الانسحاب الاضطراري من غزة: حاجة اسرائيلية ومكسب فلسطيني

الانسحاب الاضطراري من غزة: حاجة اسرائيلية ومكسب فلسطيني
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

يندرج مشروع رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون، القاضي بالإنسحاب من طرف واحد من قطاع غزة، ضمن رزمة من العناوين والإشكالات والتساؤلات المتعلّقة بمصير المشروع الصهيوني وتحوّلاته، والتي تنبثق جميعها من مصدر واحد وأساسي وهو: أزمة الهويتين الإسرائيلية واليهودية. وهذه الأزمة كانت وما تزال في تفاعل مستمر داخل إسرائيل وخارجها منذ العام 1967 ، لا سيما ضمن سياق توجهها الإقليمي لجهة توسعها ودورها وخياراتها الإستراتيجية المنفتحة على الدوائر الأوسع الممتدة على مدى الشرق الأوسط الكبير حسب التحديد الأميركي الجديد، وذلك في ظلّ ولاية من يسمّون بالمحافظين الجدد الذين كتب ونشر الكثير عن توجهاتهم الإستراتيجية العدوانية الإمبراطورية البعيدة عن واقع العدالة الدولية والإنسانية، تحت مظلة الشعار:من ليس معنا فهو ضدّنا.

من هنا ثمّة من يرى، داخل إسرائيل وخارجها، وخصوصاً من يسمّون بالمؤرخين الجدد، أنّ الصهيونيّة التي شنّت ضدَّ العرب جولات كثيرة دامية من الحروب والإعتداءات منذ أكثر من قرن من الزمن، وأقامت دولة الإستيطان والتوسّع والعمالة للإستعمار العالمي في فلسطين، وكسبت ضدّهم العديد من المعارك في الماضي والحاضر، قد وصلت الآن الى حالة من الشيخوخة والإنهيار منذ نهاية القرن العشرين. بل وكان من ذهب أبعد من ذلك ليقول أن الصهيونية قد انتهت واندثرت بمجرد نجاحها في تحقيق هدف إقامة دولة معترف بها عالمياً في فلسطين وعاصمتها القدس.

والذي يؤكد هذه الأطروحة وهذه الفرضيات من التداعي والإنهيار، هو ما آل اليه الداخل الإسرائيلي من تشرذم وتراجع على شتى الأصعدة السياسية والإجتماعية والإقتصادية، ولاسيما ما حلّ بالمؤسسات والأحزاب الأساسية التي أقامت الدولة وفي مقدمتها حزبا العمل والليكود ثم سائر الأحزاب اليسارية والكيبوتسات والهستدروت، ثم تشظّي البنية السياسية­الإجتماعية للمجتمع الإسرائيلي نفسه على أسس طائفيّة وقطاعيّة وعرقيّة وخصوصاً في أعقاب فشل المشروع الإمبراطوري الصهيوني على أيدي المقاومة في لبنان اولاً ثم في فلسطين، إثر سنين عجاف مفعمة بالمجازر وسفك الدماء منذ العام 1982 وحتى العام 2000 عام التحرير والنصر وصولاً الى الإنسحاب الذليل من غزة.

الجدير بالذكر والملاحظ أنّه منذ الإنتخابات الإسرائيلية التي جرت في عامي 1996 و1999 بدت بوضوح ساطع، الحالة التحوّلية للمجتمع الإسرائيلي، حيث تراجعت الأحزاب الكبيرة لصالح الأحزاب الصغيرة والمتوسطة ذات التمثيل القطاعي البعيد عن رموز الصهيونية الطلائعية صاحبة الايديولوجيات الفاقعة والعنصريّة، كما وزادت حدة الفرز القومي والمصلحي، فصوّت المزيد من عرب 1948 داخل إسرائيل للأحزاب العربية بدلاً من الصهيونيّة، وصوّت الروس للأحزاب الروسيّة وصوّت اليهود المغاربة لحزب شاس السفارادي، وظهرت الحساسيات العنصريّة والتمثيليّة في أشكالها الواضحة ما بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين واليهود العلمانيين واليهود المتديّنين والمستوطنين القدامى والمستوطنين الجدد وهكذا...

على هذه الخلفية تفاعل الخلاف والاختلاف على تحديد معنى ما هي الصهيونية؟ ومن هو الصهيوني؟ ومن هو اليهودي؟ وما هي حدود إسرائيل الرسمية؟ فالمتديّنون رأوا "أنّ الصهيونية قيمة دينية وليست قيمة علمانية" واعتبر الحاخام آرييه  درعي الزعيم السابق لحزب شاس "أنّ الصهيونيين يحافظون على شرائع التوراة" وكفّر الحاخام عوفاديا يوسف القضاة العلمانيين في إسرائيل وكلّ من يتوجّه الى المحاكم العلمانية، كما وصف المهاجرين الروس الوافدين من الإتحاد السوفياتي السابق بأنّهم "غوييم" أي أغيار وغرباء. وهذه المواقف ساعدت على تنامي الهويات الفرعية في المجتمع الإسرائيلي، وكشفت ما اعترى قبضة الصهيونية من وهن وضعف بعد أن عجزت عن احتواء التناقضات الداخلية التي تفجّرت في أوضح تعبيراتها في اغتيال رئيس  الحكومة الإسرائيلية الأسبق إسحق رابين وتسلّق رجل غوغائي مثل الجنرال شارون سدّة السلطة. في هذا السياق تعالت الأصوات التي تنعي الصهيونية وتعلن صراحة نهايتها وتدعو الى قيام دولة عادية ذات حدود واضحة كباقي الدول، لجميع مواطنيها، كما وطرحت خيارات وبدائل بشأن هوية إسرائيل ودورها مثل الشرق أوسطية واحتمال دخول إسرائيل الى الجامعة العربية، والمتوسطية، وأفضليّة الانفتاح على أوروبا ممّا يدفع واشنطن الى التعلق أكثر بإسرائيل، وكذلك الخيار الأطلسي ودور إسرائيل الوظيفي في إطاره وهكذا...

إلا أن هذه الدعوة بقيت مجرد صرخة بحاجة الى مضمون، وتبيّن بسبب تهاوي الزعامات الشابة في الأحزاب الكبرى والمتوسطة مثل يوسي بيلين ويوسي ساريد وحاييم رامون ورئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق آمنون شحاك وبنيامين بن اليعيزر واسحق موردخاي وايهود باراك، وعمرام متسناع وسواهم، أنّ آرييل شارون، الشخصية الإنتهازية بامتياز، كان الرجل الوحيد القادر على إدارة هذه المرحلة الضبابية من إعادة الصياغة لدولة اليهود المنشودة جغرافياً وأيدلوجياً واستراتيجياً ([1]). 

على ضوء ما تقدّم يمكننا الولوج الى موضوع بحثنا هنا من خلال النظر الى مسألة الإنسحاب من غزة من طرف واحد، على أنها تمثّل خيار الإضطرار والضرورة بالنسبة للإسرائيليين وخيار القبول الحتمي من جانب الفلسطينيين، بإعتبار هذا الانسحاب مكسباً صافياً يشبه انتصار المقاومة في لبنان من حيث الدلالة الرمزية والمعنوية وإن لم يكن من حيث الدلالة الكمية لجهة مساحة الأراضي المحررة ورسم الخطوط الأولى في معالم الدولة الفلسطينية السياديّة المنشودة.

 

1­ -مشروع شارون كحاجة إسرائيلية

لا شك أن مشروع شارون للإنسحاب من غزة، ينطوي على مضامين إقتصادية واجتماعية بارزة بالإضافة الى المضامين السياسية والأمنية. فهو ينفتح على أفق استراتيجي متواصل منذ زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات الى القدس عام 1997، ويندرج في إطار مشروع التطبيع الاكراهي في الأراضي المحتلة عام 1967، وذلك خلافاً للتطبيع العلني "الطوعي الواقعي" مع الأردن ومصر والتطبيع السري التهربي مع العديد من الأنظمة العربية الأخرى.

وما من شك في أن هذا النوع من التطبيع المفروض حالياً كأمر واقع على السلطة الفلسطينية، إثر حرب طاحنة ومريرة منذ الإنتفاضة الأولى عام 1987 وحتى الآن، مع ما يخفيه في طيّاته من ضمّ واستلاب للحقوق الوطنية الفلسطينية، كان بمثابة المختبر الحي لمختلف أنواع المواجهات في الصراع العربي الإسرائيلي عموماً والإسرائيلي الفلسطيني خصوصاً، ولاسيما المواجهات الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة والعسكريّة على مستوى العقل والضمير العربيين. وبالتالي فجوهر مضمون "التسوية السلميّة" الإلزاميّة من طرف واحد على طريقة شارون، إنما يرمي الى إحداث تغيير جيوسياسي تعسّفي على الجانب الفلسطيني، على غرار عناق الدب، يبدأ بضرورة تقبّل إسرائيل الكبرى في أيديولوجيّتها الصهيونيّة المعدّلة، وينتهي بترسيخ الإحساس بالعجز والدونيّة وتغيير المعتقدات السياسيّة والوطنيّة والقوميّة استعداداً للدخول في شبكة معقّدة من إجراءات التطبيع القائم على الغبن والظلم، وهذا خلافاً لطروحات العديد من المسؤولين والمنظّرين الإسرائيليين السابقين الذين طرحوا إستراتيجيّة السلام والتسوية من منطلق بناء الثقة بصورة تدريجيّة. فلقد اعتبر المفكر والكاتب الإسرائيلي آلوف بن ([2]) أنه توجد أربع عقبات صعبة تعمل على خلق ميزان ثقة سلبي ودائم بين إسرائيل والعرب وخاصّةً الفلسطينيين وهي كالتالي: "الإحساس بالغبن والإجحاف المتبادل، والتّهديد الإستراتيجي الذي ينسبه كل طرف للآخر، والموقف الثقافي والعقائدي للعرب عامّة والمسلمين خاصة تجاه إسرائيل واليهود،  وديناميكيّة الإطار العربي الذي لا تسود فيه علاقات ثقة متبادلة، وتحلّ محلّها علاقات انتهازيّة ومزايدات تعتبر إسرائيل والمشكلة الفلسطينية الأساس الرئيسي لها".

أما الحل الحقيقي، حسبما يراه هار إيفن، وخلافاً لما يقوم به شارون تماماً، فيقوم بناء على مواقف وأعمال تؤدي إلى الحد من مشاعر الغبن والإجحاف لدى الجانبين، وإيجاد ترتيبات استراتيجية معقدة تجعل المعتدي يدرك أنّ من الصعب عليه أن يبدأ بحرب، وأن يعرف الزعماء أنّ الأخطار المترتبة على البدء بحرب أو أعمال إرهاب تفوق كثيراً إحتمالات إحراز مكاسب، وضرورة إيجاد برامج مركبة في المجال التعليمي­الثقافي، تهدف الى تفتيت الملامح السلبية­العدائية في الصورة النمطية للآخر، واستبدالها ببرامج ذات مواقف متزنة إيجابية تدعو الى الإعتدال والتعقّل.

