قال عنه مترنيخ في مطلع القرن التاسع عشر إنه في «منتهى الأهمية»، ينتمي جغرافياً الى هذه المنطقة الواسعة التي أطلق عليها الغرب، اصطلاحاً، اسم «الشرق الأدنى»، و«الشرق الأوسط»، وأخيراً «الشرق الأوسط الكبير»؛ هذه المنطقة الممتدة من تركيا الى سوريا والعراق وفلسطين وايران والجزيرة العربية ومصر، شكلت عبر العصور وحدة جغرافيا «متناقضة»، ففيها الصحارى والجبال العالية المكللة بالثلوج والسهول الخضراء والأنهار الغزيرة، وتطل على بحار عدة من الشرق والجنوب والغرب، وشكلت كذلك مهداً لأقدم الحضارات على وجه الأرض ومنطلقاً للأديان التوحيدية الثلاثة، كما أنها كانت عبر التاريخ مطمعاً للقوى العظمى والأمبراطوريات المختلفة من الغرب والشرق لما تحتويه من ثروات طبيعية، سواء كانت في باطن الأرض أم على سطحها.
وهكذا، أصبح تاريخ هذه المنطقة وليد جغرافيتها المتميزة بموقعها المهم كهمزة وصل بين أوروبا وآسيا وإفريقيا، (بأرضها وبحارها)، وتزداد أهميتها كلما نظرت إليها الدول الكبرى بعين مصالحها وأطماعها، أو ضرورتها لما تحتويه من كنوز وإمكانات حيوية لاستمرار أسباب قوتها وتسلطها على غيرها من دول العالم، وشعوبها.
لقد عانت شعوب هذه المنطقة الجغرافية (الشرق)، ولا زالت تعاني من تداعيات سياسات وأطماع القوى الدولية الكبرى، فتاريخها وحاضرها ومستقبلها هو نتاج لهذا الصراع المفتوح منذ القدم وحتى المستقبل على شتى الاحتمالات، إنه صراع إرادات، يستعمل كل طرف فيه شتى وسائل الصراع المتاحة من مادية ومعنوية: القوة والسياسة، العقائد والتكنولوجيا، صدام الحضارات وحوارها، قوة القانون وقانون القوة الخ... حتى أن أحد الكتّاب الألمان كتب ذات يوم من عام 1916 يقول: «إن الحرب تأتي من الشرق، وتندلع بسبب الشرق وتحسم في الشرق».

 

