- En
- Fr
- عربي
من الأرض
مدينة الشمس بعلبك، أبرز المواقع الأثرية وأيقونة سياحة الآثار في لبنان، وصور، المدينة الفينيقية العريقة التي حكمت البحار، وإحدى أقدم المدن الكبرى في العالم، إلى جانب عديدٍ من المواقع التاريخية الأخرى، كانت هدفًا للتدمير الممنهج والقصف المتعمد. وقد علت الأصوات من لبنان والعالم بأسره مندّدة بهذه الاعتداءات التي استهدفت ركائز التراث الوطني اللبناني، في محاولة لطمس هوية الشعب وثقافته العريقة.
لم تتوقّف الغارات الإسرائيلية الأخيرة عند حدود أو خطوط حمراء، إذ تعمّد العدو استهداف الأماكن الأثرية المصنّفة عالميًا، وهو ما يعد انتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية وقرارات منظمة الأونيسكو المتعلقة بحماية التراث العالمي. فالقوانين واضحة في ما خص تحييد المواقع التراثية والآثار المعترف بها، فضلًا عن المراكز الثقافية والاجتماعية والإنسانية. إلّا أنّ العدو الإسرائيلي لم يمتثل للقانون الدولي واستهدف تلك المواقع تحت ذريعة وجود مواقع عسكرية في داخلها، من دون تقديم أي دليل أو إثبات على ذلك.
تعددت الأساليب والهدف واحد
في سياق حربها على لبنان، استخدمت «إسرائيل» أساليب متعددة لتخريب الآثار؛ من القصف المباشر أو التفجير المتعمد، الذي طال المساجد والكنائس وبعض الآثار التاريخية، إلى القصف بالقرب من المواقع الأثرية ما قد يجعل أجزاءً منها عرضة للانهيار نتيجة الارتجاجات الشديدة، خصوصًا أنّ خرق الطائرات الإسرائيلية لجدار الصوت كان يتكرر يوميًا، وهو لم يتوقف حتى بعد إعلان وقف إطلاق النار.
إثر الخروقات المتكرّرة، طالب رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي مجلس الأمن باتخاذ إجراءات فورية لحماية الكنوز التاريخية في لبنان، والتي تشكل جزءًا أساسيًا من هويته الوطنية، فضلًا عن أهميتها كمعالم تاريخية عالمية. كما حذّرت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان جينين هينيس- بلاسخارت، من تهديد الحرب للمواقع الأثرية، مشيرة إلى «الخطر الكبير الذي يهدّد المدن الفينيقية القديمة الضاربة في التاريخ ويؤدي إلى تدميرها».
إضافةً إلى ذلك، وجّه أكثر من مئة نائب لبناني و300 عالم آثار وأستاذ جامعي نداءً عاجلًا إلى الأونيسكو لحماية المواقع التاريخية اللبنانية من الغارات الإسرائيلية؛ فاستجابت الأونيسكو في اجتماعها لمناشدات لبنان والعالم لحماية الإرث التراثي الثقافي وحفظه من الاستهدافات الإسرائيلية المقصودة أو غير المقصودة، بتوفير حماية معززة لـ34 موقعًا ثقافيًا في لبنان، من خلال دعم دولي لتطبيق تدابير طارئة، ما يضمن أعلى مستوى من الحماية لهذه الممتلكات. كما أعلنت مراقبة هذه المواقع الأثرية عبر الأقمار الصناعية لتقييم حالتها ورصد الأضرار المحتملة.
المواقع المتضرّرة
من بين المواقع التي تعرّضت للقصف والدمار محيط مدينة بعلبك الأثرية على بعد 500 إلى 700 متر، ما يُنذر بتداعيات سلبية على القلعة، ويؤدي إلى ارتدادات تحت أرضيتها قد تتسبب بانهيارات لبعض الأجزاء ذات الإنشاءات الضعيفة. كما طالت الاعتداءات سور القلعة الخارجي ومعلم «ثكنة غورو»، إضافة إلى تدمير مبنى «المنشية التاريخي» وإحداث أضرار جسيمة في «قبة دورس الأثرية» وأوتيل بالميرا الذي تصدّع وانهار قسم من تاجه العلوي وتزعزعت أعمدته. كذلك استهدفت الغارات الإسرائيلية مدينة صور الفينيقية، حيث تعرّض الملعب الروماني وبعض المواقع المحيطة به لأضرار كبيرة.
أما أبرز القلاع التاريخية الأثرية والمعالم التراثية التي كانت عرضة للاستهداف منذ بدء العدوان الإسرائيلي فشملت: قلعة تبنين الصليبية وقلعة ميس في أنصار، وجامع بليدا التاريخي ومقام النبي بنيامين في محيبيب، ومقام النبي شمعون في شمع، ومساجد في بليدا، وشبعا، ويارون، والظهيرة، وطيردبا، وكفرتبنيت، ومجدل سلم، وكنيسة دردغيا. ولم تقتصر الضربات على المواقع الأثرية بل شملت تدمير سوق النبطية التجاري التراثي، الذي يعد جزءًا من الهوية الاجتماعية والثقافية للمدينة.