في المقابل كان رئيس الحكومة الإسرائيلية الراحل إسحق رابين قد سلط الأضواء على جوانب أخرى من "استراتيجية السلام" بين إسرائيل والعرب، ورأى أنّ دراسة مكونات العلاقات الإستراتيجية تبيّن أنّ "الأمر اللازم لاستمرار السلام بعد تحقيقه هو نفسه الأمر الذي لا بدّ منه لكي يتحقق السلام". وبتعبير آخر إن التغييرات الواجب إجراؤها في الحسابات الإستراتيجية من أجل استمرار السلام هي نفسها التي من دونها لا يمكن التوصّل الى السلام. وكان رابين يرى أنّ الصراع يدور ضمن مجالات ثلاثة هي: أولاً، مجال العلاقات العربية الإسرائيلية ومن ضمنها الفلسطينية الإسرائيلية، وثانياً مجال العلاقات العربية­العربية وتداعياتها على الموقف من إسرائيل، وثالثاً مجال صراعات الدول الكبرى المعنيّة بالمنطقة في ما بينها.

وكان رابين يرى على صعيد المجال الأول، ان لبّ النزاع هو "عدم التسليم بوجود دولة إسرائيل كدولة يهودية ذات سيادة واستقلال في منطقة ذات أغلبيّة عربيّة إسلامية، الأمر الذي ينعكس سلباً على حسابات الأنظمة ويشكّل عقبة في طريق تحقيق السلام الشامل والدائم. اما الاعتراف المتبادل بين إسرائيل وسائر القوى الرسمية العربية والفلسطينية، فلا يشكل أكثر من تكتيك سياسي".

وفي المجال الثاني رأى رابين أنّ الأنظمة العربية حاولت حماية نفسها من نواقص القصور والتقصير بطرح تطلّعات توحيدية عاطفية، لم تفض إلا الى محاولة سيطرة الدول العربية الكبرى على الدول الأصغر، والى زيادة الشكوك والاتهامات المتبادلة وتفجّر المصالح المتناقضة والمتعارضة في ما بينها. وكأن أي انحراف من جانب بلد عربي عن الخط المعتاد والمعتمد من منطلق النفاق أو المزايدة تجاه إسرائيل بالذات، يحوّله تلقائياً وعلى الفور الى موضوع هجوم وإسقاط من قبل الدول الأخرى التي لها مصلحة مباشرة في ذلك.

اما المجال الثالث، وهو مجال الصراع بين الدول الكبرى من أجل بسط نفوذها وسيطرتها على المنطقة، فكان له عند رابين، الأهمية الحاسمة في تحديد ما يحصل من تطورات على الصراع العربي الإسرائيلي، والأوراق الدبلوماسيّة التي توقّع بين إسرائيل والعرب، لا يمكن أن يكون لها أي تأثير حقيقي في إحداث تغييرات استراتيجية من دون تغطية دولية، في حين أنّ التغييرات الإستراتيجية الدولية يمكن أن يكون لها أبلغ الأثر على الأوراق الدبلوماسية والإتفاقات الخطية الموقّعة.

 وضمن هذا السياق نفسه، يميّز المفكر الإستراتيجي الراحل يهوشفاط هركابي، بين ما يسميه "الخطة الكبري" Grand Design والسياسة Policy والمقصود بالخطة الكبرى عند العرب، حسب رأي هركابي، هو تدمير واستئصال إسرائيل ككيان سياسي "غدة سرطانيّة" او بتعبير آخر "الإبادة السياسية". ويرى هركابي أنّ الخطأ الأكبر الذي ارتكبه العرب والفلسطينيون على السواء على مدى سنوات الصراع الطويل، إنّما يكمن في الخلط ما بين الخطّة الكبرى والسياسة، الأمر الذي خلق تأثيرات سلبية كثيرة على حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ووصل إلى نظامهم التعليمي وثقافتهم وروحهم القومية([3]). إلاّ أنّه نتيجة للتجارب المريرة للصراع منذ عام 1967 بدأت تظهر في صفوف العرب والفلسطينيين مواقف وأصوات تنادي باعتماد مثل هذا التفريق، مثل مصر والأردن وبعض الأوساط في منظمة التحرير الفلسطينية. والطريقة الوحيدة لحل الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني الإسرائيلي حسب رأي هركابي إنّما تكمن في أمرين جوهريين هما: الفصل بين الخطة الكبرى والسياسة واعتماد المرحليّة المزودة بالرّدع.

أما البروفسور شمعون شامير([4])، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب، فرأى أنّ المشكلة من الزاوية الإسرائيلية في تحقيق سلام مع العرب والفلسطينيين إنّما تكمن في إقناع الإسرائيليين بأن السلام مفيد حقاً وأنّه سوف يدوم، وأنّه يستحق. وبالنسبة لشامير فالحل مع الطرف الآخر لا يكون فقط في القبول بإسرائيل وإنّما أيضاً بالصهيونية. والإعتراض العربي والفلسطيني على هذا الأساس الإيديولوجي للدولة إنّما يعني بالتالي إفراغها من الشرعية ووضعها موضع التهديد الدائم بالزوال.

والتقييم الموضوعي العام لطروحات إسرائيل التسوية السلمية منذ العام 1967 ومنذ مشروع آلون وحتى مشروع شارون، يدل على أنّ إسرائيل لا تريد سوى إحراز المكاسب لنفسها فقط ونقل سلبيات الأوضاع القائمة من تداعيات الجمود السياسي، إلى الأطراف الاخرى، وذلك من منطلق حسابات براغماتية دقيقة تأخذ بعين الاعتبار مسائل حسّاسة مثل السعي للتخفيف من الآثار السلبية للعزلة الدوليّة، وإحراز مكاسب سياسيّة واقتصاديّة سريّة وعلنيّة مع الدول العربية، وحماية المكاسب الإستيطانيّة الكبرى مثلما يحصل الآن في الإنسحاب من غزة ولصالح ضم مستوطنات الضفّة الغربية، واستخدام مشاريع التسوية من أجل إحداث الشروخات ومفاقمة الصراعات داخل الصفوف العربية والفلسطينية والتقدّم في خطوات التطبيع ومحاصرة ثقافة العداء والرفض والمقاومة للمشروع الصهيوني في المدى البعيد...

هذه المطالعة النقدية المقارنة، تثبت وجود نقاط تلاقٍ وتقاطع عديدة بين إستراتيجيات رؤساء الحكومات الإسرائيليين السابقين واستراتيجية مشروع شارون للإنسحاب الأحادي من غزة، ولا سيما لناحية الإعتراف بعجز القوة في كثير من الأحيان، مهما بلغت هذه القوة من الجبروت والغطرسة، ولناحية الإقرار بضرورة الفصل ما بين "الخطة الكبرى" للصهيونية و"السياسة". فشارون منذ عام 1982 كان ينطلق في اعتدائه على لبنان من حسابات "الخطة الصهيونية الكبرى" واليوم يحاول الإنصياع لضرورات "السياسة" من منطلق الواقعية النفعية تماماً كما فعل سلفه إيهود باراك عام .2000 وهذه السياسة في رؤية شارون ترتكز على مبادئ عملية تتضمّن النقاط التالية: ([5])

أولاً: إنّ حلّ الصراع العربي الإسرائيلي في أوضاعه النهائية لن يكون ممكناً إلاّ عندما يعترف العرب بالصهيونية وليس فقط بإسرائيل؛ أي عندما يعترفون بما يسمّيه شارون "حق الشعب اليهودي في وطنه". و"حقّه" في إقامة دولة يهودية على "أرض إسرائيل" أي أغلبية أرض فلسطين المحتلة. والى أن يحصل هذا الأمر، إن حصل، لن يكون هناك سوى تقدّم بطيء وبطيء جداً، حسبما تدعو الحاجة الماسّة الى ذلك.

ثانياً: يرى شارون أنّ سياسة الأمر الواقع، والحقائق المفروضة على الأرض، والمحمية بقدرات عسكرية ودبلوماسية هائلة على امتداد المنطقة والعالم، هي وحدها التي ستشكّل المرجعية النهائية لترسيم وتحديد الحدود بين الدولة اليهودية والدول العربية المحيطة بها، وليس القرارات الدولية الصادرة منذ العام 1968 وحتى اليوم بما فيها القراران 242 و .338 من هنا يشدد شارون على وجوب أن تسيطر إسرائيل سيطرة تامة على الكتل الإستيطانية الأساسية، كما ويرى وجوب أن تسيطر على شريط واسع في غور الأردن. ولأسباب ديموغرافية بحتة، يرى إنّه لا داعي لأن تضمّ إسرائيل كل السفوح الغربية من جبال السامرة (شمالي الضفة). كما ولا يمانع أن تدرس في المستقبل أيضا مبادلة الأراضي المأهولة -معاليه أد وميم وآرئيل­ بأم الفحم. أمّا الربط بين التجمعات السكنية الفلسطينية في الضفّة فيتم عن طريق شبكة طرق وأنفاق خاصة.

ثالثاً: ضرورة تصفية ما يسمىّ "الإرهاب" أي المقاومة الفلسطينية الفعّالة المتمثّلة في سرايا فتح وحماس والجهاد والجبهة الشعبية وسواها. ويرى شارون أنّ خريطة الطريق التي ستقود إلى إقامة الدولة الفلسطينية العتيدة  لن تصبح قابلة للتطبيق إلاّ بعد أن يقوم الفلسطينيون بتفكيك جميع منظّماتهم المقاومة، ومن المحظور أن تتنازل إسرائيل عن هذا الطلب في أي ظرف من الظروف، ممّا يجعل مشروع الدولة الفلسطينية في مهبّ الريح.

رابعاً: غزّة في مقابل الضفّة. ففكّ الارتباط وتفكيك المستوطنات في غزّة يعدّ ثمناً مناسباً مقابل رسالة الرئيس بوش، التي تكرّس، بحسب رأي شارون ، سيطرة إسرائيل على الكتل الاستيطانية ، وترفض أيّ انسحاب إسرائيلي مستقبلي من (مسقط رأس الشعب اليهودي) في الضفّة الغربيّة.

خامساً: الهجرة فوق كل الإعتبارات. فالأهداف الرئيسة للدولة هي استقدام مليون مهاجر جديد من دول الإتّحاد السّوفياتيي السّابق ومن فرنسا، فضلاً عن "اليهود الكادحين من أميركا" وكذلك تكثيف الإستيطان في النّقب والجليل ومحيط القدس الكبرى. كما يجب أيضاً تعزيز التّعليم القومي للتأكيد على "حق اليهود الكامل في ارض إسرائيل" .

 

   إن شارون يريد مبادلة إصراره على تنفيذ مشروعه في مقابل أن يقبل العرب والفلسطينيون بالصّهيونية المتجدّدة، وأن يقبلوا بمقولته بأنّ الانسحاب من غزّة إنما يرمي إلى تعزيز السّيطرة على الضفّة. وأفعاله أيضا تتوافق مع هذه المقولة، فهو يحجم عن التّفاوض الحقيقي مع الفلسطينيين، ويواصل المماطلة من أجل توسيع الكتل الإستيطانية الحيوية، كما ويمنع إخلاء النقاط الإستيطانية الإستراتيجية وتجميد البناء والتوسّع فيها.

