لبنان في العالم

الاغتراب اللبناني بدأ مع الفينيقيين الذين اكتشفوا أميركا قبل كولومبوس
إعداد: منير نجار

اللبنانيون من باعة «الكشة» إلى أصحاب متاجر ومصانع ضخمة

الهجرة القديمة بدأت بالمزارعين ثم تعدتهم إلى رجال الفكر والسياسة


لدراسة تاريخ الهجرة اللبنانية لا بد من الرجوع أربعة آلاف سنة في غابر التاريخ وهو الزمن الذي باشر فيه الفينيقيون، الذين هم «أوائل اللبنانيين» مغامراتهم عبر البحار، والذين وفق بعض المؤرخين وصلوا إلى القارة الأميركية في أواسط القرن الثاني عشر قبل المسيح. ولقد استندت الدراسـات في هذا الإطـار وبصـورة خاصة إلـى الكتابــات الفينيقيـة في حجارة غافيا وبارايبا في البرازيل. وإذ تابـع المؤرخـون تحرياتهـم فإنهم قد تأكدوا من حضور العرب في أميركا اللاتينيـة في القرن السابع بعد المسيح عندما وصل الحاكم بن براجيل من مراكش وقرطبة إلى جزيرة الآسور ثم حقق بعد ذلك مأثرة اجتياز المحيط الأطلسي العام 705 بعد الميلاد، ووصل إلى مصب نهر بارنايبا في ولاية بياوي (الحالية) وتنقل على الشواطئ ووصل إلى منطقة تسمى اليوم إنفرا دوس ريس.
ولقـد قام هـذا الحاكـم بوضــع الخرائـط للشاطــئ ووضــع خاتمــة تحت عنـوان «براجيل» وأعطى راسمي الخرائط كل الشروحـات اللازمــة. وفـي متابعتهـــم البحـث تحقــق المؤرخون من الوجـود العربــي واللبنانــي في أميركـا اللاتينيــة خـلال التوســع الإسبانــي والبرتغالي في القرنين الثاني عشر والرابع عشر بعد الميلاد.


العرب في البرازيل
تتحدّث وثائق تاريخية عن العرب في حملة بدرو ألفاريس كابرال التي اكتشف خلالها البرازيل العام 1500. وثمة مستندات تشير إلى أن قباطنة البحار البرتغاليين ومن بينهم كابرال كانوا من العرب. ولقد كانت المراكز البحرية في ساغر وبالوس (من حيث أبحر كريستوف كولومبوس) والبندقية تستعمل خرائط بحرية عربية، وذلك لكون العرب بحارة ممتازين يجيدون معرفة علم الأفلاك. من هنا القول المأثور بأن «العرب ولدوا في البرازيل مع اكتشافها».
وثمة وثائق أخرى تعود إلى مرحلة استعمار البرازيل تؤكد مجيء العرب إليها في فترة الاستعمار قادمين من البرتغال أو من أفريقيا. وقد كانوا يعتبرون «أجانب أصدقاء يساعدون البرتغاليين على استعمار الأراضي الواقعة ما وراء البحار». وثمة روايات تقول إن العرب وصلوا إلى البرازيل العام 1547 برفقة الحاكم، وباشروا الاقامة وفتح المتاجر..
ويروي المؤرخ أدولفو بيزيرا دي فينيزيس أن لبنانيًا يسمى أنطون الياس لبس (وقد جرى تغيير اسمه برتغاليًا إلى الياس أنطونيو لوبس بعد أن عاش بضع سنوات في البرتغال) التاجر في ريو دي جانيرو ومالك الأراضي في براينا قد قدم منزله إلى ملك البرتغال دون جوان السادس، الذي قدم إلى البرازيل من البرتغال. وبما أن منزل ذلك اللبناني كان واحدًا من أكبر البيوت الجديرة بالملك حوّلها بصورة نهائية إلى القصر الإمبراطوري البرازيلي. ثم أطلق على المكان اسم «باسو دي سان كريستوفاو» حيث ولد دون بدرو الثاني. أما اليوم فهو مقر متحف «كينتا دا بوافيستا».

