الالتزام السياسي بين المفاهيم والتحديات

الالتزام السياسي بين المفاهيم والتحديات
إعداد: أ.د عصام مبارك
أستاذ مساعد في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية

 المقدّمة

إن لفظة الالتزام بالذات، هي كلمة أبرزها أنصار الشخصانية Emmanuel Mounier والوجودية Jean-Paul Sartre في السنوات الأخيرة. والالتزام ليس مصطلحًا راهنًا إلا في الظاهر، كما لا يمكن تفسيره إلا إذا تم ربطه مع متغير آخر يؤثّر عليه حتمًا.

فالالتزام هو قاعدة في الحياة ولا يمكن لأي شخص أن يحيا من دون المرور بالتزاماتٍ سواء أكانت مادية، معنوية، قانونية، اقتصادية أو تجارية،... وحتى يمكن القول إن الفرد في رفضه للالتزام هو بحد ذاته التزام، ولكن بشكلٍ آخر.

مع تطور الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، بدأ هذا الأخير يعي ضرورة تنمية مبدأ الالتزام بين أفراده من أجل إيجاد حل للقضايا العامة المتراكمة، وبخاصةٍ أنه أصبح يتأثر في قرارات السلطة السياسية، ويعي خطورة تفاقم هذه المشاكل من جراء عدم اهتمامهم بالسياسة أو الشؤون العامة، لذلك قال أفلاطون: "إن عقاب الذين لا يعملون أو يرفضون العمل بالشؤون العامة، تقع في أيدي الأقل فضيلة منهم". وبعدها أتى دور الأحزاب السياسية لخدمة المجتمع ومعها تطور مفهوم الالتزام، ليدخل صلب الحياة السياسية.

إذًا، الالتزام هو وليد عدة عوامل اجتماعية، اقتصادية وسياسية، أثرت عليه لتدفع الأفراد على الالتزام في مجتمعاتهم. وبما أن الالتزام هو وليد عوامل محددة، إلا أنه أيضًا يظهر عند أفراد معيّنين وليس جميعهم. مفاده أن هؤلاء الأفراد أصبحوا ملتزمين بسبب قوة هذه العوامل المؤثرة وفعاليتها، التي طبعت في تفكيرهم أسس الالتزام السياسي وقيمه.

نصل إلى هنا لطرح الإشكالية الرئيسة الآتية: ما هو الالتزام السياسي؟ وما هو الجديد فيه؟ وإلى أين تصل أهمية الالتزام السياسي خاصة داخل الأحزاب، وانعكاساته على الصعيد الوطني؟ وما هي طبيعة مسارالالتزام السياسي؟ أي ما المبررات التي تدفع المواطن للالتزام السياسي داخل الأحزاب؟ وفي حال الالتزام ما هي معللات استمراريته في ذلك؟ وهل الملتزم هو مواطن عادي أم مجرد منتسب أم من المناضلين؟

ولقد تم استعمال المنهج الوظيفي خلال تنفيذ عملية كتابة البحث، ولكن مع الاستعانة ببعض المناهج الأخرى لأهميتها وضرورتها، كالمنهج المنتظمي من أجل تحديد نمط الالتزام بشكلٍ واضح، وقادر على تفسير مسار العلاقة بينه وبين باقي المفاهيم، ومن دون استثناء أدوات المقارنة لبعض المتغيرات المرتبطة بالالتزام السياسي، لوضع المفاهيم في أطرها العلمية المناسبة مع دورها وتأثيرها.

سنعالج في القسم الأول كل ما يتعلق بالإطار النظري، أي سنبدأ بعرض المفاهيم المتعلقة بالالتزام السياسي في الفقرة الأولى، وسنفرّق عندها بين الالتزام والإلزام، أما في الفقرة الثانية، فسنطرح أهمية الالتزام السياسي داخل الأحزاب وانعكاساته على الصعيد الوطني. وصولًا إلى القسم الثاني، سنبحث فيه الطبيعة العملية للالتزام السياسي، ففي الفقرة الأولى من هذا القسم سنحلل العوامل المؤثرة بالالتزام السياسي، والمبررات التي تدفع المواطن للالتزام داخل الأحزاب. أما في الفقرة الثانية، فسنقارن بين المناضل والمواطن العادي أي الانتهاء بتحديد من هو فعليًا الملتزم.

لكن قبل الدخول في صلب البحث لا بد من الإشارة إلى الصعوبات الكثيرة التي واجهتنا في عملية البحث من ناحية عدم توافر المراجع، وفي حال وجودها كانت تعاني من النقص في الموضوعية، ومع ذلك لم تكن لتقف حاجزًا من دون الوصول إلى إنجاز البحث.

وأخيرًا، لهذا البحث أهمية علمية، تكمن في أنه يلقي الضوء على مفاهيم كثيرة، مع دراسة علمية لمدى تفاعل الالتزام السياسي مع العوامل الأخرى.

أما الأهمية العملية، فهي ستخوّل القارىء التمييز وعدم الالتباس بين عدة مفاهيم، وستتوضح العوامل ذات الأثر الكبير على قوة التزامه الحزبي أو بالعكس على ضعفه.

 

القسم الأول: الإطار المفاهيمي للالتزام السياسي

على مدى تاريخ تطور الفكر السياسي، حاول عدة باحثين تحديد مفهوم الالتزام السياسي، وعلى الرغم من الصعوبات، منهم من عرّف الالتزام السياسي بالانتماء الإرادي إلى مؤسسات معيّنة يؤيدها الفرد، ومنهم من أوضح مفهوم الالتزام بأنه موقف اللاحياد تجاه تنازع بين الواجبات. ولكن، ما هو الالتزام السياسي؟

 

أولًا: ما هو الالتزام السياسي؟

في إطار الفلسفة السياسية، طرح Emmanuel Mounier عدة مفاهيم للالتزام السياسي، وتنطوي هذه التفسيرات على عدد من المفاهيم الأساسية كمفهوم المواطن، العقيدة والعمل السياسي. فأتى تعريفه على الشكل التالي:"إن الالتزام السياسي يكون عند المواطن الفاعل الذي ينضوي تحت عقيدة سياسية ولا يمكن فصل الالتزام السياسي عن العمل السياسي، وهذا الملتزم عليه أن يكون مستعدًا لمجابهة الموت ليصبح التزامه التزامًا فعليًا".

يصف Thomas Ehrlich المشاركة السياسية أو المدنية بأنها "تعمل على إحداث تغيير في الحياة المدنية لمجتمعاتنا، وتطوير مزيج من المعرفة والمهارات والقيم والدافع لإحداث هذا التغير. وهذا يعني تعزيز نوعية الحياة في المجتمع، من خلال كل من النشاطات السياسية وغير السياسية"[1]. يشمل هذا التعريف ثلاثة أبعاد منفصلة: سياسية وغير سياسية على حد سواء، ملتزمة بالوعي الاجتماعي والمسؤولية، وأنه يستلزم دمج المعرفة والمهارات مع الدافع والفرصة.

تبعًا لـ Sidney Verba ,Key Lehman Schlozman، وHenry E. Brady، تم تعريف المشاركة السياسية كـنشاطٍ له نية أو فحوى التأثير على النشاط الحكومي - إما بشكلٍ مباشر عن طريق التأثير في صنع أو تنفيذ السياسة العامة، أو بشكلٍ غير مباشر من خلال التأثير على اختيار الأشخاص الذين يتخذون تلك السياسات[2]. التصويت هو النشاط الأكثر أهمية في هذا المجال، ولكنه يشمل أيضًا أنشطة مثل العمل لمرشحٍ أو حزب، أو محاولة إقناع شخص ما بكيفية التصويت، أو العمل فرديًا أو جماعيًا للتأثير على صنع أو تنفيذ السياسات العامة من قبل المسؤولين.

أيضًا، يتم تعريف الالتزام المدني على أنه نشاط طوعي منظم، يركز على حل المشكلات ومساعدة الآخرين. ويشمل مجموعة واسعة من الأعمال المنجزة أحاديًا أو بالتنسيق مع الآخرين لإحداث التغيير.

سلّطت هذه المفاهيم الضوء على عدد من المتغيرات التي يجب على الالتزام السياسي أن يتضمنها:

1- انتماء إرادي أي الإرادة الحرة.

2- تبنّي لموقفٍ معيّن أو عقيدة سياسية.

3- اشتراط الاستمرارية.

4- التعبير عنه بالعمل والمشاركة.

5- مجابهة الموت أي الإيمان والاقتناع به.