ورؤية شارون هذه تثير مشكلتين: الأولى داخلية، تتمثّل في حاجته للمستوطنين وخوفه من أن يؤدي إخلاء منطقة غوش قطيف إلى انعزالهم عن الدّولة وانغلاقهم داخل غيتوات ناقمة.

 والثّانية خارجيّة وتتمثّل في أنّ شارون ­ الّذي يعتبر في إسرائيل رمزاً للتسوية ويمينيّاً مفرّطاً ­  ما يزال في نظر العالم يمثّل رجلاً انتهازياً مغالياً في انتهاك القوانين وافتراس الأراضي الفلسطينية المحتلّة في ظلّ مبدأ "أرض أكثر وعرب أقلّ". وهم الآن يراقبون انسحابه من غزّة بذهول ويرحّبون "بشجاعته" المطعون في نزاهتها.

  من ناحية أخرى نجد أنّ الأوروبيين يرفضون أيضا "نظرية الحقائق المفروضة على الأرض" ويصرّون على أنّ الوجود الإسرائيلي في المناطق المحتلّة ليس شرعيّا. وحتّى الرّئيس جورج دبليو بوش -رفيق شارون الوفي­ يريد أن تتأسس الدولة الفلسطينية المحدودة النّطاق والإمكانيات في عهده ومن غير المؤكّد أن يكون شارون على هذه الدرجة نفسها من الحماسة للموضوع. وبالتالي فعزلة إسرائيل واستمرار الصراع، في أحسن الحالات، سيكوّنان عنصرين بارزين في الثمن الواجب على الإسرائيليين تسديده للفلسطينيين والعالم مقابل بقاء شارون في قمة السلطة، خصوصاً وأنّ الخلافات الإسرائيلية مع الإدارة الأميركية الحالية حول مسألة التوسّع في بناء الوحدات السكنيّة داخل التكتلات الاستيطانيّة في الضفة الغربية لم تسوّ بعد كما وأنّ طلبه بتجميد خارطة الطريق ووضعها في البرّاد حتى يتمّ القضاء المبرم على جذور "الإرهاب"، قد تمّ رفضه.

لقد جاء في افتتاحيّة صحيفة هآرتس 13/4/2005 أنّ كلاً من بوش وشارون قد حدّدا في تكساس في شهر نيسان المنصرم، الحدّ الأقصى من التوسّع الذي يمكن أن يجرؤ أي رئيس حكومة في إسرائيل على أن يحلم به. وتضيف الصحيفة أنّه من المشكوك فيه أن تجد إسرائيل بعد الآن رئيساً أكثر ودّاً وحماساً وأكثر محاربةً لأعدائها من بوش. فإذا كان هو الذي يتبنّى هذا الخط أمام شارون والعالم، فهذا يعني أنّ المعركة على عشرات المستوطنات وآلاف المستوطنين الموجودين خارج هذا الخط هي معركة خاسرة سلفاً.

صحيح أنّ الكثير من الإسرائيليين، الذين يتطلعون منذ فترة إلى تسوية تستند إلى خطوط الرابع من حزيران 1967، لن يروا في كلّ هذا خسارة، ولكنّ آخرين، من أقطاب اليمين، ومنهم من هو في الحكم منذ سنوات ، قد عاشوا وما يزالون يعيشون في وهم إمكانية الاحتفاظ وبشكل دائم بجميع المستوطنات الموجودة في الضفة الغربية، وقد كان شارون نفسه واحداً من هؤلاء الواهمين حتى وقت ليس ببعيد.

لقد اصطدمت رؤية شارون المحلية برؤية بوش الشرق أوسطية الواسعة المدى، وهذا الاصطدام تمحور حول قبول أو عدم قبول خارطة الطريق أو الكثير من بنودها المعدّلة أو غير المعدّلة، ولا سيما ما يتعلّق بمسألة تدعيم السلطة الوطنية الفلسطينية وترميم أوضاع رئيسها أبي مازن، الذي يراهن عليه الرئيس بوش من أجل إدارة سيطرة أمنية قوية على قطاع غزّة ورعاية حياة مدنية سليمة هناك. ومن هنا تتضح بجلاء حدود الإلتقاء والإختلاف حول التكتيك والإستراتيجية في أداء السياستين الأميركية والإسرائيلية. فالغاية الأميريكية النهائية هي تحقيق تسوية بين الطرفين النازفين. والتحرّك صوب الهدف لا يمكن أن يتمّ إلاّ طبقاً لخريطة الطريق، على أن تكون الخطوة الإسرائيلية الأولى هي إخلاء غزّة وشمالي الضفّة والخطوة الفلسطينية الأولى هي تجميد كلّ أشكال مقاومة الإحتلال ومنع مواصلة "إرهاب" صواريخ القسّام والعمليات الإستشهادية.

والإنضباط الإسرائيلي على المسار الفلسطيني تحت سقف هذه المطالب والرّؤى الأميركيّة قد سبق له أن تمثّل في العناصر المشتركة بين مشروعي الليكود في إسرائيل والمحافظين الجدد في الولايات المتحدة، والتي تجسدت في وثيقة نشرتها جامعة إنديانا ([6]) الأميركية ويقضي بتطبيق استراتيجية إسرائيلية تتماشى وتتناغم تماماً مع الإستراتيجية الأميركية وتهدف إلى إحراز مكاسب إسرائيلية مباشرة وجانبية من أبرزها ما يلي:

­ الوصول إلى مركز نفوذ يسمح لها بدور في تشكيل الاستراتيجيات في مناطق العالم وليس حصر نفسها ودورها في إطار الشرق الأوسط بحدوده التقليدية المعروفة.

­ التحرّك بالتوازي مع الإتجاه الأميركي إلى بلاد آسيا الوسطى الإسلامية، لخلق نفوذٍ إسرائيلي قويّ في تلك البلاد، وإقامة حواجز أمام وصول النفوذ العربي والإسلامي إليها.

­ القفز فوق القضية الفلسطينية وجعلها تتآكل من جرّاء الضغوط الداخلية والخارجية ومرور الوقت، وهذا ما تجلّى في سياسة الإغتيالات والمجازر الجماعية وتدمير سبل العيش تحت مظلّة ما سمّي بسياسة "رفع اليد" عمّا يجري بين إسرائيل والفلسطينيين. وفي هذا السياق بنى شارون سياسة التهرّب من التسوية الشاملة، والذهاب للقبول الاستنسابي ببعض المبادرات الأميركية مع التهرّب من آليّات التنفيذ ومن الإلتزام بالجداول الزمنية قدر المستطاع.

 

 لقد قدّم الجنرال شلومو غازات، قائد الإستخبارات العسكرية الأسبق تقريراً رسمياً عن الإستراتيجية الكبرى لإسرائيل يقول فيه: "لم تتغيّر مهمة إسرائيل الرئيسة قط (منذ سقوط الاتحاد السوفياتي) وهي باقية عل أهميتها الحاسمة. فموقع إسرائيل الجغرافي في وسط الشرق الأوسط العربي ­ المسلم ­ يجعل قَدَر إسرائيل أن تكون الحارس الوفي للإستقرار في كامل البلدان المحيطة بها. إنّ دورها هو حماية السياسات التقليدية القائمة لمنع عمليات التحوّل الراديكاليّة أو وقفها، وعرقلة إتساع الحماسة الدينيّة الأصوليّة. ولهذه الغاية ستمنع إسرائيل حصول تغييرات، ما وراء حدودها، تعتبرها لا تطاق، ولدى إحساسها بأنّها مجبرة على استخدام كامل قوّتها العسكرية من أجل منعها أو اجتثاثها في حال حصولها".

 ويضيف التقرير أنّ لإسرائيل "اهتماماً خيّراً باستقرار أنظمة الحكم العربية، لأنّها بحمايتها للأنظمة التقليدية المنضبطة الحاكمة في الشرق الأوسط، تؤدي خدمة حيوية للدول المتقدمة صناعيّاً والمهتمة جميعها اهتماماً شديداً بضمان استقرار مصالحها في المنطقة".

إنطلاقاً من هذا الدور وهذه الرؤية الإستراتيجيّة يتحرّك شارون حالياً من ضمن حسابات عجز القوّة، خاصّة عندما تبيّن له أنّ ما يسمّيه "تصفية الإرهاب" و "إصلاح السلطة"، هي أمور جيدة كشعارات إعلامية، ولكنّها صعبة الترجمة والتنفيذ كخطة عمل. فإسرائيل لم تحطم إرادة القتال لدى الفلسطينيين، ولا هي استطاعت زرع روح الهزيمة واليأس في نفوس صغارهم ولا كبارهم. وإذا كان شارون وشاؤول موفاز قد تمكنّا من تهشيم السلطة الوطنية الفلسطينية وعزل عرفات في المقاطعة ومن ثمّ ربما تصفيته جسديّاً، وزرع الألغام والعراقيل في درب خَلَفه أبو مازن، كما وإذا كانا قد اغتالا أو سجنا كبار قادة المقاومة من شتّى الفصائل والمنظّمات الإسلامية أو العلمانية من فتح والجبهة الشعبية وحماس والجهاد الإسلامي بواسطة استخدام أرقى وأفضل التكنولوجيات العسكرية في العالم، فإنّ الدم الفلسطيني والجسد البائس المنهك قد وجّها إلى العالم المتطوّر رسائل كافية من الإدانة الأخلاقية والإنسانية والقانونية لممارسات شارون تكفل عدم تثبيت الوضع الاستعماري القائم على الأرض.

وقد نجح الفلسطينيون في كشف عنصريّة إسرائيل وتلويث سمعتها المعنويّة في موضوع الجدار الفاصل، وأعادوا تسليط الأضواء مجدّداً على الخط الأخضر، كحدود شرعية وقانونية للدولة الفلسطينية العتيدة. وخطة الإنسحاب من غزّة الجاري تنفيذها عمليّاً في الوقت الراهن كان قد اقترحها العميد عيبال جلعادي([7])، الذي كان من كبار المفكرين الإستراتيجيين في هيئة الأركان الإسرائيلية، والذي استقال من منصبه إحتجاجاً على إهمال خطّته، التي رأى فيها حاجة إسرائيلية حيوية لا مناص منها "كصيغة لتثبيت الأمر الواقع في المناطق (المحتلة)  وتقليص الإحتكاك: تنازل جزئي عن مناطق مقابل شرعية دولية وموافقة على تأجيل الحلّ النهائي لسنوات عديدة" أي بتعبير آخر شراء الكثير من الوقت والإرباك في الساحة الفلسطينية مقابل القليل من الأرض. والجدير بالذكر أنّه إثر استقالة جلعادي وجد شارون نفسه مكرهاً بعد حين للإستعانة بخدمات صديقه  ورئيسه الجنرال غيورا أيلاند.