 

بين الشرق والغرب
بدأت الهجرة اللبنانية والعربية الكبرى إلى العالم الجديد في القرن التاسع عشر، وذلك للعديد من الأسباب بعضها ذات صلة بالوضع الداخلي في الشرق والبعض الآخر بالوضع في الغرب. ففي الشرق لم تكن السلطنة العثمانية تضمن لا الحرية ولا الأمن. أما لبنان الحالي فقد كان في ذلك الوقت منقسمًا إلى منطقتين: جبل لبنان الذي تمتع بإدارة ذاتية تحت الحماية الأوروبية في حين كان القسم الأكبر من السهول الواقعة في سهل البقاع وكذلك الشواطئ تحت السيطرة التركية. ولقد تعددت الاضطهادات ولم يقدّم فقدان الحرية والأمان ولا النقص في المدى الجغرافي بسبب ضيق الأراضي وسيطرة الإقطاع مجالاً كبيرًا للاقتصاد، الأمر الذي دفع بالعديد من اللبنانيين إلى الهجرة فيّمموا شطر البحر سعياً وراء أراضٍ جديدة ما شكل بداية الهجرة الجماعية العام 1856 إلى الولايات المتحدة التي كانت تمارس سياسة هجرة تستهدف جذب المهاجرين لملء الفراغ في أراضيها.
وقد أدت الحرب الأهلية في لبنان العام 1860 إلى زيادة التعصب وأدت إلى دمار لبنان وسقوط ألوف الضحايا في مجازر رهيبة، الأمر الذي زاد عدد المهاجرين نحو مصر أولاً التي كانت توفر مجالاً جيدًا للعمل الزراعي ولا سيما في منطقة الاسكندرية. ثم أخذ هؤلاء يتجهون من لبنان ومصر نحو أوروبا وأوستراليا وآسيا الغربية وأفريقيا وجزر الباسيفيك وأميركا الشمالية. وقد كان هذا المقصد الأخير حلم اللبنانيين الكبير الذين كانوا يقولون دومًا أنهم يريدون الذهاب إلى «الأميركا».
وجدير بالملاحظة أن لبنان قد مرّ بعد حكم المتصرف رستم باشا بمرحلة تميزت بظلم الاقطاعيين للفلاحين خصوصًا في سهل البقاع، فاضطر اللبنانيون إلى الهجرة بصورة جماعية منذ أواخر القرن التاسع عشر سعيًا وراء ظروف حياة أفضل في بلدان جديدة.
ولقد تميزت الهجرة إلى البرازيل بكونها تألفت ليس وحسب من المزارعين بل أيضًا من أفراد النخبة السياسية والثقافية. إذ كان من أهداف الهجرة ضمان الحياة الحرة في المهجر ثم العودة للعيش حياة أفضل في الوطن.

 

