قضايا إقليمية

الاستنكاف الضميري في جيش العدو
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

ظهر الشرخ جليًا بين نتنياهو ووزير دفاعه موشيه يعلون حول عدة مسائل قيميّة ومعنوية، كالموقف من الجندي الإسرائيلي الذي أطلق النار على رأس جريح فلسطيني في الخليل، والموقف من كلام نائب رئيس الأركان يائير غولان حول مظاهر النازية المتفشّية في المجتمع الإسرائيلي والجيش. وبعد أن وبّخ نتنياهو علنًا نائب رئيس الأركان ساعيًا لتحقيق الردع ومنع ضباط الجيش من إبداء مواقفهم الأدبية علنًا، دعا يعلون الضباط في مقر وزارة الدفاع إلى قول ما تمليه عليهم ضمائرهم من دون خشية من القيادة السياسية. وفي الحفل الذي أقامته الوزارة، في الذكرى السنوية لإعلان إسرائيل، قال يعلون للضباط: «أعود وأطالبكم، أنتم ومرؤوسيكم، بأن تواصلوا قول ما في نفوسكم. إفعلوا هذا حتى لو لم تكن أقوالكم جزءًا من التيار المركزي، وحتى لو كانت تختلف مع آراء القيادة العليا أو القيادة السياسية ومواقفها. لا تخافوا، لا تترددوا. واصلوا كونكم شجعانًا، ليس فقط في ميدان المعركة بل أيضًا حول طاولة المداولات. الجيش الجيد هو جيش قادته، كبارًا وصغارًا، يشعرون بالثقة بقدرتهم على قول رأيهم في كل وقت، مع علمهم أنهم لن يتضرروا. هذا هو طلبي منكم، يا قادة الجيش الإسرائيلي الكبار، وينبغي أن يكون هذا طلبكم من مرؤوسيكم: واصلوا العمل حسب الضمير الإنساني والبوصلة، ولا تسيروا حسب اتجاه الريح». وأضاف يعلون، «لقد كان الجيش الإسرائيلي، ولا يزال، بوتقة الانصهار المركزية لدولة إسرائيل، وبهذه الصفة علينا أن نحافظ عليه من كل شرّ، وألّا نسمح بتسلّل عناصر عنف وتحريض إلى داخله، أو تسلل آخرين ممن يؤثّرون على جنوده. في الأشهر الأخيرة وجدنا أنفسنا نكافح حيال قلّة متطرّفة، تعمل في الميدان وفي الشبكات الاجتماعية. بعضهم تسلّلوا أيضًا إلى التيّار المركزي في المجتمع، في الكنيست وبالتمويه، وهم يحاولون التأثير على شخصية الجيش الإسرائيلي وقيمه. هذا صراع مهم لا مثيل له، لعلّه الأكثر حيوية وأهمية منذ سنوات طويلة. ليس فقط في سبيل صورة الجيش الإسرائيلي، بل وأيضًا في سبيل صورة المجتمع الإسرائيلي. إن مواصلة المسّ بالحصانة القيميّة والأخلاقية للجيش الإسرائيلي وللمجتمع الإسرائيلي ستكون مصيبة لدولة إسرائيل».
انطلاقًا من هذه الأجواء من الاعتراض على انهيار القيم الأخلاقية والمناقبية العسكرية والاختلاف الشديد على تحديد معالمها في إسرائيل، نعالج موضوع الاستنكاف الضميري في جيش العدو. و«المستنكف الضميري» هو الشخص الذي يدّعي الحق في إبداء رأي مبرّر مخالف لقيادته، أو رفض أداء الخدمة العسكرية الميدانية تحت ذريعة حرية الفكر أو حرية الضمير أو الدين. وفي بعض البلدان يتم حاليًا إلحاق المستنكفين ضميريًا في خدمات مدنية بديلة عن التجنيد أو الخدمة العسكرية. والملفت أن معظم المستنكفين ضميريًا يعتبرون أنفسهم دعاة سلام، وعدم تدخّل بشؤون الآخرين ومعارضين للأعمال العسكرية. وقد تمّ التوسع دوليًا في استخدام تعريف المستنكف الضميري بشكل رسمي في 8 اذار 1995 عندما نصّ قرار لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان 1995/83 على أنه «لا ينبغي للأشخاص الذين يؤدّون الخدمة العسكرية أن يحرموا من الحق في الاستنكاف الضميري تجاه الخدمة العسكرية». وفي العام 1998 أكّدت وثيقة المفوّض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة هذا التعريف مرة أخرى. وقد جاءت الوثيقة بعنوان «الاستنكاف الضميري للخدمة العسكرية، لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قرار رقم 1998/77». واعترفت الوثيقة رسميًا بأن «الأشخاص الذين يؤدّون بالفعل الخدمة العسكرية قد يتطور لديهم استنكاف ضميري».