لقد وجد شارون نفسه محاصراً بالعجز العسكري والخسائر الإقتصادية والمعنوية والبشرية الضّخمة، كما وجد إسرائيل تتحول تحت إدارته إلى دولة عنصريّة فريدة من نوعها في العالم، في وقت راحت تتبلور فيه مبادرات عديدة إسرائيلية وفلسطينية وعربيّة ودوليّة للخروج من مستنقع الدّم وسياسة عدّ القتلى من الطّرفين. ويذكر رئيس الشاباك السابق عامي آيالون، صاحب المبادرة الشّهيرة والمعروفة باسم مبادرة نسيبة­أيالون، أن من بين الدوافع الملحّة الّتي حرّكت شارون نحو تنفيذ مبادرة غزّة، الحسابات الديموغرافية الّتي أجريت ضمن إطار ما سمّي "مبادرة الإحصاء الوطني"([8]).

وفي هذا السّياق إعتبر أيالون أن "خطة غزة" يمكن اعتبارها بمثابة نسمة ريح يمكن إستغلالها من أجل التوصّل إلى اتفاق دائم، بحسب الخطوط الحمر التي ينبغي على المجتمع الإسرائيلي حسمها وتحديدها، في حين أن إخلاء المستوطنين لوحده من دون تحديد هدف سياسي واضح والإبقاء على سياسة هدر الوقت وانتظار الرياح المؤاتية، سيكون بمثابة استسلام "لإرهاب حماس والجهاد الإسلامي" وطالما أنّ إقامة دولة فلسطينيّة قابلة للحياة والإستمرار يمثّل القاسم المشترك محلياً وإقليمياً ودولياً فالسؤال المطروح إسرائيلياً بشكل خاص هو: كم من القتلى والجرحى كانوا سيتفادون ما ألمّ بهم، لو أن شارون "كان قد سلّم السّلطة الفلسطينية المناطق نفسها من قطاع غزّة قبل سنوات عدة كدفعة على حساب التسوية الدائمة؟ وقد تبيّن لشارون أولاً وأخيراً أنّ خسائر الحركات الفلسطينية، وفي مقدمتها حماس قد زادتها شعبية والتفافاً من قبل الجماهير، الأمر الذي تجلّى بنوعٍ خاص في الإنتخابات البلدية الأخيرة، التي جاءت لصالحها تماماً.

كما وتبيّن له أنّ قدرة إسرائيل الردعية وهي تفكّك مستوطناتها تحت النار، ليست على الإطلاق بأفضل من قدرتها الردعية أثناء رفضها إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين تحت النار، بحجّة أنّ الأمر سيلحق الأذى والضرر بقدرتها الردعيّة. ومن سخرية القدر بشارون أنّ الرأي العام الإسرائيلي راح يربط بصورة تهكمية موافقته على إخلاء غزّة بمدى إحساسه بالإحراج والمحاصرة من جراء التحقيقات البوليسية معه ومع أولاده على خلفية الفساد المالي واستغلال السلطة "عمق الاخلاءات كعمق التحقيقات". وتثبت معطيات العديد من الأبحاث الإسرائيلية أنّ رغبة الإسرائيليين بالإنفصال عن الفلسطينيين تستوي مع رغبة إسرائيل بانعزالها عن منطقة الشرق الأوسط، وحتى ضمن ظروف لا يسلّط فيها سيف الإرهاب على رقبة إسرائيل، فالغالبية العظمى من السكان اليهود(75%)مقابل (8%) فقط من المعارضين، أعربوا عن رغبتهم، بل وتأييدهم لوجود حدود واضحة ومغلقة من أجل إيجاد فصل شامل بين إسرائيل والفلسطينيين حتى في أوقات السلم. ومن ناحية أخرى كشف الصحافي الإسرائيلي عكيفا الدار ([9]) عن أنّ "القرار المسلوق" الذي اتخذه شارون بتعديل سياسته الاستيطانية إنما أتى "نتيجة تداعي أجهزة الأمن، فالمستويات الميدانية في جيش الدفاع الإسرائيلي وفي الشاباك وحرس الحدود تحدّثت عن شدّ الحبل حتى أقصى مداه من قدرة القوات... والقادة والجنود ورجال الشرطة وعملاء الشاباك قد وصلوا حتى شفا الإعياء. وقد شكت القيادة العليا، من أنّ أيام التدريبات بأنواعها قد تقلّصت، وحذّر الضباط من أنّ الاحتكاك مع السكان المدنيين عند الحواجز وفي النقاط الاستيطانية (غير القانونية) يضعف الدافع ويفسد معنويات الجنود".

وهكذا يتبيّن أنّ انخراط شارون الجزئي والقّهري في عملية التسوية الاستيطانية في غزّة إنما كان ناجماً عن حاجة صهيونية ملحّة وعن تداخل عدد كبير من العناصر والعوامل الداخلية والإقليمية والدولية، بالإضافة إلى التباينات النظرية في الطروحات الصهيونيّة وفي تقدير المخاطر الديموغرافيّة والإيديولوجية وخاصة في ما يتعلّق بنقاء الدولة والتغييرات الكبرى في أنماط الإدراك المتبادلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وفي صورة إسرائيل في الخارج وفي التغيّرات العديدة التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي والعلاقات التي تربط الفرد بالنظام السياسي والسلطة وتأثير الهجرة والتنوّع الطائفي، ممّا زاد من التعقيد والصعوبة في مجال تحديد الموقف من العرب ومستقبل هوية الصهيونية وإسرائيل وطبيعة النظام الواجب تبنّيه، والموقف من الفلسطينيين بنوع خاص، ومن قيام دولتهم المستقلة جنباً إلى جنب مع إسرائيل. يضاف إلى ما تقدّم أيضاً عوامل هامة لها علاقة مباشرة بالطبيعة الدينية الميثولوجية للصهيونية، وخصوصية الديانة اليهودية، وحرص اليهود على تأكيد هذه الخصوصية ورعايتها، سواء كانوا مدفوعين إلى ذلك بمعاداة الآخرين لهم، أم بحكم طبيعة التكوين النفسي والثقافي لليهود ورغبتهم في اعتزال الآخرين (غوييم) والإستعلاء عليهم(شعب الله المختار).

ومن خلال ما تقدّم يمكننا أن نستنتج أن أبرز العوامل والعناصر التي دفعت رجلاً متعصّباً ومتغطرساً كشارون للإنسحاب من قطاع غزة وسحب الاستيطان معه يمكن تلخيصها بما يلي:

­ قصور وتقصير المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في بذل ما يلزم من جهود وتضحية من أجل تحقيق هدف إسرائيل الكبرى.

­ تفادي سلبيات وتداعيات المشكلة الديموغرافية ومشاكل أخرى مثل مشكلة التراجع الاقتصادي وزيادة أعداد العاطلين عن العمل.

­ تأثير الإنتفاضة والمقاومة وروح الصمود لدى الفلسطينيين في الرأي العام الإسرائيلي الذي أنهكته المواجهات والعمليات الإستشهادية.

­ ظهور أجيال جديدة من الإسرائيليّين غير الراغبين في استمرار المواجهات الدمويّة والتنكيل بأبناء شعب آخر يريد الحريّة والحياة الكريمة.

­ الحفاظ على صورة إسرائيل في الخارج ومحاولة احتواء وتطويق القرارات والإنتقادات الدولية لا سيما بشأن جدار الفصل والمستوطنات غير الشرعيّة.

­ إهتزاز وتفسّخ الإجماع الإستراتيجي بشأن الاحتفاظ بمستوطنات غزّة.

­ الحؤول دون تصاعد موجات النزوح والهجرة المضادة من إسرائيل إلى الخارج، وأخذ العبرة من تراجع الحماس لدى يهود دول الرّفاه للمجيء إلى إسرائيل المتّشحة بوشاح التعصّب الديني والطائفي والعنصري.

    

وقد ورد في برنامج الفصل الأحادي حسبما نشرته صحيفة هآرتس منذ أيام ولاية ايهود باراك العديد من النقاط الجوهرية التي تجعل من الإنسحاب حاجة ماسّة لا غنى عنها ومن أبرزها ما يلي:

­ الهدف المركزي:المحافظة على الهوية اليهودية لدولة إسرائيل عبر الفصل الديموغرافي عن الفلسطينيين.

­ إحاطة الكتل الاستيطانية المخصصة للضم بخطوط دفاعية من الممكن نقلها في المستقبل، إذا دعت الحاجة من أجل منع الإحتكاك الأمني.

­ إتخاذ خطوات قانونية وإجرائيّة وإنشاء بنية تحتيّة لربط كتل الإستيطان(في الضفة الغربية) بإسرائيل.

­ إستمرار الربط الاقتصادي الإسرائيلي والفلسطيني في ظل قيود أمنية إلى حين تحقيق اتفاق دائم.

وفي خلاصة المحور الأول يمكننا التشديد على ما يلي:

عشية عام 2004 نظّم آرييل شارون أفكاره ورؤيته السياسية الإستراتيجية، وعرضها ضمن خطته للإنسحاب من غزّة رسميّاً وعلى الملأ في خطابه في مؤتمر هرتيسليا([10]). وقد عرفت هذه الخطّة بإسم "خطة فكّ الارتباط من طرف واحد". وعلاوة على سعيه لتعطيل أو تجميد سلبيات خطة خريطة الطريق الدولية فإنّ جوهر الخطة تمثّل في تفكيك الإحتلال والإستيطان الإسرائيلي داخل قطاع غزة من أجل تعزيزهما في أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة. وهذا يعني أنّ قيام دولة يهودية على طريقة شارون يستتبع نظام (ابار تهايد) فصل عنصري في فلسطين التاريخية. ووفق رؤيته هذه تنسحب إسرائيل من 42% من مساحة الضفّة الغربيّة، في مقابل ضمّ المناطق الفلسطينيّة التي أقيمت عليها المستعمرات اليهودية وما هو ممكن من مناطق أخرى في الضفة الفلسطينية المحتلّة أيضاً.

وعلى الرغم من أنّ انتخابات عام 2003 الأخيرة قد أسفرت عن فوز ساحق لليمين وهزيمة نكراء لليسار في إسرائيل، فإنّ ذلك لم يؤدِ الى الإستقرار السياسي. والشاهد على ذلك أنّ حكومة شارون اليمينيّة الصرفة الأولى ما لبثت أن انهارت، وتمّت الاستعانة بخدمات حزبي العمل ويهدوت هاتوراه، ممّا شكّل مؤشّراً على انهيار الأيديولوجيات الحزبية مثل انهيار أيديولوجيا "إسرائيل الكبرى". وهكذا دخلت الأحزاب العقدية في أزمات وتخبّطات إزاء مجريات وقائع المشهد السياسي المتناقضة مع طروحاتها. وجلّ ما أصبحت تجيده هو قول عبارة "لا نقبل".

أما اليسار فلا يوجد لديه البديل السياسي وإنّما يدور في فلك شارون ويعاني من أزمات قيادة قاسية. وهكذا راحت إسرائيل تدفع تباعاً ثمن ما تبنّته من سياسات اتنوقراطيّة، في محاور نظامها المركزي، وذلك في شكل انعدام الإستقرار والتأرجح السياسي الشديد، الأمر الذي لم يعرف العرب استغلاله واستثماره في موازين الصراع والتسوية بسبب الضعف والتراجع العربي وغياب إستراتيجية فلسطينية موحّدة.