نرى أن عنصر العمل يطغى على التحديدات جميعها، وركّز Mounier على أن الالتزام السياسي من دون عمل سياسي هو كالأقوال من دون أفعال[3]. فالالتزام السياسي هو العمل على إحداث تغيير في الحياة المدنية لمجتمعاتنا، وتطوير مزيج من المعرفة والمهارات والقيم والدافع لإحداث هذا الاختلاف. وهذا يعني تعزيز نوعية الحياة في المجتمع، من خلال كل من المسارات السياسية وغير السياسية[4]. إذًا، كيف تتجلى مظاهر الالتزام؟

إن الالتزام هو أولًا وقبل كل شيء دليل على مشاركة المواطن في إرساء قواعد لمجتمعٍ أفضل، كي لا يبقى المارد سجين القمقم، ولا تبقى الرؤوس شامخة بلا عنفوان، وبالطبع بهدف عيش الرجاء[5].

عندما يلتزم المرء نفسه، فإن ذلك يساهم في تعزيز حياة المجتمع، وفي الصالح العام. تعمل المشاركة على تقوية أواصر التضامن من خلال تحفيز مشاعر الانتماء إلى هذا المجتمع[6]. اليوم، في عصر العولمة والعولمة البديلة، يتم تعريف هذا المجتمع من خلال الهياكل المحلية كالبلديات والمجموعات المحلية، ولكن يتم دفعه أيضًا خارج الحدود الوطنية.

تتيح المشاركة إلى مستويات مختلفة، يتم التعبير عنها بعدة طرق. وبالتالي، يمكن التعبير عنها من خلال إجراءات فردية أو جماعية، تركّز أساسًا على مستوى معيّن من التحول الاجتماعي في المجتمع، وأيضًا تُعبّر عنها بالعمل السياسي. هذا النوع من الالتزام السياسي، الذي يُطلق عليه عادة مشاركة المواطن، هو فعل أو موقف كل عضو من أعضاء الديمقراطية الذي يتخلى عن موقف صاحب حقوق فقط، ويضع فكره أو عمله في خدمة قضية جماعية، لغرض انتقاد أو مراجعة أو الحفاظ على مؤسساتها وقواعدها. كما يدعم مشاركة المواطنين في ممارسة الديمقراطية. وهنا يمكن القول بأن كل نظام سياسي ديكتاتوري أم ديمقراطي محكوم بممارسة السلوك، قد تصبح الدكتاتورية أقل سوءًا من الديمقراطية إذا كان الذين يمارسونها يتفوقون بمناقبيةٍ أخلاقية على من يمارسون الديموقراطيات. والديموقراطية اللاأخلاقية إذا تحولت إلى عبدة أصنام كما يقول برنارد شو قد تصبح بالممارسة نظامًا ديكتاتوريًا[7].

وبالتالي، ليست المهنة أو الوظيفة التي تمارسها، ولا حتى التبعية التي تصنّفها في خانة المواطنة بل هدفها النهائي. إذا كان الانعكاس والإيماءات المنبثقة منها موجهة إلى السياسة، أي الدولة مع سلطاتها والجهات الفاعلة فيها، والسبب الذي دعا إليها هو لمصلحةٍ عامة، فإن هذا الالتزام الشخصي أو الاجتماعي يمكن اعتباره التزامًا مواطنيًا[8].

بالإضافة إلى ذلك، إن الالتزام ليس لديه مظهر واحد يعبّر عنه. بمعنى آخر، إن الالتزام لا يلتزم بمظهرٍ معيّن، فهو يتخذ المظهر المناسب حسب الضرورة، فلكل حاجة مظهر يعبّر عنها. كما من الممكن أن يأخذ شكلًا عنيفًا أو غير عنيف. كما يقول الفيلسوف الصيني Laozi:"إذا رأيت أن سلطتك لم تعد محترمة، فاعلم بأن هناك سلطة أخرى هي في الطريق"[9].

يعترف الفرد المسؤول أخلاقيًا وفعليًا بنفسه كعضوٍ في نسيج اجتماعي أكبر. وبالتالي، يعد القضايا الاجتماعية ملكًا له جزئيًا على الأقل؛ هذا الفرد على استعداد لرؤية الأبعاد الأخلاقية والمدنية للقضايا، لاتخاذ الأحكام الأخلاقية والمدنية المستنيرة وتبريرها، واتخاذ الإجراءات اللازمة عند الاقتضاء[10] أيًا كان شكل المشاركة، سواء كانت القضية محلية، إقليمية، وطنية أو دولية، فإن مقاربة المواطن هي نفسها دائمًا: ضع فكره وكلمته وعمله في خدمة قضية جماعية، وذلك لجعل العالم أفضل. يمكن الاعتماد على عدة أمثلة على ذلك، من الإجراءات الأقل عنفًا إلى أعلى درجاتها: "عملية التصويت، الإضراب عن الطعام، النضال الحزبي، المعارضة، النقمة على السلطة، عمليات الضغط والمظاهرات، المقاومة، الفتن، الاضطرابات[11]، الاغتيالات السياسية، الثورات كالثورة الإنكليزية 1642 والفرنسية 1789 والروسية 1919، والأعمال الانتحارية"[12]، كالتي قامت بها "القاعدة" بزعامة "أسامة بن لادن" ضد الغرب.

هذه هي مختلف أشكال الالتزامات السياسية، ولكن، في بعض الأحيان قد يتخذ الالتزام شكل الإلزام . فهل هناك من فرق؟ وكيف يمكن التفريق بينهما؟

 

ثانيًا: الفرق بين الالتزام والإلزام

بناء على ما تقدمنا به من تعريفات لمفهوم الالتزام السياسي. نلاحظ أن عادة ما يتخذ شكل الإلزام عملية سياسية وقانونية مرتبطة بالدولة، بينما يشكل الالتزام عملية أخلاقية ومبدئية مرتبطة بالعقائديات والمعتقدات. فيقوم الإلزام على الضغط واتباع أسلوب العقاب والقصاص، بينما يقوم الالتزام على القناعة الفكرية لأنه عملية انتقائية وطوعية.

على الرغم من أنه لا يُعد الانخراط أو الالتزام في السياسة نوعًا معيّنًا من النشاط - فهو جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية وضروري لكل فرد[13]، إلا أن الدولة هي المؤسسة الوحيدة التي تلزم المواطن بأن يطيع قوانينها ويتقيد بأوامرها[14]، بينما الالتزام بالمؤسسات الأخرى وبقوانينها وأنظمتها يأخذ طابعًا اختياريًا، لأن المواطن ينتمي إليها وينسحب منها بمحض إرادته وعندما يرغب. فهو ينتمي عادة إليها عندما يقتنع بغايتها ومبادئها، ولكنه يستطيع الانسحاب منها إذا لم تَرُق له هذه القوانين. بينما لا يستطيع الانسحاب من عضوية الدولة إذا لم تَرُق له قوانينها وأنظمتها أو بعض القرارات التي تتخذها. "فقد يعزل أي رجل نفسه عن العائلة أو الأصدقاء، وقد يرفض عضوية الكنيسة أو أي هيئة مهنية، ولكنه لا يستطيع أن يرفض عضوية الدولة، إذا حاول التملص يمكنها أن تستخدم القسر لتضمن طاعته لهذه الأوامر"[15]. فالدولة تفرض المبادئ السلوكية التي تنظّم حياة الأفراد، وتُلزم المواطن بإطاعتها حتى لو اضطرت لاستعمال الإكراه، بصرف النظر عامة إذا كانت القوانين عادلة أو حكيمة أو خيّرة، لأنها تستمد شرعيتها وقانونيتها من كونها المصدر الوحيد للسلطة، ولديها الحق في أن تستخدم العنف المادي الشرعي لتكفل طاعة هذه الأوامر. ولا بد من القول أيضًا، إن الناس قد لا يطيعون الدولة لمجرد حب النظام فقط، لكنهم يطيعونها لما يعتقدون من أن هذه الطاعة ستوفر لهم رغباتهم. وبالتالي، فعند تداعي القيم التي كانت تشكّل كرامته، فقد الإنسان الإيمان ولم يحتفظ إلا بالخرافة. ولما لم يعد له أي ثقة بنفسه، ولم يعد يؤمن باللـه، توجه إلى الدولة لتنجده، كما يتوجه إلى عراف أو ساحر[16].

وعلى الرغم من أن الالتزام السياسي يتمثل بتبنّي مواطن لموقفٍ واضح ومحدد وبشكلٍ مستمر، يقوم بترجمته عبر المشاركة السياسية العلنية. ولكن، حتى رفض المواطن كل ما يمت للسياسة بصلةٍ، يصنف أيضًا بشكلٍ غير مباشر، ضمن الالتزام السياسي لكونه مساهمة موضوعية في الحفاظ على الوضع القائمStatus Quo. إن إنكار دور الأحزاب السياسية، ورفض الانخراط فيها والمشاركة في عملها، أو في أي عمل سياسي منظم تقوم به، يمكن مقاربته من زاوية تكريس المواطن ضمنيًا لسياسةٍ معيّنة واقعة، وهو ما يتعارض شكليًا مع موقف المواطن المعلن الرافض لأي سياسة.