وفي هذا السياق اعتبر المدير العام للمديرية العامة للآثار سركيس خوري، أنّ ما شهده لبنان يشكّل حربًا ثقافية تهدف إلى محو ارتباطه بجذوره، مشيرًا إلى وجود خطة ممنهجة لدى العدو لتدمير آثاره ومبانيه التاريخية علنًا وأمام العالم.
لم يقتصر الضرر على المواقع والمعالم المعروفة إذ إنّ ثمة أخرى لم يتم اكتشافها أو حفرها بعد، وفي هذا السياق أوضح خوري أنّه بتدمير القرى والمواقع، كما حدث في صور على سبيل المثال، يتجاوز الاعتداء الإسرائيلي تاريخ لبنان ويمتد ليشمل مستقبله من خلال محو معلومات قد تكون غير مكتشفة بعد.
ليس من السهل تحديد حجم الأضرار التي أصيبت بها المواقع الأثرية والمباني التاريخية بسرعة، ففي حين تمّ محو بعض المعالم من الوجود كما حصل في سوق النبطية، يقتضي تحديد حجم الضرر في قلعة بعلبك مثلًا إجراء تقييم إنشائي دقيق. فالقصف بالقرب من المعالم الأثرية يؤدي بشكلٍ عام، إلى اهتزازات قد تتسبّب بعد عدة سنوات بانهيارات ذات عواقب لا يمكن تعويضها.
ثمة مسألة أخرى تتصل بإعادة إعمار المناطق المتضررة، حيث ينبغي أن يعمل جميع المعنيين، من بلديات ومحافظين وجهات رسمية وغير رسمية ومواطنين، بالتنسيق مع وزارة الثقافة، من أجل الحفاظ على التراث الثقافي والطابع التاريخي لهذه المناطق.
الإجراءات التي ينبغي اتخاذها خلال النزاعات المسلحة
عند اندلاع النزاع المسلح يجب على القوات المسلحة اتخاذ سلسلة من الإجراءات لحماية الممتلكات الثقافية أهمها:
بقاء القوات المسلحة على دراية بحالة الممتلكات الثقافية الواقعة تحت سيطرتها للقيام بما يلزم لحمايتها عند الضرورة.
على القوات المسلّحة إلغاء الهجوم أو وقفه إذا تبيّن أنّ الهدف هو من الممتلكات الثقافية إلّا في حالات الضرورة العسكرية.
عند تعرّض الممتلكات الثقافية للضرر نتيجة الأعمال العسكرية، يجب على القادة العسكريين إعداد تقارير عن الموضوع توثّق إحداثيات الممتلكات المتضررة ومواقعها وحالتها وصورها، وتتضمّن تقييمًا لحساسية الموقف بالنسبة إلى المواطنين، وإجراءات الحماية التي اتّخذها العسكريون، والتأثير المحتمل للضرر
عند متابعة تنفيذ المهمة، والتوصيات اللزمة لمنع تكرار حوادث مماثلة في المستقبل.
حماية الممتلكات الثقافية خلال النزاعات المسلّحة
تمثّل القوانين والاتفاقيات المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية، لا سيّما اتفاقية لاهاي للعام 1954 وبروتوكوليها الأول والثاني، التي صادق لبنان عليها، أهميّة كبرى لحماية الممتلكات الثقافية في لبنان أثناء النزاعات المسلّحة، وترسم قواعد التصرف المطلوبة لتأمين حمايتها كونها ترتبط مباشرة بتاريخ الوطن وبوجهه الحضاري
وبازدهاره الاقتصادي.
والممتلكات الثقافية هي جميع الأشياء التي تتّسم بأهمية كبرى لتراث الشعوب الحضاري والثقافي ويمكن أن تكون ثابتة أو منقولة؛ هي بالإجمال منشآت دينية أو مدنية أو عسكرية من معابد وقصور ومبانٍ رسمية وأسوار دفاعية وقلع وقبور بالإضافة إلى المواقع الطبيعية والأدوات الفخارية والنقوش وقطع النقود والنواويس
وغيرها. ونصّت الاتفاقية على مجموعة بارزة من القواعد والقوانين نذكر منها:
حظر مهاجمة الممتلكات الثقافية: يُحظر على الأطراف المشاركة في النزاع المسلّح مهاجمة الممتلكات الثقافية ما لم تشكّل هذه الممتلكات هدفًا عسكريًا وما لم يتوافر البديل المناسب للحصول على ميزة عسكرية مماثلة. وفي الحالات التي تستلزم الضرورة العسكرية القهرية المهاجمة، يجب عندها أخذ جميع الإجراءات لحصر الضرر في أضيق نطاق ممكن.
مراعاة قاعدة التناسب: يُحظّر شنّ أي هجوم خلل النزاع المسلّح من الممكن أن يتسبّب بإلحاق أضرار عرضية مفرطة بالممتلكات الثقافية مقارنة بالنتائج العسكرية المتوقّعة.
الأعمال الانتقامية ضد الممتلكات الثقافية: يُحظّر تمامًا جعل الممتلكات الثقافية هدفًا للأعمال الانتقامية، فل يجوز مثلً تدمير هذه الممتلكات انتقامًا لقيام العدو بتنفيذ أحد الأعمال العدائية.