لبنان في قلب ساحة الصراع

يرى بعض المؤرخين أن منطقة نهر الكلب في لبنان هي أهم بقعة تاريخية على وجه الأرض، فعلى مساحة صغيرة لا تزيد عن عدة مئات من الأمتار يوجد سبعة عشر نقشاً وتماثيل منحوتة في الصخر لتخليد ذكرى فتح هذا الجزء من العالم، من رعمسيس الثاني في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، الى الجنرال ولسن الانكليزي الذي احتل سوريا ولبنان عام 1914، مروراً بالأشوريين والبابليين والإغريق والرومان والفرس، والبيزنطنيين والفتح العربي الإسلامي، والصليبيين، والمماليك والأتراك والفرنسيين الخ.. كما رأى العقيد تشرشل البريطاني، في منتصف القرن التاسع عشر «ان جبل لبنان يشكل قلعة طبيعية كبيرة قائمة بين العالمين الشرقي والغربي»، و«أن على بريطانيا أن تحتل سوريا ومصر إذا رغبت الحفاظ على سيطرتها في الشرق، واستمرار نفوذها وسيطرتها على الهند، وأن نابليون لم يكن مخطئاً حين أملت عليه عبقريته العسكرية والستراتيجية أن يحتل مصر وسوريا والشرق الأدنى بشكل عام ليجعل منها مرتكزاً ومنطلقاً لأعماله الحربية ضد الأمبراطورية البريطانية ومستعمراتها عبر البحار وخاصة الهند».
لقد شكّلت محاولة محمد علي باشا والي مصر، مطلع القرن التاسع، وحتى منتصفه تقريباً، بناء دولة قوية تضم مصر والسودان وسوريا الطبيعية والجزيرة العربية على أنقاض الدولة العثمانية «المترهلة»، تحدياً حقيقياً وخطيراً لمصالح الدول الأوروبية الطامعة في اقتسام تركة «الرجل المريض»، أي تركيا، فتداعت مجتمعة للوقوف بوجه المد العربي المصري باتجاه توحيد هذه الأقطار تحت سلطة واحدة قوية، وتضافرت جهودها في مختلف المجالات لإيقاف هذا المد، وإجهاض هذه المحاولة التي تهدد مصالح بريطانيا وفرنسا وروسيا وغيرها من دول أوروبا، والتي أنهت ثورتها الصناعية وأصبحت بحاجة لاطلاق سياستها الاستعمارية للعالم ولإيجاد أسواق جديدة ومواد أولية ضرورية لاستمرار صناعاتها.
لقد عملت الدول الأوروبية على إثارة الفتن والقلاقل في بلاد الشام (سوريا ولبنان) مستغلة وجود إرسالياتها وقنصلياتها، في تغذية الصراعات الطائفية والمذهبية، ودعمت مختلف هذه الفئات بالسلاح والمال للانتفاضة ضد قوات محمد علي باشا، كما عملت في ما بعد على التحريض ضد الأتراك لقيام كيانات طائفية شكّلت مرتكزات لسياساتها ووجودها على أرض سوريا ومصر وبقية الأقطار العربية.
إن أطماع الدول الأوروبية في أراضي الشرق وتنافسها في ما بينها وصراعها في سبيل مصالحها، رسمت حدود الأقطار العربية في ما بعد، كتعبير عن حدود هذه المصالح والأطماع واقتسام النفوذ والغنائم، التي تجلت في أوضح صورها في معاهدة سايكس - بيكو خلال الحرب العالمية الأولى، ثم في مؤتمر الصلح الذي تلاها عام 1919، وكان الانتداب المفروض على شعوب المنطقة تعبيراً «حضارياً» للسياسة الاستعمارية الجديدة في الحدود القطرية التي رسمتها لهذه الشعوب ولمنعها من الوحدة، فأصبحت التقسيمات القطرية العربية تعبيراً عن إرادة المستعمر وفق رؤيته الستراتيجية لمصالحه، وسداً منيعاً في وجه أي إرادة لبناء دولة عربية، وقد تحوّل الانتداب الى سلطة استعمارية تعمل على استغلال موارد هذه الأقطار المادية والبشرية، وتحرض بشكل دائم على إثارة الفتن الداخلية بين شعوبها لإظهار الحاجة الدائمة لبقاء الانتداب (كما ظهر جلياً في كل من سوريا ولبنان في ما بعد)، وإلغاء مفاهيم الاستقلال لدى هذه الأقطار.

 

الانتداب

شكّلت الحرب العالمية الأولى حيّز صدام المصالح المتضاربة للدول الأوروبية في سعيها الى استعمار أسواق جديدة، وعدم اتفاقها في اقتسام المغانم، و«تركة» الدولة العثمانية، وكانت هذه الحرب تعبيراً عنيفاً عن تشابك العلاقات الدولية في تلك الفترة، وشكلت سوريا الطبيعية والشرق الأدنى بشل عام نقطة خلافية بينها، كادت تودي بالحلفاء الى صدام جديد (وان استمر بأشكال مختلفة في ما بعد) فالمنطقة تختزن ثروات طبيعية هائلة (بترول) وتشغل حيزاً جيو ستراتيجياً مهماً لمصالحها.
لقد وعد الحلفاء (فرنسا وبريطانيا وروسيا) في بداية الحرب شعوب هذه المنطقة بالاستقلال اذا هي شاركتها الحرب ضد تركيا وألمانيا، ولكن نهاية الحرب دلّت بشكل واضح أن هذه الوعود كانت مجرد أكاذيب أكدتها مقررات مؤتمر السلام في باريس وبنود عصبة الأمم في فرض نظام الانتداب وفق مخططات التقسيم التي فرضت بالقوة على شعوب هذه المنطقة.

 