هكذا، إن الالتزام هو عهد يقطعه المواطن على نفسه بالالتزام بهذه المبادئ أو عدمه، والعمل على تحقيقها أو عدم تحقيقها يلزم المواطن أخلاقيًا ومعنويًا فقط. أما الإلزام فإنه يتعدى هذا النطاق الأخلاقي والمعنوي إلى النطاق القانوني والمادي، وذلك لأنه ثبت تاريخيًا وعمليًا ضرورة اللجوء إلى الإلزام السياسي. مما يذكّرنا بالجملة الشهيرة لـ "ابن خلدون": "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستطيع أن يحيا من دون سلطة تضبط سلوكه بالقوة"[17].

وكلما اقترب الإلزام من الالتزام كلما اقترب المواطن من الكمال. ولو كان المواطن كاملًا لاكتفى بالالتزام من دون حاجة إلى الإلزام .فكلما تقاربت مقاييس الالتزام و الإلزام وكلما ضاق شق التمييز بينهما، كلما تقدّم المواطن في سلم الحضارة والمدنية، فيتحقق التماسك في المجتمع ككل، إذ تدفع مشاعر الانتماء إلى الجماعة الصغيرة باتجاه الولاء إلى الجماعة الكبيرة .

إذًا، الالتزام ضروري جدًا بالنسبة لتقدم الحضارة، ولكن أين تكمن أهميته الأخرى؟

 

ثالثًا: أهمية الالتزام السياسي

تضج بحياتنا اليومية آلاف القضايا التي تتجاوز قدرة الفرد، كالقضايا الاقتصادية التي أصبحت عديدة ومتنوعة كغلاء المعيشة[18]، عدم توفر أجور عادلة، سوء خدمات، تجارة غير مشروعة، احتكارات، تضخّم، بطالة[19]، إلخ... والمشاكل السياسية كتراجعٍ في هامش الحريات العامة، سوء الخدمات العامة، فساد في المؤسسات، تفشّي الرشاوى، عدم تخطي عصبية الأديان، وصراع المذاهب ليس فقط بين الطبقات الشعبية لا بل بين المسؤولين[20]، وغيرهم بالإضافة إلى المشاكل الاجتماعية وغيرها، فهل يمكن اعتبار هذه القضايا فردية وتعني فقط الذي يعاني منها؟

اليوم، لا يمكن اعتبار هذه المشاكل المتراكمة مشاكل فردية، بل هي مشاكل تخص المجتمع المعني بأكمله. إن للمجتمع الحق في أن يعيش بكرامةٍ وعدالة أكثر، لأنه من البديهي أن يكون لكل مواطن حقوق مكتسبة مثل التعلم، الطبابة، والحد الأدنى من الاستقرار في حياة أسرته، إلخ.... التي عليه أن يحصل عليها كاملة، ونشير إلى أن "النظام الديمقراطي يلزمه حكم القانون وثقافته معًا، لأن حكم القانون يحمي الحريات والشفافية والمساواة، وثقافته تعطي المواطنين القدرة على المدافعة والمرافعة في القضاء العام ضد أي إخلال بالقانون، أو تعسف من قبل أصحاب النفوذ أو الممارسين للفساد، وإذ تحتل هذه المدافعة قيمة موازية تمامًا لقيمة تدخّل القضاء والأمن، وأحيانًا أكثر أهمية منها"[21].

إن ذلك الهدف منوط بالتغيير في الشروط العامة لحياة المجتمع، بتطوره وازدهاره الحضاري، وكذلك باستقرارٍ اقتصادي، أمني وسياسي. ولكن هل يمكن التقدم إلى حل المشاكل التي تفرض علينا المعاناة من دون أن تنشأ في البلاد حركة قادرة على إنجاز ذلك التغيير، بإقامة التوازنات السياسية الكافية لتحقيقها على الأصعدة جميعها؟ ومن المتعارف عليه أننا لو أردنا متابعة القضايا أو حتى قضية واحدة بمفردها من الزاوية التي تضغط علينا، لاضطررنا إلى متابعة سائر الشؤون العامة ومختلف الوجوه السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأوضاع البلاد[22].

على سبيل المثال، كيف يمكن أن نهتم بكلفة التعليم إذا لم نفهم النظام التعليمي والقوانين المرتبطة به، ودور الدولة ونقاشات مجلس النواب وقرارات الحكومة؟ نشير إلى أن القوانين التي تتحكم بالمجتمع اللبناني هي قوانين ليبرالية إلى حد بعيد، وهي خليط من القوانين العثمانية القديمة وقوانين الانتداب الفرنسي وقوانين ما بعد الاستقلال، ومنها في مراحل كان المواطن فيها على علاقة عداء مع السلطة. كيف يمكن أن نطمئن إلى فرص العمل، إذا لم نفهم إطار التنمية الاقتصادية، أولويات البناء الاقتصادي، التخطيط العام للسياسة العامة والحاجات الاقتصادية في سوق العمل؟ إن القوانين عندنا تُصاغ لمعرفة النتيجة قبل الانتخابات، فإن تأكد المسؤولون من نتيجتها التي ترضيهم من دون اللاإلتفاف إلى مصلحة الشعب والوطن، عمدوا إلى المضي بتنفيذها، وإن لم ترض النتيجة سلفًا أهواءهم، تغاضوا عنها ورفضوها.

هذه الأمثلة كلها التي هي بمثابة مشاكل لكل فردٍ من المجتمع، لا يمكن حلها من دون وجود تنظيمات كالأحزاب السياسية. فهو الميدان الوحيد الذي يتلاقى فيه المواطنون على أساس فهم موحد لمشاكل المجتمع، وللبرنامج الوحيد الكفيل بحل تلك المشاكل. فليس كل مواطن يملك إرادة القدرة أو المال أو الوقت الحر، لذلك يأتي هنا دور الحزب السياسي كتنظيمٍ يتبنّى مشاكل المجتمع ليحصل على الأكثرية الشعبية ويصل إلى السلطة ليعالج هذه المشاكل[23]. فالحزب عكس الأفراد، قادر على درس مشاكل المجتمع بأسلوبٍ علمي ومنطقي، وفهم دقيق وواضح عن السبل الكفيلة بالتغيير، وتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى والحضارية التي تلبّي مصالح الشعب والوطن[24].

إذًا، إن الالتزام السياسي بخطٍ واضح وبرنامج ومنهجية علمية، تحمل مصداقية التجربة وخبرة نضالية، هو التعبير الدقيق عن الانتقال من الرد العفوي على المعاناة اليومية إلى التحرك الواعي من أجل التغيير. وهذا التعبير يعكس إيجابًا على مستوى الوطن. فالوطن أو الدولة لا تتقدم من دون وجود للأحزاب، والحزب يصل إلى السلطة بعد التزامات من قبل المواطنين لإيصاله. بعد التجارب المختلفة والبراهين العلمية، لا يوجد أي دولة تطورت أو تقدمت من دون أحزاب. فالحزب يربط المواطن بالنظام السياسي، والمواطن يريد تطوير دولته وحل مشكلاته المتراكمة، والأحزاب تؤمّن له السبل الكفيلة لذلك. هكذا، يصبح الالتزام السياسي عامل استقرار وقاسم مشترك لبناء الدولة والمجتمع.

 

القسم الثاني: المسار العملي لتكوّن الالتزام السياسي

لطالما كانت المشاركة السياسية بحاجةٍ إلى وعي واضح وتصوّر معيّن. فمما لا شك فيه أن للدفاع عن قضية معيّنة يجب أن يوفر آفاق للمستقبل. في عالمنا هذا، في القرن الواحد والعشرين، وفي ظل هذه الثورة الإلكترونية والتطور التقني الجامح، أصبح الناس غير منظمين، غير متحيزين وغير قادرين على تحديد الصالح العام. ففيما البعض يشكك في أهمية الانخراط الحزبي، البعض الآخر يؤمن أن إنجاح أي قضية يستدعي مشاركة مواطنين واعين وناشطين يعبّرون عن اهتماماتهم، ويعملون جماعيًا في سبيل تحقيق هدف معيّن[25]. إن الانخراط في السياسة، يتطلب أن يعرف المواطن ماذا يفعل، وكيف يتصرف، وإذا ما كان عديم الفائدة[26]. فلا يمكن تغيير الواقع ما لم يمتلك المواطن أدنى فكرة عن واقعه؟

 

أولًا: دور الالتزام في الأحزاب السياسية

تعد الأحزاب السياسية إحدى مؤسسات التنمية السياسية في يومنا هذا. فكما الإنتاج الاقتصادي يعبّر عن درجة التنمية الاقتصادية، كذلك تعبّر الأحزاب السياسية والنظام الحزبي عن درجة التنمية السياسية في النظام السياسي. وينبثق دور الأحزاب السياسية في عملية التنشئة السياسية خاصة في الدول الديمقراطية، التي تعتمد نظام التعددية الحزبية.