أول مهاجر لبناني
ثمة خلافات حول أول لبناني هاجر إلى البرازيل، إلا أن العديد من الاستقصاءات تشير إلى أن المواطن يوسف موسى من مواليد مزيارة في لبنان الشمالي الذي وصل إلى البرازيل العام 1880 كان أول لبناني خرج من لبنان متجهًا رأسًا إلى البرازيل بخلاف الذين ذهبوا أولاً إلى مصر وأوروبا ثم اتجهوا نحو البرازيل. وفي الوقت نفسه وصلت إلى البرازيل أول مجموعة من المهاجرين من بلدة السلطان يعقوب في سهل البقاع، اعقبتها مجموعات أخرى، وابتدأت قصة الهجرة اللبنانية إلى البرازيل.
ولقد كان المهاجرون اللبنانيون، سواء منهم المزارعون أو المثقفون، يصلون إلى البرازيل وبصورة خاصة من خلال مرفأي سانتوس وريو دي جانيرو وهم صفر اليدين فكان عليهم أن يبدأوا من حيث وصلوا... غير أن روح الشجاعة التي كانوا يتحلون بها كانت تدفع بهم إلى التفتيش عن لقمة العيش في إطار الحرية وذلك في مناطق برازيلية رئاسية ثلاث: المنطقة الشمالية حيث إنتاج المطاط (الكاوتشوك) والوسطى حيث المناجم والجنوب حيث إنتاج البن. وهناك كانوا يناضلون في سبيل أيام أفضل وأصبحوا جنباً إلى جنب مع البرازيليين والإيطاليين والألمان مكتشفي هذه المناطق ومعمريها. وقد انطلق اللبنانيون بصورة خاصة في التجارة المتجولة يبيعون الخرضوات، فكانوا يحملون صناديق يعرضون فيها الأمشاط والمرايا والعطور إلخ... وبما أنهم يعرفون أن الشعب البرازيلي هو شعب متدين فقد كانوا يعرضون أشياء جاءوا بها من بلادهم وقيل عنها يومها أنها «مقدسة» لكونها قادمة من الأراضي المقدسة كصور القديسين وذخائر والقناني معبأة بـ«مياه نهر الأردن»، يبيعون كل ذلك في الشوارع والقرى والدساكر لذلك أطلق عليهم في البداية اسم «كاشيروس» وباللغة العربية «أهل الكشة» (أهل الصندوق)، وبعد فترة كانوا يزيدون من كميات البضاعة ويسافرون بين المدن المتجاورة فيصبحون «تجار شنطة»، حيث قال فيهم الديبلوماسي والمؤرخ البرازيلي دولغو مينازس أن تاجر الشنطة كان ينتسب بنسب إلى الغزاة المستكشفين الأوائل (البانديرانتس). وفي الواقع فإن تجار الكشة هؤلاء قد أدوا دورًا تاريخيًا في تطور مناطق الداخل في البرازيل إذ أنهم كانوا يصلون إلى حيث لا يصل البريد في ذلك الوقت وينقلون إلى تلك الأماكن أحداث المدن الكبرى وأخبارها، مساعدين في ذلك على توثيق الصلة بين الأرياف والدساكر والمدن.
 وانطلاقًا من «الكشة» التي كانوا يحملونها على ظهورهم فإنهم فتحوا دكاكين صغيرة تحولت مع الوقت إلى محلات تجارية كبيرة. ثم عندما شعروا بالاستقرار الاقتصادي والاندماج الاجتماعي أخذوا يتعاطون بأمور الثقافة والعلم والسياسة ويؤسسون النوادي والجمعيات والمدارس ودور الأيتام والمستشفيات والصحف. وقد صدرت أول صحيفة في البرازيل باللغة العربية في مدينة كامبيناس العام 1895 على يد سليم باليش اللبناني الذي يعود بأصله إلى زحلة التي أخذت اسم «الفيحاء» مدللاً بذلك على أن فكرة البقاء نهائيًا في البرازيل تلك الأرض التي حضنتهم واستقبلتهم بترحاب، ممكنة.

 

حجر برازيلي من أصل فينيقي
يقول بعض علماء الآثار والتاريخ إن الفينيقيين وصلوا قبل كولومبوس إلى القارة الأميركية وإلى البرازيل تاركين العديد من الكتابات الحجرية. ومن بينها تلك التي حفرت في «حجر غافيا» في ريو دي جانيرو وتشكل أول مستند حول الموضوع. وقد توصل المؤرخ البرازيلي برناردو إلى الاستنتاج بأن حجر غافيا هو فينيقي وأن الكتابات فيه قد حفرت في عهد جيثابعل ملك صور (لبنان) بين العامين  887 و856 قبل الميلاد أو خلال حكم باديزير بين العامين 856 و850 قبل الميلاد.
وبعد مدة من الزمن قام البروفيسور البلجيكي ألبير فان دن براندن بدراسة الحجر، وأكد أن الكتابة هي باللغة الفينيقية ولكنه لم يوافق على ما خلص إليه برناردو وأعاد تاريخ الكتابات إلى ما بين القرنين الثاني قبل الميلاد والأول بعد الميلاد.
وثمة كتابة فينيقية أخرى في البرازيل هي تلك التي وجدت في بوسو ألتو حيث قام الدكتور س.هـ.غوردون بترجمتها على الشكل الآتي: «نحن أبناء كنعان من صيدون مدينة الملك، حملتنا التجارة إلى هذا الشاطئ البعيد في أرض جبلية. ضحينا بشاب على مذبح الآلهة والآلهات العام 19 من حكم ملكنا القدير أحيرام. انطلقنا بحرًا من عزيون جبير في البحر الأحمر وسافرنا على عشر سفن. بقينا في البحر معًا مدة سنتين عبر تلك الأراضي التي يملكها حام (أفريقيا) غير أننا افترقنا عن زملائنا بسبب عاصفة. وهكذا وصلنا هنا 12 رجلاً و3 نساء. وصلنا إلى شاطئ جديد وضعته تحت إشرافي أنا القائد. ولكننا طلبنا من الآلهة والآلهات أن يتدخلوا لصالحنا».

