رحلة في الإنسان

الانتحار ظاهرة إجتماعية متفاقمة
إعداد: غريس فرح

فما هي العوامل الكامنة وراءها؟

الانتحار أو عملية وضع حدٍ للحياة، هو سلوك رافق الإنسان منذ أقدم العصور، علماً أنه لم يبرز ويصبح ظاهرة إجتماعية إلاّ في منتصف القرن الماضي، إثر التغيّرات السريعة التي واجهت الحياة في مختلف المجتمعات المدنيّة.
وإذا كنا أخذنا بالاعتبار أن استحواذ فكرة الموت على أدمغة بعض الأفراد والجماعات، هو نتيجة صراعات داخلية متفاقمة، يمكننا استنتاج وجود علاقة وطيدة بين تفاقم هذه الصراعات، وخصوصاً في صفوف الأجيال الصاعدة، والتطورات الاجتماعية الحاصلة، الأمر الذي يدعو الى الاعتقاد بوجود تفاعل غير سوي بين المنتحر وبيئته الخارجية.
والسؤال المطروح: ما هي العوامل المتسبّبة باضطراب التفاعل بين الفرد والمجتمع، وما هو الدور الذي يؤديه هذا الاضطراب على صعيد تغلّب فكرة الموت على غريزة البقاء؟

 

أثر الاضطرابات النفسية
حسب آخر الدراسات التي تناولت ملابسات مشكلة الانتحار، وخصوصاً في صفوف المراهقين والشباب، فإن تزايد الاضطرابات النفسية في غير مكان في العالم، قد تحوّل مؤخراً الى حالة وبائية تستدعي التدخل السريع من قبل المعنيين في الحقلين الاجتماعي والنفسي. واللافت أن هذه الحالة لم تعد تقتصر على مجتمع معيّن، بل انتشرت بفعل عدوى حضارة العولمة الى مجتمعات كانت في الماضي أكثر أماناً واطمئناناً، وفي مقدّمها مجتمعاتنا الشرقية المحافظة والمتديّنة. وهو دليل واضح على حقيقة أن جينات الإنسان الوراثية ليست وحدها المسؤولة عن منحاه السلوكي، بل أصبحت تعتبر عاملاً مشاركاً في عملية التفاعل البشري مع مؤثرات البيئة الخارجية، وما ينجم عنها من تغيّرات في الميول والتوجّهات ونسبة التكيّف مع الواقع.

 

الميل الى تدمير الذات
هنا لا بد من الإشارة الى نظرية الفيلسوف الألماني إمانويل كانْت، الذي يعتبر أن الميل الى تدمير الذات، هو سلوك يقتصر على الإنسان وحده من دون سائر الكائنات. فالانسان ينتحر بصورة إرادية بينما الحيوانات لا تُقبل على هذا الفعل بإرادتها، بل نتيجة أخطاء عفوية تتسبب بموتها.
وهذا يعني أن الإنسان المتشبّث بالبقاء وحب الحياة والاستمرار بالفطرة، يندفع بالوتيرة نفسها باتجاه تدمير الذات عندما تختل علاقته بنفسه وبالمجتمع من حوله. وبغض النظر عن دور المؤثرات الوراثية المتجذّرة في الجينات، والتي تؤمن الاستعداد الوراثي للإصابة بالأمراض النفسية وبالتالي التفاعل السلبي مع مؤثرات البيئة، يشير الإختصاصيون الى علاقة بعض العوامل الاجتماعية في نشوء الميل القسري الى تدمير الذات، وهنا أبرزها:


• سرعة العصر وغياب التواصل الإجتماعي:
من البدهي القول أن الإنسان إجتماعي بطبعه، بمعنى أنه يميل بالفطرة الى التواصل مع الغير لتأمين الحماية الجماعية من المخاطر غير المتوقعة. لذا، فإن التغيّرات المفاجئة التي برزت نتيجة المدّ الحضاري الرأسمالي، وما نجم عنها من تقلّص العلاقات العائلية والاجتماعية، بسبب السعي الدائم الى جني المال واللحاق بركب التقدّم، أحدث كما يبدو فراغاً في نفوس الشباب المعاصر وزرع في أعماقهم الخوف على المصير، وزاد الأمر سوءاً تقلّص مستوى الإيمان في بعض المجتمعات، ما أدّى الى انتزاع آخر عامل اطمئنان في نفوس الكثيرين، ودفع بهم الى طريق الانتحار.