يشير الالتزام الحزبي إلى تغيير موقف لم يعد يناسبنا والدفاع عن مصالح الأشخاص الذين نحن جزء منهم. عرف هذا المساراختلافًا في الشكل والأسلوب، وتنوعًا في الدرجة والمستوى. كما اختلف في المضمون والهدف. وخضع باستمرارٍ لعوامل متعددة، إن على صعيد المحيط الاجتماعي الذي يعمل الحزب ضمنه، أو على صعيد الحزب وطبيعته ونمط حياته الداخلية وبنائه التنظيمي.

وتفترض كل مرحلة من مراحل النشاط الحزبي السياسي أنماطها الملائمة لتعزيز وتيرة الالتزام الحزبي وتفعيلها أو تخفيفها والحد منها. لذلك عرفت الأحزاب السياسية مظاهر متعددة من دوافع الالتزام الحزبي ومبرراته على مدار تاريخها الطويل، لأنه كما ذكرنا، إن الأحزاب السياسية قادرة على اختصار معاناة الشعب والوطن[27].

إن ظاهرة الالتزام الحزبي أثارت العديد من التساؤلات حول طبيعة الالتزام الحزبي وواقعه ومساره العام، وأيضًا تطرح تساؤلًا أساسيًا حول الدوافع المحركة لاستمرار الالتزام في الحزب السياسي. فلماذا يستمر عضو الحزب في التزامه الحزبي؟ وما هي مبرراته؟ وبالتالي ما هي المغريات التي تشده للبقاء؟ وما هي التصورات التي يختزنها كدفعٍ لهذه الاستمرارية، وعواملها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والنفسية، أم تبدو نوعًا من العادة والروتين المعهودَين؟ وهل يواجه الحزب نوعًا من النزيف التنظيمي كحركة نزوح من صفوفه؟ فكيف يمكن ملاحظة هذه الحالات والأشكال كظاهرةٍ من ظواهر الالتزام الحزبي؟

ويبدو أن هذا الجانب على قدر كبير من الأهمية في البناء التنظيمي للحزب السياسي. إن تراجع الالتزام الحزبي يترك آثاره السلبية على مسار الديمقراطية في البلد، وعلى طبيعة المشاركة في الشأن العام، لأن رفض الالتزام يكرس سياسة معيّنة وفي أغلب الأحيان تكون دكتاتورية[28]. كما قد يعزز موقع الانتماءات الأولية وأشكالها التقليدية.

إذا كان الالتزام ضرورة يفرضها الواقع، وإذا كان الحزب ضرورة تؤكدها التجربة، فما هي الآليات التي تدفع الالتزام من الواقع النظري والقول اللامسؤول إلى الواقع العملي الفعلي المسؤول؟ لنفكر في طبيعة الالتزام الذي يتجاوز العقل والعاطفة إلى الإرادة.

لقد شبه الصينيون القدامى إرادة الإنسان بعربةٍ يجرها حصانان يمثّلان العقل والعاطفة، وينبغي أن يسير الحصانان في الاتجاه عينه حتى تسير العربة. فالالتزام هو حصيلة إقناع عقلك وعواطفك بالتحرك إلى الأمام، ثم المضي قدمًا مهما كان الثمن. وعلى القادة أن يكونوا قدوة في هذه المزية[29].

إذًا، لتحقيق الالتزام من المفترض أن تتحقق بعض الشروط:

1- الالتزام أساس العمل.

2- لالتزام يسبق الإنجاز.

3- مقياس الالتزام الوحيد هو العمل، فالأقوال رخيصة أما الأعمال فمكلفة[30].

4- الالتزام يفتح باب الإنجاز.

5- الالتزام خاضع للقياس.

6- على القادة أن يحددوا ما يستحق أن يموتوا في سبيل تحقيقه، ويجعل ذلك أساس قراراتهم[31].

7- الالتزام يزدهر بوجود العلنية: أخرج التزاماتك إلى العلن، عندئذٍ يكون لديك حافز للمضي بها.

إن الصدق والاستقامة من عوامل النجاح الجوهرية التى لا غنى عنها، وإذا رافقت هذه العوامل حسن المعاشرة، زادت تلك العوامل قوة، وسهّلت لها سبل الحركة والظهور، كما يسهّل الزيت النقي حركات القوة الميكانيكية، ويلطّف احتكاكها، فيسهّل سرعتها ويحيي سلامتها.

 

ثانيًا: المتغيرات المؤثرة على عملية الالتزام الحزبي

يجب أن تكون المشاركة داخل حزب سياسي، على الرغم من العفوية المترتبة على تجربة شخصية مهمة، نتيجة لعمليةٍ مبنية ومدروسة وموجهة بدوافع مفهومة جيدًا[32]. يظهر الواقع أن الالتزام يأتي بعد آلية أساسية تتفرع منها آليات أخرى مختلفة. وإن العديد منهم يبالغ في تقديم المسببات لانخراطهم في الأحزاب والالتزام في صفوفها. وقلما يأتون على ذكر دور العائلة، المدرسة، الطائفة، النقابة، الحزب، إلخ،...كدافعٍ للالتزام أو قبل ذلك كدافعٍ للانجذاب إلى هذا الحزب أو غيره. فكل دافع من هذه الدوافع يساهم في عملية الالتزام السياسي عبر آلية تعرف بـ "التثقيف السياسي" Socialisation.

إن الإنسان ابن بيئته، فالشخص يرتبط ببيئته الأولية ارتباطًا قويًا. وتبدو هذه العلاقة أكثر وضوحًا وأعمق تأثيرًا في المراحل العمرية الأولى للطفل[33]، فمن خلال الأسرة والبيئة الاجتماعية المحيطة، يتم تنشئة الإنسان اجتماعيًا. من هنا تؤدي الأسرة، كمؤسسةٍ اجتماعية إلى جانب غيرها من مؤسسات التطبيع الاجتماعي، دورًا مهمًا في تحقيق انسجام الفرد في الإطار الثقافي العام للمجتمع، ولأن للإنسان علاقة تراتبية وتاريخية بالأرض التي يسكنها على ما يقول ابن خلدون، وهي تدخل في تكوينه البيولوجي والنفسي ولا يمكن فصله عنها.

يمكن القول إن التربية هي العملية التي تساهم في نقل الإنسان من حالته البيولوجية إلى حالته الاجتماعية أو من فرد بيولوجي إلى فرد اجتماعي، الأمر الذي يعني ببساطةٍ عملية تنمية وتشكيل للوليد البشري. فالتربية المنزلية لديها دور أساسي وأولي، فنحن نعيش أولى سنين حياتنا داخل عائلة، نلتزم فيها المبادئ والقيم لتجعلنا أفرادًا مسؤولين قادرين على الوفاء بالالتزامات.

وأيضًا تساهم المدرسة في عملية بث الروح الوطنية في النفوس، وتجعلهم أفرادًا واعين لمصالح الوطن. تؤمّن هذه الوظيفة من خلال الدور التربوي، إذ تساهم بتنشئة الأفراد وتثقيفهم سياسيًا بغية جعل المواطنين يعون مشاكلهم، وتساعدهم كي يفكروا من وجهة نظر جماعية بأمور المجتمع، وليس من خلال تفكير فردي معزول[34]. والطائفة أيضًا، تقوّي الإيمان والقناعة بالمبادئ الروحية.

فالإيمان وحده هو الذي دفع الرجال للالتزام والنضال والقبول بالسجن والتضحية بحياتهم. وقد تميزت بهذا الأمر، بشكلٍ خاص، الأحزاب الشيوعية التي تقوم على مبدأ التراتبية النظامية والالتزام الأيديولوجي الذي يلامس الإيمان الديني ثم الأحزاب الاشتراكية. هذا العمق بالإيمان دفع البعض لتشبيه هذه الأحزاب بالديانات. وكما هناك أماكن كثيرة تشجع على الالتزام من خلال تبادل الأفكار، وبالتالي تبادل الخيارات وليس على الفرد هنا إلا أن يختار مبدأ ليقتنع به ثم يلتزم به[35].

ونصل إلى دور الحزب الذي يؤدي دور عامل تنشئة، مثل بقية المجموعات الاجتماعية كالعائلة والمدرسة والنوادي، ويعمل على هذه القيم والضوابط والقواعد من أجل ترسيخها في عقولهم أو تعديلها حسب الظروف. ومن اللافت للانتباه أن مرحلة الانجذاب إلى الحزب والالتزام في صفوفه، تكون مقتصرة بالدرجة الأولى على الشباب في مختلف مراحلها السياسية والزمنية، وتبدو أقرب إلى أن تكون ظاهرة عامة إلى حد كبير. وتؤدي الأحزاب هذا الدور التثقيفي خاصة مع الشباب، وتحاول الاهتمام بالمؤسسات الرديفة لتأطير الشباب ومحاولة تكييفهم مع أفكار الحزب.