تاريخيًا، تمّ تنفيذ حكم الإعدام بحق العديد من المستنكفين ضميريًا، وعوقبوا بطرق شتّى عندما أدّت معتقداتهم إلى القيام بأعمال تعارضت مع النظم التشريعية والقانونية للمجتمعات أو الحكومات التي يعيشون تحت سلطتها. وقد تباين التعريف القانوني للمستنكف الضميري وتوصيف حالته من دولة لأخرى على مرّ السنين. ومثّلت المعتقدات الدينية نقطة تبريرية في بعض الدول لمنح صفة المستنكف بشكل قانوني.
بالنسبة إلى إسرائيل بالذات، قد تكون ظاهرة الاستنكاف الضميري الظاهرة الأكثر إثارة للانتباه في تاريخ هذا الكيان الغاصب الذي تماهت الدولة فيه مع جيشها. وهي قدمت ابتداءً من منتصف القرن الماضي نموذجًا فريدًا من نوعه لـما يسمى «الأمة المسلّحة» التي تقوم بالحرب وتدوم بالحرب وتتوسّع بالحرب، حتى قيل إن إسرائيل هي بمثابة «جيش له دولة». وقد تطوّر هذا الجيش حتى صار واحدًا من أقوى جيوش العالم رغم - أو ربما بفضل - الهشاشة العددية للأمة التي عقدت عليه رهانها الوجودي. وإسرائيل على مدى العشرين عامًا الأولى من وجودها، لم تعرف سوى حالتين اثنتين من حالات الاحتجاج الضميري على أداء الخدمة العسكرية، وذلك عندما امتنع اثنان من أعضاء الفرع الإسرائيلي لأممية مقاومي الحرب، وهما توما شيك وأهرون أفياد، عن أداء خدمة العلم في العام 1958. وقد صدر قرار عن السلطات العسكرية المختصّة بتحويلهما إلى «خدمة مدنية» في أحد الكيبوتسات بعد مضاعفة مدّتها من سنتين إلى أربع سنوات. وهذه الحالة اليتيمة من حالات الاحتجاج الضميري في الخمسينيات أصبحت مرشحة للتكرار لاحقًا عندما تحوّلت إسرائيل، غداة حرب 1967 إلى دولة استعمارية تحوز أراضي محتلة، ليس فقط في سيناء المصرية والجولان السوري شبه الخاويين من السكان، بل أيضًا وأساسًا في الضفّة الغربية وقطاع غزّة المعروفين بكثافتهما السكانية. لكن في العام 1970، وللمرة الأولى في تاريخ إسرائيل، وجّهت مجموعة من الطلبة الثانويين رسالة إلى رئيسة الوزراء في حينه، غولدا مائير، يعلمونها فيها برفضهم أداء الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة عندما يستدعــون إليها مع بلــوغهم الثامنة عشــرة مــن العمر. وقد كان حافز هؤلاء الطلــبة سياسيــًا في المقام الأول، إذ كانت حكومة غولدا مائير قد رفضت يومئذٍ مشروعًا للسلام تقدّمت به الحكومة المصرية غداة تسلّم الرئيس السادات مقاليد السلطة في تشرين الأول من العام نفسه. وقد تكررت بعد ذلك الرسائل الجماعية للطلبة الثانويين كشكلٍ من أشكال الاحتجاج السياسي. وكان أشهرها وأكثرها ضجيجًا، الرسالة التي وجّهتها مجموعة من 27 طالبًا إلى وزير الدفاع في حينه، عيزر وايزمان (1979)، وكان من جرائها استدعاء أربعة من أولئك الطلبة للمثول أمام محكمة عسكرية قضت عليهم بالحبس لمدة خمسة وثلاثين يومًا قابلة للتجديد في كل مرة يتكرّر فيها رفضهم للخدمة.
وجاء العدوان الإسرائيلي على لبنان (1982) كمناسبة لتطوّر غير مسبوق في هذا المجال. فحرب لبنان، التي كانت أول حرب تقررها حكومة ليكودية بزعامة مناحيم بيغن، لم تكن موضع إجماع لدى المواطنين الإسرائيليين. وفي ظلّها بلغت حركة «السلام الآن» ذروتها. وفي ركاب هذه الحركة كانت قد رأت النور منظّمة رسمية للمعترضين الضميريين على أداء الخدمة الإلزامية في الأراضي المحتلة بإسم «يش غفول»، أي «هناك حد». وقد وجّهت هذه الحركة نداء علنيًا إلى وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون لإعفاء جنود الاحتياط من الخدمة في لبنان. وسرعان ما تحوّل هذا النداء إلى عريضة جماعية مفتوحة وقع عليها خلال العام الأول 1470 من الاحتياطيين، ثمّ ارتفع هذا العدد خلال العامين التاليين إلى 2500. وقد خضع 170 منهم لمحاكمة عسكرية وصدرت بحقّهم أحكام فعلية بالحبس في جوّ من التعتيم الإعلامي. لكن رئيس هيئة الأركان الجنرال موشي ليفي، اضطر إلى الاعتراف (1986) بأن تزايد عدد الرافضين من الاحتياطيين للخدمة العسكرية في لبنان، كان واحدًا من الأسباب المهمّة التي عجّلت باتخاذ قرار الانسحاب الجزئي منه.
مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987، وهي الانتفاضة التي أخذت شكل مواجهة يومية بين الجيش الإسرائيلي والمدنيين الفلسطينيين العزّل وغالبيتهم من النساء والأطفال، تزايد على نحو ملحوظ عدد الجنود الإسرائيليين الرافضين للخدمة في الأراضي المحتلة. وعلى امتداد السنوات الست الفاصلة بين الانتفاضة الأولى وتوقيع إتفاقية أوسلو (1993)، حوكم 190 ضابطًا وجنديًا أكثرهم من الاحتياط ومن ذوي الرتب العالية ومن خريجي الجامعات. وإذا كان عدد الرافضين قد تقلّص على نحوٍ ملحوظ في فترة السنوات السبع الفاصلة بين توقيع أوسلو وبين اندلاع الانتفاضة الثانية (2000)، فلم يحاكم أمام المحاكم الحربية سوى 20 رافضًا فقط، فإن أعداد هؤلاء عادت إلى الارتفاع عقب اندلاع الانتفاضة الثانية. فبين أيلول 2000 وحزيران 2002، بلغ عدد الرافضين أكثر من 2000، وقدم إلى المحاكمة منهم 189 صدرت بحقّهم أحكام بالحبس الفعلي. وقد ترافقت موجة الرفض الجديدة هذه مع مبادرتين كان لهما وقعهما في الإعلام الإسرائيلي والدولي، واحدة تمثّلت في «رسالة تلامذة البكالوريا»، وثانية في حركة «شجاعة الرفض». فقد شكّلت الرسالة العلنية التي وقّعها 62 طالبًا في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية ووجهوها إلى رئيس الوزراء شارون في 19 آب 2001، علامة فارقة في تطوّر ظاهرة الرفض وفي تعميق صداها الإعلامي. وقد شارك في توقيعها، وللمرة الأولى، عدد من المرشحات للتجنيد من الطالبات. وانتقدت الرسالة السياسة العنفية التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة واتهمتها بالعنصرية، ووصفت الأعمال التي ينفّذها الجيش الإسرائيلي من اعتقالات ومصادرات وهدم للبيوت وتصفيات جسدية وعمليات تعذيب، بأنها جرائم تقترفها الدولة الإسرائيلية في انتهاكٍ مباشر للمواثيق الدولية الموقّع عليها من قبلها، لا سيما ما يتعلّق منها بحقوق الإنسان. وفضلًا عن لا شرعية هذه الأعمال فإنها تقف عاجزة عن بلوغ هدفها المعلن، وهو تحقيق الأمن الشخصي للإسرائيليين. فليس لمثل هذا الأمن سوى طريق واحد، وهو توقيع إتفاقية سلام عادلة بين الحكومة الإسرائيلية والشعب الفلسطيني.
إلّا أن الرأي العــام الإسرائيلي لم يــتعاطف كثــيــــرًا مع الرسالة بــسبب نزعتــها التي وصفت باللاوطــنية، ولأنها صــادرة أصلًا عن طلاب لم يرتدوا قط البزّة العسكرية. ومع ذلك فهي حظيت بتأييد شخصيات إسرائيلية مرموقة، منها ميخائيل بن يائير الذي شغل منصب المدّعي العام للدولة خلال عهدي رابين وبيريز.
وفي الختام لا بد لنا من أن نشير إلى أن رافضي الخدمة في إسرائيل لا يشكلون عدديًا إلّا كمًّا مهملًا: ألفًا أو ألفين من أصل جيش يضمّ نصف مليون من المقاتلين والاحتياطيين. لكن موقفهم الرافض للخدمة في الأراضي المحتلّة في العام 1967، مثّل نوعًا من زلزال بسبب ما طرحه من علامات استفهام حول مستقبل الديموقراطية والشرعية في إسرائيل، وحول هوية الدولة بالذات: أهي دولة إسرائيلية تكتفي بحدود العام 1967 أم دولة يهودية دينية تمتد من الفرات إلى النيل بحسب المزاعم الميثولوجية التوراتية؟!