 

بين الهجرة والإغتراب والإنتشار
 ثلاثة من أبرز التعابير المتداولة للتعريف بـ«المهاجر اللبناني» وفق المراحل التاريخية التي مرت بها هذه الهجرة، ولكن لا إجماع رسمياً على وحدة المدلول لهذه المصطلحات التي اختلفت بين «قاموسي» وزارة الخارجية ووزارة المغتربين المعنيين أصلاً بهذا الموضوع.
السفير فؤاد الترك يعتبر أن المغترب هو اللبناني الذي ولد في لبنان وهاجر منه، ويشكل المغتربون في نظره نسبة غير كبيرة من المنتشرين. ويرى في مدلول المنتشرين أكثر شمولية وعمومية إذ يشمل هؤلاء المغتربين والمتحدرين معاً وتشمل عبارة المنتشرين في الخارج المغتربين والأجيال الصاعدة بعدهم.
ويعتقد وزير المغتربين الأول رضا وحيد أن موجات الهجرة الأولى ولّدت ما يسمى بالمتحدرين الذين غادروا لبنان يحدوهم الأمل بالعودة إليه يومًا ما وأن هجرة بعد الحرب العالمية الثانية شهدت تحولاً نوعيًا في التصنيف والهوية، فأصبحت انتشارًا، هل يصنف في هذه الخانة اللبناني الذي هاجر من عشرين سنة وموجود في دولة لا يريد الاستقرار فيها.. حتى الآن لم نجد تحديداً جذرياً لنمشي به في تحديد المغترب اللبناني.
وتشير جريدة «الحديث» إلى أن السفير فؤاد الترك هو أول من أطلق صفة الانتشار على المهاجرين كما يعود إليه الاقتراح بإطلاق تسمية وزارة الخارجية والانتشار اللبناني العام 1983 على وزارة الخارجية والمغتربين.
وميّز الرئيس الياس الهراوي الذي استحدثت في عهده «وزارة المغتربين» بدقة بين مدلولي المغتربين والمنتشرين. وكان في رأيه أقرب من قاموس وزارة الخارجية منه إلى قاموس وزارة المغتربين. فالمغترب في نظره شيء واللبنانيون المنتشرون في أصقاع الدنيا شيء آخر، فللفئة الأولى علاقة وثيقة ببلدهم أكثر من الذين اغتربوا وسموا مغتربين من أيام العهد العثماني. وطالب بتغيير هذا الاسم لئلا تبقى صفات متعددة للذين انتشروا، وهذا الانتشار الكمي أفرز لاحقًا اغترابًا نوعيًا ودعا إلى علاقات اغترابية خصوصاً مع الذين بدأوا مشوار الانتشار منذ العام 1958 لأن هؤلاء يمثلون الاغتراب الحقيقي.
وهكذا يتدرج تاريخيًا مفهوم المهاجر اللبناني عند رضا وحيد من متحدر إلى منتشر ليصل إلى المغترب. في حين يتدرج هذا المفهوم عند فؤاد الترك من مغترب إلى متحدر ليشمل تعبير المنتشر عند جميع هؤلاء ويقول: «إن الكلمة المثلى للمغترب وأبنائه وأحفاده هي المنتشرون اللبنانيون».
إن الخلاف الظاهر في مدلول المعطيات الرئيسة الثلاثة بين الوزير والسفير لم يكن خلافًا في الشكل فحسب، وإنما تعداه إلى مشكلة فعلية في الجوهر حالت دون توصل الوزارتين إلى الاتفاق على مدلول واحد موحد لهذه التعابير. ويتساءل السفير إليزيه علم هل المغترب هو المتحدر من الجيل الثالث (3éme génération)، هل هو اللبناني الذي هاجر من عشرين سنة وموجود في دولة لا يريد الاستقرار فيها.. حتى الآن لم نجد تحديدًا جذريًا نهائيًا...

 

المراجع:
• كتاب عالم التاريخ البرازيلي برناردو دي أزيفيدو دا سيلفا رامو، بعنوان «كتابات في أميركا ما قبل التاريخ».
• كتاب روبرتو خطاب: «البرازيل ولبنان.. صداقة تتحدى المسافات».
• وثائق موجودة في متحف الماريشال روندوف».
• كتاب قيصر معلوف «ذكرى المهاجر».
• كتاب الدكتور جهاد نصري العقل.