الإنتداب الفرنسي على سوريا ولبنان

أقرت فرنسا وانكلترا وإيطاليا الإنتداب وليس عصبة الأمم، وتولت انكلترا الإنتداب على العراق وفلسطين، وفرنسا الإنتداب على سوريا ولبنان.
يمتاز صك الإنتداب بالنيات الحسنة والوعود الخلاّبة، التي من شأنها أن تسهّل لسوريا ولبنان سبل التقدم والنمو كدولتين مستقلتين، وعلى أن تضع فرنسا لسوريا ولبنان نظاماً أساسياً خلال ثلاث سنوات من بدء تاريخ الإنتداب.
أعلن الجنرال غورو استقلال لبنان في أول أيلول عام 1920 تحت إسم «دولة لبنان الكبير» بعد أن رسم له حدوده الحالية، ولكنه مارس والمفوضون السامون السلطة الفعلية في لبنان وسوريا بصورة مطلقة، فالمفوض السامي يمارس السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، بواسطة معاونيه ومستشاريه، وفق ما تمليه السياسة العليا الفرنسية وتوجيهات الحكام في فرنسا وفق المصلحة الفرنسية وإرادتها.
الدستور اللبناني الذي وضع عام 1926، والذي استوحي من الدستور الفرنسي، كان يخضع لسلطة المندوب السامي، كذلك فإن إعلان الجمهورية اللبنانية في العام نفسه، وتعيين رئيس للجمهورية بقي أسير إرادة الحاكم الفرنسي الذي مارس سلطته في هذه البلاد «المعتبرة مستقلة»، كما يمارس أي حاكم سلطته في اي مستعمرة فرنسية أخرى، وكان كل خروج على هذه الإرادة يعرض صاحبها لأقسى العقوبات واستعمال الوسائل المتاحة لإبعاده عن المنصب الذي عيّن فيه. تميزت فترة الإنتداب الفرنسي للبنان بالاستعمال المفرط للسلطة الفرنسية في تعيين أعضاء المجالس النيابية وحلّها، وتعيين الوزراء وإقالتهم وتعيين رؤساء الجمهورية وإقالتهم بمراسيم يتخذها المفوض السامي وفق رغبته ومصالحه، وبقي الإستقلال بمعناه الحقيقي وهماً يراود السياسيين اللبنانيين والشعب اللبناني؛ ففرنسا لم تكن مستعدة للتفريط «بحقها» في الإبقاء على لبنان تحت سيطرتها المباشرة وإن ارتفعت الأصوات الوطنية المطالبة بالاستقلال الناجز عن فرنسا وحقها بممارسة حقوقها في السيادة والحرية في وطنها وانسجاماً مع بنود نظام الإنتداب نفسه.

 

الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها على لبنان

أدت التطورات العسكرية في أوروبا وسقوط باريس بيد الألمان في حزيران 1940 الى انقسام سياسي وعسكري في فرنسا، ففي الوقت الذي شكّل فيه المارشال بيتان حكومة فيشي الموالية للألمان، رفض الجنرال ديغول الاستسلام لألمانيا وأعلن حكومة فرنسا الحرة، وتابع القتال بعد أن انتقل الى لندن مع قوات الحلفاء، وهذا استدعى انقساماً فرنسياً - فرنسياً في لبنان وسوريا؛ سارعت بريطانيا للتنسيق مع قوات فرنسا الحرة لمنع الألمان من عبور هذه الثغرة والتسلل الى سوريا ولبنان تحت مظلة حكومة فيشي.
جاءت الثورة العراقية (ثورة رشيد عالي الكيلاني أيار 1941) لتزيد من مخاوف الإنكليز من سيطرة الألمان على العراق وسوريا ولبنان، وبذلك تصبح قناة السويس ومراكز البترول في الشرق عرضة لهجمات الألمان وتحت سيطرتها، وكذلك تهديد المواصلات الإنكليزية في فلسطين والعراق، لذلك سارعت الحكومة البريطانية بتنفيذ عملية عسكرية مشتركة مع قوات فرنسا الحرة، ودخلت جيوشهما أراضي لبنان وسوريا في 8 حزيران 1941 بعد معارك عنيفة مع قوات حكومة فيشي انتهت بهزيمة هذه القوات واستسلامها في 14 تموز 1941 وإعلانها تسليم سوريا ولبنان لقوات الحلفاء من الإنكليز وفرنسا الحرة. تميز دخول القوات الحليفة سوريا ولبنان بحملة إعلامية تمثلت بإعلان انتهاء الإنتداب والاستقلال لهاتين الدولتين عبر مناشير ألقتها الطائرات الحليفة، ومن أبرز هذه المناشير البيان الصادر عن الجنرال كاترو قائد قوات فرنسا الحرة، فقد ورد فيه ما يأتي:
«أيها السوريون واللبنانيون.. إني قادم إليكم لإنهاء عهد الإنتداب وأعلنكم أحراراً ومستقلين.. لقد أصبحتم منذ الآن شعبين سيدين ومستقلين، وباستطاعتكم إما أن تكونوا بدولتين منفصلتين، وإما أن تتجمعوا في دولة واحدة، وفي كلا الحالتين، فإن نظامكم المتضمن الإستقلال والسيادة ستكفله معاهدة، تتضمن تحديداً لعلاقاتنا المتبادلة.
أيها السوريون واللبنانيون.. إذا لبّيتم ندائي ورضيتم الإنضمام إلينا، فعليكم أن تعلموا أن الحكومة البريطانية، وبالإتفاق مع فرنسا الحرة، قد تعهدت أن تضمن لكم جميع المنافع التي تتمتع بها البلاد الحرة المرتبطة بها».
شكّل بيان كاترو تطوراً في الموقف الفرنسي قياساً على مسلّمات السياسة الفرنسية المعتمدة سابقاً في سوريا ولبنان منذ عام 1920، فهو يظهر استعداداً فرنسياً لانهاء الإنتداب ويعد البلدين بمرحلة جديدة عنوانها السيادة والإستقلال. ولكن، بعد أن استتب الوضع في سوريا ولبنان لقوات فرنسا الحرة، عادت الى سيرتها القديمة وأهملت وعودها لهما بالاستقلال وإنهاء الإنتداب بحجة استمرار الحرب العالمية الثانية، وحاجتها لهما في الحرب ضد الألمان.
شكّل «ميثاق الأطلسي» في 12 آب 1941 الذي أصدرته الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وحكومات الدول التي احتلها الألمان، حافزاً جديداً للشعوب وحقها في الحرية والسيادة على أرضها ومنها طبعاً لبنان وسوريا.
أدى إطلاق الهجوم الألماني في حزيران 1941 ضد الإتحاد السوفياتي، وانطلاق العمليات على مسرح شمال إفريقيا من قبل الألمان باتجاه مصر، الى تمسك الحلفاء بمسرح سوريا ولبنان وفلسطين والعراق لقطع الطريق على قوات هتلر ومنعها من إكمال «فكي الكماشة» للسيطرة على منابع نفط الشرق الأوسط وإيران والقوقاز، ولكن مع دخول الولايات المتحدة الحرب ضد ألمانيا نهاية عام 1941 وبداية اندحار الجيش الألماني في إفريقيا نهاية العام 1942 وإنهزامه مطلع العام 1943 أمام ستالينغراد، انتقل الحلفاء الى الهجوم في أوروبا وغيرها من الجبهات وبدأ العد العكسي لهزيمة الرايخ الثالث.