وعلى الرغم من كلّ ما تقدّم فإنّه بعد مرور 38 سنة من الإحتلال، تدخل إسرائيل اليوم في مشروع قومي لفكّ الارتباط مع الفلسطينيين. ومثلما يقول الكاتب الإسرائيلي أ. يهوشواع ([11]) فإنّ "القضية الصهيونيّة من أساسها هي قصة انفصال. إن القصة الصهيونية هي قصة محاولة التحرّر من الميل المفجع لدى الشعب اليهودي للتدخّل في حياة الآخرين" ويستخلص يهوشواع أنّ خطة شارون الراهنة "ليست فكرة تكتيكية، بل هي فكرة إستراتيجية ذات مغزى تاريخي" والهدف من ورائها هو رسم حدود إسرائيل بشكل ثابت ورسمي يمنح مواطنيها إحساساً متجدّداً بالوطن، وذلك في مقابل فكرة صهيونية منافسة ومتطرّفة يتبنّاها المستوطنون الأصوليون وأتباع اليمين الشوفيني المهووس. وخطة شارون بحسب رأي الكاتب آري شافيط، لن تكون خطة عملية بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذا لم تستتبع فتح الحدود مع مصر أمام الفلسطينيين ومنحهم ميناءً بحرياً وميناءً جويّاً وإلاّ فسيتحوّل القطاع منذ اليوم التالي للإنسحاب إلى سجن كبير مشبع باليأس، وتتحمّل إسرائيل مجدّداً مسؤولية مصيره.

 وفيما يتعلّق بالضفة الغربية فالّلعبة الإستيطانية هناك تبقى لعبة قذرة سوف تشجّع الفلسطينيين على زيادة ضغوطاتهم للّحاق بمصير إخوانهم في غزّة لتحقيق التحرير والاستقلال. والأمر الذي يدعو إلى القلق على مصير الضفّة، أنّ الإدارة الإسرائيلية الحالية برئاسة شارون ­ فايسغلاس هي إدارة تفتقر في العمق إلى المبادئ والأخلاق والروح والرؤية، وهي "تنتقل على الدوام من مؤامرة إلى أخرى" حسب تعبير الكاتب شافيط، الذي يضيف أنّ الخطة الراهنة "لا تطرح الخط الأخضر ولا خط الجدار الفاصل كحدود دولية جديدة، وهي بالتالي تقوّض الوضع القائم من دون أن تضع بدلاً منه نظاماً مستقرّاً ودائماً. والديناميكية التي تفرزها الخطة هي ديناميكيّة استمرار الوجود على خطوط تفتقر إلى المنطق وانعدام الرؤية".

     لا شكّ إذاً أنّ ما أقدم عليه شارون إنّما أتى من باب العجز والاضطرار والمناورة وعدم القدرة على الإستمرار في معركة لا أفق لها مع الجماهير المدنية الفلسطينية التي تزداد حماساً ويقيناً بالنصر كلما ازدادت حدّة المواجهات والتضحيات. وفي هذا السياق ارتفعت أصوات رفيعة المستوى في إسرائيل تطالب بالحوار مع حركة حماس الإسلامية المصنّفة كرأس حربة الإرهاب في القاموس السياسي الإسرائيلي، ومن بين هؤلاء رئيس الشاباك السابق عامي ايلون الذي أكّد على أنّ إسرائيل ستكون مضطرّة لإجراء اتصالات معها في غضون عامين من الآن، كما وطالب بالشيء نفسه أيضاً العميد شموئيل زاكاي، قائد قوات الإحتلال في قطاع غزّة، هذا بالإضافة إلى شخصيّات بارزة ومعروفة مثل رئيس حركة ياحاد يوسي بيلين، لا سيما في أعقاب ما كشفت عنه الإنتخابات البلدية بشأن ضخامة شعبية الحركة ممّا ينذر بتباشير إمكانية قيام إنتفاضة ثالثة.

 

وفي هذا السياق قال النائب اليساري يوسي ساريد زعيم حركة ميرتس سابقاً إنّه "قبل أن ندعو إلى تشكيل لجنة تحقيق رسميّة في أسباب اندلاع الإنتفاضة الثالثة المقبلة مع كلّ ما سينجم عنها من قتل وإراقة دماء، ينبغي على شارون أن يعي أنّ إسرائيل وحدها هي التي توقد نيران هذه الإنتفاضة بسبب إصرارها على توظيف فكّ الارتباط من أجل تجميد عملية التفاوض والتعامل مع سجن غزّة الكبير على أنّه دولة، هذا ببساطة لن يمرّ" ([12]) ويشنّ ساريد هجوماً قاسياً ضدّ شارون يقول فيه: "يستحسن برئيس الوزراء ألاّ يبدو متذاكياً إلى هذا الحدّ، لقد اعتقدنا ردحاً من الزمن أنّه بالإمكان تعايش الفلسطينيين مع الاحتلال. ما العمل إذاً؟ لقد تبيّن أنّنا مخطئون، هم أناس تحرّكهم مشاعر طبيعيّة وهم مصمّمون على نيل حرّيتهم، لا  يمكن مصادرة الحق منهم في البحث والعمل على تحقيق الحرية، بإمكاننا أن نهاجم وسائلهم التي يعتمدونها في الوصول للحرية، لكنّ هذا لن يفيد ما دمنا وفّرنا الأسباب لذلك".

 لقد كان مستشار شارون دوف فايسغلاس صريحاً إلى حدّ الوقاحة عندما قال إنّ خطة الفصل ستمنع قيام عملية سلام على أساس قرارات الأمم المتحدة التي هي انسحاب من أراضي عام 1967 وقيام دولة فلسطينية وعودة الّلاجئين. وبالتالي فالخطة معدّة لمنع كلّ هذه الأمور. وتكرار حديث كبار المسؤولين عن فحوى الخطّة إنّما يصبّ في المصلحة الإسرائيلية الإستراتيجية للدولة. ومن هذا المنطلق تعاملت إسرائيل مع موضوع تحديد المواقيت بصورة تنسجم مع مصالحها الخاصة، وهذا يتطلب من جميع الفصائل الفلسطينية المقاومة والسلطة، إعادة النظر في أشكال متابعة النضال الوطني المشترك بما في ذلك ضمن قطاع غزّة المحرّر من أجل دحر الإحتلال نهائيّاً وتحقيق المشروع الوطني الفلسطيني. فجماهير غزّة هي جزء لا يتجزّأ من الوضع الفلسطيني العام. وهؤلاء كانوا قد حملوا الهمّ الفلسطيني تاريخياً ولا بدّ لهم من متابعة النضال وكأنّ القطاع ما يزال تحت الإحتلال، خصوصاً وأنّ المشروع الإسرائيلي المدبّر له، هو أن يتحوّل إلى مجرّد سجن كبير مما يجعل الأفق السياسي غير ذي معنى في ظلّ بقاء جدار الفصل والمستوطنات التي أسّست لقطع الطريق بوجه إقامة دولة فلسطينية قادرة على الاستمرار والنمو.

 

المحور الثاني: المكاسب الفلسطينية

 لقد تميزت فترة حكم شارون منذ عام 2001 باستمرار سياسة الإغتيالات الإسرائيلية للقيادات الفلسطينية وارتكاب المجازر وفرض سياسات الفصل (بناء الجدار وخطة الانسحاب من غزّة) وشكّلت الإغتيالات جزءاً من مشروع شارون لفرض الحلّ السياسي الذي يتلاءم مع مصالح إسرائيل، بمفهومه، وبمفهوم اليمين البراغماتي. فسياسة الاغتيال هي محاولة للقضاء على القيادتين السياسية والميدانية، وذلك لكي تعمل الحكومة الإسرائيلية مستقبلاً مع قيادة فلسطينية تستطيع أن تتعايش مع سقف مطالبها ([13]).

أمّا بناء الجدار الفاصل فجاء بعد أن فشل شارون في وضع حدّ للمقاومة الفلسطينية أو منعها من القيام بعمليات داخل إسرائيل، وأيضاً من أجل فرض خقائق على الأرض. كماوجاءت خطة الفصل من أجل تفادي مضايقات خريطة الطريق وتحقيق مناخ مريح من المساومة السياسية لإسرائيل، وعلى الرغم من كلّ ذلك فإنّ خطة الفصل تعتبر مكسباً تاريخياً للفلسطينيين وتحطيماً دراماتيكياً للحلم الصهيوني بما يسمى أرض إسرائيل الكبرى، وهنا يكمن المكسب السياسي المرحلي للنضال الفلسطيني الطويل . فاليوم لم يعد تغييب أو ترحيل الشعب الفلسطيني وارداً. قد يقال عنه إنّه إرهابي وأنه يتسبب بعدم الإستقرار في المنطقة لكنّه موجود، وهنا تتكرّر مقولة كبار قادة المشروع الصهيوني وخاصة مناحيم بيغن "أنا أقاتل إذاً أنا موجود". فالشعب الفلسطيني بدأ من قطاع غزّة يحطّم قيود العزلة التي فرضت عليه ردحاً من الزمن، وبدأ يضع، وإن بصورة تدريجية، معالم الوطن القومي المفتوح على حلم العودة والقائم على أرض محرّرة ولو بصورة جزئية، من خلال استخدام كل أشكال المقاومة العسكرية والديموغرافيّة.

وأمام هذه المحطة التاريخية قي نضال الشعب الفلسطيني علينا أن نستذكر بعض العلامات الفارقة في تاريخ هذا النضال المرير والدامي، وأبرزها طرد منظمة التحرير من بيروت عام 1982  ومن ثمّ طرد شارون من غزّة بواسطة الشعب الفلسطيني وفصائله المختلفة. ففي أثناء الغزو الإسرائيلي عام 1982 حقق شارون إنجازين بارزين الأول عسكري وتمثّل في طرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت والثاني سياسي وتمثّل في ما سمّي بمبادرة ريغن بتاريخ 2/9/1982 والتي نصّت على أن "لا دولة فلسطينية في الضفة والقطاع... تحقيق حكم ذاتي... للإرتباط مع الأردن... القدس يجب أن تبقى غير مجزّأة لكنّ وضعها النهائي يجب أن يقرّر في المفاوضات... لا يحقّ لإسرائيل ضمّ الأراضي المحتلة" ([14]) .

وكان الاعتراض الإسرائيلي على المبادرة يطال جانبها الإستيطاني بنوع خاص. فلقد أكّدت الحكومة الإسرائيلية أن إسرائيل "ستستمر في بناء المستوطنات. وسخر بيان الحكومة من وعود الولايات المتحدة بمعارضة إقامة دولة فلسطينية" ([15]).