نشير هنا إلى رغبة الحزب في التركيز على الفكر وتنشئة الحزبيين من خلال عملية تثقيف، هدفها خلق التناسق الفكري فيما بينهم لتثبيت الالتزام، و تنتهي بفعل إيمان الحزبي بعقيدة تنظيمه بشكلٍ يصبح من المستحيل عليه الرجوع عن هذا الإيمان لئلا يُتّهم بالخيانة أو الردة.

هذا ما يجعل الحزب وعقيدته أشبه بالدين. وهو ما أشار إليه ديفيرجيه لدى تصنيف الأحزاب. التثقيف السياسي، من أهم وظائف الحزب المعاصر. التنظيم وتقسيم العمل من جهة، والعقيدة – البرنامج من جهة أخرى يخلقان الكثير من التماسك والقدرة والإرادة، ويعبّران بشكلٍ واضح عن هدف المنظمة بالاستيلاء على السلطة.

قد أشار مازيني إلى ذلك من خلال تركيزه على كون الحزب هو دولة داخل الدولة، وعليه إذا كان يثق بمستقبله الذاتي، يعد نفسه كدولةٍ صغيرة هدفها استيعاب المواطنين وتحويلهم إلى ملتزمين، وعليه أيضًا أن يقوم بكل واجبات أعضاء الدولة، ومن بينها مثلًا نجد الاشتراكات الشهرية. تأثرت الأحزاب الاشتراكية الإيطالية بتنظيم مازيني، وكان الحزب الجمهوري الإيطالي امتدادًا مباشرًا له.

يرى Almond أن عملية التنشئة Socialisation التي تؤمّنها الأحزاب، تضطلع بدورٍ مهم على مستويات الثقافة الثلاثة التي تدخل في عملية التنشئة، وتسمح للأفراد بالمشاركة والانصهار في المنتظم:

ـ الثقافة المعرفية Cognitive من خلال تنوير الأفراد وإعطاء المعلومات حول المسائل الوطنية.

ـ الثقافة العاطفية Affective من خلال المشاركة بنشاط الحزب إذ تقوي الشعور بالانتماء للوطن. وهنا تدخل لعبة الرمزية من خلال الشعارات والطقوس والأعياد والاجتماعات التي تفعّل المشاعر وتقوّي الالتزام في الداخل.

ـ الثقافة التقويمية Evaluative يحدد الحزب أهدافًا ومعايير لتقييم الحقائق السياسية والاقتصادية. وهو يقترح أيديولوجيا ومنظمات فكرية تشكّل ركنًا أساسيًا في عملية تنشئة الأفراد[36].

إضافة لهذه العوامل هناك عوامل، حسب الظرف الزمني للحزب، تدفع آليات الالتزام الحزبي لحمل البندقية والمشاركة، والالتزام بالمقاومة على الصعيد الوطني (في حالات الاحتلال نرى هذا الطموح)، إن قوة المشاركة في القرارات التي يؤمّنها الحزب، تضمن مستوى التنظيم والالتزام والتضحية المطلوبة في الظروف الصعبة مثلًا في حالة الحرب.

كما يلاحظ أن الانتماءات الأولية لاتزال تفعل مفعولها، أي أنها تظل على قدر كبير من التأثير والفعالية، لتوجيه آلية الالتزام وتحديد مساره المباشر. والخطورة في هذه الدوافع هي في حال غلبت واحدة على أخرى ورجحانها أو تعارضها، إذ يجب أن تكون على قدر كبير من التوازن والتشابه.

إن هذه الدوافع التي حركت عملية الالتزام الحزبي وشجعتها، حملت في مضمونها رومانسية الشباب وطموحاته في التغيير والثورة وبناء وطن العدالة والحرية، غير أن هذه الصورة المشرقة عجنتها التجربة وخبزتها السنون، وإنْ بنسبٍ مختلفة نتيجة العمر وعمق التجربة، الأمر الذي أعاد الأحلام الواسعة والتصورات الزاهية إلى واقع الحياة وظروفها، وفرض إيجاد تعليلات أخرى لتحديد عوامل استمرار الالتزام الحزبي ومبرراته. من هنا تتعدد الرؤى وتتنوع المبررات.

المبررات الأولى للالتزام الحزبي هي عندما تستقر الذات الحزبية للشخص، بعد أن يتعمق في التجارب التي يمر بها ويجذّرها وينقلها من السطح العاطفي إلى عمق الوعي العقلاني. يستمر الالتزام الحزبي في حال عدم وجود أي حزب آخر يحمل برنامجًا أفضل لحل هذه المشاكل، أي بمعنى آخر، إن عدم وجود أداة أخرى للتغيير تُبقي الالتزام مستمرًا في ذاك الحزب.

فالحزب إذًا، هو الإطار الأبرز للمشاركة في القضايا العامة بمختلف جوانبها، لعجز المواجهة الفردية عن التصدي من جهة، وأداة رئيسة يطمح إليها المحازب من جهة أخرى لتحقيق تطلعاته. إن استعراض هذه العوامل التي تغذّي استمرارية الالتزام الحزبي وتدعمه، تكاد تكون إلى حد كبير صدى لعوامل الالتزام ودوافعه الأولى، لأن التجربة لم تتلف البذور الأولى لعمليات الالتزام أو تفقدها حيويتها، بل يبدو أن التجربة وعلى رغم المعاناة والتراجعات عمّقت الوعي وبلورته.

ما هي أهمية الدوافع الداعمة لاستمرارية الالتزام الحزبي؟ لماذا هناك حالة تراجع في الالتزام الحزبي؟ تتعدد أسباب التراجع في عملية الالتزام الحزبي، والسؤال الأساسي هنا: ما هو مدى قدرة الحزب على تجسيد تطلعات الملتزمين؟

هناك حالة يكون فيها الحزب يعاني من حالة نزيف من داخله يخسر فيها الكثير من الملتزمين. يعود سبب النزيف إلى ترهّل البنية الحزبية وعجزها عن الإحاطة بالمحازبين، وإضافة إلى ذلك، إن عدم السماح بالنقاش الداخلي يعكس غياب التفاعل الداخلي في الحزب. وتتجلى مظاهر التراجع في الالتزام إلى انخفاض عدد المحازبين والنشاطات الحزبية. ولكن هناك عوامل أخرى متنوعة تحيط بالالتزام السياسي وتؤثّر عليه:

إن العوامل النفسية تؤثّر فعليًا على الالتزام، كالإحساس بالإحباط وبأن لا جدوى من النضال، وعدم فهم طبيعة وضعهم، وحقيقة دورهم، وعدم إدراكهم لكامل القوى أو المشاكل التي يواجهونها. فكل فرد يسعى للالتزام داخل حزب يحقق له أهدافه، ولكن إن عدم وجود هدف واضح وطريقة عمل واضحة من أجل الوصول إليه سيخلق حالة اجتماعية محبطة وضعف في القناعة، وخاصة عند فشل محاولات الوصول. يقول الفيلسوف اليوناني هيراكليس: "من المرهق والمؤلم أن تخدم أسيادًا لا يتبدلون..."

إن العامل الاقتصادي مهم أيضًا، فالكساد الاقتصادي يؤثّر على عدد المحازبين داخل الحزب، ومن البديهي أن الفرد في هذه حالة لن يعد يهتم بالحزب، وخاصة إذا كانت أهداف الحزب لا تعير اهتمامًا إلى هذه المشكلة. فالأوضاع الاقتصادية الرديئة زادت على قدر كبير من الصعوبة في الالتزام أو عملية استمرار الالتزام وضعفت، وإن إرادة الملتزمين لم تعد ذات فعالية. نظريًا، إن عملية الالتزام في أشكالها كافة يجب أن لا ترتبط بالمصالح أو الأهداف المادية ولكن واقعيًا، أهذا الذي يحدث؟

إن السياسة الداخلية للحزب من ناحية الأخطاء التي يرتكبها القياديون خلال مراحل مفصلية، وغياب المصارحة داخل الحزب وقصور القيادة، كما أن وجود أزمة في القيادة وغياب المناقبية والازدواجية بين الممارسة والخطاب وسيطرة الهوس الشخصي تؤدي كلها إلى ضعف الأحزاب. هناك من اكتشف من خلال التجربة هيمنة نوع من الأفكار المجردة، وعدد من الإسقاطات غير قادرة على الفهم الصحيح للواقع الحالي، وتكون الخطابات والمناقشات حينها تشبه الأسلوب السفسطائي اليوناني، والسفسطائية كلمة يونانية يفسّرها القاموس بأنها استدلال باطل يُقصد به تمويه الحقائق.

فكانت الأفكار نوعًا من الإسقاطات النظرية إلى جانب غياب الممارسة الديمقراطية وغياب المعارضة داخل الحزب - بسبب اعتراضها لمبدأ الانضباط الحزبي ويعدّها القياديون تشكّل خطورة على وحدة الحزب وتماسكه أو يستعملونها كحجةٍ - مع العلم أن المعارضة داخل الحزب هي إحدى مظاهر الالتزام، لأنها تفعّل المشاركة داخله، وبالتالي تعزز الالتزام. كثيرون، كثيرون يعرفون الحق، لكنهم يقفلون عليه في صدورهم، فإذًا صدورهم توابيت الحق ومقابره، بدلًا من أن تكون هياكل له وقبابًا. كثيرون، كثيرون يدركون الخطأ، لكنهم يواظبون عليه، يدأبون فيه ويتنكرون لفضيلة الرجوع عنه[37].