 

الاستقلال اللبناني

بين مد التيار الاستقلالي اللبناني وجزر سلطات الإنتداب، كان حيّز الوطن يتسع، ويضم في ثناياه مختلف فئات الشعب اللبناني بمختلف طوائفه، وتزداد المطالبة بالاستقلال عن فرنسا، ورغم المحاولات المختلفة التي بذلتها سلطات الإنتداب للإيقاع بين اللبنانيين، فإن الوعي الوطني كان أبعد وأعمق من أن تطاله قرارات المندوب السامي الفرنسي، كما أن العلاقات اللبنانية العربية كانت من التأثير والفعالية بحيث استطاعت أن تحرّك الرأي العام العربي والدولي الى جانب مطالبها بحقها في الإستقلال، وجاءت قرارات المندوب السامي باعتقال رئيس الجمهورية اللبنانية وبعض الحكومة، لتقلب الصورة التي حاولت فرنسا جاهدة أن تحافظ عليها كدولة منتدبة تعمل من أجل حرية واستقلال لبنان.
لقد عـمدت حكومـة الرئيـس رياض الصلح بدعم من رئيس الجمهورية ومجلس النواب وسط التفاف شعبي قلّ مثيله الى تعديل الدستور، وأزالت منه كل ما يشير الى الإنتداب، ورغم أنف المفوّض السامي، واستطاعت الإرادة اللبنانية الواحدة أن تتصدى بالدم لقراراته اللاحقة باعتقال الرئيس والحكومة وأسقطتها، وسط دعم الدول العربية الشقيقة والدول الكبرى الصديقة، مما جعل فرنسا تتراجع عن قراراتها ليطـلع الاستقلال اللبناني كتعبير عن إرادة شعـبية وسياسـية لبنانية واحدة.


المراجع

1- منير تقي الدين: ولادة الاستقلال - دار النهار للنشر - ط2 - بيروت 1997.
2- غسان تويني وآخرون: كتاب الإستقلال - دار النهار للنشر - ط1 - بيروت 1998.
3- د. محمد مراد: العلاقات اللبنانية السورية - دار الرشيد للعلوم - ط1 - بيروت 1993.
4- زين زين: الصراع الدولي في الشرق الأوسط - دار النهار للنشر - بيروت 1917.
5- ستيفن هـ . لوتغريغ: تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي: دار الحقيقة - ط 1 - بيروت 1978.
6- مجموعة باحثين: أوروبا والشرق الأدنى (ج 1) - منشورات الجامعة اللبنانية - بيروت 1999.
7- د. عدنان السيد حسن: العلاقات الدولية - مركز الدراسات والبحوث والتوثيق - ط 1 - بيروت 1994.
8 - شارل زورغبيب: الجيوبوليتيكا المعاصرة: تعريب عاطف علبي - ط 1 - بيروت 1993.