ورفضت إسرائيل أيضاً قي حينه بيان الدول الأوروبية العشر (بروكسل 23/3/1983) لأنه أشار إلى أنّ "المستوطنات في الأراضي العربية المحتلة عقبة في طريق السلام. . ." وتبيّن منذ ذلك الحين أنّ التباينات في مواقف الحزبين الكبيرين العمل والليكود من مسألة تقرير مصير الضفة الغربية وقطاع غزّة، لا تقوم على خلفية قبول السلام مع الفلسطينيين أو رفضه، وإنما هي ناتجة عن الخلاف في وجهات النظر حول أفضل السبل التي تتيح لدولة إسرائيل إستكمال مشروعها الصهيوني، خصوصاً وأنّ احتلالها في عام 1967 أرضاً لم تستطع استيطانها بكثافة معقولة، قد وضعها في مواجهة الاختيار الصعب ما بين "التمسك بمبدأ تكامل الأرض الذي يعني بالضرورة التنازل عن وحدانية الشعب (يهودية السكان) وبين الحفاظ على الطابع اليهودي الأغلب لإسرائيل، والذي يقضي بدوره بالتنازل عن مبدأ تكامل الأرض". وتحت تأثير هذه النتائج الدراماتيكية لاجتياح لبنان عام 1982 تسارعت الخطوات التي أقدمت عليها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أملاً منها في استعادة المبادرة الدبلوماسيّة والسياسيّة مع فقدانها المبادرة العسكريّة وفقدانها الكثير من وزنها وتأثيرها إلاقليمي والدّولي. فقبل الخروج من بيروت، وفي أثناء المفاوضات لترتيب تنفيذ إتفاق المغادرة أعلنت المنظمة بقيادة الراحل ياسر عرفات إلتزامها بكل قرارات الأمم المتحدة، وقام عرفات بتسليم البرلماني الأميركي مكلوسكي، وثيقة تؤكد قبوله كل قرارات الأمم المتحدة المتعلّقة بالقضية الفلسطينية ([16]).  وفي ضوء ما نصّت عليه مبادرة ريغان حول ربط الحل في الضفّة وغزّة مع الأردن، قام عرفات بتحسين علاقاته مع الملك الأردني الراحل حسين بن طلال. لكن مناورات المنظمة باءت بالفشل، وراح وضعها يتراجع إلى أن جاءت انتفاضة عام 1987 من خارج كل الألاعيب السياسية والدبلوماسية، العربية والأجنبية، وفي حينه استغلّت المنظمة تضحيات إنتفاضة الحجارة من أجل إعادة تعويم دورها في التسوية أعلنت أثناء انعقاد المجلس الوطني المنعقد في الجزائر عام 1988 عن قيام "دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف". وبأن القرار رقم 181 الصادر عام 1947 ،الذي قسّم فلسطين... لا يزال يوفّر شروطاً للشرعية الدّولية تضمن حق الشعب الفلسطيني في السيادة والإستقلال الوطني... وأنها ترفض العنف أو الإرهاب. وحمل عرفات تلك القرارات ليعلنها في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة (جنيف 13 كانون الأول 1988) وكان قد تمّ نقل مقر الإجتماع من نيويورك إلى جنيف بسبب رفض الولايات المتحدة إعطاء الرئيس الفلسطيني تأشيرة دخول إلى أراضيها.

كان الموقف الأميركي منذ ولاية الرئيس ريغان يوفّر لإسرائيل دعماً سياسياً، وأعان حكوماتهاعلى المناورة في وجه الإنتفاضة ووفّر لعملياتها القمعية غطاءً دوليّاً. وفي أعقاب حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) عام 1990 جاء مؤتمر مدريد أثناء ولاية بوش الأب وجاءت معه رسالة التطمينات التي ورد فيها: "السلام الشامل يجب أن يتأسس على قراري مجلس الأمن 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام... إشراك الفلسطينيين مباشرة في تقرير مستقبلهم... الوفد الأردني ­ الفلسطيني المشترك يوفّر أفضل الطرق لتحقيق هذه الغاية... وستواصل الولايات المتحدة معارضتها للتوسع الإستيطاني" ([17]).

إسحق شامير رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه ، سيق إلى المؤتمر مرغماً، فصمم على إفشاله وعرقلته وحرفه عن أهدافه الأساسية، وهذا ما اتضح في كلمته أمام المؤتمر التي جاء فيها: "إنّ القضيّة ليست قضية أرض بل قضية وجودنا". وسيكون من المؤسف أن تتركّز المحادثات أوّلاً وقبل كل شيء على الأرض، فهذا هو أقصر الطرق للجمود". وختم شامير كلمته بالقول: "نأمل أن تدركوا في نهاية الأمر أنه كان بإمكانكم الحضور إلى هذه المائدة قبل زمن طويل، وبعيد توقيع إتفاقية كامب ديفيد، لو أنكم اخترتم الحوار بدل العنف والتعايش بدل الإرهاب" ([18]).

إثر استمرار إنتفاضة الحجارة نحو ست سنوات، وجدت إسرائيل نفسها برئاسة إسحق رابين دولة تمييز عنصري واحتلال بامتياز في أعقاب سقوط آخر معقل للعنصرية في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وجنوب أفريقيا العنصرية. إنّ نظرة جدّية لحال العالم المنفتح على ذاته أكثر فأكثر عبر وسائل الإتصالات الإلكترونية، جعلت رابين والكثيرين معه من قادة الرأي والسياسة في إسرائيل، يدركون أنّ إسرائيل القمعية والدّموية والعنصرية هذه لم يعد لها مكان في عالم اليوم، و لا بد من احترام إرادة ملايين الفلسطينيين الذين يتزايد وزنهم المحلي والإقليمي والدّولي تدريجياً على الصعيدين السياسي والديموغرافي. وأدرك رابين أنّ إسرائيل لن تكون ديموقراطيةً أبداً وهي تمارس كل أشكال التمييز العنصري بموجب العرق والدين حتى بين اليهود أنفسهم فكيف بالتالي تجاه العرب والمسلمين على وجه الخصوص.

لقد سقطت كل المحاولات والألاعيب الديماغوجيّة وانكشفت أساليب الخداع والمناورة والمماطلة، وفشلت أعمال القتل والهدم والاغتيال، وبقيت مقاومة الشعب الفلسطيني مستمرة مع الإصرار على حق العودة الذي يتوارثه الأبناء عن الآباء و الأجداد. ووجد رابين نفسه محاصراً سياسياً ومعنوياً وإعلامياً بشعب لا يكلّ عن العطاء والتضحية بالغالي والنفيس من أجل طلب الحريّة والإستقلال والكرامة الإنسانية، فعمد عبر القنوات السّرية وبرعاية الرئيس الودود كلينتون إلى صياغة إتفاق أوسلو في أيلول 1993 ثمّ إتفاق غزّة أريحا أولاً. وكانت المشكلة الجذريّة في أوسلو أن الاتفاق لم يلزم إسرائيل منذ البداية ومسبقاً بعودة اللاجئين وبقيام دولة فلسطينية وبالإنسحاب من القدس الشرقية وإزالة المستوطنات. وفي المقابل سعت إسرائيل إلى فرض مصالحها من موقع القوة وموقع المناورة بإعطاء وعود بإعادة الإنتشار في الأراضي المحتلة عام 1967 ضمن تصنيفات أ و ب و ج والتفاوض مع منظمة التحرير في مقابل رسم حدودٍ جديدة لها عبر أسواق العالم العربي الغنية بأكملها تحت ذريعة تشجيعها على السلام والتنازل وعدم إغضاب الولايات المتحدة. وإزاء معارضة قوى اليمين الصهيوني المتطرّفة وفي مقدمتها آرييل شارون ونتنياهو، قال رابين قبل مدّة قصيرة من اغتياله عام 1995: "إذا كان الأمر يتعلق بمواقف تتناول جوهر الأشياء فأنا أيضاً أعارض حق العودة، إذ ليس في إتفاق المبادىء الذي تم توقيعه أي شيء يتعلق بحق العودة، وهذا لم يكن مصادفةً. أما في ما يتعلق بالقدس، فقد تم التوصل إلى اتفاق مع شريك عربي، وإنما فقط بشأن اتفاق مرحلي، ينص على انّ القدس ستكون تحت سلطة إسرائيل خلال فترة الإتفاق. وشؤون الأمن الخارجي ستكون في أيدي إسرائيل. . . ونحن لم نلتزم باقتلاع أية مستوطنة" ([19]).

 

وحين جرى تحديد موعد الإنسحاب الإسرائيلي من غزّة وأريحا بموجب إتفاق طابا 23/2/1994 باشرت جماعات المستوطنين في الضفّة الغربية، بتحريض مباشر من شارون وأعوانه، ممارسة أعمال احتجاج عنيفة، وراحت تتهم رابين بالخيانة وبلغت هذه الأعمال ذروتها في مذبحة الخليل 25/10/1994 التي ارتكبها باروخ غولد شتاين وقتل أثناءها 29 شخصاً من المصلّين في داخل الحرم الإبراهيمي في المدينة وجرح أكثر من سبعين آخرين. ثم اغتيل رابين نفسه، ممّا شكل بداية تحوّل في موازين القوى الإسرائيلية لمصلحة التحالفات اليمينية والشوفينية المتطرّفة التي حملت نتنياهو إلى السلطة وحملت معه المبادئ التي كانت محط إجماع هذه الجماعات المهووسة بتكريس الإحتلال وابتلاع الأرض الفلسطينية ومن أبرزها:

­ تحصين مكانة القدس عاصمة أبديّة للشعب اليهودي.

­ دعم الإستيطان في مختلف أنحاء إسرائيل الكبرى وتطويره.

­ إبرام تسوية مع الفلسطينيين في إطار حكم ذاتي ومعارضة قيام دولة فلسطينية مستقلة أو أيّة سيادة أجنبية غربي النهر ومعارضة حق العودة.

­ الإصرار، في أية تسوية سياسيّة، على ضمان الإستيطان اليهودي وضمان ترسيخه وأمنه وارتباطه بدولة إسرائيل.

ولكن إزاء استياء إدارة الرئيس كلينتون من ممارسات نتنياهو وأفكاره الشوفينية، عمدت واشنطن إلى إسقاطه والإتيان بزعيم حزب العمل الجديد باراك، وعندما إنتهت قمة كامب ديفيد الثانية بالدعوة إلى استمرار المفاوضات في واشنطن والشرق الأوسط، عمد آرييل شارون إلى استلام زمام المبادرة وتعطيل كلّ محاولات التفاوض. فقام بزيارة استفزازية إلى الحرم الشريف في القدس بحماية ثلاثة آلاف جندي، ليتبيّن فيما بعد أنّه كان يريد استغلال أجواء العجز والمماطلة من أجل الوصول إلى السلطة وذلك بقلب الطاولة رأساً على عقب برفضه قيام دولة فلسطينية أو أي كيان سياسي فلسطيني آخر. وفي ردّه على اقتراح سلفه باراك بتنفيذ خطة الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين طرح خطته المستقلّة الخاصة التي تقضي بالعمل "على جلب مليون يهودي من روسيا وأثيوبيا والمكسيك..." وقال في لقاء له مع ممثلي مجلس أمناء الوكالة اليهودية: "إنّ على إسرائيل في حلول عام 2020 أن تضمن جلب جميع يهود العالم إليها" ([20]) وهذا يعني إصراره على استمرار الإحتلال والإستيطان. لقد أراد شارون إنهاء أي وجود لكيان فلسطيني سياسي فعمد إلى تدمير أوسلو ومفاعيله وتصفية السلطة الوطنية ومحاصرة رئيسها ثمّ تصفيته جسدياً.