فعدم المشاركة داخل الحزب تؤدي إلى نزيف تنظيمي من داخله إلى تراجع عملية الانخراط فيه. والعامل الأخير هو النظام السياسي الذي في حال سيطرت عقيدة واحدة على السلطة، سينعكس سلبًا على الالتزام ليصبح إلزامًا. فالنظام السياسي إذا تمت المحافظة على ديموقراطيته وتعددية أحزابه، سيساعد ذلك على الحفاظ على استمرارية الالتزام، أما إذا تحوّل إلى نظام شمولي فيكون الالتزام الحزبي في نهايته وبداية عصر الإلزام السياسي.

إذًا، هذه هي مبررات الاستمرار أو التراجع في الالتزام السياسي، ويبقى سؤالنا، إذا كان الالتزام السياسي أو الحزبي هو من أجل قضية معيّنة وللمصلحة العامة. من هو هذا الملتزم؟ وكيف نفرّق بينه وبين المواطن أو المنتسب العادي؟

 

ثالثًا: الفرق بين المناضل والمنتسب

بادئ ذي بدء، إن الذهاب إلى التصويت عند الدخول في حزب سياسي أو التنشيط على سبيل المثال خلافًا للاعتقاد السائد، كما الامتناع عن التصويت أو التصويت الأبيض يُعد التزامًا من خلال هذه الإيماءة، يتعلق الأمر بإضفاء صبغة الفوضى وإظهارها أمام رقعة الشطرنج من المرشحين الذين لا يناسبون. ويمثّل الامتناع أيضًا عن حريته في المواطنة، التي يمارسها عندما يقوم بهذه البادرة السياسية القوية للمشاركة في السياسة، إذ من الممكن المشاركة في اجتماعات الحزب التي تهمه لمناقشة توجهاتها، أو الاستراتيجية الانتخابية التي سيتم تبنّيها في الانتخابات المحلية أو المناقشات الوطنية الرئيسة في الوقت الراهن. يمكن أن يتيح له ذلك الإعلان عن مواقع الحزب من خلال توزيع منشورات في الشارع، الأسواق، أو عن طريق بيع صحيفة أو المشاركة في مزيد من الأنشطة خلال الحملات الانتخابية مثل صور الملصقات أو منظمات الاجتماع. إن المناضل هو عضو نشط، أي أنه يوافق على القيام بالعمل الميداني طواعية والمشاركة في حياة الحزب[38].

من هنا، استعملت صفة مناضل في البداية في الأحاديث الدينية: الكنيسة المناضلة تحضر الكنيسة المتألمة والكنيسة المنتصرة. تنحدر الكلمة من فعل عسكري. أخذت الصفة طابعًا علمانيًا في القرن التاسع عشر وأصبحت تعني رجلًا فعالًا ناشطًا في سبيل قناعاته، وقد ظهرت الكلمة من قبل عامية باريس سنة 1848، لتعني القياديين السياسيين والنقابيين للحركة العمالية. أدى تطور الكلمة اللغوي إلى توسيع مضمونها فانفصلت عن إطار الحركة العمالية لترتبط بكل من يخدم تنظيمًا سياسيًا أو نقابيًا، لكن العمال ظلوا يستعملون الكلمة بطابعها المميز. ثم أخذت الأحزاب المحافظة وأحزاب الوسط تستعمل الكلمة للحديث عن النشطاء المتطوعين من دون مقابل، بينما أصبحت الأحزاب و النقابات تسمي المداومين فيها مناضلين. لعل استعمال الكلمة ضمن هذا الإطار، هو للتأكيد بأن الذين يتركون حقل الإنتاج والعمل، ليكرّسوا أنفسهم كليًا للحركة العمالية مرتبطين بها عضويًا كالحزب.

يعني المناضل السياسي الانخراط في مؤسسة حزبية للترويج والدفاع عن أيديولوجية أو قضية أو سياسة أو أفكار، إلخ... إن النضال في السياسة يضعنا أمام أشخاص آخرين ليس لديهم نفس الفكرة عن تنظيم المجتمع، ولا ذات وجهات النظر، وفي أغلب الأحيان لا يمتلكون ذات اهتماماتنا. المناضل السياسي هو شخص: لديه قناعات عميقة، على استعداد لإشهار هذه المعتقدات علنًا، يتحرك بروحٍ تدفعه إلى تجنيد أشخاص آخرين لكسب أكبر عدد ممكن من الناس من أجل قضية حزبه، يشارك رسميًا ويساهم فيه من خلال إعطاء وقته، أفكاره، أمواله، الأصول المادية له، وما إلى ذلك، ويشارك في التفكير، صنع القرار، وتنفيذه داخل الحزب[39].

إذًا، المناضل هومنتسب ناشط يعمل بثباتٍ في سبيل الحزب يمكن تحديد المناضل بأربع صفات:

•  النضال من أجل قضية.

•  الثبات: العمل بشكلٍ مؤقت ومتقطع لا يستوفي الشرط، فالنضال يعني الاستمرارية.

•  المبدأ الجماعي وليس لغايةٍ فردية.

•  الصفة المجانية: هذه الصفة واضحة للمتطوعين وغامضة بالنسبة للمداومين.

إذًا، النضال لا يعني إشهار الهوية الحزبية بلا امتلاك الوعي والمعرفة العلمية الدقيقة بمشاكل المجتمع، والقضية المصيرية، والبرنامج العام الذي يحقق الخلاص. بهذا المعنى لا يعني الالتزام حمل البطاقة، بل إنه يعني امتلاك الوعي للخط والبرنامج. إن النضال، لا يعني حضور الاجتماعات الحزبية فقط، إن الاجتماع الحزبي أساسي كشكلٍ للانتظام، لكن ليس كافيًا لتأكيد الالتزام[40]. أن تشارك في الاجتماع بفعالياتٍ، أي أن تساهم في رسم الخطط النضالية والتنظيمية، أن تحمل الاقتراحات، أن تتابع الأفكار الجديدة وتشارك في مناقشتها، أن تمارس النقد والنقد الذاتي بروحٍ ثوروية جريئة، أن تطرح الاقتراحات لتطوير البنية الحزبية ونشر عقيدة الحزب والمشاركة في العمل على تطوير إمكانات الحزب (ماليًا، ...)، ذلك كله يشكّل مضمون الالتزام الحزبي، وإن أفعال الإنسان كما يقول الفيلسوف الألماني كانط تؤلف سلسلة متصلة من الحلقات بعضها مرتبط ببعضٍ ارتباطًا حتميًا.

لذلك هناك فرق كبير بين من يحضر الاجتماع ومن يشارك فيه. ويجب تجسيد الالتزام الحزبي بتحويله إلى عمل حزبي يومي. إن المناضل السياسي يعيش في كل لحظة، قضية التغيير، وهاجس العمل لنشر البرنامج والخط السياسي. فالمناضل الملتزم، هو من يلتصق بالجماهير في كل أماكن وجودها، لكسب أنصار جدد والمناضل يعمل دائمًا من أجل المصلحة العامة. هذا ما دفع Duverger إلى القول إن الصورة تبدو وكأن المناضلين يقودون المنتسبين، وهؤلاء يقودون المناصرين والمناصرون يقودون الناخبين[41].

إن الالتزام هو الثابت في كل علاقة، في كل نشاط، بمرونةٍ ودراية، بالفاعلية اللازمة والاستعداد النضالي لتقديم كل التضحيات في سبيل الوطن والمجتمع. فالمناضلون ينفّذون سياسة الحزب، ويدرك القياديون أن التنفيذ لا يتم من دونهم[42]. فالمناضلون في الأحزاب الجماهيرية هم فئة خاصة من المنتسبين، ويشكّلون النواة الأساسية في كل وحدات القاعدة الحزبية. نجد هؤلاء في الخلايا والفروع ونتعرف إليهم من خلال نشاطهم الكبير في المجالات كافة: اجتماعات، نشر شعارات وتعليمات الحزب، الدعاية، النقاش والحملات الانتخابية.

فمشاركة المناضل فعلية وإيجابية (Active)، أما مشاركة المنتسب فهي سلبية (Passive)، إنه اسم على لائحة المحازبين واشتراك في صندوق الحزب. في الأحزاب الأميركية، النضال يشبه عمل الهواة السياسيين ويمكن أن يتحول لعملٍ فجائي ظرفي خاصة في وقت الانتخابات الرئاسية. تتراوح نسبة المناضلين إلى المنتسبين في الأحزاب الجماهيرية بين 25 و30 ٪. ويُعد الحزب الذي يؤمّن هذه النسبة من الأحزاب الناشطة.