• ثورة الإتصالات وخطر العقائد الدخيلة:
كما سبق وأشرنا، فإن ظاهرة الانتحار التي تفاقمت خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي في المجتمعات الصناعية، انتقلت في الآونة الأخيرة الى مجتمعاتنا نتيجة التغيّرات الجذرية التي طرأت على أدمغة أبنائنا نتيجة تسرّب الأفكار والعقائد الدخيلة بكثافة عبر وسائل الإعلام، وعن طريق الإحتكاك المباشر بالمجتمعات الغربية بواسطة السفر والهجرة، والتواصل عبر شبكة الانترنت. وهنا يجدر بالإشارة أن حوادث الإنتحار الجماعي التي حصلت في أكثر من دولة غربية، وتمّ تحديد توقيتها عبر شبكة الانترنت من قبل مجموعات تبنّت معتقدات غريبة ومنحرفة وحرص أفرادها على تبادل الهواجس والأفكار الهوسيّة.
من ناحية ثانية، لا يغيب عن بال الإختصاصيين تأثير الأزمات الإقتصادية والبطالة والعوز، ودورها في تفعيل مشاعر القلق والخوف والميل الى العزلة والانطواء، الأمر الذي يعزّز الأفكار السلبية ويغلب غريزة الموت على غريزة البقاء.
مع ذلك، يوجد إجماع من قبل الباحثين على وجود تكامل بين العوامل كافة المشار اليها، لجهة إحداث التشويش الذهني المتمثّل بالميل الى تدمير الذات بأشكال تتنافى والأعراف الإجتماعية والدينية.

 

ما هو العلاج؟
على الرغم من صعوبة تحديد علاج شامل للإضطرابات المؤدية الى الإنتحار، إلاّ أن الباحثين في هذا الحقل أجمعوا على ضرورة الإستمرار بإلقاء الضوء على السلوك الإنتحاري، وتعميم مفاهيمه ودوافعه وتأثيراته الضارة على الأفراد والمجتمعات التي ينتمون اليها.
إضافة الى ذلك، دعا الباحثون الى وضع خطط وقائية للحدّ من تزايد حدّة السلوك الانتحاري بين المراهقين والشباب بوسائل أهمها:
• وضع برامج إجتماعية تؤمّن التوافق بين تكيّف الشباب المعاصر مع المعايير الإجتماعية الجديدة من جهة، والإحتفاظ بالهوية الفردية من جهة ثانية، الأمر الذي يحول دون شعورهم بالضياع والفشل والعجز عن تقبّل الواقع بالسرعة المطلوبة.
• إنشاء مراكز للعناية بمشاكل الشباب، وتوجيه العائلات لمنع تفاقم الهوة بين الأجيال، وبالتالي إعادة اللحمة العائلية إثر التفكّك الذي نال من بنيتها بفعل سرعة التطور الحضاري.
• رسم خطط إجتماعية وقائية للحدّ من تهافت الشباب على الأفكار والمعتقدات المستوردة والبعيدة عن القيم الإنسانية والدينية الصحيحة، الأمر الذي يعيد الإطمئنان الى النفوس، ويحيي فيها من جديد بريق الأمل.
• إلقاء الضوء على الأمراض والإضطرابات النفسية التي تتسبب بالانتحار، وتشجيع العائلات على إستشارة الأطباء النفسيين من دون خوف أو خجل. فالأمراض النفسية هي بمجملها بيولوجية المنشأ، وتحتاج الى العلاج بالأدوية.
• الأخذ بعين الاعتبار دور البطالة في تفاقم الشعور بالفشل والضياع، ومن هنا أهمية وضع برامج لتأمين العمل للشباب بما يتناسب وكفاءاتهم العلمية.