 

ومنذ العام 2001 كان مشروع شارون يقوم على تشجيع الهجرة والإستيطان وإحياء المبادئ الصهيونية وتجديد النشاط بين إسرائيل والوكالة اليهودية ووضع جدول أعمال قومي يتناسب مع الطموحات اليهودية المتطرّفة ثمّ النضال الشديد والقاسي ضدّ أعمال المقاومة. وعندما وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول العام 2001 وجد شارون فيها "نافذة فرص" لتصفية حسابه مع زعيم السلطة الفلسطينية ياسر عرفات وسائر قادة المقاومة الذين جرى تصنيفهم، في أجواء الهستيريا الأمنية التي اجتاحت الولايات المتحدة، بالإرهابيين. وعشيّة بدء العمليات الحربية الأميركية على امتداد المنطقة بدءاً بأفغانستان، قام شارون بتصعيد المواجهات مع إنتفاضة الأقصى حيث حصلت سلسلة حملات تطهير وتدمير ضدّ المجتمع الفلسطيني عموماً والقيادات والحركات المقاومة خصوصاً. فتمّ اغتيال الشيخ المقعد أحمد ياسين ثمّ الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وسواهما من القيادات البارزة وذلك في ظلّ أجواء من الإنحياز الأميركي الواضح لصالح سياسة شارون ورؤيته، تمثّلت في أكبر عدد من الزيارات الرسمية إلى واشنطن يقوم بها أي رئيس حكومة إسرائيلي في السابق على الإطلاق، وفي توفير التغطية السياسية والدبلوماسية لأسلوب الضغط الزاحف والمتصاعد الذي تبنّاه الجيش الإسرائيلي تحت شعار "دعوا الجيش ينتصر" وشعار "زرع الهزيمة والاستسلام في داخل الوعي الفلسطيني".

كلّ هذه الأماني الإسرائيلية باءت بالفشل وبقي الفلسطينيون يقاتلون ويصمدون، مما اضطر آرييل شارون إلى القبول بما كان يرفضه أيام باراك من خطة الفصل التي تبنّاها وطوّرها بعد عنت وتعجيز. وفي ظلّ القصور العسكري والأمني والمخاوف الديموغرافية والرغبة في أداء دور صهيوني تاريخي، عاد شارون إلى أرض الواقع لينتهز فرصة وجود الرئيس بوش الإبن والمحافظين الجدد على رأس السلطة في الولايات المتحدة ليحوّل الهزيمة إلى نصر من خلال التضحية بالتكتيك (الانسحاب من غزّة) لصالح الإستراتيجية (تكريس الإحتلال والإستيطان في الضفة الغربية).

لقد سبق لشارون أن تربّى في أحضان بن غوريون وهو يسير اليوم على خطاه كزعيم براغماتي أدرك حدود القوة العسكرية التي تملكها إسرائيل وأدرك إلى جانب ذلك أنّه يستحيل عليه كسب حرب الإرادات التي يخوضها مع الشعب الفلسطيني جنباً إلى جنب مع كسب الحرب لاحتلال الأرض.

وبالتالي فانسحابه من غزّة يمثّل الحلّ الوسط الممكن في لحظة تاريخية حرجة، وهو يعني خسارة تكتيكية بالنسبة للمشروع الصهيوني الكبير وكسب استراتيجي جزئي بالنسبة للمشروع الوطني الفلسطيني الكبير أيضاً. وبتعبير آخر لقد عمل شارون على حماية مشروعه من خلال حماية شروط نجاحه، والإنحسار الجغرافي بالإنسحاب من غزّة وإقامة جدران الفصل والعودة للعيش ضمن القلاع المحصّنة وإعادة استحضار ذهنيّة الغيتو هي شاهد على مدى الأهمية التي عاد الشعب الفلسطيني ليحتلّها في الحسابات الاستراتيجية الصهيونية بعد أن كان الموقف الثابت من هذا الشعب هو الإلغاء والتغييب. إنّ أهمّ مكسب فلسطيني من انسحاب رجل معروف تاريخياً بتشدّده وعنصريّته ووحشيّته وتعصّبه اليهودي والصهيوني من قطاع غزّة، إنّما هو الإقرار منه شخصيّاً ليس بمنظمة التحرير، كما فعل رابين ولا بالسلطة كما فعل باراك، بل بالشعب الفلسطيني نفسه الذي يعطي الأرض إسمها ولونها وحقيقتها التاريخية. فغزّة اليوم ليست محرّرة وحسب بل ذات هويّة وطنية فلسطينية وهذا هو الأهم، وبالتالي فهذا يعني بداية فشل الخطة الشارونية الأساسية التي كانت تسعى بالإضافة الى إبادة الشعب، إلى تبديده سياسيّاً والحؤول دون استحصاله على كيان وطني وهوية خاصة قابلة للحياة والتطوّر.

نعم إنّ شارون لا يريد أن يشكل انسحابه من غزّة مدخلاً لتحرير سائر الأراضي الفلسطينية المحتلّة، بل يريد أن تكون غزّة بالنسبة للفلسطينيين، أولاً وأخيراً. لأنّ الشعب الفلسطيني الذي ناضل مائة عام ونيّف لن يقبل بأيّ شكل من الأشكال بالإكتفاء بهذا الحصاد الهزيل مهما كبرت التضحيات، وإسرائيل أمام هذه التحدّيات واقعة في أزمة سياسية يكشف عنها عدم استقرار الحكم فيها منذ أكثر من عقد من الزمن. وعندما لا يكمل أي كنيست أو حكومة على مدى العقد الأخير من تسعينات القرن الماضي ولايتهما القانونية، وعندما يتعاقب على رئاسة الحكومة خلال الفترة نفسها ستة رؤساء حكومة مختلفين، وعندما يتم إغتيال رئيس حكومة مثل رابين بماضيه العسكري وإنجازاته الباهرة، وعندما يكرر القادة الأمنيّون الكبار على مسامع السياسيين المسؤولين مرة بعد أخرى أنه لا يوجد حلّ عسكري للمأزق مع الفلسطينيين، وعندما يواجه شارون كلّ هذه الصعوبات والمتاعب في البقاء في سدّة السلطة بالرغم من ماضيه وشعبيّته الكبيرة، فإن هذا يدلّ على أنّ المشروع الوطني الفلسطيني، بالرّغم من قلّة الإمكانيّات وندرة المناصرين، ليس هو وحده المأزوم والواقع في ورطة بل إن إسرائيل هي أيضا بالرغم من كلّ الدّعم السّياسي والعسكري والدّبلوماسي الذي تتلقّاه من مختلف أقطار العالم، واقعة في حالة ضيق، قد يخفف من سلبيّاتها وجود شخص تاريخيّ و قوي في قمّة السلطة، ولكن بعد رحيل شارون قد يأتي الطّوفان من خلال تفجّر الخلافات الدّاخلية والصّراعات الشخصيّة والحزبيّة، مما يشكّل متنفّساً للأماني الوطنيّة الفلسطينيّة وإنّ مع العسر يسراً.

لقد عبّر الكاتب الياكيم هاعتساني ([21]) عن إحساس المجتمع الإسرائيلي بالخزي والخسارة من جرّاء الانسحاب من غزّة، وسمّى خطّة شارون باسم "وثيقة الخراب" التي تسبّبت بخراب المستوطنات وذلك بسبب ثلاثة اعتبارات رسميّة على حدّ قوله، تشكّل تراجعاً مهيناً للمشروع الصّهيوني برمّته. فشارون استبدل حقّ اليهود بأرض إسرائيل الكاملة بالحصول على الأمن غير المضمون واستبدل أرض الوطن االتاريخي بمصلحة الدّولة وتنازل عن الأرض في مقابل السّلام. وقال: "إنّهم يسمّون مؤامرة اقتلاع مستوطنات شمالي غزّة والسّامرة باسم فكّ الارتباط وهو "فكّ ارتباط بالحقّ في ملك الآباء !!" وفي هذا السّياق صدرت فتاوى الحاخامات بتحريم ما يحصل من هدم في المستوطنات وما يحصل من إكراه وضغط على المستوطنين وبنزع الشرعيّة عن حكومة شارون بماضيه القريب عندما كان بمثابة الأب الرّوحي للإستيطان وعندما كان يدعوهم إلى احتلال كلّ تلّة وبقعة من الأراضي الفلسطينيّة وعدم القبول بأي إغراء ماديّ مقابل إخلاء منازلهم، في حين أنّه اليوم يمهّد لنشوب حرب أهليّة. وفي هذا السّياق يقول الزّعيم اليساري يوسي ساريد: "لقد كان شارون هو من زرع الرّياح الشّرّيرة على مدار الثّلاثين عاماً الأخيرة وبسببه سنحصد جميعا العاصفة المقبلة، والتي أصبحت هنا. شارون هو الوحيد الذي أوجد هذا المسخ، وها هو المسخ ينقلب الآن على موجده. وقد يكون ثمّة ما يؤدّي الى العزاء بكون أنّ صاحب المسخ هو الذي سيفكّكه الى عظام، لكنني أستصعب، عشيّة الحرب الأهلية، الشعور بالعزاء، إن لم تتجرّأ سلطات تطبيق القانون، بقيادة آخر أربعة مستشارين قضائيين على ترويض هذا المسخ في الوقت المناسب وعلى تحميل شارون ما يستحقه من مسؤولية مباشرة عن كلّ ما يحدث" ([22]).

 

خلاصة:

 في الوقت الذي بدأ شارون بسحب قوات احتلاله من غزّة العام 2005 بصورة مخزية لا يمكننا ان ننسى إيهود باراك وهو يسحب القوّات نفسها من جنوب لبنان عام 2000، وهذا يردّنا أيضا إلى الطموحات الكبرى التي راودت بال شارون عندما كانت منظّمة التّحرير الفلسطينيّة تنسحب من بيروت عام 1983، إنّه دولاب الزّمن المتحرّك صعوداً وهبوطاً في هذه المنطقة من دون استقرار. لقد أراد شارون التعويض عن هزائم إسرائيل في لبنان ففشل ولجأ الى مناورة الانسحاب من غزّة لتحقيق ما يلي:

­ الالتفاف على تصاعد الإعتراف الدّولي بقيادة فلسطينيّة تمثّل قضيّة وجود الشعب الفلسطيني.

­ التخلّص من غزّة بصفتها تمثّل عبئاً أمنياً وسكانياً على إسرائيل وهو أمر متعارف عليه في الدّوائر السياسيّة الإسرائيلية منذ رابين الذي حلم بإلقاء غزّة في البحر والتخلّص منها.

­ تعطيل خارطة الطّريق ووضع التسوية العمليّة برمّتها على الرّف.

­ قطع الطّريق على إقامة دولة فلسطينيّة.

­ التركيز على موضوع الاستيطان في الضفّة الغربيّة ودعم تهويد مدينة القدس بكاملها. وهذا ما أكده وزير الحرب شاؤول موفاز بقوله: "إنّ خطّة فكّ الارتباط تستهدف إحداث طفرة هائلة في المشروع الإستيطاني في الضفّة الغربيّة".