 

الخاتمة

إن الالتزام السياسي مهم جدًا ومن الأفضل على الأفراد جميعها الانخراط في الحياة السياسية على عدمه، لأنه تقع عليهم مسؤولية نقل قيم الالتزام من جيل إلى آخر. فالالتزام السياسي ليس مجرد مشاركة في العملية الانتخابية، إنها أكثر من ذلك بكثيرٍ، وتنطوي على تأدية دور نشيط في ما يحدث من حولنا. كما إن المشاركة السياسية أو منح الأفراد الأدوات اللازمة ليكون لهم صوت مدني وسياسي، تعني أن يصبحوا وكلاء تغيير في المجتمع، ونؤكد هنا أن مجتمع القبيلة لا يبني وطنًا.

لقد برهنا خلال البحث أهمية الالتزام السياسي على ضوء النظريات المتاحة، واستخلصنا عدد من النقاط المشتركة، بحسب قراءة أخيرة لأهم مرتكزات الالتزام السياسي:

•  انتماء إرادي أو الإرادة الحرة.

•  تبنّي لموقفٍ معيّن أو عقيدة سياسية.

•  اشتراط الاستمرارية.

•  التعبير عنه بالعمل والمشاركة.

•  مجابهة الموت أي الإيمان والاقتناع به.

إن الالتزام السياسي له قوة، بخاصةٍ داخل الأحزاب السياسية، وقدرة تغييرية مجتمعية. والمناضلون هم الأكثر التزامًا. كما لا توجد أوقات جيدة للانخراط في السياسة. في الواقع، كل مواطن حر في الانخراط. قد يكون الدخول إلى حزب سياسي أو الذهاب للتصويت، وأفضل وقت للمشاركة هو بالتأكيد عندما تكون شابًا، لأن الشباب عادة ما ينشّطون السياسة، ويجرؤون على تقديم أفكار مبتكرة، تجعلها تتلاءم مع عالم القرن الحادي والعشرين، ليتحقق القول "إن الحرية السياسية هي أم الحريات، إذا سقطت تهاوت معها الحريات الأخرى التي يحددها علم النفس: حرية الإرادة، الحرية النفسية، الحرية الطبيعية، الحرية الأخلاقية وتنتهي الحرية المدنية في قبضة الحاكم المستبد"[43].

نستنتج أنه من دون وجود لعنصر الشباب في المجتمع لن نرى أي التزامات، لأنه عنصر مهم، كونه ميدان خصب لنشوء الالتزامات وتفاعلها وخاصة الالتزامات الحزبية، أيضًا من دونه لن نرى أي التزامات، وبالتالي لن يتقدم المجتمع إلى الأمام ونحو الأفضل، لأن الرجوع إلى الوراء في عالم يتقدم، معناه: الخروج من التاريخ، وهذا ما سيدفعنا إلى السؤال التالي: ماذا لو فقد الشباب الأمل بالتغيير أو رفضوا الالتزام من جديد؟، من سيحرك المجتمع نحو الأفضل؟ أو بالأحرى هل سيصمد المجتمع في هذه الحالة ؟ في ظل ما قد تؤول إليه البلاد من فاجعات على الأصعدة كافة، والتي قد تكون نتيجة حتمية للمذهبية المحمومة التي قد تُطيح الشأن العام، وتشوّه الممارسة السياسية في سلوك صعب يوتّره العامل المذهبي في الداخل، والذي قد يجنح من الداخل إلى الخارج، إذ يأتي الالتزام والإلزام للوطن في الداخل إن صح التعبير تفاديًا للصراع الطائفي الذي يحتّم الاستنجاد بالأجنبي والولاء له. "إن تدخّل الدولة يستطيع أن يشكّل، في نهاية المطاف، ليس تهديدًا للحرية، ولكن الضمانة الحقيقية لحرية الضعفاء"[44]. إن دولة القانون والمؤسسات هي دولة القواعد لا دولة الأشخاص، وهي التي تبيّن كيفية الوصول إلى السلطة وصلاحيات الأشخاص الذين يمارسونها، وتجعلهم مسؤولين عن أفعالهم أمام المواطنين. فالهدف النهائي لهذا النسق من التدابير، كما ودور الالتزام السياسي الحقيقي والجدي في الأحزاب التي تضطلع بدور المراقب الفعلي لإنجاح الديمقراطية، هو منع السلطة السياسية من الاستحواذ على القوة الزائدة عن الحد، للحفاظ على حريات المواطنين. انطلاقًا من ذلك نتساءل أين لبنان من دولة القانون والمؤسسات؟

 

المراجع

اللغة العربية

• الأمين عدنان، ثقافة القانون في الجامعات العربية، إضافات / العددان 36-37، خريف 2016 - شتاء 2017.

• محمد المجذوب، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني وأهم النظم السياسية المعاصرة في العالم، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الخامسة، 2018.

• رزق أدمون، أراء ودماء، دار الطباعة اللبنانية. من دون تاريخ.

• مسرة أنطوان، الأحزاب والقوى السياسية في لبنان التزام واستراتيجية سلام وديمقراطية للمستقبل، منشورات المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، بيروت، 1996.

• مغيزل جوزيف، النظام السياسي في الأحزاب السياسية في العلمانية والطائفية، الجزء الأول، مؤسسة لور وجوزيف مغيزل، دار النهار للنشر، بيروت، 1997.

• دون كاتب، الأحزاب السياسية والسياسة العامة والديمقراطية التشاركية، المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية، بيروت، ٢٠١١.

• هارولد لاسكي، الحرية في الدولة الحديثة، ترجمة أحمد رضوان عز الدين، دار الطليعة بيروت 1966.

• جنبلاط كمال، نحو صيغة جديدة للديمقراطية الاجتماعية والإنسانية 1945، الدار التقدمية، 2004. 

• جوزف سعاد، مسؤولية المواطنية والأطفال: معضلات مأزق المسؤولية العلائقية الأبوية في لبنان و بناء المواطنية في لبنان، منشورات الجامعة اللبنانية الأميركية 1999.

 

اللغة الاجنبية

• Gabriel A. ALMOND, Sidney VERBA, The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations, SAGE Publications, California, 1989.

• BOUTHOUL Gaston, La Sociologie de la Politique, Presses Universitaires de France, 1967

• BRAUD Philipe, SociologiePolitique, Edition Lextenso, Paris,2008.

• CHAMPAGNE Lynda, Jean François MARÇAL, «Réflexions Idéologiques sur l’Engagement Citoyen», AQOCI, 2011

• COQ Guy,: Mounier L'Engagement Politique, Michalon, Paris,2008.

• CORNATON Michel, Groupes et Société, EditionPrivat, Toulouse, 1969.

• V. Giscard D’Esteing, Democratie Francaise, ed. Fayard, Paris 1976

• EHRLICH Thomas, Civic Responsibility and Higher Education,Oryx Press, ERIC Document Reproduction Service No. ED439659, Phoenix, 2000

• LANCELOT Alain, MEYNAUD Jean, La Participation des Français à la Politique, Presse Universitaire de France, Paris1965

• MESSARA Antoine, Parties et Forces Politiques au Liban Renouveau et Engagement, Fondation Libanaise pour la Paix Civile Permanente, Beirut, 1998.

• Jan W. van Deth, Studying Political Participation: Towards A Theory Of Everything?, ECPR Joint Sessions: Institute of Political Studies, Grenoble, Colchester, April 2001

• Sans Auteur, “Les Jeunes et l’Engagementen Politique,”in Friedrich Ebert Stiftung, Yaoundé, 2014

• SEILER Daniel-Louis, «Maurice Duverger et les partis politiques»,in Revue Internationale de Politique Comparée, 2010/1 (Vol. 17)

• Sidney VERBA, Kay Lehman SCHLOZMAN, Henry E. BRADY, Voice and Equality: Civic Voluntarism in American Politics, Harvard University Press, Cambridge, 1995.

 

المواقع الإلكترونية:

• http://www.sciencespo-toulouse.fr/medias/fichier/dispo-lengagement_1427786283728-pdf?INLINE=FALSE

 


[1]- Thomas EHRLICH, Civic Responsibility and Higher Education, Oryx Press, ERIC Document Reproduction

.Service No. ED439659, Phoenix, 2000, p. vi

[2]-  Sidney VERBA, Kay Lehman SCHLOZMAN, Henry E. BRADY, Voice and Equality: Civic Voluntarism in

.American Politics, Harvard University Press, Cambridge, 1995, p. 38

[3]-  .Guy COQ, Mounier: L'Engagement Politique, Michalon, Paris, 2008, pp. 61-62

[4]-  .Thomas EHRLICH, op. cit., p. vi

[5]- إن الكاتب الروسي دوستويفسكي قد كتب في رسالة لأخيه من منفاه:" من المحزن أن يعيش المرء بلا رجاء...".

[6]- " لم نتفق لا على رؤيا ولا على هدف ولا على شهيد ولا على شيء..."مصطفى علوش، نعامة رأسها في الرمال، الجمهورية 26 تشرين الثاني 2019.

[7]- جوزف الهاشم، نهر الجنون، الجمهورية 20 كانون الأول 2019.

[8]-  "Lynda CHAMPAGNE, Jean François MARÇAL, "Réflexions Idéologiques sur l’Engagement Citoyen

.AQOCI, 2011

[9]-  .Gaston BOUTHOUL, La Sociologie de la Politique, Presses Universitaires de France, 1967, p. 185

[10]- .Thomas EHRLICH, op. cit., p. xxvi

[11]- يقول مثل مغربي:" تولد الثورات عندما ترى رجلًا يأكل الخبز وآخر يتفرج عليه...".

12]- .Gaston BOUTHOUL, op. cit, p. 186

[13]- Jan W. van Deth, Studying Political Participation: Towards A Theory Of Everything?, ECPR Joint Sessions

.Institute of Political Studies, Grenoble, Colchester, April 2001, pp. 1-19

[14]- يقول كارل ماركس:"أي فئة تطمح إلى الهيمنة يجب عليها أولًا التمكن من السلطة السياسية لتمثل بدورها مصالحها الخاصة كأنها المصلحة العامة".

[15]- هارولد لاسكي، الحرية في الدولة الحديثة، ترجمة أحمد رضوان عز الدين، دار الطليعة، بيروت 1966، ص. 54.

[16]- القول لـ Marlio Louis: Dictature au Liberte في كتاب كمال جنبلاط، نحو صيغة جديدة للديمقراطية الاجتماعية والإنسانية 1945، الدار التقدمية، 2004 ص74.

[17]- .Gaston BOUTHOUL, op. cit, p. 185

[18]- يقول الفيلسوف الألماني كارل ماركس: "إن الحضارة ليست سباقًا بين الذين يأكلون لحمًا أكثر...".

[19]- راجع: الأوضاع المعيشية: البطالة 35% لدى الشباب المتعلم، الجمهورية 20 كانون الأول 2019.

[20]- أنطوان مسرة، الأحزاب والقوى السياسية في لبنان التزام واستراتيجية سلام وديمقراطية للمستقبل، منشورات المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، بيروت، 1996، ص. 218.

[21]- المرجع نفسه، ص. 219 - 220.

[22]- المرجع نفسه، ص. 220.

[23]- المرجع نفسه، ص. 219 - 220.

[24]- المرجع نفسه، ص. 220.

[25]- دون كاتب، الأحزاب السياسية والسياسة العامة والديمقراطية التشاركية، المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية، بيروت، ٢٠١١.

[26]- http://www.sciencespo-toulouse.fr/medias/fichier/dispo-lengagement_1427786283728-pdf?INLINE=FALSE

[27]- أنطوان نجم، نحو أحزاب طوائفية ذات بنية فيديرالية، النهار 7 أذار 2007.

[28]- يقول أفلاطون في كتابه الجمهورية: "إن أثقل مصائب الناس أن يقصى فضلاؤهم عن الأحكام...".

[29]- إن الجنرال ديغول كان يقول:"الثقافة العامة، هي مدرسة القيادة الحقيقية".

[30]- أنطوان ساروفيم، المثقف في ذمة السياسة، النهار 25 تموز 2009.

[31]- مايكل كولي، لبنان كثرة في الزعامات وقلة في العمل القيادي، النهار 7 حزيران 2007.

[32]- .Sans Auteur, “Les Jeunes et l’Engagement en Politique”, in Friedrich Ebert Stiftung، Yaoundé, 2014

[33]- راجع: سعاد جوزف، مسؤولية المواطنية والأطفال: معضلات مأزق المسؤولية العلائقية الأبوية في لبنان وبناء المواطنية في لبنان، منشورات الجامعة اللبنانية الأميركية 1999، ص. 175.

[34]- Alain LANCELOT, Jean MEYNAUD, la Participation des Français à la Politique, Presse Universitaire de

France, 1965, p. 24

[35]- .Michel CORNATON, Groupes et Société, Edition Privat, Toulouse, 1969, pp 38-39

[36]- Gabriel A. ALMOND, Sidney VERBA, The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations,

SAGE Publications, California, 1989

[37]- إدمون رزق، أراء ودماء، دار الطباعة اللبنانية، من دون تاريخ، ص. 60.

[38]- http://www.sciencespo-toulouse.fr/medias/fichier/dispo-lengagement_1427786283728-pdf?INLINE=FALSE

[39]- .Sans Auteur, “Les Jeunes et l’Engagement en Politique”, in Friedrich Ebert Stiftung, Yaoundé, 2014, p. 22

[40]- Antoine MESSARA, Parties et Forces Politiques au Liban Renouveau et Engagement, Fondation Libanaise

pour la Paix Civile Permanente, 1998, pp .221-22.

[41]- SEILER Daniel-Louis, «Maurice Duverger et les partis politiques», in Revue Internationale de Politique

.Comparée, 2010/1 (Vol. 17), p. 55-65

[42]- .Philipe BRAUD, Sociologie Politique, op.cit, pp 558_559

[43]- جوزف الهاشم، لا تنكسوا الأعلام، الجمهورية 11 تشرين الأول 2019. للتوسع في الحقوق والحريات في الدستور اللبناني الراهن، راجع، د.محمد المجذوب، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني وأهم النظم السياسية المعاصرة في العالم، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الخامسة 2018، ص 635.

[44]- .V. Giscard D’Esteing, Democratie Francaise, ed. Fayard, Paris 1976, p.45

Political commitment: concepts and challenges

Political commitment is pushing the citizens to be increasingly involved in state affairs. In the framework of the community’s development, the involvement in state affairs is an attitude and readiness to intervene both intellectually and politically in public life.

Over the years the political commitment has undergone a great deal of transformation. The participation of the citizens in the electoral process, be it locally or internationally is being considered as a political commitment or a participation in the public life of a society even if the voter doesn’t vote for any of the competing parties.

Sometimes this commitment takes on an appropriate form, if necessary, with regard to each socio-political context. It is a commitment that takes a violent or non-violent form.

Furthermore, political commitment means that the citizen must always adopt a clear and precise position and translates it into public political participation. However, even the citizens’ refusal of any political engagement is considered in an indirect way as a political engagement or an objective contribution in keeping the same status quo. Denying the role of political parties, refusing to commit to them and to participate in their activities can be approached from the point of view of implicit dedication to a specific policy which is morally incompatible with the declared position of the citizen to reject any political engagement.

Political parties are considered nowadays as public institutions aiming to develop the policy of a given city and thus they are turning to be policy makers.

L’engagement politique: concepts et défis

L’engagement politique pousse le citoyen à la participation aux affaires de la cité.Dans le cadre du développement d’une société, l’engagement politique est une attitude qui comporte à intervenir,politiquement ou intellectuellement, dans la vie publique.

Au cours des années,l’engagement politique a subi plein de transformations. En fait,la participation d’un citoyen dans les élections, locale ou nationale, se considère désormais un engagement politique. Davantage, tous les votes sont comptés comme un engagement politique ou une participation à la vie publique de la société même le vote à blanc.

Toutefois, l'engagement prend une apparence appropriée, si nécessaire, à chaque contexte socio-politique. Il peut aussi prendre une forme violente ou non violente.

Ainsi, l'engagement politique consiste à ce que le citoyen adopte en permanence une position claire et précise, et la traduit par une participation politique publique. Cependant, même le rejet par les citoyens de tout ce qui touche à la politique est aussi, indirectement classé comme un engagement politique ou une contribution objective au maintien du statu quo. Nier le rôle des partis politiques, refuser de s'y engager et de participer àleurs activités, peut être abordé du point de vue du dévouement implicite d'une politique spécifique, qui est moralement incompatible avec la position déclarée du citoyen de rejeter toute politique.

Les partispolitiques sont considérés aujourd'hui comme l'une des institutions du développement politiquede la cité. Ce sont des agents de développement politiques. Tout comme la production économique reflète le degré de développement économique, les partis politiques et le système de partis expriment également le degré de développement politique du système politique. Leur rôle émerge dans le processus d'éducation politique, en particulier dans les pays démocratiques, qui adoptent un système multipartite.

Avec le développement des systèmes sociaux et économiques de la société, les partis politiques, ont réalisé la nécessité de développer le principe de l'engagement de ses membres afin de trouver une solution aux problèmes publics accumulés..

Dans un état démocratique où toutindividu peut donner son avis, triomphe le rôle des jeunes qui doivent s’engager activement pour tout changement dans la vie politique du pays. D’autant plus le rôle doit être institutionnalisé et encadré dans des partis politiques et pour qu’il ne se limite pas à une démocratie d’opinion ou de protestation tout simplement.