­ إنّ الإستمرار بالبقاء في مستوطنات غزّة كان يستلزم إقامة جدران فصل عنصريّة على غرار ما حصل في الضفة لحماية المستوطنات ذات الكثافة السكانية الهزيلة (7500 مستوطن في كل قطاع غزّة) ضمن محيط عربي بالغ الكثافة وشديد العداء، علماً بأن غزّة لا تدخل في إطار المشروع الديني اليهودي للدولة المنشودة.

­ إن السكّان اليهود في قطاع غزّة يمكن أن يتحوّلوا فجأة الى رهائن في يد الفلسطينيين إذا ما حدثت ثورة شاملة في القطاع ومن ثمّ يصبح الدّفاع عن هؤلاء المستوطنين في غاية الحرج والصعوبة من الناحيتين الأمنية والسياسية ويستلزم تكاليف باهظة.

في المقابل لا بدّ من قول كلمة تقدير لنضالات الشّعب الفلسطيني بجميع فصائله الناشطة، لأنه لولا عملياتها النوعية لما فكّر شارون ولا سواه من القادة الصّهاينة في مثل هذه الخطوة وبالتالي فالإنسحاب الإسرائيلي هو إقرار رسمي بالإنكسار الجزئي. وقد وصفت المصادر الفلسطينية خطّة شارون بأنها عبارة عن خطة علاقات عامة للتخفيف من معاناة إسرائيل الأمنية أولاً والحدّ من انتقادات المجتمع الدّولي للتصرّفات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين وخاصّة جدار الفصل العنصري المدان دوليّاً عبر محكمة العدل، وتدمير مختلف مقوّمات الحياة الكريمة الماديّة والمعنويّة للشعب الفلسطيني.

في الوقت الرّاهن يفضّل بعض الفلسطينيين الإنتظار في حين يتوقع البعض الآخر مجيء الانتفاضة الثالثة والبعض الآخر يتوقّع العودة الى الوضع السّابق على الهدنة. والمهم في اللّحظة التّاريخية الحاليّة هو وضع إستراتيجيّة فلسطينيّة واحدة موحّدة تأخذ بالاعتبار المتغيّرات الحاصلة في العامل الدولي والإقليمي والإسرائيلي. إستراتيجية واقعيّة قادرة على تحفيز الدّعم الدّولي والعربي من خلال نضال جماهيريّ منظّم وواسع النطاق ضدّ المصادرة والتوسّع والضّم وبناء جدران الفصل العنصرية وتهويد مدينة القدس ورفض عودة اللاجئين .

 

إنّ الثابت الوحيد في الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني الإسرائيلي بنوع خاص هو وجوب التخلّي عن أوهام الحلول السهلة والسّريعة من دون جدوى، وبالتّالي فالواجب هو منع شارون من بيع صفقة غزّة أكثر من مرّة وقبض ثمنها أضعاف أضعاف ما تستحقّ من خلال استمرار الحصار على الفلسطينيين والتحريض على الفتنة والوقيعة بين أطياف القوى الفلسطينية ومحاولة توريط مصر في مسؤوليّة حفظ الأمن والنظام في القطاع هذا، بالإضافة الى تمديد مرحلة الحلّ الإنتقالي والتملّص من الضغوط الدوليّة وإرضاء الإدارة الأميركيّة لتلافي متطلبات وموجبات خارطة الطّريق التي عطّلها شارون بواسطة خطّته البديلة.

 وأخيراً، لا بدّ للفلسطينيين من أن يعتبروا ما حصل مكسباً لهم، إذ حرّر نحو مليون ونصف مليون فلسطيني من الإحتلال المهين كما وفتح أمامهم فرصة امتلاك قاعدة إنطلاق نحو المطالبة بالتحرير الكامل وهذا يستوجب منهم القيام بما يلي:

­ إعداد كافة الخطط والبرامج الّلازمة لتنمية وتطوير المناطق المحرّرة لإثبات جدارة هذا الشعب بالحريّة والإستقلال.

­ إنجاز المخطط الإقليمي لقطاع غزة وشمالي الضفّة الآيل الى دمج المناطق التي يتم إخلاؤها وتحريرها ضمن مشروع وطنيّ واحد ومتكامل.

­ التنسيق الكامل مع الأطراف الإقليميّة والدوليّة المعنيّة لإنجاح عمليّة الإنسحاب الإسرائيلي وعدم إعطاء شارون أية ذريعة للمماطلة والإرتداد عن هذه الخطوة التي هي في المحصّلة مكسب للفلسطينيين واعتراف إسرائيلي واضح بأنّ الأرض المحرّرة كانت أرضاً محتلّة ومن شأنها أن تشكّل نموذجاً وعبرة بالنسبة لسائر الأراضي المحتلة في الضفّة الغربية.

 

[1] لمزيد من التوضيح أنظر موقع إسلام أون لاين، جلال الدين عز الدين علي

[2] آلعرف هار أفين "هل ستقوم بوجه عام علاقات ثقة بين اسرائيل والدول العربية " في "سكومو افنيري (عندما يأتي السلام) ترجمة مركز البحوث والمعلومات في القاهرة (القدس: مؤسسة فان كير 1978

[3] لمزيد من الإطلاع انظر الإستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية -مركز دراسات الوحدة العربية­ محسن عوض ­ الطبعة الاولى 1988

[4] المصدر السابق ص 20

[5] هآرتس 26/4/2005 آلوف بين

[6] صحيفة الأهرام 2004/10/13 عاطف العمري

[7] هآرتس 8/2/2004 آلوف بن

[8] يديعوت أحرونوت 8/2/2004 عامي أيالون

[9] هآرتس 9/2/.2004

[10] مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 62 ربيع 2005 ص40

[11] هآرتس 8/4/2004 آري شافيط

[12] فلسطين المسلمة العدد السابع تموز 2005

[13] لمزيد من التفاصيل أنظر مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 62 ربيع 2005 ص 38 وما بعدها

[14]مجلة دراسات إستراتيجية، السنة الثانية العدد الخامس صيف 2002 ص .153

[15] المصدر نفسه ص 216

[16] البحث عن كيان­ ماهر الشريف ص 311

[17] مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 8 ص 384و387

[18] مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 8، مصدر سابق كلمة رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق شامير ص 2001

[19] حديث رابين إلى صحيفة دافار الإسرائيلية 29/9/1993 مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 16 ص 92

[20] جريدة المستقبل بيروت 24/2/2001 شارون، الوكالات

[21] يديعوت أحرونوت 13/1/2005

[22] يديعوت أحرونوت  ­ شبكة الانترنت ­ 28/12/2004 يوسي ساريد

The Israeli withdrawal from Gaza: an Israeli need and a Palestinian gain

The unilateral Israeli decision to withdraw, without any political negotiations, from Gaza strip, under the brigade of the "historical" General of Implantation, Ariel Sharon, has constituted a dramatic turnabout step resulting in an Israeli need and a total Palestinian gain. Israelis do not refrain from holding by any piece of Palestinian or Arab land they appropriate, but in their second previsions, and on the basis of pragmatic previsions founded on the principle of compensation between gain and loss, they found out that the necessities allowed the prohibited things. From this starting point, the previous Prime Minister, Ehud Barak, took the step to withdraw from South Lebanon. In this same approach, the Zionist withdrawal from Gaza strip took place. In fact, this strip is not recorded in the heart of the vision of the Land of Israel mentioned in the Bible. Moreover, this strip does not have any natural or strategic indispensable richness, and in addition to all that, this piece of land has one of the most important population densities in the world. There is no doubt that the harsh years of conflicts that Israel confronted in these lands during the two Intifadas (Intifada of Stones – Intifada of Al Aqsa) inflicted big Human and material losses and affected the political and moral reputation of Israel, under the consensus of the impossibility of earning any severe military victory over the Palestinians. The Palestinians, despite their disputes over power positions, and dividing public money, and their organization and politic controversial, managed to avoid the calamities of civil war, which allowed them to earn a security wall that forbids any Israeli invasion to their internal front and stops the fragmentation of their national project.
Facing lots of initiatives refusing the political stagnation, as the Nassiba-Alion initiatives, the King Abdallah initiative, and the initiative of the road map, Sharon was to find a way out, and therefore, has chosen to give up the "headaches" of Gaza to defend the big profits in the west Bank, and to open on Naqab, Galilee, and the Jewish Diaspora in the outside, and to be protected by the private insurance letter of the President Bush. The Israeli withdrawal from Gaza strip is a response to the complicated balance of power, in which the military power has little account, with a consideration to the American projects concerning the constructive disorder and the Big Middle-East.            

 Le retrait israélien de la bande de Gaza:  Un besoin israélien et un gain palestinien

La décision unilatérale du retrait israélien, en l'absence de négociation politique, de la bande de Gaza, sous le contrôle de la brigade de l"historique" Général de l'implantation, Ariel Sharon, a constitué un pas dramatique de changement qui généra un besoin israélien et un gain palestinien total. En effet, les israéliens ne s'abstiennent guère de s'aggriper à tout bout de terrain palestinien ou arabe qu'ils occupent, mais selon les prévisions secondaires, et partant de la règle des prévisions pragmatiques basées sur le principe de la compensation entre les gains et les pertes, ils ont trouvé que les nécessités autorisaient ce qui était habituellement défendu. Partant de ce principe, l'ancien Premier Ministre, Ehud Barak, a pris la décision de se retirer du Sud Liban. Conformément à ce même principe, le retrait sioniste de la bande de Gaza a eu lieu. En fait, cette bande ne figure pas au cœur de la vision biblique de la Terre d'Israël, et ne détient aucune richesse naturelle ou stratégique indispensable; s'ajoute à ceci une hostile densité de la population, l'une des plus importante au monde. Sans aucun doute, les années de conflit qu'Israël a confronté sur ces terres au cours de la première et de la deuxième Intifada (Intifada des pierres - Intidada d'Al Aqsa) lui ont infligé de grandes pertes humaines et matérielles et ont atteint sa réputation politique et morale, avec le consensus d'une impossible victoire militaire écrasante sur les Palestiniens. Ces derniers, malgré leurs discordes concernant les postes de pouvoir, la répartition de l'argent public, ainsi que leurs contradictions dans l'organisation et la politique, ont réussi à éviter les malheurs de la guerre civile, ce qui les a munis d'un mur de protection qui a interdit aux israéliens l'invasion de leur front interne et a sauvé l'effritement de leur projet national.

     En contre partie de maintes initiatives réfutant la stagnation politique, telles que les initiatives de Naasiba-Ayalon, celle du Roi Abdallah, celle de la carte de route et bien d'autres, Sharon se devait de trouver une issue, et choisit par la suite de se débarrasser des "prises de tête" de Gaza, et de s'ouvrir aux régions de Naqab et de Galilée et à la diaspora juive à l'étranger, pour défendre les grands profits en Cisjordanie, et se protéger derrière la lettre d'assurance privée du président Bush. Le retrait israélien de la bande de Gaza est une réponse aux balances de pouvoir complexes où la force militaire ne détient qu'une place limitée, tout en prenant en considération les projets américains qui concernent le désordre constructif et le grand Proche- Orient.